بسم الله الرحمان الرحيم

اختلف الكثيرون في المراد بعبارة "عبادا لنا" التي في أول سورة الإسراء، فكان الناتج قولين بغض النظر عن الاختلاف في تحديد هويّتهم: قول بأنّهم من خاصة الله أي من المؤمنين فساووا بين هذه العبارة و عبارة "عباد الله"، وقول بأنهم على الكفر لعموم العبارة.
ولذلك نقول:

إنّ عبارة "عبادًا لله" مغايرة تمامًا لعبارة "عباد الله" فالأولى إضافة ملكية لمالكها ولا خصوصية للمملوك على غيره من المملوكات، والثانية إضافة تشريفية لأجل شرف المضاف إليه، فخُصّ المضاف على غيره، فالأول خاضع لإرادة الله الكونيّة فقط والثاني خاضع لإرادة الله الكونية ومُخضع نفسه لإرادة الله الشرعية فحقّ له أنّ ينال شرف الانتساب لله، والأولى نكرة مقصودٌ بها بعض من خلق الله، أمّا الثانية فمُعرّفة بالإضافة فهي تشمل كلّ من ينطبق عليه هذا الوصف، فحمل معنى العبارة الأولى على الثانية يجعل المُسلّطين هم كلّ الصالحين الباقين من بني إسرائيل، ومثل هذا لم يحصل في التاريخ.
ومثال ذلك أيضا: قوله تعالى: [وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ] [الطور: 24] أي: ويطوف عليهم بعضٌ من غلمانهم؛ وعدل عن "غلمانهم" بـعبارة "غِلْمَانٌ لَهُمْ" لأنّ الإتيان بما عُدل عنه يعني قيام جميع الغلمان بفعل الطواف فُيُحدّ بذلك عددهم وأعمالهم.
ومثال ذلك أيضا لو قلت: "رأيت بيتَ الله"، فإنّ قولك هذا مغاير لمن يقول: "رأيت بيتا لله"، فقولك فيه ذكر للبيت العتيق خاصة لأنّه البيت الذي شرّفه الله بأنّ أضاف اسمه لاسمه الشريف، والقول الآخر فيه ذكر بيت من بيوت الله الكثيرة ليس إلا.
وقد جاءت عبارة "عبادًا لي" وعُني بها قوم على الكفر، أعني يأجوج ومأجوج كما في حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم: "...فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَوْحَىَ اللهُ إِلَىَ عِيسَىَ: إِنّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَاداً لِي، لاَ يَدَانِ لأَحَدٍ بِقِتالِهِمْ، فَحَرّزْ عِبَادِي إِلَىَ الطّورِ، وَيَبْعَثُ اللهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَهُمْ مِنْ كُلّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ..."[أحمد: (17629)، مسلم: (2937)، ابن ماجة: (4075)، أبو داود: (4321) مختصرا، الترمذي: (2240)، الحاكم في المستدرك: (8508)] وهو ما يؤكد عدم إرادة التشريف بهذه العبارة، ولا كون المعنيون من خاصة الله وعباده المتقين.
ومن حِكم الإتيان بهذه العبارة بيان أنّ من تسلّطوا على مُصطفين تسلّطوا ويدُ الله فوقهم، ولا يُعجزه نهرهم أو إهلاكهم، ما يعني أنّ السبيل الوحيد للنجاة منهم هو العودة إلى الله وطلب العون منه، ولذا عُبّر عن يأجوج ومأجوج بهذا التعبير، فما كان من عيسى عليه السلام والمسلمين إلا التضرّع إلى الله عزّ وجلّ ليردّ عنهم ذاك الشرّ.
وأما استدلالهم بقوله تعالى: [وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ][الأنبياء:73] التي جاءت في سياق قصة إبراهيم وذريته، فعبارة "لَنَا عَابِدِينَ" مخالفة لـعبارة "عِبادًا للهِ" فالأولى تخصيص الله بعبادة إبراهيم عليه السلام وذريته أي العبادة الشرعية، والثانية تخصيص بعض من الناس بعبادة كونية أي العبودية الكونية؛ ومثل ذلك يُقال في قوله تعالى عن زكرياء عليه السلام [فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ] [الأنبياء: 90].
أما قول الشيخ الشعراوي –رحمه الله- في تفسيره لهذه الآيات بعد أن ذكر الرأي الذي أوردته وبعض أدلته: "وإذا كان أصحاب هذا الرأي لديهم من الأدلة ما يثبت أن كلمة «عباد» تُطلَق على المؤمنين وعلى الكافرين، فسوف نأتي بما يدل على أنها لا تُطلَق إلا على المؤمنين.
ومن ذلك قوله تعالى: [وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً{63} وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً{64} وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً{65} إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً{66} وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً{67}] [الفرقان: 63 - 67] إلى آخر ما ذكرت الآيات من صفات المؤمنين الصادقين، فأطلق عليهم «عباد الرحمن» .
