تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 2 من 8 الأولىالأولى 12345678 الأخيرةالأخيرة
النتائج 21 إلى 40 من 153

الموضوع: قصص الملائكة

  1. #21
    تاريخ التسجيل
    Jan 2008
    الدولة
    مصر
    المشاركات
    1,396

    افتراضي

    [باب]
    [ذكـر عصمـة الملائـكة]

    قال القاضى عياض رحمه الله تعالى : "الفصل السادس عشر: في القول في عصمة الملائكة: أجمع المسلمون على أن الملائكة مؤمنون فضلاء،
    واتفق أئمة المسلمين أن حكمَ المرسلين منهم حكمُ النبيين، سواء في العصمة مما ذكرنا عصمتهم منه وأنهم في حقوق الأنبياء والتبليغ إليهم كالأنبياء مع الأمم.
    واختلفوا في غير المرسلين منهم؛
    - فذهبت طائفة إلى عصمة جميعهم عن المعاصي
    - وذهبت طائفة إلى أن هذا خصوص للمرسلين منهم والمقربين.
    والصواب عصمة جميعهم، وتنزيه نصابهم الرفيع عن جميع ما يحط من رتبتهم ومنزلتهم عن جليل مقدارهم."[1] ا.هـ بتصرف


    قلت: الأدلة على عصمة الملائكة كثيرة مشهورة نذكر بعضا منها مما فيه كفاية إن شاء الله تعالى:
    الأول: قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:50]
    قال الفخر الرازى: قوله تعالى: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} يتناول جميع فعل المأمور وترك المنهيات؛ لأن النهى عن الشئ مأمور بتركه.[2]
    الثانى: قوله تعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم : 6]
    الثالث: قوله تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26- 27] قال الرازى: فهذا صريح فى براءتهم عن المعاصى، وكونهم متوقفين فى كل الأمور، إلا بمقتضى الأمر والوحى.[3]
    الرابع: قوله تعالى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء : 20] ومن كان كذلك امتنع صدور المعصية منه.
    الخامس: قال ابن أبى مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل.[4]

    وأما من زعم أنهم غير معصومين، فقد استدل بأشياء لا تقوم بها حجة.
    وأهم ذلك ثلاث شبه:
    الأولى: ما يذكرونه فى قصة إبليس، وأنه كان من الملائكة ورئيساً فيهم، ومن خزان الجنة ... إلى آخر ما حكوه، وأنه استثناه من الملائكة بقوله: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34] وسنتكلم على ذلك فى الباب التالى إن شاء الله تعالى.
    الثـانية: قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 30 - 34]
    يخبر - سبحانه وتعالى - أنه قال لملائكته المكرمين حين أراد أن يخلق آدم عليه السلام: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} قال قتادة : قال لهم: إنى فاعل هذا ومعناه أنه أخبرهم.
    والمراد بالخليفة هنا: قوماً يخلف بعضهم بعضاً، قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل. كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ} [الأنعام: 165]
    وليس المراد بالخليفة آدمَ - عليه السلام - وحده؛ إذ لو كان كذلك لما حَسُن قول الملائكة {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء} فليس آدم – عليه السلام – هو الذى يفسد ويسفك الدماء بل المراد أن من هذا الجنس من يفعل ذلك.


    وأما كيف علمت الملائكة أن هذا الخليفة الذى يخلقه الله - عز وجل - سيفسد فى الأرض ويسفك الدماء ؟ ففيه أقوال:
    الأول: أن الله - عز وجل - لما أخبرهم أن هذا الخليفة سيُخلق من صلصال من حمإٍ مسنون، علموا أنه مركب من الشهوة والغضب؛ فيتولد عن الشهوة الفساد، ويتولد عن الغضب سفك الدماء.
    الثانى: أنهم فهموا من الخليفة: أنه الذى يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم. فلابد من وقوع المظالم والمآثم؛ حتى يكون للخليفة معنى غير المراد من توارث الأرض؛ فإنه لو كان المراد بالخليفة الذى يخلف بعضُه بعضاً فقط لما كان لسؤالهم هذا معنى. فتأمل.
    الثالث: أنه تعالى لما قال للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} قالوا: ربَّنا، وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذرية يفسدون فى الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضاً؛ فعند ذلك قالوا: يا ربنا، أتجعل فى الأرض من يفسد فيها ويسفك الدماء؟
    الرابع: لما كتب القلم فى اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة، فلعلهم طالعوا اللوح المحفوظ فعرفوا ذلك. وقيل غير ذلك. وأيّاً ما كان طريق معرفتهم فإنهم قد علموا ذلك وسألوا عن الحكمة من ذلك.


    وقد استدل بهذه الآية من ذهب إلى أن الملائكة غير معصومين فقالوا: إن الملائكة اعترضوا على الله تعالى، ومدحوا أنفسهم، واغتابوا بنى آدم. وهذا كله ينفى عصمتهم.
    والجواب عن هذا بإيجاز من وجوه:

    ______________________________ ________________
    [1] الشفا للقاضى عياض: 2/ 174 وبذيله مزيل الخفا للشمنى ط. دار الكتب العلمية.
    [2] مفاتيح الغيب:2/582
    [3] السابق
    [4] صحيح: رواه البخارى معلقا بصيغة الجزم (1/150 فتح) كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر.

