بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله أرسل رسوله بالهدى ودين الحقِّ ليظهرَه على الدِّين كُلِّه ولو كره المشركون ، وصلى الله على نبينا محمد وآله ، وسلم تسليما كثيرا أما بعد :
فلا يخفى عليكم أن كتاب "فتح الباري شرح صحيح البخاري" للحافظ ابن حجر العسقلاني من أعظم كتب المسلمين ..
إلا أن عمل البشر ـ مهما بلغ صاحبه من العلم ـ لا بد فيه من النقص ، وهذا النقص يختلف من كتاب لآخر كمـا ، ونوعا ..
ومن المعلوم أن من النقص الذي لا يحسن التساهل معه هو:
ما كان متعلقا بالعقيدة ؛ إذ هي أغلى ما يملك العبد ، وأولى ما يحافظ عليه .
ولما أراد الإخوة في دار طيبة إخراج الكتاب بتحقيق الشيخ أبي قتيبة نظر الفاريابي ، كان في مقدمة اهتماماتهم التعليق على المسائل التي وقعت فيها مخالفة من الحافظ ابن حجر لمذهب أهل السنة والجماعة بسبب تأثره ـ غفر الله له ـ بعقائد الأشاعرة ؛ فكان أن يسر الله لهذه المهمة الكريمة فقام بعرض فكرة التعليق على الشيخ العلامة عبد الرحمن البراك ، وعرض مشروع التحقيق عليه فشرح الله صدره لذلك ، فعلق على مواضع كثيرة بيَّن فيها الحق ـ مذهب أهل السنة والجماعة ـ بيانا شافيا ، ومعلوم إمامة الشيخ في هذه الباب فقد أمضى حفظه الله قرابة نص قرن من الزمان في تدريس العقيدة السلفية ، ونشرها للناس ؛ فجزاه الله عن المسلمين خير الجزاء .
ولما كان من الصعب وصول الكتاب لإخواننا المسلمين في بعض البلاد ، أو عدم قدرة بعضهم على اقتنائه عقدت العزم على نقل تلك التعليقات النفيسة النافعة ؛ ليعلقها الإخوة على نسخهم ، وسأبدأ ـ بإذن الله ـ بنقلها هنا واحدا تلو الآخر.. أسأل الله الإعانة على ذلك .
تنبيه : العزو للطبعة السلفية الأولى .
والآن أبدأ :
1 - قال الحافظ في المقدمة ص 136 :
قـــوله " استوى على العرش " هو من المتشابه الذي يفوض علمه إلى الله تعالى ، ووقع تفسيره في الأصل .اهـ
قال الشيخ البراك : قولــه : " هو من المتشابه ... الخ " إن أراد ما يشتبه معناه على بعض الناس فهذا حق ؛ فإن نصوص الصفات ومنها الاستواء قد خفي معناها على كثير من الناس ، فوقعوا في الاضطراب فيها وعلِم العلماء من السلف وأتباعهم معانيها المرادة منها، فأثبتوها، وفوضوا علم حقائقها وكيفياتها إلى الله تعالى؛ كما قال الإمام مالك وشيخه ربيعة لما سـئل عن الاستواء: " الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب" وهذه قاعدة يجب اتباعها في جميع صفات الله تعالى ، وقد فسر السلف الاستواء: بالعلو والارتفاع والاستقرار.
وإن أراد بالمتشابه: (ما لا يفهم معناه أحد، فيجب تفويض علم معناه إلى الله تعالى) فهذا قول أهل التفويض من النفاة المعطلة ، وهو باطل؛ لأنه يقتضي أن الله سبحانه خاطب عباده بما لا يفهمه أحد ، وهذا خلاف ما وصف الله به كتابه من البيان والهدى والشفاء.
وهذا الاحتمال الثاني هو الذي يقتضيه سياق الحافظ عفا الله عنه.
2- قال الحافظ في المقدمة ص 208 :
قوله : (أطولهن يدًا) أي: أسمحهن، ووقــع ذكر اليد في القرآن والحديث مضافًا إلى الله تعالى، واتفق أهل السنة والجماعة على أنه ليس المراد باليد الجارحة التي هي من صفات المحدثات ، وأثبتوا ما جاء من ذلك وآمنوا به ؛ فمنهم من وقف ولم يتأول، ومنهم من حمل كل لفظ منهــا على المعنى الــذي ظهر له، وهكذا عملوا في جميع ما جاء من أمثال ذلك.اهـ
قال الشيخ البراك: قوله: "واتفق أهل السنة والجماعة على أنه ليس المراد باليد الجارحة... الخ": لفظ الجارحة لم يرد إطلاقه في الكتاب والسنة ولا في كلام السلف على صفة الرب سبحانه ؛ لا نفيًا ولا إثباتًا، وهو لفظ مجمل ، فيجب التفصيل فيه نفيًا وإثباتًا ؛ فإن أريد بالجارحة الـيد التي تماثل أيدي المخلوقين ، فيد الله سبحانه ليست مثل يد أحد من الخلق .
وإن أريد بالجارحة اليد التي يكون بها الفعل، والأخذ، والعطاء، ومن شأنها القبض والبسط ؛ فيد الله كذلك ؛ فقد خلق آدم بيديه، ويأخذ أرضه وسماءه يوم القيامة بيديه، ويقبض يديه ويبسطهما كما جاء في الكتاب والسنة؛ فالنافي للمعنى الأول محق ، والنافي للمعنى الثاني مبطل.
ولا ريب أن أهل السنة متفقون على نفي مماثلة الله لخلقه في شيء من صفاته ـ لا اليد ولا غيرها ـ بل يثبتونها لله سبحانه على الوجه اللائق به مع نفي التمثيل ونفي العلم بالكيفية.
وقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "واتفق أهل السنة والجماعة": يدخل فيهم الأشاعرة ونحوهم من طوائف الإثبات كما يقتضيه آخر كلامه ، ومذهبهم في صفة اليدين لله نفي حقيقتهما ، ثم لهم في النصوص الواردة بذكر اليدين أحد منهجين:
إما التفويض، أي: تفويض المعنى.
وإما التأويل: بصرف لفظ اليد عن المعنى المتبادر ـ وهو الراجح ـ إلى معنى مرجوح كالقدرة والنعمة.
وهو صرف للكلام عن ظاهره بغير حجة صحيحة يسمونه تأويلاً، وهو في الحقيقة تحريف.
3– قال الحافظ في الفتح 1 / 46 :قوله : ( وهو ) أي الإيمان ( قول وفعل يزيد وينقص ) ... والمعتزلة قالوا: هو العمل والنطق والاعتقاد. والفارق بينهم وبين السلف أنهم جعلوا الأعمال شرطًا في صحته ، والسلف جعلوها شرطًا في كماله.
قال الشيخ البراك: قوله: "والفارق بينهم وبين السلف .... الخ": هذا الفرق بين المعتزلة والسلف لا يستقيم سواء أريد بشرط الصحة أو شرط الكمال: جنس العمل ، أو أنواع العمل الواجبة ، أو الواجبة والمستحبة ؛ فإن الأعمال المستحبة من كمال الإيمان المستحب، فلا تكون شرطاً لصحة الإيمان، ولا لكماله الواجب.
وأما الأعمال الواجبة: فليس منها شرط لصحة الإيمان عند جميع أهل السنة، بل بعضها شرط لصحة الإيمان عند بعض أهل السنة كالصلاة.
وأما عند المعتزلة: فالمشهور من مذهبهم ومذهب الخوارج أن ما كان تركه كبيرة فهو شرط لصحة الإيمان، وعلى هذا فلا يصح أن يقال: إن جنس العمل عندهم شرط لصحة الإيمان؛ لأن ذلك يقتضي أن الموجب للخروج عن الإيمان عندهم هو ترك جميع الأعمال، وليس كذلك، بل يثبت عندهم الخروج عن الإيمان بارتكاب ما هو كبيرة.
وأما عند السلف: فعمل الجوارح تابع لعمل القلب، وجنس عمل القلب شرط لصحة الإيمان، وجنس عمل الجوارح تابع أو لازم لعمل القلب، فيلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم ؛ فإن الإعراض عن جميع الأعمال دليل على عدم انقياد القلب.
هذا، ولا أعلم أحدا من أئمة السلف أطلق القول بأن الأعمال شرط أو ليست شرطا لصحة الإيمان أو كماله ، وإنما المأثور المشهور عنهم قولهم: "الإيمان قول وعمل" أو "قول وعمل ونية" ؛ يقصدون بذلك الرد على المرجئة الذين أخرجوا الأعمال عن مسمى الإيمان، وخصوا الإيمان بالتصديق، أو التصديق والإقرار باللسان.
وبهذا يتبين أن ما ذكره الحافظ بإطلاق القول بأن الأعمال شرط لصحة الإيمان عند المعتزلة، وشرط لكماله عند السلف ليس بمستقيم لما تقدم.
4– قال الحافظ ابن حجر 1 / 157 : " قوله " فاستحيا الله منه " أي رحمه ولم يعاقبه .
قوله : " فأعرض الله عنه " أي سخط عليه ، وهو محمول على من ذهب معرضا لا لعذر ، هذا إن كان مسلما ، ويحتمل أن يكون منافقا ، واطلع النبي صلى الله عليه وسلم على أمره ، كما يحتمل أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم : فأعرض الله عنه " إخبارا أو ادعاء .
قال الشيخ البراك : قوله: "فاستحيا الله منه أي رحمه"، وقوله: "فأعرض الله عنه أي سخط عليه": في هذا التفسير للاستحياء والإعراض من الله عدول عن ظاهر اللفظ من غير موجب، والحامل على هذا التفسير عند من قال به هو اعتقاده أن الله لا يوصف بالحياء أو الإعراض حقيقة؛ لتوهم أن إثبات ذلك يستلزم التشبيه، وليس كذلك بل القول في الاستحياء والإعراض كالقول في سائر ما أثبته الله عز وجل لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الصفات، والواجب في جميع ذلك هو الإثبات مع نفي مماثلة المخلوقات، وقد ورد في الحديث: "إن ربكم تبارك وتعالى حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا" [أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه].
وفي ذكر الاستحيـاء والإعراض في هذا الحديث دليل على أن الجزاء من جنس العمل، وشواهده كثيرة .
5 – قال الحافظ في الفتح 1 / 229 : قوله: "إن الله لا يستحيي من الحق" أي لا يأمر بالحياء في الحق.
قال الشيخ البراك : قوله: "أي لا يأمر بالحياء في الحق": ليس في هذا تفسير للاستحياء مضافا إلى الله عز وجل، ولا تفسير لنفي الاستحياء؛ فليس فيه تعرض لإثبات الاستحياء أو نفيه عن الله عز وجل، بل هو بيان للمراد من سياق هذا الخبر في قوله: "لا يستحيي من الحق"، وهو المعنى الذي قدمت به أم سليم لسؤالها . وانظر: التعليق رقم (4)
6- قال الحافظ في الفتح 1 / 352 : "والمراد باليد هنا القدرة".