دليل آخر في قول الحق سبحانه وتعالى في نقاشه لإبليس: [إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ] [الحجر: 42] والمراد هنا المؤمنون. وقد قال إبليس: [قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُ مْ أَجْمَعِينَ{82} إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ{8 3}] [ص: 82 - 83]
إذن: هنا إشكال، حيث أتى كُلٌ بأدلّته وما يُؤيّد قوله، وللخروج من هذا الإشكال نقول: كلمة «عباد» و«عبيد» كلاهما جمع ومفردهما واحد «عبد»؛ فما الفرق بينهما؟"
إلى أن قال: "إذن: كلمة عباد تُطلق على مَنْ تنازل عن منطقة الاختيار، وجعل نفسه مقهوراً لله حتى في المباحات.
أما الكفار الذين اختاروا مُرادهم وتركوا مُراد الله، واستعملوا اختيارهم، ونسوا اختيار ربهم، حيث خَيَّرَهم: تُؤمن أو تكفر؟ قال: أكفر، تشرب الخمر أو لا تشرب؟ قال: أشرب، تسرق أو لا تسرق؟ قال: أسرق؛ وهؤلاء هم العبيد، ولا يقال لهم «عباد» أبداً؛ لأنهم لا يستحقون شرف هذه الكلمة.
ولكي نستكمل حَلَّ ما أشكل في هذه المسألة لا بُدَّ لنا أن نعلم أن منطقة الاختيار هذه لا تكون إلا في الدنيا في دار التكليف؛ لأنها محل الاختيار، وفيها نستطيع أن نُمَيِّز بين العباد الذين انصاعوا لربهم وخرجوا عن مرادهم لمراده سبحانه، وبين العبيد الذين تمرَّدوا واختاروا غير مراد الله ? في الاختيارات، أما في القهريات فلا يستطيعون الخروج عنها.
فإذا جاءت الآخرة فلا محلَّ للاختيار والتكليف، فالجميع مقهور لله تعالى، ولا مجالَ فيها للتقسيم السابق، بل الجميع عبيد وعباد في الوقت ذاته.
إذن: نستطيع أن نقول: إن الكل عباد في الآخرة، وليس الكل عباداً في الدنيا. وعلى هذا نستطيع فهم معنى «عباد» في الآيتين:[إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ][المائدة: 118]
وقوله:[أَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاء][الفرقان: 17]
فسمّاهم الحق سبحانه عباداً؛ لأنه لم يَعُدْ لهم اختيار يتمردون فيه، فاستوَوْا مع المؤمنين في عدم الاختيار مع مرادات الله عزّ وجلّ.
إذن: فقول الحق سبحانه: [فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا] [الإسراء: 5]
المقصود بها الإفساد الأول الذي حدث من اليهود في ظِلِّ الإسلام، حيث نقضوا عهدهم مع رسول الله ?، والعباد هم رسول الله والذين آمنوا معه عندما جَاسُوا خلال ديارهم، وأخرجوهم من المدينة وقتلوا منهم مَنْ قتلوه، وسَبَوْا مَنْ سَبَوْه." اهـ.
قلت: هذا قول مردود لأمور:
- تخصيص لفظة "عبيد" بالكفار فقط لا دليل عليه، والصحيح أنّ لفظة "عبد" والتي هي مُفردة "عبيد" تعني خضوع الموصوف بها خضوعًا مُطلقا لمن له القوة المطلقة وخضوعًا جزئيًا لمحدود قوّة، فيُخضع له بقدر قوّته، ومن الأولى قوله جلّ ذكره: [إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً][مريم: 93 ].
- سبق وبيّنت المغايرة بين "عبادًا لله" و"عباد الله" ومثلها "عباد الرحمان".
- وأما قول الله جلّ وعلا: [إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ][الحجر: 42] فلا دليل فيه أيضا لأنّ لفظة "عِبَادِي" مضاف ومضاف إليه وهي مماثلة للفظة "عباد الله" لا للفظة "عباد لله"، وسبق بيان الفرق بينهما، وأما ما قيل من أنّ الله قد استثنى الغاوين من عباده فقد رُد بكون الاستثناء منقطعًا وليس متّصلا، وحتى لو كان الاستثناء مُتّصلا فإن هذه الآية تدخل في قاعدة "إنّ الكلّ عباد الله عند الله لغياب الاختيار عنده في الغيب الذي يرافقه سقوط التكليف أو انقطاعه." كما سيأتي.
- وكذا قول الله عزّ وجلّ على لسان إبليس: [قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُ مْ أَجْمَعِينَ{82} إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ{8 3}][ص: 82 - 83] لأنّ لفظة "عِبادَكَ" مضاف ومضاف إليه فهي بمعنى "عباد الله" لا "عباد لله".
