عن المقدام بن معدي كرب مرفوعًا:
"ما مَلَأَ ابنُ آدم وعاءً شرًّا من بطنه، حسْبُ ابن آدم لُقَيمات يُقِمْن صُلْبَه
فإن غَلَبَت الآدمي نفسُه فثُلُثٌ للطَّعام، وثُلُثٌ للشَّراب، وثُلُثٌ للنَّفس"
رواه ابن ماجه (3349)، من طريق محمَّد بن حربٍ حدَّثتني أمَّي عن أمِّها أنَّها سمعت المقدام.
والمرأتان مجهولتان.
لكن أخرجه الترمذي (2380).
من طريق إسماعيل بن عيَّاش حدَّثني أبو سلمة الحمصي وحبيب بن صالح عن يحيى بن جابر الطَّائي عن مقدامٍ، وفيه:
" ... بحَسْب ابن آدم أُكُلات ... فإن كان لا محالة فثُلُثٌ ... "
قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
قال عبد الرحمن: في إدراك يحيى بن جابر للمقدام كلام. قال البخاري في "التاريخ" (4/ 2/ 265)(8/ 265):
"يحيى بن جابر الطَّائي القاضي عن المقدام ... ".
ومن عادة البخاري في "تاريخه" أنَّه حيث يثبت السَّماع يقول: "سمع"، وإلاَّ قال: "وعن".
وقال ابن أبي حاتم:
"يحيى بن جابر .. روى عن المقدام .. مرسلٌ ... سمعتُ أبي يقول ذلك"( "الجرح والتَّعديل" (9/ 133)
وبمثله في "المراسيل" له (ص 244).

فهذا ابن أبي حاتم جزم بأنَّ رواية يحيى عن المقدام مرسلةٌ، وكذلك جزم به المزِّي
في "تهذيبه" (31/ 249)، وابن حجر في "تهذيب التَّهذيب" ((11/ 168)

لكن أخرج الإِمام أحمد في "المسند" (4/ 132): "ثنا أبو المغيرة ثنا سليمان بن سليم الكناني قال ثنا يحيى بن جابر الطائي قال: سمعتُ المقدام ... ".
وكذلك أخرجه الحاكم في "المستدرك" (4/ 331) من طريق أبي المغيرة، وقال: "صحيح الإسناد"
وأقرَّه الذَّهبي. وفيه: "حسْب ابن آدم ثلاث أكلات".

وأبو المغيرة عبد القدُّوس بن الحجَّاجْ موثَّق، روى عنه البخاري في "صحيحه". وأبو سلمة سليمان بن سلمة موثَّقٌ أيضًا.
ويحيى بن جابر موثَّقٌ، وكانت وفاته سنة 126.

ووفاة المقدام سنة سبع وثمانين، وقيل: ثلاث وثمانين، وقيل: ست وثمانين. فبين وفاتيهما نحو أربعين سنة. فالسَّماع ممكنٌ؛ بأن يكون يحيى وُلِد سنة سبعين على الأقل، فأدرك من عمر المقدام بضع عشرة سنةً. وعلى هذا يكون عمر يحيى حين مات دون السِّتين، وأي بُعْدٍ في ذلك وهما في بلدةٍ واحدةٍ؟!
وترجمة يحيى في "الثِّقات" في التَّابعين، وقال: "روى عن المقدام" ( "الثَّقات" لابن حبَّان (5/ 520).)
وذلك بمعنى الحكم بسماعه من المقدام.لكن قد يقوَّي قولَ أبي حاتم: بأنَّ يحيى كثير الإرسال عن الصَّحابة، الذين لم يدركهم، وبأنَّ عامَّة شيوخه - الذين لا كلام في سماعه منهم - هم من صغار التَّابعين، كصالح بن يحيى بن المقدام بن معد يكرب
وعبد الرحمن بن جبير بن نفير. والله أعلم.