قال الشيخ البراك : قوله: "والمراد باليد القدرة": يريد في قول ابن مسعود: "والذي نفسي بيده"، وهذا القسم كثيراً ما يقسم به النبي صلى الله عليه وسلم، ومعناه: والذي نفسي في ملكه يتصرف فيها بقدرته ومشيئته. هذا هو معنى الكلام مركبا، فإذا أراد الحافظ أو غيره بقولهم: "المراد باليد هنا القدرة"
المعنى المراد من جملة القسم كان صحيحا، وإن أراد أن يد الله المراد بها قدرته؛ فهذا جار على مذهب أهل التأويل من نفاة الصفات الذين ينفون عن الله عز وجل حقيقة اليدين، ويؤولون ما ورد في النصوص بالقدرة أو النعمة. وهو تأويل باطل مبني على باطل، وهو: اعتقاد نفي حقيقة اليدين عن الله عز وجل. وهذا التأويل صرف للنصوص عن ظاهرها، كقوله تعالى: "ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي"، فلو كان المراد باليدين القدرة لما كان بين آدم وإبليس فرق؛ إذ الكل مخلوق بالقدرة. والحافظ رحمه الله جار في صفة اليد لله تعالى على طريق النفاة.
وانظر: تعليق رقم (2) .
7 - قال الحافظ في الفتح1/508:
"والمراد بالمناجاة من قبل العبد حقيقة النجوى، ومن قبل الرب لازم ذلك، فيكون مجازا، والمعنى: إقباله عليه بالرحمة والرضوان".
قال الشيخ البراك: قوله: "ومن قبل الرب لازم ذلك ... الخ": هذا القول يتضمن نفي حقيقة المناجاة عن الله عز وجل. والمناجاة هي المسارة في الحديث. وقد ثبتت إضافة المناجاة إلى الله عز وجل في قولـه سبحـانه: "وقربناه نجيا"؛ فالله عز وجل كلم موسى عليه السلام فناداه وناجاه، فهو كليم الله ونجيه. وليس في هذا الحديث ذكر للمناجاة من الله تعالى، بل المناجاة في الحديث من طرف العبد. ونفي حقيقة المناجاة هو مذهب من ينفي الكلام عن الله تعالى من الجهمية والمعتزلة، بل ومذهب من يقول إن كلام الله معنى نفسي ليس بحرف ولا صوت كالكلابية والأشاعرة. ومذهب أهل السنة والجماعة أن الله يتكلم إذا شاء متى شاء، ويكلم من شاء، فيسمعه كلامه؛ فموسى عليه السلام سمع كلام الله من الله. وهكذا الأبوان في قوله سبحانه: "وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة ..." الآية. والذي يظهر أن الحافظ رحمه الله تعالى مشى في صفة المناجاة على مذهب أهل التأويل من الأشاعرة.
8- قال الحافظ ابن حجر 1/508: "وفيه الرد على من زعم أنه على العرش بذاته "[أي:حديث : إن ربه بينه وبين القبلة]
قال الشيخ البراك : وقوله: "وفيه الرد على من زعم أنه على العرش بذاته...الخ": هذا صريح في أن الحافظ ـ عفا الله عنه ـ ينفي حقيقة استواء الله على عرشه ؛ وهو علوه وارتفاعه بذاته فوق عرشه العظيم.
وهذا مذهب المعطلة من الجهمية والمعتزلة، بل ومذهب كل من ينفي علو الله على خلقه؛ ومنهم الماتريدية ومتأخرو الأشاعرة ؛ وهو مذهب باطل مناقض لدلالة الكتاب والسنة والعقل والفطرة.
ومذهب سلف الأمة من الصحابة والتابعين وأئمة الدين وجميع أهل السنة والجماعة: أن الله عز وجل فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه؛ أي ليس حالاً في مخلوقاته، ولا ينافي ذلك أنه مع عباده أينما كانوا، وأنه تعالى يقرب مما شاء متى شاء كيف شاء. وكذلك لا ينافي علوه واستواؤه على عرشه ما جاء في هذا الحديث من أنه سبحانه قِِبل وجه المصلي، أو بينه وبين القبلة؛ فالقول فيه كالقول في القرب والمعية؛ كل ذلك لا ينافي علوه ولا يوجب حلوله تعالى في شيء من المخلوقات؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:
"ولا يحسب الحاسب أن شيئا من ذلك يناقض بعضه بعضا ألبتة; مثل أن يقول القائل: ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه الظاهر من قوله: { وهو معكم أين ما كنتم }، وقوله صلى الله عليه وسلم: { إذ قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه }، ونحو ذلك؛ فإن هذا غلط؛ وذلك أن الله معنا حقيقة وهو فوق العرش حقيقة كما جمع الله بينهما في قوله سبحانه وتعالى: { هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير }؛ فأخبر أنه فوق العرش يعلم كل شيء وهو معنا أينما كنا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال: { والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه }؛ وذلك أن كلمة (مع) في اللغة إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال، فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى؛ فإنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا أو والنجم معنا، ويقال: هذا المتاع معي لمجامعته لك; وإن كان فوق رأسك. فالله مع خلقه حقيقة وهو فوق عرشه حقيقة.... وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:
{ إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه فلا يبصق قبل وجهه } الحديث. حق على ظاهره وهو سبحانه فوق العرش وهو قبل وجه المصلي، بل هذا الوصف يثبت للمخلوقات؛ فإن الإنسان لو أنه يناجي السماء أو يناجي الشمس والقمر لكانت السماء والشمس والقمر فوقه وكانت أيضا قبل وجهه. وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل بذلك - ولله المثل الأعلى - ولكن المقصود بالتمثيل بيان جواز هذا وإمكانه، لا تشبيه الخالق بالمخلوق؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: { ما منكم من أحد إلا سيرى ربه مخليا به} فقال له أبو رزين العقيلي: كيف يا رسول الله وهو واحد ونحن جميع ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : {سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله؛ هذا القمر: كلكم يراه مخليا به وهو آية من آيات الله ; فالله أكبر } أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم". [مجموع الفتاوى 5 / 102 – 107 باختصار].