وأما قوله "إنَّ الكُلَّ عبادٌ في الآخرة، وليس الكلُّ عباداً في الدنيا." فهو مردود بقول الله سبحانه وتعالى: [يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون][يس: 30] فسمى المستهزئين بالرسل عبادا مع أنّ ذلك كان في الدنيا. وكذا قوله عزّ وجل: [إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُ واْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ][الأعراف:194] وقد دعا النّاس من دون الله من الصالحين ومن الكافرين ومن غير ذلك من جمادات وغير ذلك، فجعلهم الله عبادا مثلما أنّ الذين يدعونهم عباد أيضا، بمعنى أنّ عبادًا تعني كلّ ما هو ليس بإله.
ويمكن لكلامه أنّ يكون صحيحًا إذا وضعنا بدل كلمة "عباد" عبارة "عباد الله" فيصبح الكلام: "إنَّ الكُلَّ عبادُ الله في الآخرة (بل في الغيب أصّح، ليعمّ نقطة البداية ومن في البرزخ والآخرة معًا، لأنّ الكلّ في هذه المواضع فاقد للاختيار وخاضع لأمر الله فقط)، وليس الكلُّ عبادُ الله في الدنيا، والكلّ عبادٌ لله في الدنيا والآخرة وارتباط الكلّ بالاختيار والتكليف."
وهذا يتّفق وما نقله العلامّة السعدي –رحمه الله- في تفسيره من اتفاق المفسرين على أنّ المُسلّطين على بني إسرائيل في المرّة الأولى كانوا كفارا بقوله: "واختلف المفسرون في تعيين هؤلاء المسلطين إلا أنهم اتفقوا على أنهم قوم كفار." اهـ.
فإن قيل: لكن يُنّغص على هذا الإجمال قوله سبحانه: [ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ][فاطر: 32] فجعل من عباده سبحانه الظالم لنفسه.
وجواب ذلك: أنّ الظالم لنفسه هنا من زُمرة المؤمنين.
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: "يَقُولُ تَعَالَى: ثُمَّ جَعَلْنَا الْقَائِمِينَ بِالْكِتَابِ الْعَظِيمِ، الْمُصَدِّقُ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكُتُبِ، الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا، وَهُمْ هَذِهِ الْأُمَّةُ، ثُمَّ قَسَّمَهُمْ إِلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ، فَقَالَ: "فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ" وَهُوَ: الْمُفَرِّطُ فِي فِعْلِ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ، الْمُرْتَكِبُ لِبَعْضِ الْمُحَرَّمَاتِ . "وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ" وَهُوَ: الْمُؤَدِّي لِلْوَاجِبَاتِ، التَّارِكُ لِلْمُحَرَّمَات ِ، وَقَدْ يَتْرُكُ بَعْضَ الْمُسْتَحَبَّا تِ، وَيَفْعَلُ بَعْضَ الْمَكْرُوهَاتِ . "وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ" وَهُوَ: الْفَاعِلُ لِلْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبّ َاتِ، التَّارِكُ لِلْمُحَرَّمَات ِ وَالْمَكْرُوهَا تِ وَبَعْضِ الْمُبَاحَاتِ."
وقال العلامة الشنقيطي -رحمه الله-[أضواء البيان (5/489-490)]: "مِنْ أَرْجَى آيَاتِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: [ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ{32} جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ{33} وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ{34} الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ{35}][فاطر: 32 – 35].
فَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ إِيرَاثَ هَذِهِ الْأُمَّةِ لِهَذَا الْكِتَابِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهَا فِي قَوْلِهِ: [ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا] وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:
الْأَوَّلُ: الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ وَهُوَ الَّذِي يُطِيعُ اللَّهَ، وَلَكِنَّهُ يَعْصِيهِ أَيْضًا فَهُوَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ: [خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ][التوبة: 102].
وَالثَّانِي: الْمُقْتَصِدُ وَهُوَ الَّذِي يُطِيعُ اللَّهَ، وَلَا يَعْصِيهِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَتَقَرَّبُ بِالنَّوَافِلِ مِنَ الطَّاعَاتِ.