  2. #22
    تاريخ التسجيل
    Jan 2008
    الدولة
    مصر
    المشاركات
    1,396

    افتراضي

    الأول: أن السؤال كان عن الحكمة، واسترشاداً منهم عما لم يعلموا من ذلك. فكأنهم قالوا: يارب أخبرنا. كأنهم تعجبوا من كمال علم الله - تعالى - وإحاطة حكمته بما خفى على كل العقلاء.
    هذا، والاعتراض على الله - تعالى - فى فعله، أو الإنكار عليه، كفرٌ يستحيل صدوره من الملائكة؛ فتعين حمل الكلام على غير هذا المعنى.
    الثانى: أن العبد المخلص لشدة حبه لمولاه؛ يكره أن يكون له عبد يعصيه.
    الثالث: قول المعترض: إن الملائكة مدحوا أنفسهم وذلك يوجب العجب وتزكية النفس. فالجواب: أن مدح النفس غير ممنوع مطلقاً لقوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11] وأيضاً، فيحتمل أن يكون قولهم: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} ليس المراد مدح النفس ، بل المراد: بيان أن هذا السؤال ما أوردناه لنقدح به فى حكمك يارب؛ فإنا نسبح بحمدك، ونعترف لك بالألوهية. بل لطلب وجه الحكمة على سبيل التفصيل.
    الرابع: قول المعترض: أنهم اغتابوا بنى آدم.
    فالجواب: أن محل الإشكال فى خلق بنى آدم، إقدامهم على الفساد والقتل. ومن أراد إيراد السؤال وجب أن يتعرض لمحل الإشكال لا لغيره.
    ______________________________ _____
    الشبهة الثالثة: قصة هاروت وماروت:
    قال تعالى: {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُون َ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُون َ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [البقرة : 102]
    قوله تعالى: {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ} عطف على جواب لما فى الآية التى قبلها، وهى قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [البقرة : 101]
    الضمير فى قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءهُمْ} لعلماء اليهود وأحبارها الذين كانوا فى زمن النبى صلى الله عليه وسلم ممن كانوا يستفتحون به قبل ذلك؛ لأنهم الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، بعد مجئ النبى محمد صلى الله عليه وسلم. والمعنى على هذا والله أعلم: ولما جاء هؤلاء اليهودَ محمدٌ صلى الله عليه وسلم بصفته المذكورة فى التوراة عندهم = فصدقها؛ إذ جاء على وفق ما فيها. وصدقته؛ بأن كان ما فيها مطابق لنعته صلى الله عليه وسلم = نبذوا كتاب الله - أى التوراة - وراء ظهورهم، رافضين ما فيها، كأنهم لا يعلمون ما فيها من الأمر بتصديقه صلى الله عليه وسلم واتباعه، واتبعوا كتب السحرة التى كانت تتلوها الشياطين فى ملك سليمان عليه السلام.
    واختلف أهل التأويل فى تأويل قوله - تعالى - : {تَتْلُواْ} على قولين:
    الأول: تُحَدِّث وتَرْوِي وتتكلم به وتخبر. نحو تلاوة الرجل للقرآن، وهى قراءته. والمعنى: أن الشياطين روت السحر للناس، وأخبرتهم به.
    الثانى: تروى، وتتبع، وتعمل به. كما يقال: تلوت فلانا، إذا مشيت خلفه، وتبعت أثره. فيجوز أن الشياطين كانت تقرأ السحر للناس، وتخبرهم به، وتعمل به، فاتبعت اليهود منهاجها فى ذلك، فروته، وعملت به.
    وذكر المفسرون: أن الشياطين كانت تعمل بالسحر، وتسترق السمع؛ ففشى فى الناس أن الجن تعلم الغيب، فلما أُرْسِلَ سليمانُ - عليه السلام - جمع ما كان من ذلك مكتوبا، ووضعه تحت كرسيه، وقال: من قال إن الشياطين تعلم الغيب ضربت عنقه. وقيل: بل الشياطين هى التى عمدت - بعد موت سليمان عليه السلام - إلى السحر فصنفته أصنافا، وكتبت: من أراد أن يبلغ كذا وكذا، فليفعل كذا وكذا، ثم ختمته بخاتم عليه نقش سليمان، وجعلت عنوانه: (هذا ما كتب آصف بن برخيا الصِّدِّيق للملك سليمان بن داود من ذخائر العلم) ثم دفنته تحت كرسيه. فلما ذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان، وخلف من بعدهم خلف، تمثل الشيطان فى صورة إنسان، وأتى نفرا من بنى إسرائيل فقال لهم: هل أدلكم على كنز سليمان الذى كان يسخر به الشياطين والرياح وغير ذلك ؟ قالوا: نعم. قال: فإنه فى بيت خزانته تحت كرسيه. فاستخرجوه وقالوا: والله ما كان سليمان بن داود إلا ساحراً، ولم يستعبد الإنس والجن والطير إلا بهذا. فأكذبهم الله تعالى فى ذلك، وبرأ نبيه سليمان - عليه السلام - مما قالوه.
    واختلف أهل العلم فى ما التى فى قوله: {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ}:
    (1) قال بعضهم: ما بمعنى لم. روى ذلك الإمام الطبرى فى تفسيره عن ابن عباس، والربيع بن أنس. والمعنى: أن الله - تعالى - لم ينزل على الملكين السحر. وعلى ذلك فهاروت وماروت فى موقع جر على البدل من {الملكين} أومن {الناس}: فأما كونهما بدلا من الملكين - على هذا المعنى - فغير جائز؛ لأنه يؤدى إلى بطلان معنى قوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُون َ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} وذلك أن معنى الآية يصير هكذا: ولكن الشياطين كفروا، يعلمون الناس السحر، ولم ينزل الله السحر على الملكين ببابل هاروت وماروت، وما يعلمان من أحد حتى يقولا ... الآية .
    فإذا لم يكونا عالِمَيْن بما يُفَرَّقُ به بين المرء وزوجه، فما الذي يَتعلم منهما من يفرِّق بين المرء وزوجه ؟!
    وإن كانت {مَا} فى قوله: {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ} معطوفة على قوله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} فإن الله - تعالى - نفى عن سليمان أن يكون السحر من عمله أوعلمه أو تعليمه. فإن كان نفى عن الملَكين من ذلك نظير الذي نفى عن سليمان، وهاروت وماروت هما الملكان. يعنى: إن كان الله – عزوجل - نفى عن الملَكين هاروت وماروت أن يكون السحر من عملهما أو علمهما أو تعليمهما، فمَنِ المتعلَّم منه إذًا ما يفرَّق به بين المرء وزوجه ؟ وعمن الخبر الذي أخبر عنه بقوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} إن خطأ هذا القول لواضح بين. وإن كان قوله {هاروت وماروت} بدلا من {الناس} في قوله: {وَلَـكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} فقد وجب أن تكون الشياطين هي التي تعلم هاروت وماروت السحر، وتكون السحرة إنما تعلمت السحر من هاروت وماروت عن تعليم الشياطين إياهما، ويكون معنيا بالملكين: جبريل، وميكائيل؛ لأن سحرة اليهود - فيما ذكر- كانت تزعم: أن الله أنزل السحر إلى سليمان بن داود - عليهما السلام - على لسان جبريل وميكائيل. فأكذبهم الله – تعالى - فى ذلك، وبرأ نبيه سليمان - عليه السلام - مما نسبوه إليه.
    ومعنى الآية على هذا التوجيه: واتبعت اليهود السحر الذى تتلوه الشياطين فى ملك سليمان، وماكفر سليمان فيعمل بالسحر، وما أنزل الله السحر على الملكين جبريل وميكائيل، ولكن الشياطين كفروا، يعلمون رجلين من الناس السحر ببابل اسم أحدهما هاروت، واسم الآخرماروت. فإن يكن ذلك كذلك، فقد كان يجب أن يكون بهلاكهما قد ارتفع السحر والعلم به والعمل - من بني آدم؛ لأنه إذا كان علم ذلك من قبلهما يؤخذ، ومنهما يتعلم، فالواجب أن يكون بهلاكهما وعدم وجودهما، عدم السبيل إلى الوصول إلى المعنى الذي كان لا يوصل إليه إلا بهما. وفي وجود السحر في كل زمان ووقت، أبين الدلالة على فساد هذا القول. وقد يزعم قائل ذلك أنهما رجلان من بني آدم، لم يعدما من الأرض منذ خلقت، ولا يعدمان بعد ما وجد السحر في الناس، فيدعي ما لا يخفى بُطلانه.
    (2) وقال آخرون: بل {مَا} بمعنى الذى. رواه ابن جرير عن عبدالله بن مسعود والسدى وقتادة وابن عباس وابن زيد. وهى بمعنى {ما} الأولى التى فى قوله: {مَا تَتْلُواْ} ومعطوفة عليها، ومعناها فى الموضعين: السحر.
    ومعنى الآية على هذا التوجيه: واتبعت اليهودُ السحرَ الذى تتلوه الشياطين فى ملك سليمان، والسحرَ الذى أنزل ببابل على الملكين هاروت وماروت.
    ويرد على هذا القول استشكالين:
    الأول: هل يجوز أن ينزل الله السحر ؟ وهل يجوز لملائكته أن تعلمه الناس ؟ وقد أجاب ابن جرير على ذلك فقال: إن الله جل ثناؤه عرف عباده جميع ما أمرهم به وجميع ما نهاهم عنه، ثم أمرهم ونهاهم بعد العلم منهم بما يؤمرون به وينهون عنه. ولو كان الأمر على غير ذلك، لما كان للأمر والنهي معنى مفهوم. فالسحر مما قد نهى عباده من بني آدم عنه، فغير منكر أن يكون جل ثناؤه علمه الملكين اللذين سماهما في تنزيله، وجعلهما فتنة لعباده من بني آدم - كما أخبر عنهما أنهما يقولان لمن يتعلم ذلك منهما {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} - ليختبر بهما عباده الذين نهاهم عن التفريق بين المرء وزوجه، وعن السحر، فيمحص المؤمن بتركه التعلم منهما، ويخزي الكافر بتعلمه السحر والكفر منهما. ويكون الملكان في تعليمهما من علما ذلك - لله مطيعيْن، إذْ كانا = عن إذن الله لهما بتعليم ذلك من علماه = يعلمان. وقد عبد من دون الله جماعة من أولياء الله، فلم يكن ذلك لهم ضائراً؛ إذ لم يكن ذلك بأمرهم إياهم به، بل عبد بعضهم والمعبود عنه ناه. فكذلك الملكان، غير ضائرهما سحر من سَحر ممن تعلم ذلك منهما، بعد نهيهما إياه عنه، وعظتهما له بقولهما: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} إذ كانا قد أديا ما أمرا به بقيلهما ذلك (1).
    وقال أبو السعود فى تفسيره: هما ملكان أنزلا لتعليم السحر، ابتلاء من الله للناس، كما ابتلى قوم طالوت بالنهر. أو تمييزا بينه وبين المعجزة، لئلا يغتر به الناس. أو لأن السحرة كثرت في ذلك الزمان، واستنبطت أبوابا غريبة من السحر، وكانوا يدعون النبوة؛ فبعث الله تعالى هذين الملكين؛ ليعلما الناس أبواب السحر؛ حتى يتمكنوا من معارضة أولئك الكذابين وإظهار أمرهم على الناس(2). الثانى: إذا كان المراد بـ {مَا} فى الموضعين ({مَا تَتْلُواْ} - {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ}) واحداً وهو السحر. فكيف جاز عطف إحداهما على الأخرى ؟ والعطف يقتضى المغايرة ! أجيب عن ذلك بأن العطف لتغاير الاعتبار أى أن السحر باعتبار تلاوة الشياطين إياه فى ملك سليمان نوع، وباعتبار نزوله على الملكين نوع آخر. وقيل: بل الذى أنزل على الملكين نوع أقوى من الآخر. وقيل: بل {مَا} فى الموضع الأول بمعنى السحر، وفى الموضع الثانى بمعنى التفريق الذى بين المرء وزوجه خاصة. كما سيأتى فى رقم (3) الآتى.
    (3) وقال آخرون: معنى {مَا} معنى الذى، وهى عطف على {مَا} الأولى، غير أن الأولى فى معنى السحر، والثانية فى معنى التفريق الذى بين المرء وزوجه. وتأويل الآية على هذا القول: واتبعوا السحر الذى تتلوه الشياطين فى ملك سليمان، والتفريق الذى بين المرء وزوجه، الذى أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت. رواه الطبرى عن مجاهد.
    (4) وقال آخرون: جائز أن تكون {مَا} بمعنى الذى وجائز أن تكون بمعنى لم. رواه الطبري عن القاسم بن محمد.
    والراجح من هذه الأقوال قول من قال إن معنى {مَا} معنى الذى سواء كانت بمعنى السحر أو بمعنى التفريق بين المرء وزوجه خاصة ، وأن هاروت وماروت مترجم بهما عن الملكين. والله أعلم.
    وقد رويت آثار كثيرة فى قصة هاروت وماروت ، ولا يصح فيها شئ . فمن ذلك:...

    ______________________________ _____
    (1) تفسير الطبري 2/ 426- 427، ط. دار ابن تيمية
    (2) تفسير أبي السعود 1/ 138، ط. دار إحياء التراث العربي- بيروت