9- قال الحافظ ابن حجر 1 / 514: " ويستفـــاد منه أن التحسين والتقبيــــح إنما هو بالشرع ... ".
قال الشيخ البراك : قوله: "ويستفاد منه أن التحسين والتقبيح إنما هو بالشرع": المراد بالتحسين والتقبيح: الحكم على الشيء بأنه حسن أو قبيح، وقد اختلف الناس فيما يعرف به حسن الأشياء وقبحها:
فمذهب المعتزلة: أن ذلك يعرف بالعقل، وأن حُسْن الحَسَنْ وقبح القبيح ذاتيان، وأن الشرع كاشف لذلك .
ومذهب الأشاعرة: أن الأشياء في ذاتها مستوية لاشتراكها في الصدور عن المشيئة، وإنما تكسب الحسن والقبح بالشرع؛ فالحسن ما أمر به الشرع، والقبيح ما نهى عنه، فالحسن والقبح عندهم شرعيان لا عقليان، ويجوز عندهم أن يأمر الله بما نهى عنه فيصير حسناً، وينهى عما أمر به فيصير قبيحاً. وهذا ظاهر الفساد.
ومذهب أهل السنة والجماعة: أن حسن الأشياء وقبحها يعرف بالعقل والشرع؛ فما أمر به الشرع فهو حسن في ذاته ، وزاده الأمر به حسناً، وما نهى عنه الشرع قبيح وزاده النهي قبحاً؛ فالحُسْن والقبح عند أهل السنة شرعيان وعقليان، ولكن الحكم بالوجوب والتحريم، وترتب العقاب موقوف على الشرع.
وبهذا يتبين أن الحافظ رحمه الله تعالى يذهب في التحسين والتقبيح مذهب الأشاعرة، ودعواه أن ذلك مما يستفاد من الحديث، وتوجيه ذلك بأن جهة اليمين مفضلة على اليسار وأن اليد مفضلة على القَدَم - يعني في الشرع - دعوى غير صحيحة. وما ذكره من الدليل هو حجة على خلاف ما ذهب إليه؛ فإن تفضيل اليمين على الشمال، واليد على القدم كما قد دل عليه الشرع فقد شهد به العقل والفطرة؛ فكل عاقل يدرك قبل ورود الشرع فضل الوجه على الدبر، وفضل اليد على الرجل، وفضل اليمين على الشمال، فتطابق على ذلك الشرع والعقل.
10- قال الحافظ: 1/514 " لأن الحق عند أهل السنة أن الرؤية لا يشترط لها عقلا عضو مخصوص ، ولا مقابلة ، ولا قرب ... " .
قال الشيخ البراك: قوله: "لأن الحق عند أهل السنة والجماعة أن الرؤية لا يشترط لها عقلا عضوا ... الخ":
مراد الحافظ بأهل السنة هنا الأشاعرة ، وهو يشير ـ عفا الله عنه ـ بهذا الكلام إلى مذهبهم في الرؤية ؛ أي في رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وهو أنه سبحانه وتعالى يُرى لا في جهة ؛ فلا يقولون إن المؤمنين يرونه من فوقهم، ولا بأبصارهم، ولامع مقابلة. وهذا كله مبني على نفي علوه سبحانه؛ فحقيقة قولهم في الرؤية موافق لمن ينفيها كالمعتزلة؛ فإن قولهم يُرى لا في الجهة معناه أنه يُرى لا من فوق، ولا من تحت، ولا من أمام، ولا من خلف، ولا عن يمين، ولا عن شمال؛ وحقيقة هذا نفي الرؤية، فكانوا بهذا الإثبات على هذا الوجه متناقضين موافقين في اللفظ لأهل السنة بدعوى إثباتهم للرؤية، وموافقين في المعنى للمعتزلة. وليس في الحديث دليل على جنس هذه الرؤية، بل في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم يراهم من أمامه ومن خلفه. وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر" يدل على أن المؤمنين يرون ربهم عياناً بأبصارهم من فوقهم من غير إحاطة؛ فقد شبه الرؤية بالرؤية ولم يشبه المرئي بالمرئي، ولعل الحافظ يريد بأهل البدع المعتزلة.
11– قال الحافظ 2 / 144 : في قوله : " سبعة يظلهم الله في ظله " قال عياض: " إضافة الظل إلى الله إضافة ملك ، وكل ظل فهو ملكه. كذا قال ، وكان حقه أن يقول : إضافة تشريف ليحصل امتياز هذا على غيره .. ، وقيل : المراد بظله : كرامته وحمايته كما يقال : فلان في ظل الملك .
قال الشيخ البراك: قوله : "سبعة يظلهم الله في ظله": المتبادر أن المراد بالظل هنا ما يستظل به ويتقى به من الحر، وهو أثر الحائل المانع من شعاع الشمس، والظاهر أن المراد بالظل المضاف إلى الله عز وجل في الحديث هو ما يظل به عباده الصالحين يوم تدنو الشمس من رؤوس الخلائق، وهو أثر أعمالهم الصالحة كما في الحديث: "كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس...". [انفرد به أحمد وسنده متصل ورجاله ثقات].
