كتب محمد المبارك "سعودي"
المعجزة السودانية
(الحلقة الأولى)
لا شك أن جمهورية السودان الاسلامية قد قطعت في العقدين الأخيرين خطوات تنموية كبرى في مدة قصيرة بالنسبة للتوقيت التنموي الخاص بدول العالم الثالث .
وإذا كانت ماليزيا قد بهرت نظيراتها من الدول الاسلامية بقفزتها التنموية الهائلة خلال فترة قياسية فيما عُرِف ـ إقتصادياً ـ باسم "المعجزة الماليزية" فإن تلك القفزة لم تكن بمعزل عن رغبات غربية جامحة في تعزيز القوة المناعية الماليزية تجاه المد الصيني الشيوعي في ذلك الوقت في دولة يكوِّن الجنس الصيني نسبة 33% من مكوناته البشرية .
مما حدا بالحكومة ـ و برعاية غربية ـ لإطلاق مشروع "بوميبوترا " الذي يعطي الأولوية لتنمية وتطوير عرق الملايو "أبناء الأرض"، دون العرقين الصيني و الهندي..
ذلكم المشروع الذي سُرعان ما فقد كثيرً من دعائمه الغربية بعد انقضاء الخطر الشيوعي، لتنتهي فترة ولاية الدكتور "مهاتير" و لتدخل البلاد من بعده في دهاليز سياسية معقَّدة كبحت كثيراً من جماح تلك القفزة التاريخية لدولٍة مسلمة واثبة كالدولة الماليزية .
نرجع الى الشأن السوداني :
الملفت للنظر بالنسبة للوضع السوداني هو : كون ذلك العملاق الأسمر قد ابتدأ في تحقيق نجاحات منقطعة النظير ـ بالنسبة لمحيط دُول الجامعة العربية على الأقل ـ خلال فترة تطبيق كثير من القرارات الامريكية والغربية المجحفة تجاه القطر السوداني دولة وشعباً .
فإذا كانت رئاسة الصادق المهدي في سنواتها الثلاث العجاف ( منذ 1986-الى - 1989م ) استطاعت ـ بشكلٍ غير مسبوق ـ أن تأكل الأخضر و اليابس ، و أن تخسف بسعر الجنيه السوداني حين نزل سعر صرف الجنيه السوداني ذلك الوقت الى مستويات قياسية : فكان الجنيه المصرى يساوي 100 جنيه سودانى ، ممَّا زاد من منسوب الهجرة السنوية من السودان الى الخارج.
فقد استطاعت حكومة الانقاذ الاسلامية "مهاتير الأسمر" من اعادة التوازن الى الاقتصاد السوداني .
ـ فمنذ عشر سنوات تقريبا احتفل السودان بتسديد آخر مديونية عليه لصندوق النقد الدولي .
تلك المديونية الضخمة التي تراكمت في عهد الصادق المهدي ، مِمَّا يمكِّن السودان من زراعة سائر احتياجاته الغذائية في وقتٍ يمنع صندوق النقد الدولي بعض الدول المجاورة من زراعة القمح الضروري للمعيشة الإنسانية الكريمة !!
في حين تخطَّى اليوم سعر صرف الجنيه السودانى الجنيه المصرى !!!.
حِفاظُ المال خيرٌ من بُغاه ...........................و ربٍ في البلادِ بغيرِ زادِ
ـ بل قد تمكنت جمهورية السودان الاسلامية من قطع أشواط كبيرة في شتى المجالات النفطية منها والزراعية و الاقتصادية ، ممَّا أسهم في رجوع كثير من الكوادر السودانية المهاجرة في شتى بلدان العالم العربي الاسلامي ، بل و حتى من المهاجرين الى أوربا و القارة الامريكية .
1ـ الصناعة النفطية في السودان :
في عام 1984جمَّدت شركة شيفرون الأمريكية – و التي كانت تملك حقوق امتياز استخراج النفط السوداني منذ عام 1974 (أثناء حكم جعفر النميرى) ، و التي حفرت 90 بئراً في مساحة قدرها(42 مليون هكتار) كانت ثلاثين منها منتجة وواعدة. – نشاطاتها البترولية في السودان كنوعٍ من الضغط السياسي و الاقتصادي الامريكي على الجمهورية السودانية ، و غادرت إثر ذلك البلاد.
هذا علماً بأن فاتورة استيراد الطاقة والمحروقات كانت تكلف البلاد أكثر من ثلث عائداتها من الصادر (300-350 مليون دولار). وكانت الاختناقات والندرة في هذا المجال في السودان هي الأكبر منها في أية سلعة استهلاكية وحيوية أخرى.
• استجلاب مصافي صغيرة واستغلال نفط حقل أبوجابرة والحقول الأخرى وإن كانت محدودة الإنتاج يومئذ.
• تحرير حق الامتياز من شركة شيفرون الأميركية ومحاولة الاتصال بشركات أخرى غير واقعة تحت السيطرة الأميركية ولديها إمكانية القيام بالمهمة.