  3. #23
    تاريخ التسجيل
    Jan 2008
    الدولة
    مصر
    المشاركات
    1,396

    افتراضي

    ما روى عن عبد الله بن عمر أنه سمع نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن آدم صلى الله عليه وسلم لما أهبطه الله – تعالى - إلى الأرض قالت الملائكة: أى رب أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك. قال: إنى أعلم ما لا تعلمون. قالوا: ربنا نحن أطوع لك من بنى آدم. قال الله تعالى للملائكة: هلموا ملَكين من الملائكة حتى يُهبَط بهما إلى الأرض فننظر كيف يعملان. قالوا: ربنا هاروت وماروت. فأهبطا إلى الأرض ومُثِّلت لهما الزهرةُ امرأة من أحسن البشر. فجاءتهما فسألاها نفسها فقالت: لا والله حتى تَكَلَّما بهذه الكلمة من الإشراك. فقالا: والله لا نشرك بالله أبدا. فذهبت عنهما ثم رجعت بصبى تحمله فسـألاها نفسها قالت: لا والله حتى تقتلا هذا الصبى فقالا: والله لا نقتله أبدا. فذهبت ثم رجعت بقدح خمر تحمله فسألاها نفسها قالت: لا والله حتى تشربا الخمر. فشربا فسكرا فوقعا عليها وقتلا الصبى. فلما أفاقا قالت: والله ما تركتما شيئا مما أبيتماه علىَّ إلا قد فعلتما حين سكرتما. فخُيِّرا بين عذاب الدنيا والآخرة فاختارا عذاب الدنيا ."[1]
    قال الشوكانى: رواه ابن الجوزى فى موضوعاته عن ابن عمر مرفوعا وقال: لا يصح؛ فى إسناده الفرج بن فضالة، ضعفه يحى، وقال ابن حبان: يقلب الأسانيد ويلزق المتون الواهية بالأسانيد الصحيحة. وفى إسناده – أيضا – سُنيد، ضعفه أبو داود والنسائى.[2]
    وقال الحافظ ابن كثير: هذا حديث ضعيف من هذا الوجه. ثم ذكر روايات الحديث، وتكلم على الرواة، ثم قال: فدار الحديث ورجع إلى نقل كعب الأحبار عن كتب بنى إسرائيل. والله أعلم.[3]
    وقال أيضا: وأما ما يذكره كثير من المفسرين فى قصة هاروت وماروت: من أن الزهرة كانت امرأة، فراوداها على نفسها، فأبت إلا أن يعلماها الاسم الأعظم، فعلماها، فقالته؛ فرفعت كوكبا إلى السماء. فهذا أظنه من وضع الإسرائيليين، وإن كان أخرجه كعب الأحبار وتلقاه عنه طائفة من السلف، فذكروه على سبيل الحكاية والتحديث عن بنى إسرائيل .[4]
    وقال الخازن: إن ما نقله المفسرون، وأهل الأخبار فى ذلك، لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شئ، وهذه الأخبار إنما أخذت من اليهود، وقد علم افتراؤهم على الملائكة والأنبياء.[5]
    وقال القرطبى: قلنا: هذا كله ضعيف، وبعيد عن ابن عمر وغيره، لا يصح منه شئ؛ فإنه قول تدفعه الأصول فى الملائكة الذين هم أمناء الله على وحيه، وسفراؤه إلى رسله.[6]
    وقال الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله تعالى - فى تعليقه على تفسير الطبرى: وهذه الأخبار، في قصة هاروت وماروت، وقصة الزهرة، وأنها كانت امرأة فمسخت كوكبا - أخبار أعلها أهل العلم بالحديث. وقد جاء هذا المعنى في حديث مرفوع، ورواه أحمد في المسند : 6178، من طريق موسى بن جبير عن نافع عن ابن عمر. وقد فصلت القول في تعليله في شرح المسند، ونقلت قول ابن كثير في التفسير 1: 255 وأقرب ما يكون في هذا أنه من رواية عبد الله بن عمر عن كعب الأحبار، لا عنه صلى الله عليه وسلم واستدل بروايتي الطبري السالفتين: 1684، 1685 عن سالم عن ابن عمر عن كعب الأحبار.
    وقد أشار ابن كثير أيضًا في التاريخ 1 : 37 - 38 قال: " فهذا أظنه من وضع الإسرائيليين، وإن كان قد أخرجه كعب الأحبار، وتلقاه عنه طائفة من السلف، فذكروه على سيبل الحكاية والتحدث عن بني إسرائيل." وقال أيضًا، بعد الإشارة إلى أسانيد أخر: " وإذا أحسنا الظن قلنا: هذا من أخبار بني إسرائيل، كما تقدم من رواية ابن عمر عن كعب الأحبار. ويكون من خرافاتهم التي لا يعول عليها ".
    وقال في التفسير أيضًا 1 : 260 ، بعد ذكر كثير من الروايات التي في الطبري وغيره: " وقد روى في قصة هاروت وماروت، عن جماعة من التابعين، كمجاهد، والسدي، والحسن البصري، وقتادة، وأبي العالية، والزهري، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان، وغيرهم، وقصها خلق من المفسرين، من المتقدمين والمتأخرين. وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل، إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى. وظاهر سياق القرآن إجمال القصة " من غير بسط ولا إطناب فيها. فنحن نؤمن بما ورد في القرآن، على ما أراده الله تعالى. والله أعلم بحقيقة الحال". وهذا هو الحق، وفيه القول الفصل. والحمد لله.[7]
    وقال الفخر الرازى: أما الشبهة الثانية: وهى قصة هاروت وماروت، فالجواب عنها: أن القصة التى ذكروها باطلة من وجوه:
    أحدها: أنهم ذكروا فى القصة أن الله - تعالى - قال لهما: لو ابتليتكما بما ابتليت به بنى آدم لعصيتمانى. فقالا: لو فعلت ذلك يا ربنا لما عصيناك. وهذا منهم تكذيب لله - تعالى - وتجهيلا له، وذلك من صريح الكفر. والحشوية سلموا أنهما كانا قبل الهبوط إلى الأرض معصومين.
    ثانيهما: فى القصة أنهما خُيِّرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. وذلك فاسد، بل كان الأولى أن يُخيَّرا بين التوبة وبين العذاب، والله - تعالى - خير بينهما من أشرك به طول عمره، وبالغ فى إيذاء أنبيائه.
    ثالثها: فى القصة أنهما يعلمان السحر حال كونهما معذبين، ويدعوان إليه، وهما معاقبان على المعصية.
    رابعها: أن المرأة الفاجرة، كيف يعقل أنها لما فجرت صعدت إلى السماء، وجعلها الله - تعالى - كوكبا مضيئا، وعظم قدرها بحيث أقسم به، حيث قال سبحانه: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} [التكوير : 15-16] وهذه القصة ركيكة، يشهد كل عقل سليم بنهاية ركاكتها.[8]

    ______________________________ ________________________
    [1] ضعيف جدا: رواه أحمد (6186) وابن حبان كما فى تفسير ابن كثير1/192 وذكره الشوكانى فى الفوائد المجموعة فى الاحاديث الموضوعة: 491 (ط . دار الكتب العلمية)
    [2] الفوائد المجموعة: 492
    [3] تفسير القرآن العظيم: 1/193
    [4] البداية والنهاية: 1/40
    [5] تفسير الخازن: 1/90
    [6] تفسير القرطبى: 1/442
    [7] تفسير الطبرى:2/432 (ط.مؤسسة الرسالة-الطبعة الأولى) حاشية رقم:9 التعليق على الأثر رقم: 1688
    [8] مفاتيح الغيب:2/588

  4. #24
    تاريخ التسجيل
    Jan 2008
    الدولة
    مصر
    المشاركات
    1,396

    افتراضي

    [باب]
    [هل كان إبليس من الملائكة ؟]

    اختلفوا فيه على قولين:
    الأول: من رجح كون إبليس من الملائكة:
    قال القرطبى فى قوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:50] نصب على الاستثناء المتصل؛ لأنه كان من الملائكة على قول الجمهور: ابن عباس، وابن مسعود، وابن جريج، وابن المسيب، وقتادة، وغيرهم. وهو اختيار الشيخ أبى الحسن، ورجحه الطبرى، وهو ظاهر الآية.[1]
    قلت: ذكر المفسرون هنا آثارًا كثيرة حاصلها أن إبليس كان من أشرف الملائكة، وأنه كان خازنا للجنة وللسماء الدنيا، فاغتر بذلك، ووقع فى نفسه الغرور والكبر، فأراد الله - عز وجل - أن يستخرج ذلك منه؛ فأمره بالسجود لآدم، فأبى واستكبر ... إلى آخر ما ذكروه وأغلب هذه الآثار من الإسرائيليات.
    الثاني: من رجح كون إبليس من الجن وليس من الملائكة:
    نقله القرطبى وغيره عن ابن عباس - أيضا - وابن زيد والحسن وقتادة.[2]
    وهذا هو الرأى الراجح والأدلة عليه كثيرة نذكر بعضا منها:
    الدليل الأول: قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُون َهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50] فهذا صريح فى أن إبليس من الجن.
    الدليل الثانى: إبليس له ذرية والملائكة ليس لها ذرية: أما إن إبليس له ذرية، فيدل عليه قوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُو َهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} [الكهف:50]
    وأما إن الملائكة لا ذرية لهم؛ فلأن الذرية إنما تحصل من الذكر والأنثى، والملائكة لا يوصفون بذكورة ولا بأنوثة، قال تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:19] فإنه تعالى أنكر على من حكم عليهم بالأنوثة، فإذا انتفت الأنوثة انتفى التوالد لا محالة؛ فانتفت الذرية.
    الدليل الثالث: الملائكة معصومون - كما تقدم - وإبليس ليس كذلك؛ فوجب ألا يكون منهم.
    الدليل الرابع: الملائكة مخلوقة من النور، وإبليس مخلوق من النار لقوله صلى الله عليه وسلم: "خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم."[3]
    وقال تعالى: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] وقوله تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن:14-15]
    وقال الحافظ ابن كثير فى قوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف :50]: أى خانه أصله؛ فإنه خلق من مارج من نار، وأصل خلق الملائكة من نور ... فعند الحاجة نضح كل إناء بما فيه، وخانه الطبع عند الحاجة، وذلك أنه كان قد توسم بأفعال الملائكة وتشبه بهم وتعبد وتنسك؛ فلهذا دخل فى خطابهم، وعصى بالمخالفة. ونبه تعالى ها هنا على أنه من الجن أى: على أنه خلق من نار كما قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]
    وقال الحسن البصرى: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين، وإنه لأصل الجن كما أن آدم - عليه السلام - أصل البشر.[4]
    الدليل الخامس: أن تأويل قوله تعالى: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف:50] بأنه كان خازنا للجنة تأويل بعيد؛ لأن قوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف:50] يشعر بتعليل تركه السجودَ لكونه جنيا، ولا يمكن تعليل تركه السجود بكونه خازنا للجنة.
    والله أعلم

    ______________________________ __________________
    [1] تفسير القرطبى: 1/251 وانظر تفسير ابن كثير: 1/121 وفتح البيان فى مقاصد القرآن: 1/110
    [2] تفسير القرطبى: 1/251
    [3] صحيح: وقد تقدم.
    [4] صحيح: رواه ابن جرير بإسناد صحيح عن الحسن وانظر تفسير ابن كثير:5/104والبداية والنهاية:1/73

  5. #25
    تاريخ التسجيل
    Jan 2008
    الدولة
    مصر
    المشاركات
    1,396

    افتراضي

    [باب]
    [الحكمة فى عدم إرسال الملائكة إلى البشر
    ]
    اعلم أن الأمم الكافرة قد اجتمعت على سؤال رسلهم أن يأتوهم بالملائكة، أو أن يكون الرسول المرسل إليهم ملاكاَ، عنادًا منهم، ومكابرة، وتعجيزًا لرسلهم. ولم يكن مطلبا يسألونه ليطمئنوا به؛ فإن رسلهم قد جاؤهم بالمعجزات القاهرات، والآيات البينات.
    فعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال النبى صلى الله عليه وسلم: " مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِىٌّ إِلَّا أُعْطِىَ مِنَ الْآياتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِى أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَىَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ."(1)
    وقد ذكر القرآن طلب المشركين هذا من رسلهم، وتعجبهم من إرسال البشر إليهم، فى آيات كثيرة فمن هذا:
    قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون:24]
    وقوله تعالى عن عاد قوم هود: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُ مْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} [المؤمنون:33-34]
    وقوله تعالى عن ثمود قوم صالح: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} [القمر:23-25]