وعلى هذا فهذا الظل مخلوق وإضافته إلى الله سبحانه إضافة ملك وتشريف كما قال عياض والحافظ رحمهما الله تعالى، وليس إضافة صفة إلى موصوف؛ فلا يقال: إن لذات الله ظلاً أخذاً من هذا الحديث؛ لأن الظل مخلوق كما قال سبحانه: "ألم تر إلى ربك كيف مد الظل"، والمخلوق ليس صفة للخالق، وقوله صلى الله عليه وسلم: "يوم لا ظل إلا ظله" يعني يوم القيامة. ومعناه: ليس لأحد ما يستظل به من حر الشمس إلا من له عمل صالح يجعل الله له به ظلا، وذلك من ثواب الله المعجل في عرصات القيامة.
هذا ولم أقف لأحد من أئمة السنة على تفسير للظل في هذا الحديث ، وهل هو صفة او مخلوق ، وما ذكرته هو ما ظهر لي، والله أعلم بالصواب.
12– قال الحافظ: 3 / 158 : " وفي هذا الحديث من الفوائد : – غير ما تقدم – جواز استحضار ذوي الفضل للمحتضر لرجاء بركتهم ودعائهم ، وجواز القسم عليهم لذلك "
قال الشيخ البراك: قوله: "في هذا الحديث من الفوائد – غير ما تقدم – جواز استحضار ذوي الفضل للمحتضر .... الخ": في هذا الاستنباط نظر؛ فإن التي استحضرت الرسول صلى الله عليه وسلم ابنته، ويحتمل أن يكون استحضارها للرسول صلى الله عليه وسلم بمقتضى العادة وحكم القرابة ليسليها ويواسيها، ومما يؤكد رغبتها في ذلك أن أباها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي حضوره برد لحر المصاب، ولهذا أقسمت عليه بالمجيء، ولمَّا أقسمت عليه بر بقسمها. ولا ريب أنه يجوز استحضار من ينتفع بحضوره لدى المحتضر في أمر دين أو دنيا مما يعود إلى المحتضر أو أهله بالفائدة، ولا ريب أن استحضار من ينفع المحتضر وأهله بعلمه وتوجيهه مما يرغب فيه. وينبغي حمل قول الحافظ: "لرجاء بركتهم ودعائهم" على هذا؛ لأن مجالسة أهل العلم والصلاح فيها خير وبركة لمجالسيهم.
13– قال الحافظ 3 / 463 : وقال المهلب : حديث عمر هذا يرد على من قال : إن الحجر يمين الله في الأرض يصافح بها عباده ، ومعاذ الله أن يكون لله جارحة .
قال الشيخ البراك : قوله: "حديث عمر هذا يرد على من قال: إن الحجر يمين الله في الأرض يصافح بها عباده": هذا المعنى الذي نفاه قد جاء عن ابن عباس رضي الله عنه مرفوعاً وموقوفاً، وقال فيه شيخ الإسلام ابن تيمية: إنما يعرف من قول ابن عباس. ولفظه: "إن الحجر يمين الله في الأرض، فمن استلمه وقبله فكأنما صافح الله و قبل يمينه". يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : "قوله : ( الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه) صريح في أن الحجر الأسود ليس هو صفة لله، ولا هو نفس يمينه؛ لأنه قال : ( يمين الله في الأرض ) ، وقال : (فمن قبله وصافحه فكأنما صافح الله وقبل يمينه ) ومعلوم أن المشبه غير المشبه به؛ ففي نص الحديث بيان أن مستلمه ليس مصافحاً لله، وأنه ليس هو نفس يمينه، فكيف يجعل ظاهره كفراً وأنه محتاج إلى تأويل؟!".
[ التدمرية ص: 73،72 ، ط العبيكان، تحقيق د. السعوي]
وقوله: "ومَعاذ الله أن يكون لله جارحة":
انظر: تعليق رقم (2) .
14- قال الحافظ 4 / 105 - 106 حديث رقم ( 1894 ): قوله : " أطيب عند الله من ريح المسك " اختلف في كون الخلوف أطيب عند الله من ريح المسك – مع أنه سبحانه وتعالى منزه عن استطابة الروائح؛ إذ ذاك من صفات الحيوان، ومع أنه يعلم الشيء على ما هو عليه – على أوجه:
قال المازري : هو مجاز؛ لأنه جرت العادة بتقريب الروائح الطيبة منا، فاستعير ذلك للصوم لتقريبه من الله ، فالمعنى أنه أطيب عند الله من ريح المسك عندكم ، أي يقرب إليه أكثر من تقريب المسك إليكم، وإلى ذلك أشار ابن عبد البر، وقيل: المراد أن ذلك في حق الملائكة وأنهم يستطيبون ريح الخلوف أكثر مما يستطيبون ريح المسك .
وقيل: المعنى أن حكم الخلوف والمسك عند الله على ضد ما هو عندكم، وهو قريب من الأول، وقيل: المراد أن الله تعالى يجزيه في الآخرة، فتكون نكهته أطيب من ريح المسك كما يأتي المكلوم وريح جرحه تفوح مسكاً.
وقيل: المراد أن صاحبه ينال من الثواب ما هو أفضل من ريح المسك لا سيما بالإضافة إلى الخلوف، حكاهما عياض.
وقال الداودي وجماعة: المعنى أن الخلوف أكثر ثواباً من المسك المندوب إليه في الجمع ومجالس الذكر، ورجح النووي هذا الأخير، وحاصله حمل معنى الطيب على القبول والرضا، فحصلنا على ستة أوجه".