ولقد كان الأمر الثاني هو الأهم على كل حال. وقد تحقق على يد إحدى شركات القطاع الخاص السوداني المسجلة والعاملة في الخارج وهي شركة (كونكورب العالمية) ومنها انتقل إلى الحكومة لتصوب اهتمامها الكبير نحو هذا الهدف الإستراتيجي. فتداعت للمشروع بعض الشركات الصغيرة بادئ الأمر كشركة (State Petroleum) الكندية.
و في خريف 1993م وضعت الولايات المتحدة الأميركية السودان على لائحة وزارة خارجيتها الخاصة بالدول التي تزعم أنها تدعم الإرهاب أو تصدره ، ممَّا يُعرقل وصول كثير من المعدَّات اللازمة لاستخراج الفط .
إلاَّ أن النفط السوداني تدفق بفضل الله عز و جل على يدي شركة (State Petroleum) الكندية لأول مرة في الخامس والعشرين من يونيو حزيران 1996 بكميات لم تبلغ العشرين ألف برميل يومياً في ذلك الوقت. وكانت تنقل إلى مصفاة (الأبيض) الصغيرة بالقطارات والشاحنات.
وقد فتح ذلك الباب كما هو معلوم لدخول مجموعة الكونسورتيوم (الصينية 40% والماليزية 30% والكندية 25% والحكومة السودانية 5%) لتبدأ رحلة إنتاج وتسويق النفط السوداني الحقيقية ليدخلَ طور التكرير و الإنتاج التجاري.
ففي ظرف ثلاث سنوات فقط ارتفع مستوى الإنتاج من 150 ألف برميل في اليوم بادئ الأمر إلى 220 ألف برميل في اليوم ..
ثمَّ أقيم مركز لتجميع النفط فى حقل هجليج بولاية الوحدة الجنوبية حيث التماس مع ولاية جنوب كردفان إحدى ولايات البلاد الشمالية، ثم امتد خط أنبوب الصادر من هناك إلى شواطئ البحر الأحمر بطول 1600 كيلو متر حيث ميناء بشائر الذي أعد خصيصاً لتصدير النفط الخام الذي يستهلك منه محلياً 60 ألف برميل في اليوم ويصدر الباقي (160 ألف برميل) ـ في ذلك الوقت ـ .
وقد دشنت أول شحنة صادرة من هذا الميناء في الثلاثين من آب/ أغسطس 1999م ، فيما يقدر المخزون الاحتياطي في الآبار المنتجة في السودان بحوالى بليون برميل.
وبقيام مصفاة (الجيلى) شمال الخرطوم بالتمويل مناصفة بين الحكومة السودانية وجمهورية الصين، وبطاقة إنتاجية قوامها خمسة وعشرون ألف برميل. اكتفى السودان من البنزين والغاز وأصبحت له منهما كميات للصادر أيضاً. وذلك إلى جانب مصفاة بورت سودان التي أنشئت في مفتتح الستينيات وتنتج 50 ألف برميل ينتظر أن ترتفع إلى 75 ألفا. ولعل الإنجاز المهم في هذا السياق هو قيام مركز معلومات وتدريب وتحليل وتطوير الطاقة في العاصمة الخرطوم بعد أن كان ذلك كله يتم في الخارج. وبذلك تكون قد توفرت وتكاملت إلى حدٍ كبير الصناعة النفطية فى البلاد، بعد أن تداعى للمشاركة في إنتاج وتطوير هذه الصناعة الإستراتيجية شركات أوروبية وروسية وخليجية، إلى جانب الشركات الكبرى الثلاث التي نهض على يديها المشروع وهى الشركة الصينية الوطنية لإنتاج البترول والشركة الماليزية بترو ناس والكندية تلسمان.
ثم انشئت شركة سودابت في نوفمبر 1996 عند تكوين الكونسيرتيوم العامل في مجال النفط السوداني، وسجلت اوائل العام 1997 كشركة حكومية مملوكة لوزارة الطاقة والتعدين لتعمل في مجالات البترول المختلفة على ان تلعب مستقبلا دورا كبيرا في صناعة النفط في السودان، ومثلت شركة بتروناس مثالا مطلوباً من الشركة الوليدة ان تحذو حذوه وان تنهج مثاله .
و تسعى الشركة لسودنة جميع العاملين في حقل صناعة النفط ، إذ تقوم بتدريب الكوادر تدريبا عمليا شاملا ، ونسبة التأهيل تزيد زيادة مطَّردة، وحتى عام 2007م/2008م ستمثل الكوادر السودانية العاملة في مجال البترول ـ ان شاء الله ـ اكثر من (90%) في الشركات العاملة.
ليصبحَ السودان اليوم من الدول المنتجة للنفط ، فالانتاج الحالي للسودان يقارب الـ 300 الف برميل يوميا ، وليُمنح بعد ذلك عضوية المراقب بمنظمة اوبك، و من ثَمَّ تتسارع الخطى لينال كامل العضوية بمنظمة الدول المصدرة للبترول "أوبك".