    وقوله تعالى عن عاد وثمود: {إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [فصلت:14]
    وقوله تعالى حكاية عن فرعون: {فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} [الزخرف:53]
    وقوله تعالى عن أصحاب الأيكة قوم شعيب: {وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [الشعراء:186]
    وقوله تعالى عن الأمم السابقة: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [التغابن:6،5]
    وقوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [إبراهيم:9-11]
    وأما أعتى الأمم، وأشدها تكذيبا، وأكثرها طلبا لهذا الأمر فهم قوم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فمن ذلك:
    قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [هود:12]
    وقوله تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الأنبياء:3]
    وقوله تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} [الفرقان:7]
    وقوله تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَة ِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الحجر:7،6]
    ومما يدل على أنهم إنما يطلبون هذا الأمر تعجيزا قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَة ِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} [الإسراء:90-95]
    وقد أجاب الله - سبحانه وتعالى - على هؤلاء المشركين وحاصل الإجابة أمور:
    أحدها: أنهم لن يفهموا مخاطبة الملَك وهم على هيئتهم البشرية هذه، ولكي يفهموا عنه لابد من أحد أمرين: إما أن يصيروا ملائكة، فتتناسب طبيعتهم مع طبيعة الملَك، وإما أن يصير الملَك رجلا بشرًا:
    فأما أول الأمرين: وهو أن يصيروا هم ملائكة، فأمر لا يكون، ولم يأذن به الله.
    وأما ثانيهما: وهو أن يصير الملَك رجلا يخاطبهم حتى يفهموا عنه، فهو أمر جائز؛ لجواز أن يتمثل الملك فى صورة بشر. ولكن إن حدث هذا، فسيطلبوا منه أن يرسل الله إليهم ملكا، فيرجع الأمر إلى ما كان، كما قال تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام:7-9] قال ابن كثير: أى ولو نزلنا مع الرسول البشري ملكا أي: لوبعثنا إلى البشر رسولا ملكيا، لكان على هيئة رجل؛ لتفهم مخاطبته والانتفاع بالأخذ عنه، ولو كان كذلك لالتبس عليهم الأمر، كما يلبسون على أنفسهم في قبول رسالة البشري[2]
    وقال تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} [الإسراء:94-95] فلو كان هؤلاء القوم ملائكة، لكان الرسول إليهم من جنسهم ملاكا، ولكن لما كانوا بشراً، أرسل الله إليهم رسولا من جنسهم ليفهموا عنه.
    ومما يدل - أيضا - على أن البشر لا يستطيعون الفهم عن الملائكة، صوت الرعد، فالرعد - كما سيأتى إن شاء الله تعالى - ملك من الملائكة موكل بالسحاب، وهذا الصوت الذى نسمعه صوته، فمن منا يزعم أنه يفهم تسبيح الرعد.
    وقد كان الصحابة - رضوان الله عليهم - يسمعون عند نزول الوحى دويًّا كدوىِّ النحل، ولكنهم لايفهمون عنه شيئاً. وانظر ما سيأتى عند ذكر أنواع الوحى.
    ثانيها: أنهم لا يرون الملائكة فى يوم خير لهم، بل لا يرون الملائكة إلا عند مماتهم، فتأتيهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم، ويقولون: حجراً محجوراً أى: حرام عليكم الفلاح اليوم. قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:22،21] فهؤلاء المشركين تعنتوا أشد التعنت، وعاندوا أشد العناد؛ فطلبوا رؤية الملائكة، ونزولهم بالرسالة عليهم كما تنزل على الانبياء، كما قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} [الأنعام:124] أي حتى تأتينا الملائكة من الله بالرسالة كما تأتى إلى الرسل، فأجابهم الله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] وبأنهم لا يرون الملائكة فى يوم خير لهم.
    ثالثها: أن الملائكة إنما تنزل بأمر هام لايستطيعه غيرهم: كالوحى إلى الأنبياء، وإهلاك الأمم الكافرة. قال تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَة ِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ} [الحجر:6-8]
    وقال تعالى: {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ} [الأنعام:8] فلو استجاب الله - عز وجل - طلبَهم هذا لقُضِى الأمرُ؛ لأن الملائكة لن تنزل إلا بهلاكهم كما حدث مع الأمم السابقة.
    والله أعلم

    ______________________________ ___
    [1] صحيح: رواه البخارى (4981 - 7274) ومسلم (152)
    [2] تفسير ابن كثير:3/149

  6. #26
    تاريخ التسجيل
    Jan 2008
    الدولة
    مصر
    المشاركات
    1,396

    افتراضي

    [باب]
    [الفرق بين إلهام المَلَك وإلقاء الشيطان]

    عن عبد الله بن مسعود قال: لابن آدم لمتان لَمَّة[1] من الملك ولمة من الشيطان فأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق وتطييب بالنفس وأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق وتخبيث بالنفس.[2]
    ولفظ الترمذى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنْ اللَّهِ فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ الْأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ثُمَّ قَرَأَ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة:268]
    وله شاهد من الصحيح من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنْ الْجِنِّ." قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: " وَإِيَّايَ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَم فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ."
    حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى وَابْنُ بَشَّارٍ قَالَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَعْنِيَانِ ابْنَ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ ح و حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ رُزَيْقٍ كِلَاهُمَا عَنْ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادِ جَرِيرٍ مِثْلَ حَدِيثِهِ غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ سُفْيَانَ "وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنْ الْجِنِّ وَقَرِينُهُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ."[3]
    قال الإمام ابن القيم: والفرق بين إلهام الملك وإلقاء الشيطان من وجوه:
    منها: أن ما كان لله موافقا لمرضاته وما جاء به رسوله فهو من الملك، وما كان لغيره غير موافق لمرضاته فهو من إلقاء الشيطان.
    ومنها: أن ما أثمر إقبالا على الله وإنابة إليه وذكرا له وهمة صاعدة إليه فهو من إلقاء الملك، وما أثمر ضد ذلك فهو من إلقاء الشيطان.
    ومنها: أن ما أورث أنسا ونورا فى القلب وانشراحا فى الصدر فهو من الملك، وما أورث ضد ذلك فهو من الشيطان.
    ومنها: أن ما أورث سكينة وطمأنينة فهو من الملك، وما أورث قلقا وانزعاجا واضطرابا فهو من الشيطان.
    فالإلهام الملكى يكثر فى القلوب الطاهرة النقية التى قد استنارت بنور الله؛ فللملَك بها اتصال، وبينه وبينها مناسبة؛ فإنه طيب طاهر لا يجاور إلا قلبا يناسبه. وتكون لَمة الملَك بهذا القلب أكثر من لَمة الشيطان، وأما القلب المظلم الذى اسود بدخان الشهوات والشبهات فإلقاء الشيطان ولمته به أكثر من لمة الملك.[4]
    تتمة :
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما الناظر فى مسألة معينة وقضية معينة لطلب حكمها، والتصديق بالحق فيها - والعبد لا يعرف ما يدله على هذا أو هذا - فمجرد هذا النظر لا يفيد، بل قد يقع له تصديقات يحسبها حقا وهى باطل، وذلك من إلقاء الشيطان. وقد يقع له تصديقات تكون حقا، وذلك من إلقاء الملك. وكذلك إذا كان الناظر فى الدليل الهادى - وهو القرآن - فقد يضع الكلم مواضعه ويفهم مقصود الدليل فيهتدى بالقرآن وقد لا يفهمه[5] أو يحرف الكلم عن مواضعه فيضل به ويكون ذلك من الشيطان كما قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82] ... فالناظر فى الدليل بمنزلة المترائى للهلال قد يراه وقد لا يراه لعشى بصره وكذلك أعمى القلب.[6]

    ______________________________ ______
    [1] اللَّمَّة: الخطرة تقع فى القلب
    [2] حسن موقوفا: رواه ابن المبارك فى الزهد (1435) قال أخبرنا فطر عن المسيب بن رافع عن عامر بن عبدة عن عبد الله بن مسعود به ورجاله ثقات غير فِطْر وهو ابن خليفة أبو بكر الكوفى الحناط صدوق رمى بالتشيع وثقه أحمد وابن معين وابن سعد وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال الدارقطنى: لا يحتج به. انظر التقريب/384 وتهذيب التهذيب 4/507 والميزان 5/441 والطبقات الكبرى لابن سعد 6/535 والجرح والتعديل 7/90 وسؤالات الحاكم النيسابورى للدارقطنى/264 ترجمة رقم (454).
    وفى تفسير ابن كثير1/402 رواه مسعر عن عطاء بن السائب عن أبى الأحوص (وهو عوف بن مالك بن نضلة) عن ابن مسعود موقوفا عليه. وهذا إسناد ضعيف. وقال ابن تيمية فى مجموع الفتاوى 4/31: وهذا الكلام الذى قاله ابن مسعود هو محفوظ عنه وربما رفعه بعضهم إلى النبى صلى الله عليه وسلم ا.هـ
    قلت: وقد روى مرفوعا إلى النبى صلى الله عليه وسلم رواه الترمذى (2988) وقال: حسن غريب وهو حديث أبى الأحوص لا نعلمه مرفوعا إلا من حديث أبى الأحوص. ورواه النسائى فى التفسير رقم (71) وابن أبى حاتم وابن حبان فى صحيحه كما فى تفسير ابن كثير1/402 ورواه ابن الجوزى فى تلبيس إبليس/ ص37 كلهم من طريق هناد بن السرى عن أبى الأحوص عن عطاء بن السائب عن مرة الهمدانى عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره. ورجاله ثقات غير عطاء بن السائب فإنه صدوق اختلط كما فى التقريب/331 وقد جمع الحافظ ابن حجر الأقوال فيه ثم قال: فيحصل لنا من مجموع كلامهم أن سفيان الثورى وشعبة وزهير أو زائدة وحماد وأيوب عنه صحيح ومن عداهم يتوقف فيه إلا حماد بن سلمة فاختلف قولهم والظاهر أنه سمع منه مرتين مرة مع أيوب كما يومى إليه كلام الدارقطنى ومرة بعد ذلك لما دخل إليهم البصرة وسمع منه مع جرير وذويه. والله أعلم.انظر التهذيب4/130-133 ترجمة رقم (5287) والميزان 5/90 رقم (5647) والطبقات الكبرى 6/525رقم (2498) والجرح والتعديل 6/332 رقم (1848) وسؤالات الحاكم للدارقطنى/262رقم (448) وقال تركوه.
    قلت:وقد نقل تضعيف هذا الحديث محقق تلبيس إبليس عن ضعيف الجامع(1963) وقال: فى إسنادهم أبو (الأحوص) وهو مجهول ا.هـ وهذا وهم وأغلب ظنى أنه من المحقق المذكور لا من الشيخ الألبانى - رحمه الله - وليس عندى ضعيف الجامع لأراجعه فالله أعلم. وأبو الأحوص هذا هو سلام بن سليم الحنفى الكوفى ثقة متقن صاحب حديث كما فى التقريب / 201رقم (2703) وأما المجهول فهو مولى بنى ليث أو بنى غفار. انظرالتقريب/544 رقم (7926) والتهذيب 6/288 رقم (9153) والله أعلم. فالظاهر مما سبق أن أبا الأحوص قد سمع من عطاء بن السائب بعد الاختلاط . والله أعلم .
    ورواه – أيضا - ابن المبارك فى الزهد عن صفوان بن سليم مرسلا رقم (947) وكذا رواه عن ابن عون عن إبراهيم (هو النخعى) به رقم (1437) فجعله من قول إبراهيم ونسبه ابن كثير أيضا لابن مردويه مرفوعا والله أعلم .
    [3] صحيح: رواه مسلم (2814) وأحمد (3648-3779-3802-4392) وهو لفظه والدارمى (2734) وأبو نعيم فى الدلائل1/185وابن الجوزى فى تلبيس إبليس/35
    [4] الروح لابن القيم: 328 (ط. دار المنار)
    [5] "قد" لا تدخل على الفعل المنفى والأحسن فى هذا أن يقول وربما لا يفهمه أو وعسى ألا يفهمه ونحو ذلك.
    [6] مجموع الفتاوى:4/37