فقه الحديث:
أمَّا أوَّله فهو في ذمَّ ملء البطن، ولا نزاع في ذمِّه؛ لأنَّه يورث البِطْنَة والتُّخمة، وينشأ عن ذلك الكسل والفتور
ويكون سببًا لكثير من الأمراض، فهو إضرارٌ بالجسم والرُّوح، وتضييع للمال.
وقوله: "أُكُلات" بضمَّتين، جمع أُكْلَة، كلُقْمَة، وزنًا ومعنى.
وزيادة: "ثلاث" في رواية "المستدرك" منكرةٌ؛ فإنَّ الثلاث اللُّقَم لا تقيم الصُّلْب عادة، ولم يكن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يكتفون عند وجود الطَّعام ثلاث، بل ولا تِسْعٍ.
وقد يتوهَّم أن يكون وقع في هذه الرواية: "أكلات" بفتحتين، ولا يصحُّ؛ لمخالفته السِّياق، ولأنَّ المعروف في ذلك العهد الاكتفاء بأكلتين في اليوم، الغداء والعشاء.
و"أكلات" جمعٌ بالألف والتاء، وأهل العربيَّة يعدُّونه من الجموع التي حقُّها أن تُطْلَق على ما دون الأحد عشر، ولا تحمل على أحد عشر فما فوقه إلاَّ بقرينةٍ ( "شرح المفصَّل للزمخشري" لابن يعيش (3/ 225).

لكن ضعَّف ابن خروفٍ، وصوَّبه الرَّضِي ومن تَبِعَه، أنَّ هذا الجمع مخالفٌ لتلك الجموع، وأنَّه يطلق على ثلاثة فما فوقها، إلى ما لا نهاية
("شرح الرَّضِي على الكافية" (3/ 397 - 398)
إلاَّ أنَّ السِّياق هنا يدلُّ على القِلَّة، وهي هنا مبيَّنةٌ بقوله: "يُقِمْن صُلْبَه"
فالمدار إذًا على إقامة الصّلْب، وهي كناية عن ذهاب الجوع، وحفظ القوَّة.

فالقَدْر الذي يُذهِب الجوع ويحفظ القوَّة هو القَدْر الذي ينبغي الاكتفاء به. ثمَّ زاده بيانًا بقوله: "فإن كان لا محالة .. ".
وإيضاحه: أنَّ الإنسان الصَّحيح قد يأكل ويشرب ويحسُّ بالثقل والضِّيق، وقد يأكل ويشرب ثم لا يجد ثقلًا ولا ضيقًا، فثُلُث الطَّعام هو القَدْر إذا زاد عليه وقع في الحال الأُولى.
وذلك لا ينضبط تحديدًا, ولكن يمكن للإنسان معرفته بأحد أمرين:

الأوَّل: أن لا يستوفي شهوته من الطَّعام، كما قيل: أن تقعد على الطَّعام وأنت تشتهيه، وتقوم عنه وأنت تشتهيه
يعني: بعد أخذ المقدار الذي تحْزُرُ أنَّه يكفيك.
الثَّاني: أن يقدَّر أكله، كأن يكون طعامه خبزًا مستويًا كل يوم، فيعلم أنَّه إذا أكل ثلاثة أرغفة أحسَّ بالضَّيق والثقل، وإذا أكل رغيفين ونصفًا لم يحسَّ بذلك.
والأمر الثاني لا يتيسَّر كلَّ وقتٍ، فالاعتبار بالأوَّل.

وعلى كلَّ حالٍ فينبغي للإنسان أن لا يستوفي القَدْر الذي يعلم أنَّه إذا زاد عليه كَظَّه، بل يدعُ فسحةً؛ لأنَّه قد يجِدُ طعامًا شهيًّا، فيختلُّ حسابه، بأن يأكل فوق حاجته، ويظنُّ أنَّه لم يفعل، وقد يجِدُ بعد الأكل فاكهةً أو نحوها فيشتهيها ولا يصبر.

فالحاصل: أنَّ مَن استوفي ثُلث الطَّعام، وجعل ذلك عادته كان معرَّضًا لأنْ يقع في الزَّيادة؛ فالحكمة تقتضي أن يعتاد النَّقص على ذلك.
واعْلم أنَّ الشَّبَع لا يتوقَّف استيفاءً على الثُلُث، بل يحصل بدُونه، وعلى ذلك يُحمَل ما يجيء في الأحاديث والآثار في أكل النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وأصحابه حتى شبعوا ( البخاري (6452)).
ومع هذا كلّه فما في الشَّريعة من كراهية الإفراط في الأكل حكمٌ مستمرٌّ، لا يختصُّ بوقتٍ دون وقتٍ، والجوع الرِّياضي إنَّما يأمرون به زمن الرِّياضة، فأمَّا من فُتِح له عندهم فلا يحجرون عليه شيئًا، ولا يكاد يحجر على نفسه، وهذا أمرٌ لا [أصل له] في الشريعة ألبتَّة.


رسالة ما وقع لبعص المسلمين من الرياضة الصوفية
ضمن مجموعة اثار العلامة المعلمي رحمه الله ج6 /284