يا ويله !
إنه يُضرب بأسواط رهيبة ، بصورة عجيبة ، وهيئة غريبة !
فأين ؟ ولماذا ؟ وكيف ؟ وممَّن ؟
أسئلة حائرة تبحث عن إجابات باهرة ....

أما أين ؟! ففي مكان لا يستطيع الفكاك منه أو الهروب عنه ، لأنه صغير المساحة ، مغلق الجدران ، لا أنيس فيه ولا جليس ، ولا مُعين أو خدين !
أما ممَّن ؟! فمن خلق ليسوا من البشر فتدركهم الرحمة له والرأفة به ، ولا من الجنِّ فيطمع في إغرائهم أو إغوائهم ، وإنما من ملائكة الله الطائعين الذين [ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ]

أما كيف ؟! فبهيئة لا نعلمها ، وبصورة لا ندركها ، فنحن نؤمن بها ولو لم نرها ، ونعتقد حصولها ولو لم نشاهدها ، لأنها حق لا ريب فيه ، وصدق لا شك معه ، فقد جاء بها الخبر عن خير البشر محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهي صورة لِما سيقع من عذاب القبر لمن كتبه الله عليه وقدَّره له .

أما لماذا ؟! فلأنه أجرم في حقِّ نفسه وغيره ، لكنها جرائم لا يعاقب عليها القانون ، ولا يحاسب عليها النظام ، لكنها ـ والله ـ جرائم عِظام ، ومصائب جسام ، وإليك بيانها !

فعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : أُمِرَ بعبدٍ من عباد الله يُضربُ في قبره مئةَ جلدة ، فلم يزل يسألُ ويدعو حتى صارت جلدةً واحدةً ، فامتلأ قبره ناراً ، فلما ارتفع وأفاق ، قال : على ما جلدتموني ؟ قال : إنك صليت صلاةً بغيرِ طهورٍ ، ومررتَ على مظلوم فلم تنصره " 1

فجريمته على نفسه أنه صلَّى صلاة واحدة بغير طهور ، فماذا أقول لمن لا يُصلي إلا في المناسبات وحين الاضطرار ؟!
صلوات متعددة تمضي عليه وتفوت منه ، وهو لا يبالي بما أدرك منها ، وربما يصلي بغير طهور إذا ألزمه الحياء الاجتماعي أو الخوف الوظيفي أو التزلف للعبيد أو غير ذلك ، فيا ليت شعري ! لمن يركع ويرفع ؟ لمن يسجد ؟ ومن يعبد ؟
قال تعالى : [ فويل للمصلين . الذين هم عن صلاتهم ساهون ] ( الدين )
فكيف بمن لا يصلي ؟!
ومن يحرص على السنة المستحبة كالعيد والتراويح ، ولا يصلي الفرائض الواجبة كالصلوات الخمس ؟!

فعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة ، فإن صلحت صلح له سائر عمله ، وإن فسدت فسد سائر عمله " 2
وتأمل خسارة من ضاعت عليه صلاة واحدة عن وقتها مع أدائه لها ، فكيف بمن لا يصليها ؟!

فعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال :" الذي تفوتُهُ صلاةُ العصر كأنما وتُرَ أهلَهُ ومالَهُ " 3
عن بريدة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" مَن تركَ صلاةَ العصرِ فقد حَبِطَ عملُه " 4

أما جريمته الثانية ، وجريرته الآتية ، فهي خذلان المسلم حين الحاجة إليه ، والتخلي عنه وقت النزوع إليه والرغبة في نصرته .
فعن جابر وأبي طلحة الأنصار ـ رضي الله عنهما ـ قالا :قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: " ما من امرئٍ يخذُلُ مسلماً في موطن يُنتقصُ فيهٍ من عِرضه ، ويُنتهكُ فيه من حُرمتهِ ، إلا خذلهُ الله تعالى في موطنٍ يحبُ فيه نصرته ، وما من أحدٍ ينصُرُ مسلماً في موطنٍ يُنتقصُ فيه من عِرضهِ ، تنتهكُ فيه من حُرمتهِ ، إلا نصره الله في موطنٍ يحبُّ فيه نُصرتهُ " 5

ونصرة المظلوم ونجدة الملهوف من الواجبات الشرعية على كلِّ مسلم إذا تعيَّنت في ذِمَّته وتعلَّقت برقبته ، لا يجوز له أن يتهرَّب منها أو يُفرِّط فيها .
فعن البراء بن عازب ـ رضي الله عنه :قال : أمرنا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بسبعٍ ، ونهانا عن سبعٍٍ فذكر " عيادةَ المريضِ ، واتِّباع الجنائز ، وتشميت العاطسِ ، وردّ السلام ، و نصر المظلوم ، وإجابةَ الداعي ، وإبرارَ المقسم " 6
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال :" المؤمن مرآة المؤمن ، والمؤمن أخو المؤمن : يكف عليه ضيعته ، ويحوطه من ورائه " 7

وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" من نصَر أخاهُ بظهرِ الغيب ، نصرهُ الله في الدنيا والآخرةَ " 8
فكم خذلت مسلماً احتاجك ؟
وكم تبرَّمت من ملهوف استنجد بك ؟
وكم تحايلت على مؤمن مكروب ومسلم منكوب ، لتهرب من خدمته ، وتتخلَّص من نصرته ؟!

راجك سِجِلَّ ايامك ، فأنت تفنيها في كلِّ يوم يمضي عليها فيها ، لتذهب ـ مجبراً ـ إلى ذلك المضجع الذي لا مهرب منه ، فاحذر أن تكون ممن يُضرب فيه ، فإنه لا طاقة لك به ، ولا احتمال لك عليه !!
الشيخ:

عبد اللطيف بن هاجس الغامدي
----------------------------
1 رواه أبو الشيخ ابن حبان في كتاب التوبيخ ، انظر : صحيح الترغيب والترهيب (2/537) (2234) .
2 رواه الطبراني في الأوسط وأحمد في المسند وغيرهما ، انظر : السلسلة الصحيحة (3/343) (1358) .
3 صحيح البخاري (1/172) (552) .
4 صحيح البخاري (1/173) (553) .
5 أخرجه البيهقي في الشعب والسنن الكبرى ، انظر : صحيح الجامع ( 2/ 993) (5690 ) .
6 صحيح البخاري (3/238) (2445) .
7 صحيح سنن أبي داود (3/929) (4110) .
8 أخرجه الدينوري في المجالسة والبيهقي في الشعب ، انظر: السلسلة الصحيحة (3/218) (1217) .