  7. #27
    تاريخ التسجيل
    Jan 2008
    الدولة
    مصر
    المشاركات
    1,396

    افتراضي

    [باب]
    [ذكر تسبيح الملائكة]
    قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] قال الإمام الماوردى فى تفسيره[1]: التسبيح فى كلامهم[2]: التنزيه من السوء على جهة التعظيم . ومنه قول أعشى بنى ثعلبة :
    أقـول لمـا جاءنـى فخـره *** سـبحان من علقمة الفاخـر(3)
    أى براءة من علقمة.
    ولا يجوز أن يسبح غير الله، وإن كان منزها؛ لأنه صار علما فى الدين على أعلى مراتب التعظيم التى لا يستحقها إلا الله تعالى.
    وفى المراد بقولهم: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} أقوال:
    أحدها: معناه نصلى لك. وهو قول ابن عباس وابن مسعود.
    ثانيها: معناه نعظمك. وهو قول مجاهد.
    ثالثها: التنزيه، وهو قول ابن جرير. أى تنزيه الله عما لا يليق به فيكون المعنى: ونحن ننزهك عن كل سوء ونقيصة.
    رابعها: التسبيح المعروف وهو قول قتادة والمفضل واستشهد بقول جرير:
    قَبـحَ الإلـهُ وجـوهَ تَغْـلِبَ كلـما *** سـَبَحَ الحجـيجُ وكبـروا إهـلالا[3]
    وقد رجح الإمام القرطبى هذا الوجه لما رواه مسلم عن أبى ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِل: أى الكلام أفضل ؟ قال: "مَا اصْطَفَى اللهُ لِمَلَآئِكَتِهِ أَوْ لِعِبَادِهِ: سُبْحَانَ اللهُ وَبِحَمْدِهِ"(4)
    وعن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: جلست إلى كعب الأحبار وأنا غلام فقلت له: أرأيت قول الله تعالى للملائكة: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20] أما يشغلهم عن التسبيح الكلام والرسالة والعمل؟ فقال: مَنْ هذا؟ فقالوا: من بنى عبد المطلب. قال: فقبل رأسى ثم قال: يا بُنَىّ إنه جعل لهم التسبيح كما جعل لكم النَّفَس أليس تتكلم وأنت تتنفس وتمشى وأنت تتنفس.[5]




    ______________________________ ________
    [1] النكت والعيون: 1/61
    [2] قوله: " كلامهم " يعنى فى كلام العرب.
    [3] شرح ديوان جرير (دار الكتب العلمية): 339 من قصيدة طويلة يهجو بها الأخطل والذى فى الديوان :.. شبح الحجيج ... بالشين المعجمة ومعناه رفع الأيدى نحو السماء للدعاء وعلى هذا فالاستشهاد بالبيت فى غير محله كما نبه على ذلك محققوا تفسير القرطبى1/236
    [4] صحيح: رواه مسلم (2731)
    [5] إسناده ضعيف وهو حسن لغيره: رواه أبو الشيخ فى العظمة (322) وذكره ابن كثير فى التفسير5/205وفى إسناده من لم أعرفه. و له شاهد فى الزهد لابن المبارك (1413) حدثنا الحسين أخبرنا محمد بن أبى عدى أخبرنا حميد الطويل عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث قال: لقى عبد الله بن عباس كعبا فقال: إنى سائلك عن ثلاث آيات فى القرآن. قال: ما هى ؟ قال: قوله تعالى: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} [الدخان: 24] قال: طريقا وقوله للملائكة: { لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20] و: {لَا يَسْأَمُونَ} [فصلت:38] قال: إن الملائكة ألهموا ذلك كما ألهم بنو آدم الطرف والنفس فهل يؤذيك طرفك ؟ هل تؤذيك (كذا والصواب يؤذيك) نَفَسك ؟ قال: وقوله تعالى: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} إلى قوله { بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32] قال: لامست مناكبهم فى الجنة ورب الكعبة وفضلوا بأعمالهم. ورجاله ثقات غير أن حميداً الطويل مدلس وقد عنعن، كذلك ذكره ابن كثير من رواية محمد بن إسحاق وهو مدلس – أيضا - وقد عنعن والله أعلم. وانظر تفسير ابن كثير: 1/115، وتفسير القرطبى: 1/236 وتفسير الماوردى: 1/61

  8. #28
    تاريخ التسجيل
    Jan 2008
    الدولة
    مصر
    المشاركات
    1,396

    افتراضي

    [باب]
    [عبادة الملائكة]
    تنسب عبادة الملائكة إلى الصابئة؛ وهي الطائفة المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج:17]
    واختلف في المأخوذ منه هذا الاسم على ثلاثة أقوال:
    أحدها: أنه مأخوذ من الطلوع والظهور، من قولهم صبأ ناب البعير إذا طلع. وهذا قول الخليل.
    ثانيها: أن الصابيء الخارج من شيء إلى شيء؛ فسمي الصابئون بهذا الاسم؛ لخروجهم من اليهودية والنصرانية. وهذا قول ابن زيد.
    ثالثها: أنه مأخوذ من قولهم: صبا يصبو إذا مال إلى الشيء وأحبه. وهذا قول نافع؛ ولذلك لم يهمز.[1]
    واختلفوا في الصابئة على أقوال:
    الأول: أنهم قوم بين المجوس واليهود والنصارى. وهذا قول مجاهد وسعيد بن جبير.
    الثانى: أنهم فرقة من أهل الكتاب يقرؤون الزبور؛ ولهذا قال أبو حنيفة: لا بأس بذبائحهم ومناكحتهم. وقيل: إن زياد بن أبي سفيان أُخبِر أن الصابئين يُصَلُّون إلى القبلة ويصلون الخمس؛ فأراد أن يضع عنهم الجزية، فخُبِّر بعد أنهم يعبدون الملائكة.
    الثالث: قال أبو جعفر الرازي: بلغني أن الصابئين قوم يعبدون الملائكة.
    الرابع: قال وهب بن منبه: هوالذي يعرف الله وحده، وليست له شريعة، ولم يحدث كفراً.
    الخامس: قال عبد الرحمن بن زيد: الصابئون أهل دين منا -لأديان كانوا بجزيرة الموصل- يقولون: لا إله إلا الله، وليس لهم عمل، ولا كتاب، ولا نبى، إلا قول: لا إله إلا الله. قال: ولم يؤمنوا برسول؛ فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه: هؤلاء الصابئون. يشبهونهم بهم يعني فى قولهم: لا إله إلا الله.[2]
    وعن ابن عباس رضي الله عنهما ما قال: لما نزلت: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98] قال المشركون: الملائكة، وعيسى، وعزير يُعْبَدون من دون الله. فقال: لو كان هؤلاء الذين يُعبدون من دون الله آلهة ما وردوها. قال: فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101] عيسى وعزير والملائكة.[3]
    وذكره ابن القيم في شفاء العليل([4]) من طريق علي بن المديني بإسناده إلى ابن عباس أنه قال: آية لا يسأل الناس عنها، لا أدرى أعرفوها فلم يسألوا عنها أو جهلوها فلا يسألون عنها ؟ فقيل له: وما هي؟ فقال: لما نزلت: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98] شق ذلك على قريش أو على أهل مكة وقالوا: يشتم آلهتنا، وجاء ابن الزِّبَعْرى فقال: ما لكم؟ قالوا: يشتم آلهتنا. قال: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98] قال: ادعوه لي. فلما دعي النبى صلى الله عليه وسلم قال: يا محمد ، هذا شيء لآلهتنا خاصة أم لكل من عبد من دون الله؟ فقال: "لَا، بَلْ لِكُلِّ مَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ" فقال ابن الزبعرى: خُصِمتَ وَرَبِّ هذه البَنِيَّة - يعني الكعبة - ألست تزعم أن الملائكة عباد صالحون، وأن عيسى عبداً صالحاً، وأن عزيرا عبدا صالحا، وهذه بنو مليح تعبد الملائكة، وهذه النصارى تعبد عيسى، وهذه اليهود تعبد عزيراً. قال: فضج أهل مكة، فأنزل الله - عز وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء:101-102] قال: ونزلت {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف:57] قال: وهو الضجيج.
    وهذا الإيراد الذى أورده ابن الزبعرى لا يرد على الآية فإنه سبحانه قال: {إِنَّكُمْ} مخاطبا أهل مكة وهم عبدة الأوثان، وقال: {وَمَا تَعْبُدُونَ} ولم يقل ومن تعبدون، و{ما} لما لا يعقل؛ فلا يدخل فيها الملائكة والمسيح وعزير، وإنما ذلك للأحجار ونحوها التى لا تعقل. وأيضا، فالسورة مكية، والخطاب فيها لعُبَّاد الأصنام، ولفظة {إِنَّكُمْ} ولفظة {ما} تبطل سؤاله، وهو رجل فصيح من العرب لا يخفى عليه ذلك، وإنما هو اللدد والخصومة. وأيضا، فإنه جعله من جهة القياس؛ أى إن كان كونه معبودا يوجب أن يكون حصب جهنم، فهذا المعنى بعينه موجود في الملائكة والمسيح. فأجيب بالفارق من وجوه:
    أحدها - أن الملائكة والمسيح وعزيراً ممن سبقت لهم الحسنى.
    الثانى - أن الأوثان حجارة غير مكلفة، فلو حصبت لها جهنم إهانة لها ولعابديها لم يكن فى ذلك من لايستحق العذاب. بخلاف الملائكة والمسيح وعزير فإنهم أحياء ناطقون، فلو حصبت بهم النار كان ذلك إيلاما وتعذيبا لهم.
    الثالث - أن من عبد هؤلاء بزعمه فإنه لم يعبدهم فى الحقيقة؛ فإنهم لم يدعوا إلى عبادتهم، وإنما عبد المشركون الشياطينَ، وتوهموا أن العبادة لهؤلاء.
    وقد برأ الله – سبحانه - ملائكته، والمسيح، وعزيرا، من ذلك فقال: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ40-41]
    وقال تعالى : {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:26-29] فما عبد غير الله إلا الشيطان.[5]