قال الشيخ البراك : قوله: "... مع أنه سبحانه تعالى منزه عن استطابة الروائح ... إلخ": هذا الجزم من الحافظ رحمه الله بنفي صفة الشم عن الله تعالى الذي هو إدراك المشمومات لم يذكر عليه دليلاً إلا قوله: "إذ ذاك من صفة الحيوان"، وهذه الشبهة هي بعينها شبهة كل من نفى صفة من صفات الله سبحانه من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة. وهي شبهة باطلة؛ فما ثبت لله تعالى من الصفات يثبت له على ما يليق به ويختص به كما يقال ذلك في سمعه وبصره وعلمه وسائر صفاته. وصفة السمع ليس في العقل ما يقتضي نفيها فإذا قام الدليل السمعي على إثباتها وجب إثباتها على الوجه اللائق به سبحانه، وهذا الحديث - وهو قوله: "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" - ليس نصاً في إثبات الشم، بل هو محتمل لذلك، فلا يجوز نفيه من غير حجة، وحينئذ فقد يقال: إن صفة الشم لله تعالى مما يجب التوقف فيه لعدم الدليل البين على النفي أو الإثبات فليتدبر، والله أعلم بمراده ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم.
هذا وقد قال ابن القيم عند هذا الحديث: "بعد ذكر كلام الشراح في معنى طيبه وتأويلهم إياه بالثناء على الصائم والرضا بفعله، على عادة كثير منهم بالتأويل من غير ضرورة، حتى كأنه قد بورك فيه فهو موكل به. وأي ضرورة تدعو إلى تأويل كونه أطيب عند الله من ريح المسك بالثناء على فاعله والرضا بفعله، وإخراج اللفظ عن حقيقته؟ وكثير من هؤلاء ينشئ للفظ معنى ثم يدعي إرادة ذلك المعنى بلفظ النص من غير نظر منه إلى استعمال ذلك اللفظ في المعنى الذي عينه أو احتمال اللغة له. ومعلوم أن هذا يتضمن الشهادة على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بأن مراده من كلامه كيت وكيت، فإن لم يكن ذلك معلوماً بوضع اللفظ لذلك المعنى أو عرف الشارع صلى الله عليه وسلم وعادته المطردة أو الغالبة باستعمال ذلك اللفظ في هذا المعنى أو تفسيره له به، وإلا كانت شهادة باطلة، وأدنى أحوالها أن تكون شهادة بلا علم.
ومن المعلوم أن أطيب ما عند الناس من الرائحة رائحة المسك، فمثل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الخلوف عند الله بطيب رائحة المسك عندنا وأعظم. ونسبة استطابة ذلك إليه سبحانه وتعالى كنسبة سائر صفاته وأفعاله إليه؛ فإنها استطابة لا تماثل استطابة المخلوقين، كما أن رضاه وغضبه وفرحه وكراهته وحبه وبغضه لا تماثل ما للمخلوق من ذلك، كما أن ذاته سبحانه وتعالى لا تشبه ذوات خلقه، وصفاته لا تشبه صفاتهم، وأفعاله لا تشبه أفعالهم، وهو سبحانه وتعالى يستطيب الكلم الطيب فيصعد إليه، والعمل الصالح فيرفعه، وليست هذه الاستطابة كاستطابتنا. ثم إن تأويله لا يرفع الإشكال؛ إذ ما استشكله هؤلاء من الاستطابة يلزم مثله في الرضا، فإن قال رضا ليس كرضا المخلوقين، فقولوا استطابة ليست كاستطابة المخلوقين، وعلى هذا جميع ما يجيء من هذا الباب. [ الوابل الصيب، ص 44 – 45 ].
ويلاحظ أن ابن القيم اقتصر على لفظ الاستطابة دون لفظ الشم وقوفاً مع لفظ الحديث.
15 – قال الحافظ ابن حجر 4 / 253 على حديث رقم ( 2010 ): " والتحقيق أنها إن كانت مما تندرج تحت مستحسن في الشــرع فهي حسنة، وإن كانت مما تندرج تحت مستقبح في الشرع فهي مستقبحة، وإلا فهي من قسم المباح، وقد تنقسم إلى الأحكام الخمسة".
قال الشيخ البراك : قوله: "والتحقيق أنها إن كانت – أي البدعة – مما تندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة .... إلخ": تقسيم البدعة في الشرع إلى حسنة محمودة وسيئة مذمومة مذهب لبعض العلماء، وهو راجع إلى التوسع في معنى البدعة؛ وذلك بالنظر إلى معناها اللغوي ، فإنه يشمل كل ما أحدث في الإسلام مما لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو كانت أصول الشريعة تقتضيه . ويجري على ذلك قول عمر رضي الله عنه في جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد ، وقد أدى هذا المذهب إلى التذرع به في تسويغ كل ما استحسنه الناس بآرائهم ، وعَدُّوه من الدين.
والتحقيق أن كل بدعة في الدين فهي سيئة مذمومة لقوله صلى الله عليه وسلم: "وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، وعلى هذا فما تقتضيه أصول الشريعة مما أحدث بعد موته صلى الله عليه وسلم ليس بدعة شرعية بل لغوية.
16– قال الحافظ 5 / 183 على حديث رقم ( 2559 ): "وقد قال المازري: غلط ابن قتيبة فأجرى هذا الحديث على ظاهره، وقال: صورة لا كالصورة، انتهى.
وقد أخرج البخاري في الأدب المفرد، وأحمد من طريق ابن عجلان، عن سعيد، عن أبي هريرة مرفوعا: "لا تقولوا: قبح الله وجهك، ووجه من أشبه وجهك؛ فإن الله خلق آدم على صورته" وهو ظاهر في عود الضمير على المقول له ذلك ...".