وَالثَّالِثُ: السَّابِقُ بِالْخَيْرَاتِ: وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي بِالْوَاجِبَاتِ وَيَجْتَنِبُ الْمُحَرَّمَاتِ وَيَتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ بِالطَّاعَاتِ وَالْقُرُبَاتِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَهَذَا عَلَى أَصَحِّ الْأَقْوَالِ فِي تَفْسِيرِ الظَّالِمِ لِنَفْسِهِ، وَالْمُقْتَصِدِ وَالسَّابِقِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ إِيرَاثَهُمُ الْكِتَابَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ مِنْهُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ وَعَدَ الْجَمِيعَ بِجَنَّاتِ عَدْنٍ وَهُوَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ فِي قَوْلِهِ: [جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا] إِلَى قَوْلِهِ: [وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ] وَالْوَاوُ فِي " يَدْخلونَهَا " شَامِلَةٌ لِلظَّالِمِ، وَالْمُقْتَصِدِ وَالسَّابِقِ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: حُقَّ لِهَذِهِ الْوَاوِ أَنَّ تُكْتَبَ بِمَاءِ الْعَيْنَيْنِ، فَوَعْدُهُ الصَّادِقُ بِجَنَّاتِ عَدْنٍ لِجَمِيعِ أَقْسَامِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَوَّلُهُمُ الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَرْجَى آيَاتِ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ خَارِجٌ عَنِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، فَالْوَعْدُ الصَّادِقُ بِالْجَنَّةِ فِي الْآيَةِ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلِذَا قَالَ بَعْدَهَا مُتَّصِلًا بِهَا [وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ{36}] إِلَى قَوْلِهِ: [فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ{37}] [فاطر: 36 - 37].
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي سَبَبِ تَقْدِيمِ الظَّالِمِ فِي الْوَعْدِ بِالْجَنَّةِ عَلَى الْمُقْتَصِدِ وَالسَّابِقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدَّمَ الظَّالِمَ لِئَلَّا يَقْنُطَ، وَأَخَّرَ السَّابِقَ بِالْخَيْرِ لِئَلَّا يُعْجَبَ بِعَمَلِهِ فَيَحْبَطَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدَّمَ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ; لِأَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ الظَّالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ تَقَعْ مِنْهُمْ مَعْصِيَةٌ أَقَلُّ مِنْ غَيْرِهِمْ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: [إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ][ص: 24]."اهـ
قلت: فالظالم لنفسه إذن هو المؤمن الذي حَرَم نفسه بلوغ الدرجات وأتبعها هواها ولم يؤتها تقواها؛ من تراه متثاقلا عن الصلاة قابضا يده عن الزكاة لا طموح له في رفع رصيده من الخير والتخفيف من السوء لتخفيف الحساب.
وفي هذا التفصيل ردٌ على المكفر بالمعصية.
وأما قوله سبحانه عن إبليس: [لَّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً ][النساء: 118] فذاك كان في الغيب عنده سبحانه والكلّ عباده هناك كما سبق وبيّنا.
أما قوله عزّ وجل: [وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ][الأنعام: 18]
فإذا كان قهر الله شامل لخلقه أجمعين، فما سبب تخصيص عباده بأنّه القاهر فوقهم هنا؟
والجواب: أنّ هذه الآية مُرتبطة بما قبلها: [وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ][الأنعام: 17] أي: أنّ الضرّ الذي يُصيب عباد الله من المؤمنين لا يكشفه إلا هو وهو القادر على بذل الخير لهم لأنّه لا قاهر فوقهم إلا هو سبحانه، فليس للكُفُر سُلطانا عليهم.
ونفس الأمر بالنسبة لقوله جلّ جلاله: [وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ][الأنعام: 61] فنفى أن يكون قاهرٌ فوق عباده المؤمنين غيره من الكُفُر أو غيرهم. لذلك عندما قال الملأ من قوم فرعون: [وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ][الأعراف: 127] جاء الجواب من موسى عليه السلام: [قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ][الأعراف: 128] فنفى الإدعاء وأثبت القاعدة.
وقد تأتي عبارة "عباد لله" مراد بها التشريف لا بذاتها ولكن بقرينة وذلك بإيراد رضا العبد بعبوديته لله دون مزيّة له على غيره للدلالة على رفضه للمعبودية من دون الله، كما في قوله تعالى: [لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُم ْ إِلَيهِ جَمِيعاً][النساء: 172] وتأكيد ذلك بقوله جلّت عظمته: [مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ][آل عمران: 79]
وتسليط الله لظالم على ظالم من سننه سبحانه في خلقه، كما في قوله جلّ في عظمته: [وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ] [الأنعام: 129]
قال ابن كثير –رحمه الله- عند تفسيره لهذه الآية: "وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
وَمَا مِن يَدٍ إِلَّا يدُ اللَّهِ فَوْقَهَا ... وَلَا ظَالِمٍ إِلَّا سَيُبلى بِظَالِمٍ
وَمَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: كَمَا وَلَّيْنَا هَؤُلَاءِ الْخَاسِرِينَ مِنَ الْإِنْسِ تِلْكَ الطَّائِفَةَ الَّتِي أغْوَتهم مِنَ الْجِنِّ، كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالظَّالِمِينَ ، نُسَلِّطُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَنُهْلِكُ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، وَنَنْتَقِمُ مِنْ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، جَزَاءً عَلَى ظُلْمِهِمْ وَبَغْيِهِمْ." اهـ.


والله أعلم.