    ______________________________ ____________________
    [1] النكت والعيون1/92
    [2] تفسير ابن كثير1/152
    [3] صحيح: رواه الحاكم(3449)وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبى فى التلخيص وابن القيم فى شفاء العليل/47
    [4] شفاء العليل/47(ط0مكتبة الإيمان)
    [5] وراجع فى هذا: تفسير القرآن العظيم1/152، وتفسير القرطبى1/370، وتفسير الماوردى1/92، وشفاء العليل لابن القيم/47، وإغاثة اللهفان له/435، ومجموع الفتاوى لابن تيمية4/314،136،134، ودقائق التفسير له 1/240،3/116

  9. #29
    تاريخ التسجيل
    Jan 2008
    الدولة
    مصر
    المشاركات
    1,396

    افتراضي

    جزاكم الله خيرا على تثبيت الموضوع
    أسأل الله عز وجل أن يثبتنا وإياكم على صراطه المستقيم

  10. #30
    تاريخ التسجيل
    Jan 2008
    الدولة
    مصر
    المشاركات
    1,396

    افتراضي

    انتهينا من المقدمة ولله الحمد في الأسبوع الماضي
    واليوم نبدأ في أول القصص

    ______________________________ _______
    [باب]
    [ذكر قصة جبريل عليه السلام]
    معنى الاسم: قال الحافظ:[1] جبريل ومعناه عبد الله، وهو وإن كان سريانيا لكن وقع فيه موافقه من حيث المعنى للغة العرب؛ لأن الْجَبْرَ: إصلاح ما وَهَى ... وقد قيل إنه عربى، وأنه مشتق من جبروت الله، واستبعد؛ للاتفاق على منع صرفه. (وانظر ما سيأتى عند ذكر ميكائيل)
    اللغات فى جبريل ثلاث عشرة لغة وهى:
    الأولى: جِبْريل بكسر الجيم وسكون الموحدة التحتية وكسر الراء المهملة وسكون الياء المثناة التحتانية بغير همز ثم لام خفيفة. وهى قراءة أبى عمرو وابن عامر ونافع ورواية عن عاصم . وهى لغة أهل الحجاز.
    قال حسان بن ثابت:
    * وَجِبْريلٌ رسولُ الله فينا *

    الثانية: جَبْريل بفتح الجيم. قرأها ابن كثير.
    الثالثة: جَبْرَئيل بفتح الراء[2] ثم همزة. وهى قراءة أهل الكوفة. قرأ بها حمزة والكسائى، وأنشدوا:
    شَهِدْنَـا فما تَلْقَى لنـا مِنْ كتيبةٍ *** مَـدَى الدهـرِ إلا جَبـْرَئيل أَمَامَها

    قال القرطبى: هذه لغة تميم وقيس.
    الرابعة: جبرَئِل: قرأها يحيى بن يعمر ورويت عن عاصم.
    الخامسة: جبرَئِلّ: مثل الرابعة إلا أنها بتشديد اللام، رويت عن عاصم.
    السادسة: جبرائيل: بزيادة ألف بعد الراء ثم همزة ثم ياء ثم لام خفيفة.
    السابعة: جبراييل: بياءين بغير همزة، قرأها الأعمش ويحيى بن يعمر أيضا.
    الثامنة: جبرائل: بألف بعد الراء ثم همزة، وبها قرأ عكرمة.
    التاسعة: جَبْرال: بفتح الجيم ثم سكون وألف بعد الراء ولام خفيفة.
    العاشرة: جبرايل: بياء بعد الألف، قرأها أبو طلحة بن مصرف.
    الحادية عشر: جِبْرين.
    الثانية عشر: جَبْرين.
    الثالثة عشر: جبرائين.[3]
    قال الإمام جمال الدين ابن مالك ناظما منها سبع لغات:
    جِبْريل جَبْريل جبرائيـل جبرَئِل *** جبرَئيل وجبـرال وجبـرين
    [4]
    وذيل عليه السيوطي بالستة الباقية فقال:
    وجبرائل وجبراييـل مع بـدل *** جبرائل وبيـاء ثم جبـرين
    [5]
    ثم قال: وقولى: " مع بدل " إشارة إلى جبرائين؛ لأنه أبدل فيه الياء بالهمزة، واللام بالنون.[6]
    فائدة:
    قد يأتى الـ " جبر " بمعنى الرجل ولم يسمع إلا في شعر ابن أحمر وهو قوله:
    اشْـرَبْ بِـراوُوقٍ حييت به *** وانعـم صباحا أيها الجـبر



    ______________________________ ___
    [1] - فتح البارى6/ 364
    [2] - فتح الراء بدون إشباع حتى لا يتولد عن الإشباع ألف
    [3] - انظر فتح البارى6/ 364 وتفسير القرطبى1/ 428 وتنوير الحوالك شرح موطأ مالك للسيوطى1/ 14
    [4] هذا البيت يحتاج إلى إعادة نظر في ضبطه
    [5] وهذا البيت أيضا يحتاج إلى إعادة نظر في ضبطه
    [6] تنوير الحوالك1/ 14

  11. #31
    تاريخ التسجيل
    Jan 2008
    الدولة
    مصر
    المشاركات
    1,396

    افتراضي

    [فصل]
    [ وصفه- عليه السلام- ]

    1-أنه عظيم الخَلْق بلغ من عظم خلقه أنه يسد ما بين السماء والأرض.
    فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ، وَلَكِنْ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ وَخَلْقُهُ، سَادٌّ مَا بَيْنَ الْأُفُقِ.[1]
    وعن عبد الله- هو ابن مسعود رضي الله عنه: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:18] قال: رَأَى رَفْرَفاً أَخْضَرَ سَدَّ أُفُقَ السَّمَاءِ.[2]
    2- له ستمائة جناح:
    *فعن أبى إسحاق الشيباني قال: سألت زِرَّ بْنَ حُبَيْشٍ عن قول الله تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:10،9] قال: حدثنا ابن مسعود: أنه رأى جبريل له ستمائة جناح.[3]
    3- ينتشر من ريشه ألوان مختلفة من الدر والياقوت:
    فعن ابن مسعود فى هذه الآية: {وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:14،13] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " رَأَيْتُ جِبْرِيلَ صلى الله عليه وسلم وَلَه سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، يَنْتَشِرُ مِنْ رِيشِهِ التَّهَاوِيلُ: الدُّرُّ وَالْيَاقُوتُ"[4]
    4- أنه - عليه السلام - حسن الخِلْقَة والهيئة:
    *قال تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم:6،5] وقوله: {ذُو مِرَّةٍ} أى: ذو خَلْقٍ حسن وقيل: ذو قوة.
    5- أقرب الناس شبها به دحية بن خليفة الكلبي:
    وهو صحابي جليل كان أحسن الناس وجها وكان يضرب به المثل في حسن الصورة:
    قال ابن قتيبة في "غريب الحديث": فأما حديث ابن عباس: كان دحية إذا قدم المدينة لم تبق معصر إلا خرجت تنظر إليه[5] فالمعنى بالمعصر: العاتق.
    وعن أَبِى عُثْمَانَ عَنْ سَلْمَانَ قَالَ لَا تَكُونَنَّ إِنْ اسْتَطَعْتَ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ السُّوقَ وَلَا آخِرَ مَنْ يَخْرُجُ مِنْهَا فَإِنَّهَا مَعْرَكَةُ الشَّيْطَانِ وَبِهَا يَنْصِبُ رَايَتَهُ: قَالَ وَأُنْبِئْتُ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَام أَتَى نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَهُ أُمُّ سَلَمَةَ قَالَ فَجَعَلَ يَتَحَدَّثُ ثُمَّ قَامَ فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأُمِّ سَلَمَةَ: " مَنْ هَذَا ؟" أَوْ كَمَا قَالَ. قَالَتْ: هَذَا دِحْيَةُ قَالَ: فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: ايْمُ اللَّهِ مَا حَسِبْتُهُ إِلَّا إِيَّاهُ حَتَّى سَمِعْتُ خُطْبَةَ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُخْبِرُ خَبَرَنَا.[6] أَوْ كَمَا قَالَ: قَالَ: فَقُلْتُ لِأَبِي عُثْمَانَ: مِمَّنْ سَمِعْتَ هَذَا قَالَ مِنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ.[7]
    وعن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "... وَرَأَيْتُ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهاً دِحْيَةٌ ".[8]
    وعند النسائي في حديث جبريل الطويل: "... وَإِنَّهُ لَجِبْرِيلُ – عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَزَلَ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ ".[9]

