قال ابن الجوزي رحمه الله :
لقيت مشايخ ؛ أحوالهم مختلفةٌ، يتفاوتون في مقاديرهم في العلم.
وكان أنفعهم لي في صحبةٍ : العاملُ منهم بعلمه، وإن كان غيره أعلم منه.
ولقيت جماعةً من أهل الحديث يحفظون ويعرفون؛
ولكنهم كانوا يتسامحون في غيبةٍ يخرجونها
مخرج جرحٍ وتعديلٍ ،
ويأخذون على قراءة الحديث أجراً، ويُسرعون بالجواب لئلاَّ ينكسر الجاه، وإن وقع خطأ!
ولقيت عبدالوهَّاب الأنماطي؛ فكان على قانون السلف ؛ لم يُسْمَع في مجلِسهِ غيبةٌ ، ولا كان يطلبُ أجراً على إسماع الحديث ، وكنتُ إذا قرأتُ عليه أحاديث الرقائق بكى ، واتَّصل بكاؤه!
فكان - وأنا صغير السنِّ حينئذٍ- يعملُ بكاؤه في قلبي، ويبني قواعد.
وكان على سمت المشايخ الذين سمعنا أوصافهم في النقل.
ولقيت أبا منصور الجواليقي ؛ فكان كثير الصمت ، شديد التحرِّي فيما يقول ، متقناً محقِّقاً، ورُبَّما سُئل المسألة الظاهرة ، التي يبادر بجوابها بعض غلمانه ، فيتوقَّف فيها حتى يتيقَّن ، وكان كثير الصوم والصمت.
فانتفعت بهذين الرجلين أكثر من انتفاعي بغيرهما.
ففهمتُ من هذه الحالة : أنَّ الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول...
فالله.. الله في العمل بالعلم ؛ فإنه الأصل الأكبر ، والمسكين كل المسكين من ضاع عمره في علمٍ لم يعمل به ؛ ففاتته لذَّات الدنيا، وخيرات الآخرة؛ فقَدِم مفلساً مع قوَّة الحجَّة عليه .
(صيد الخاطر 138)