قال الشيخ البراك : قوله: "قال المازري: غلط ابن قتيبة فأجرى هذا الحديث على ظاهره .. إلخ": ابن قتيبة يعرف بخطيب أهل السنة ، وله جهود في الرد على الزنادقة والمعتزلة كما في "تأويل مختلف الحديث" له. وما ذهب إليه ابن قتيبة رحمه الله تعالى من إثبات الصورة لله عز وجل، وأنها ليست كصورة أحد من الخلق ـ فله سبحانه وتعالى صورة لا كالصور ـ هو مذهب جميع أهل السنة المثبتين لكل ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فكما يقولون: له وجه لا كوجوه المخلوقين، يقولون: له صورة لا كصور المخلوقين، وقد دل على إثبات الصورة لله عز وجل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الطويل: "وتبقى هذه الأمة وفيها منافقوها، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفونها"، وهو نص صريح لا يحتمل التأويل، فلهذا لم يخالف أحد من أهل السنة في دلالته.
وأما حديث: "فإن الله خلق آدم على صورته" فقد استدل به أكثر أهل السنة على إثبات الصورة أيضاً، وردوا الضمير إلى الله تعالى، وأيدوا ذلك برواية من رواياته بلفظ: "على صورة الرحمن". ومن رد الضمير إلى آدم عليه السلام أو إلى المقاتل - وقصده نفي الصورة عن الله تعالى - فهو جهمي كما قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
ونفي الصورة هو مذهب الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الأشاعرة والماتريدية ، ومنشأ ذلك هو توهم التشبيه في صفات الله تعالى ، فزعموا أن إثبات الصورة أو الوجه أو اليدين ونحو ذلك يستلزم التشبيه بالمخلوقات ، وهي حجة داحضة ، وطردها يستلزم نفي وجود الله سبحانه وتعالى .
ومن رد من أهل السنة الضمير إلى آدم عليه السلام وضعَّف رواية " على صورة الرحمن " فليس مقصوده التوصل إلى نفي الصورة عن الله عز وجل، وليس من مذهبه ذلك ، بل رأى لفظ هذا الحديث " خلق الله آدم على صورته " محتملا ، فترجح عنده عود الضمير إلى آدم أو إلى المقاتل. وهو منازع في تضعيفه لتلك الرواية وفي هذا الترجيح .
وبهذا يتبين أن إثبات الصورة لله عز وجل لا يتوقف على دلالة حديث " خلق الله آدم على صورته " ، ونقول : بل غلط المازري عفا الله عنه ، ولم يغلط ابن قتيبة.
17 – قال الحافظ 5 / 292 على حديث رقم ( 2685 ) : قوله : " أحدث الأخبار بالله " أي أقربها نزولا إليكم من عند الله عز وجل ، فالحديث بالنسبة إلى المنزول إليهم ، وهو في نفسه قديم " .
قال الشيخ البراك قوله: " فالحديث بالنسبة إلى المنزل إليهم ، وهو في نفسه قديم ": يريد أن وصف القرآن بأنه (حديث ) باعتبار نزوله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، وأما نفس القرآن ، فهو قديم .
والقديم هو الذي لا بداية لوجوده ، وهذا جار على مذهب الأشاعرة في كلام الله تعالى؛ فإن كلام الله عندهم هو معنى نفسي ليس هو حروف وأصوات، وهو معنى واحد لا تعدد فيه ، وهو قديم لا تتعلق به مشيئة الله سبحانه ، فعندهم أن هذا القرآن المسموع المتلو المكتوب ليس هو كلام الله حقيقة ، بل هو عبارة عن ذلك المعنى النفسي .
وهذا خلاف ما عليه سلف الأمة وأئمتها وجميع أهل السنة ؛ فعندهم أن الله لم يزل يتكلم بما شاء إذا شاء ، كيف شاء ، وأنه يُسمِع كلامه من يشاء؛ فموسى عليه السلام سمع كلام الله من الله سبحانه، فعندهم أن القرآن العربي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو كلام الله حقيقة حروفه ومعانيه ، ليس كلام الله الحروف دون المعاني ، ولا المعاني دون الحروف ، كما قال تعالى : " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله " ، وهو منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود ، وعلى هذا فأهل السنة لا يقولون: القرآن قديم ، ولا يطلقون القول بأن كلام الله قديم ، بل يقولون : إن الله لم يزل يتكلم إذا شاء بما شاء ، أو يقولون : قديم النوع حادث الآحاد .
ومذهب الأشاعرة في كلام الله وفي القرآن هو أقرب إلى مذهب المعتزلة ، وهو يتضمن تشبيه الله سبحانه بالأخرس ، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا .
18 – قال الحافظ 5 / 341 عـلى الحديثين رقم ( 2731 ، 2732) : " وفيه طهارة النخامة والشعر المنفصل ، والتبرك بفضلات الصالحين الطاهرة ".
انظر : تعليق الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في هامش 1 / 327 .
19 – قال الحافظ 5/ 351 على الحديثين رقم ( 2731 ، 2732)
" وفي رواية موسى بن عقبة ، عن الزهري : فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بصير ، فقدم كتابه وأبو بصير يموت ، فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده ، فدفنه أبو جندل مكانه ، وجعل عند قبره مسجدًا ... " .
قال الشيخ البراك قوله: " وجعل عند قبره مسجدًا ": هذه الرواية منكرة لا تصح سندًا ولامتنًا ؛ فإن بناء المساجد على القبور مما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم تحذيرًا بالغًا؛ فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الذين يبنون المساجد على قبور الصالحين " أولئك شرار الخلق " ؛ وذلك أن اتخاذ القبور مساجد من أعظم وسـائل الشـرك ، فيمتنع مع هذا أن يبني أبو جندل مسـجـدًا عنـد قبر أبي بصير ، كيف وهو في عصر النبوة، والمعروف أن بناء المساجد على القبور لم يعرف في الإسلام إلا بعد القرون المفضلة؟! والذي يظهر أن قوله : " وجعل عند قبره مسجدًا " ليس في أصل رواية موسى بن عقبة ، وأن قوله " جُعل " مبني للمجهول ، فيكون الفاعل غير أبي جندل ، ولعلها من قول الحافظ أو غيره ، وأن أصل العبارة " وقد جعل " فليحرر من مغازي موسى بن عقبة.اهـ
أضاف الناشر: في رواية معمر عن الزهري: (...ورد كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بصير في الموت يجود بنفسه، فأعطي الكتاب فجعل يقرأه ويُسرُّ به حتى قبض والكتاب على صدره، فبُني عليه هناك مسجد يرحمه الله) [الروض الأنف 7/79 ط.دار إحياء التراث العربي] فورد الفعل (بُني) بصيغة ما لم يسم فاعله، ووردت لفظة (مسجد) مرفوعة على أنها نائب فاعل، وهذا يعني أن بناء المسجد لم يكن من أبي جندل رضي الله عنه، ويحتمل أنه حدث بعد ذلك بزمن طويل.
وانظر "السيرة النبوية الصحيحة" للدكتور أكرم العمري 2/451،452 بالهامش حيث ذكر رواية الزهري من مخطوط، ولم يذكر فيها قصة بناء المسجد.
والذي في "الإصابة" في ترجمة أبي بصير (6/375): (وعند موسى بن عقبة في المغازي من الزيادة في قصته: ...ولما كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي جندل وأبي بصير أن يقدما عليه، ورد الكتاب وأبو بصير يموت، فمات وكتاب النبي صلى الله عليه وسلم في يده، فدفنه أبو جندل مكانه وصلى عليه). فلعله التبس على بعض النقلة عن موسى بن عقبة جملة: (وصلى عليه) بجملة: (بُني عليه هناك مسجد) أو جملة: (جعل عند قبره مسجدًا).
وانظر تعليق الشيخ عبد العزيز ابن باز هامش 1 / 525 .
20 – قال الحافظ 6 / 40 على حديث رقم ( 2826) قوله : " يضحك الله إلى رجلين " قال الخطابي : الضحك الذي يعتري البشر عندما يستخفهم الفرح أو الطرب غير جائز على الله تعالى ، وإنما هذه مثل ضرب لهذا الصنيع الذي يحل محل الإعجاب عند البشر فإذا رأوه أضحكهم ، ومعناه الإخبار عن رضا الله بفعل أحدهما وقبوله للآخر ومجازاتهما على صنيعهما بالجنة مع اختلاف حاليهما .
قال : وقد تأول البخاري الضحك في موضع آخر على معنى الرحمة ، وهو قريب ، وتأويله على معنى الرضا أقرب ، فإن الضحك يدل على الرضا والقبول .
قال : والكرام يوصفون عندما يسألهم السائل بالبشر وحسن اللقاء ، فيكون المعنى في قوله : " يضحك الله " أي يجزل العطاء .
قال : وقد يكون معنى ذلك أن يعجب الله ملائكته ويضحكهم من صنيعهما ، وهذا يتخرج على المجاز ، ومثله في الكلام يكثر " .
قال الشيخ البراك: قول الخطابي: " الضحك الذي يعتري البشر عند ما يستخفهم الفرح أو الطرب .... إلخ ":
مذهب أهل السنة في الضحك المضاف إلى الله تعالى في هذا الحديث وغيره إثباته لله عز وجل على ما يليق به ويختص به ، وأنه ضحك لا كضحك المخلوقين كما يقولون مثل ذلك في سائر ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ فعندهم أنه تعالى يضحك حقيقة، والضحك منه تعالى غير العجب، وغير الرحمة والرضا، لكنه يتضمن هذه المعاني أو يستلزمها.
ونفي حقيقة الضحك عن الله تعالى هو مذهب الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الأشاعرة. وليس لهذا النفي من شبهة إلا من جنس ما تُنفى به سائر الصفات. ثم إن الذين نفوا الضحك عن الله عز وجل من الأشاعرة أو من وافقهم منهم من يسلك في النصوص طريقة التفويض فلا يفسرها، ولا يثبت ظاهرها إلا بلفظ دون معنى، ومنهم من يسلك فيها طريقة التأويل فيفسرها بما يخالف ظاهرها؛ وهذا هو الذي سلكه الخطابي فيما نقله عنه الحافظ رحمهما الله تعالى، وعفا عنهما.
ونقول: نعم، الضحك الذي يعتري البشر عند ما يستخفهم الفرح أو الطرب غير جائز على الله تعالى؛ فإن ذلك ضحك البشر وهو مختص بهم، وضحك الرب سبحانه مختص به. فليس الضحك كالضحك، كما يقال مثل ذلك في قدرته وإرادته وغير ذلك من صفاته سبحانه وتعالى.
وقول الخطابي: " وقد تأول البخاري الضحك في موضع آخر على معنى الرحمة " فيه نظر، والأشبه أن هذا لا يصح عن البخاري، ويؤيد ذلك قول الحافظ رحمه الله تعالى عندما نقل قول الخطابي عن البخاري في كتاب التفسير حديث ( 4889 ) حيث قال: "قال الخطابي: وقال أبو عبد الله : معنى الضحك هنا الرحمة" قلت: - أي الحافظ - ولم أر ذلك في النسخ التي وقعت لنا من البخاري.