    ______________________________ __
    [1] *صحيح: رواه البخاري (7531،7380،4855،4612،3235 3234) ومسلم(177)
    [2] *صحيح: رواه البخاري (4858،3233)
    [3] *صحيح: رواه البخارى (4857،4756،3232) ومسلم (174)
    [4] *حسن: رواه أحمد (4396) والنسائي في التفسير (562) وأبو الشيخ في العظمة (504،503،376،345)
    [5] *ذكره الحافظ في الإصابة 1/473
    [6] قوله: " يخبر خبرنا " تصحيف نبه عليه عياض انظر فتح الباري 9/6 ولفظ الحديث عند البخارى: "يخبر خبر جبريل".
    [7] صحيح: رواه البخاري (4980) ومسلم (2451) وهو لفظه.
    [8] صحيح: رواه مسلم (167)
    [9] صحيح: رواه النسائي (5006)

  12. #32
    تاريخ التسجيل
    Jan 2008
    الدولة
    مصر
    المشاركات
    1,396

    افتراضي

    ** تتمة: في بيان معني "الرفرف" وبيان أنه لا يخالف قوله "رأي جبريل":
    قد ورد في روايات الحديث المتقدمة:
    - أنه صلى الله عليه وسلم رأي جبريل قد سد أفق السماء،
    - وأنه صلى الله عليه وسلم رأي رفرفا أخضر قد سد الأفق،
    - وفي رواية الحاكم: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في حلة رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض.
    فتبين من هذا أن المراد بالرفرف: إنما هو الحلة التي كان يلبسها جبريل - عليه السلام -
    ويؤيده قوله تعالي: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ} [الرحمن:76]
    وأصل الرفرف: ما كان من الديباج رقيقا حسن الصنعة. ثم اشتهر استعماله في الستر، وكل ما فضل من شيء فعطف وثني فهو رفرف. ويقال: رفرف الطائر بجناحيه إذا بسطهما.
    وقال بعض الشراح: يحتمل أن يكون جبريل بسط أجنحته، فصارت تشبه الرفرف. كذا قال، والرواية التي أوردتها توضح المراد.[1]
    لطيفة:
    أفادت هذه الأحاديث أن الملائكة في صورتها الأصلية ترتدي الحلل وهو ما يؤكد أنها أجسام كما تقدم.
    والله أعلم

    _________________________
    [1] فتح الباري (8/765-766)

  13. #33
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    13,804

    افتراضي

    للفائدة :
    قال الكرماني في الكواكب الدراري :
    (الرفرف) هو ثياب خضر تبسط ويحتمل أن يراد بالرفرف أجنحة الملائكة جبريل يبسطها كما تبسط الثياب.اهـ

    وتعقبه ابن حجر فقال في الفتح :
    وقال الكرماني - تبعا للخطابي - يحتمل أن يكون جبريل بسط أجنحته كما يبسط الثوب، وهذا لا يخفى بعده .اهـ

  14. #34
    تاريخ التسجيل
    Jan 2008
    الدولة
    مصر
    المشاركات
    1,396

    افتراضي

    [فصل]
    [أسماؤه وصفاته]

    الأول - جبريل: وقد تقدم.


    الثاني - الروح: قال تعالي: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر:4]
    وقال تعالي: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَة ُ صَفًّا} [النبأ:38]
    وقال تعالي: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} [مريم:17]
    وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده: "سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ".[1]


    الثالث - الروح الأمين: قال تعالي: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء:193]
    قال ابن تيمية: أي أنه مؤتمن لا يزيد ولا ينقص؛ فإن الخائن قد يغير الرسالة.[2]


    الرابع - روح القدس: قال تعالي: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل:102] الإضافة هنا من إضافة الموصوف للصفة أي: الروح المقدس، والقدس الطهر.
    وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن عمر مَرَّ بحسان وهو ينشد الشعر في المسجد فلحظ إليه فقال: قد كنت أنشد وفيه من هو خير منك. ثم التفت إلي أبي هريرة فقال: أنشدك الله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أَجِبْ عَنِّي اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ". قال: اللهم نعم.[3]
    ومن شعر حسان:
    وجبريل رسـول الله فينا *** وروح القدس ليـس بـه خفـاء
    الخامس إلي العاشر - وَصَفَهُ تعالي بست صفات في قوله تعالي: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:19-21].


    الخامس - رسول الله: فهو - عليه السلام - رسول الله من الملائكة إلي أنبيائه ورسله من البشر.


    السادس - كريم: أي ملك شريف حسن الخلق بهي المنظر، وكَرَمُهُ علي ربه أنه جعله واسطة بينه وبين أشرف عباده وهم الأنبياء والرسل.


    السابع – قوي: ومن قوته أنه رفع مدائن قوم لوط إلي السماء وقلبها، قال تعالي: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5]


    الثامن - مكين: أي ذو مكانة عالية عند ربه. ومكانته عند ربه أنه جعله ثاني نفسه في قوله تعالي: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَة ُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4].


    التاسع - أنه مطاع في السماوات العلي، فهو -عليه السلام- إمام الملائكة.
    فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ قَالَ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ فَيَقُولُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ قَالَ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَيَقُولُ إِنِّي أُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ قَالَ فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ قَالَ فَيُبْغِضُونَهُ ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الْأَرْضِ."[4]


    العاشر - أمين: فهو أمين الوحي قال تعالي: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء:193]


    الحادي عشر - ...

    _____________________________
    [1] صحيح: رواه مسلم (487)
    [2] دقائق التفسير 3/521
    [3] صحيح: رواه البخاري (6152،3212،453) ومسلم (2485 وهو لفظه، 2486 وفيه وجبريل معك)
    [4] صحيح: رواه البخاري(7485،6040،320 9) ومسلم(2637) وهو لفظه.

  15. #35
    تاريخ التسجيل
    Jun 2017
    المشاركات
    1

    افتراضي

    جزاكم الله خيرا على هذه الفائدة النادرة

  16. #36
    تاريخ التسجيل
    Jan 2008
    الدولة
    مصر
    المشاركات
    1,396

    افتراضي

    وجزاكم أخي الكريم

  17. #37
    تاريخ التسجيل
    Jan 2008
    الدولة
    مصر
    المشاركات
    1,396

    افتراضي

    الحادي عشر- الناموس: فعن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة... الحديث وفيه فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأي فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزَّل الله علي موسي[1]
    قال البخاري: الناموس صاحب السر الذي يطلعه بما يستره عن غيره[2]
    وقال الحافظ: والناموس صاحب السر، كما جزم به المؤلف في أحاديث الأنبياء.
    وزعم ابن ظفر: أن الناموس صاحب سر الخير، والجاسوس صاحب سر الشر.
    والأول الصحيح الذي عليه الجمهور.
    وقد سوي بينهما رؤبة بن العجاج أحد فصحاء العرب.
    والمراد بالناموس هنا: جبريل عليه السلام.[3]
    فائدة:
    قوله: "هذا الناموس الذي نزل الله علي موسي." ولم يذكر عيسي وإن كان متأخرا بعد موسي؛ لأنه كانت شريعته متممة ومكملة لشريعة موسي-عليهما السلام-ونسخت بعضها في الصحيح من قول العلماء، كما قال: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50]
    وقول ورقة هذا كما قالت الجن: {يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف:30][4]
    الثاني عشر: أنه ينصر أولياء الله ويقهر أعداءه :قال تعالي: {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9] وقد نزل في الحروب مع النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي إن شاء الله تعالي.
    الثالث عشر: أنه معلم النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالي: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5]
    الرابع عشر: أنه ولي النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه. فعن ابن عباس أن عصابة من اليهود سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء ومنها: قالوا: وأنت الآن فحدثنا من وليك من الملائكة ؟ فعندها نجامعك أو نفارقك. قال: " فَإِنَّ وَلِيِّي جِبْرِيلٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلَمْ يَبْعَثِ اللهُ نَبِيّا إِلَّا وَهْوَ وَلِيُّهُ[5]"

    ______________________
    [1] صحيح: رواه البخاري (3، 3392، 4953، 4955، 4956، 4957، 6982)، ومسلم (160)
    [2] فتح الباري: 6 /505
    [3] فتح الباري 1 /34
    [4] البداية والنهاية: 3 /8
    [5] حسن: رواه أحمد (2514) وابن سعد في الطبقات 1 /83-84

  18. #38
    تاريخ التسجيل
    Jan 2008
    الدولة
    مصر
    المشاركات
    1,396

    افتراضي

    [فصل]
    [ذكر أعماله ووظائفه –عليه السلام-]

    أعماله - عليه السلام - كثيرة، أهمها الوحي إلي الأنبياء-عليهم السلام - فهو رسول الله من الملائكة إلى رسله من البشر قال تعالي: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75]
    وأعماله -عليه السلام- غير الوحي عديدة منها:
    - النزول بالعذاب والنقمةِ على الأمم المكذبة الكافرة.
    - ومنها: الحروب مع الأنبياء،
    - وغير ذلك.
    وسنتعرض لأعماله بشيء من التفصيل كما يلي:
    أولا: جبريل وخلق الجنة والنار:
    فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ أَرْسَلَ جِبْرِيلَ إِلَى الْجَنَّةِ، فَقَالَ: انْظُرْ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ لِأَهْلِهَا فِيهَا. قَالَ: فَجَاءَهَا وَنَظَرَ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِهَا فِيهَا. قَالَ: فَرَجَعَ إِلَيْهِ، قَالَ فَوَعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا. فَأَمَرَ بِهَا فَحُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهَا فَانْظُرْ إِلَى مَا أَعْدَدْتُ لِأَهْلِهَا فِيهَا. قَالَ: فَرَجَعَ إِلَيْهَا، فَإِذَا هِيَ قَدْ حُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خِفْتُ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ. قَالَ: اذْهَبْ إِلَى النَّارِ فَانْظُرْ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ لِأَهْلِهَا فِيهَا. فَإِذَا هِيَ يَرْكَبُ بَعْضُهَا بَعْضًا. فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ فَيَدْخُلَهَا. فَأَمَرَ بِهَا فَحُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ. فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهَا. فَرَجَعَ إِلَيْهَا فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا يَنْجُوَ مِنْهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا."[1]
    فائدة:
    قوله: " فحفت بالمكاره " قال السندي: أي جعلت سبل الوصول إليها المكاره والشدائد علي الأنفس؛ كالصوم والزكاة والجهاد ولعل لهذه الأعمال وجودا مثاليا ظهر بها في ذلك العالم وأحاطت الجنة من كل جانب وقد جاء الكتاب والسنة بمثله ومن جملة ذلك في قوله تعالي: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ} أي المسميات {عَلَى الْمَلَائِكَةِ} [البقرة:31] ومعلوم أن فيها المعقولات والمعدومات[2].
    ثانيا:جبريل مع الأنبياء-عليهم السلام-:
    **** وفيه فصول:

    ..................

    _________________________
    [1] صحيح لغيره: رواه أبو داود (4744)، والترمذي وهو لفظه (2560) وقال: حسن صحيح، والنسائي (3772)، وأحمد (8870،8656،8406)، والحاكم (72،71) وقال: صحيح علي شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، والبيهقي في الأسماء والصفات ص154، وفي أسانيدهم محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي قال في التقريب: صدوق له أوهام. وللحديث شاهد عند البخاري ومسلم وصححه الشيخ الألباني - رحمه الله - في صحيح النسائي وفي تعليقه علي الطحاوية /22.
    [2] حاشية السندي علي النسائي3/655

  19. #39
    تاريخ التسجيل
    Jan 2008
    الدولة
    مصر
    المشاركات
    1,396

    افتراضي

    الأمر لله؛ فقد تلف الويندوز مرة أخرى ولكن هذه المرة كنت قد احتفظت بنسخة من ملفاتي على "ون درايف" ثم أعدت تركيب الويندوز من جديد وذهبت إلى الـ"ون درايف" فوجدت ملفاتي كما رفعتها ولله الحمد، لكن لما بحثت عن "قصص الملائكة" النسخة المكتوبة على الوورد لأكتب هذه المشاركة لم أجدها، ولا أدري كيف لم أنتبه لذلك؟
    وعلى كل حال الحمد لله فقد بقيت باقي الملفات كما هي

    ______________________________ ____________


    ثانيا:جبريل مع الأنبياء-عليهم السلام-:
    وفيه فصول:



    الفصل الأول
    جبريل مع آدم عليه السلام


    جبريل مخلوق قبل آدم -عليهما السلام-:
    وهو مقتضى عموم قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة: 34] وقد تقدم عند ذكر خلق الملائكة أن الله - عز وجل- خلق آدم في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة

    جبريل يسجد لآدم عليهما السلام:
    قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)} [الحجر: 28 - 30]
    وظاهر الآية الكريمة العموم، ولكن حكى الرازي وغيره قولين فيها للعلماء: هل الأمر بالسجود لآدم خاص بملائكة الأرض؟! أو عامٌّ لملائكة السماوات والأرض؟ وقد رجَّحَ كلَّ قولٍ طائفة
    قلت: الأظهر أن الملائكة كلهم بما فيهم رؤساؤهم؛ جبريل وميكائيل وإسرافيل وحملة العرش والحافون من حول العرش وملائكة السماوات وملائكة الأرض كلهم عن بكرة أبيهم سجدوا لأمر الله تعالى
    و{الْمَلَآئِكَة} في قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] لفظ عامٌّ فيه احتمال الخصوص؛ لأنه جمع معرف بالألف واللام فيفيد العموم، ولكنه يحتمل التخصيص بأن يكون بعض الملائكة لم يسجد، فلما قال: {كُلُّهُمْ} انتفى احتمال الخصوص، وهذا يسمى "بيان تقرير"[1].
    ولما قال: {أَجْمَعُونَ} انتفى احتمال سجودهم متفرقين، وهذا يسمى "بيان تفسير"[2]، فقد فسَّرَ كيفية سجودهم وقطع احتمال تأويل الافتراق[3].
    وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية: هل كان جبريل وميكائيل مع من سجد؟
    فأجاب: الحمد لله، بل أسجد له جميع الملائكة، كما نطق بذلك القرآن في قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] فهذه ثلاث صيغ مقررة للعموم وللاستغراق فإنّ قوله: {الْمَلَآئِكَةُ} يقتضي جميع الملائكة؛ فإن اسم الجمع المعرف بالألف واللام يقتضي العموم؛ كقوله: "رب الملائكة والروح"[4] فهو رب جميع الملائكة.
    الثاني – {كُلُّهُمْ} وهذا من أبلغ العموم
    الثالث – قوله: {أَجْمَعُونَ} وهذا توكيد للعموم
    فمن قال: إنه لم يسجد له جميع الملائكة بل ملائكة الأرض فقد رَدَّ القرآن بالكذب والبهتان[5].

    _____________________________
    [1] بيان التقرير: هو بيان يقطع احتمال تخصيص اللفظ إن كان عامًّا، واحتمال التأويل إن كان خاصًّا فيجعله مؤكَّدًا؛ مثل آية: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36] فهو بيان تقرير، ومثل قول الرجل لامرأته: طلقي نفسك مرة واحدة، فقد نَفَى لفظُ "واحدة" إمكان التطليق أكثر من مرة.
    [2] بيان التفسير: هو بيان يزيل الخفاء المحيط بالكلام، ويجعله واضحا؛ مثل قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30]
    [3] القواعد التأصيلية 184-185.
    [4] صحيح: وقد تقدم
    [5] مجموع الفتاوى 4/ 345.

  20. #40
    تاريخ التسجيل
    Jan 2008
    الدولة
    مصر
    المشاركات
    1,396

    افتراضي

    ذَكَرَ بعض الإخوة الكرام أن ابن هشام رَدَّ قولَ مَنْ قال إن {أجمعون} في الآية تفيد انتفاء سجودهم متفرقين، وسأل هل مِنْ مرجح قولا على قول:
    والجواب على ذلك، وبالله التوفيق:
    أن المسألةَ فيها قولان:
    الأول- من ذهب إلى أن {أجمعون} في قوله : {فسجد الملائكة كلهم أجمعون} لا يفيد إلا زيادة التوكيد فقط، كما تجتمع إنّ مع اللام في مثل قوله : {وإنك لعلى خلق عظيم} وهذا عليه أكثر النحويين ومنهم ابن هشام وابن يعيش شارح المفصل والعكبري وغيرهم
    الثاني- من ذهب إلى أن {أجمعون} في قوله : {فسجد الملائكة كلهم أجمعون} فيه مع زيادة التوكيد رفع توهم أنهم سجدوا متفرقين
    وممن ذهب إلى هذا: المبرد كما في الانتصار لسيبويه على المبرد لابن ولاد ت زهير سلطان (ص: 107) ط. الرسالة، والزجاج كما في اللباب في علل البناء والإعراب للعكبري ت النبهان (1/ 403) ط. دار الفكر، وأبو الحسن محمد بن عبد الله بن العباس الوراق كما في علل النحو له ت. الدرويش (ص: 259) ط. الرشد، وظاهر كلام ابن الخباز في توجيه اللمع لابن جني ت. فايز دياب (ص: 271) ط. دار السلام، وغيرهم
    والظاهر أن الراجحَ المذهبُ الأولُ؛ لأنه لو أريد بقوله: {أجمعون} معنى مجتمعين لكان حالا فوجب نصبه، قال ابن يعيش في شرح المفصل (2/ 221 -222) ط. العلمية: "... واعلمْ أنّه قد ذهب قومٌ إلى أن في "أجمع" فائدةً ليست في "كُل"، وذلك أنّك إذا قلت: "جاءني القومُ كلُّهم"، جاز أن يجيئوك مجتمعِين، ومفترِقين، فإذا قلت: "أجمعون"؛ صارت حالُ القوم الاجتماعَ، لا غيرُ، وذلك ليس بسديدٍ. والصوابُ أنّ معناهما واحدٌ من قِبَل أن أصلَ التأكيد إعادةُ اللفظ، وتَكْرارُه، وإنّما كرِهوا تَواليهما بلفظ واحد، فأبدلوا من الثاني لفظًا يدل على معناه، فجاؤوا بـ "كُلّ" و"أَجْمَعَ"، لِيدلّوا بهما على معنَى الأول، ولو كان في الثاني زيادةُ فائدة، لم يكن تاكيدًا؛ لأنّ التأكيد تمكينُ معنَى المؤكَّد. ألا تراك إذا قلت: "ضربتُ ضَرْبًا"، كان المصدرُ تأكيدًا, ولو قلت: "ضربتُ ضربًا شديدًا، أو الضربَ المعروفَ"، لم يكن تأكيدًا، لأنّه قد دل على ما لم يدل عليه الفعلُ، فكذلك لو دل "أجمع" على ما لم يدل عليه الأوّل، لم يكن تأكيدًا. ومع هذا لو أريد بـ "أجمع" معنَى الاجتماع، لوَجَبَ نصبُه, لأنّه يكون حالًا, لأنّ التقدير: فَعَلَ ذلك في هذِه الحال." ا.هـ
    وقال ابن هشام في شرح شذور الذهب ت الدقر (ص: 553): "مَسْأَلَة قَالَ بعض الْعلمَاء فِي قَوْله تَعَالَى: {فَسجدَ الْمَلَائِكَة كلهم أَجْمَعُونَ}: فَائِدَةُ ذِكْرِ {كل} رفع وهم من يتَوَهَّم أَن الساجد الْبَعْض، وَفَائِدَة ذكر {أَجْمَعُونَ} رفع وهم من يتَوَهَّم أَنهم لم يسجدوا فِي وَقت وَاحِد بل سجدوا فِي وَقْتَيْنِ مُخْتَلفين وَالْأول صَحِيح وَالثَّانِي بَاطِل بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {لأغوينهم أَجْمَعِينَ} لِأَن إغواء الشَّيْطَان لَهُم لَيْسَ فِي وَقت وَاحِد فَدلَّ على أَن {أَجْمَعِينَ} لَا تعرض فِيهِ لِاتِّحَاد بِالْوَقْتِ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ كمعنى كل سَوَاء وَهُوَ قَول جُمْهُور النَّحْوِيين وَإِنَّمَا ذكر فِي الْآيَة تَأْكِيدًا على تَأْكِيد كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فمهل الْكَافرين أمهلهم رويدا}" ا.هـ
    والله أعلم
    ______________________________ _


    [الفصل الثاني]
    [جبريل مع إبراهيم-عليهما السلام-]
    نزل جبريل مع ميكائيل وإسرافيل - عليهم السلام - لبشارة إبراهيم الخليل بإسحاق ويعقوب - عليهم السلام - ( انظر ماسيأتي عند ذكر ميكائيل -عليه السلام -)
    واعلم أن أكثر ما وقفت عليه من الأخبار في شأن جبريل وإبراهيم - عليهما السلام- إنما هو من الضعيف والإسرائيليات التي يتوقف فيها فلذا رأيت ألا أطيل بذكرها.

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •