قال العلامة المعلمي رحمه الله في كتابه يسر العقيدة

وأما الجامعون بين الكلام والفلسفة فأشهرهم ثلاثة:
إمام الحرمين، والغزالي، والفخر الرازي

فإمام الحرمين [صحَّ عنه أنه قال في مرض موته:
"لقد قرأت خمسين ألفًا في خمسين ألفًا ثم خليت أهل الإسلام بإسلامهم فيها وعلومه الطاهرة، وركبت البحر الخِضَمّ، وغصت في الذي نهى أهل الإِسلام عنه، كل ذلك في طلب الحق، وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد، والآن قد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق، "عليكم بدين العجائز"، فإن لم يدركني الحق بلطف بره فأموت على دين العجائز، وتختم عاقبة أمري عند الرحيل على نزهة أهل الحق، وكلمة الإخلاص: لا إله إلا الله، فالويل لابن الجويني"

وقال: "اشهدوا عليَّ أني رجعت عن كل مقالة يخالف فيها السلف، وأني أموت على ما يموت عجائز نيسابور". إلى غير ذلك مما جاء عنه وتجده في ترجمته من "النبلاء" للذهبي، "طبقات الشافعية" لابن السبكي وغيرها.
فتدبر كلام هذا الرجل الذي طبقت شهرته الأرض يتَّضِحْ لك منه أمور:

الأول: حسن ثقته بصحة اعتقاد العجائز وبأنه مقتضٍ للنجاة.
الثاني: سقوط ثقته بما يخالف ذلك من قضايا النظر المتعمق فيه، وجزمه بأن اعتقاد تلك القضايا مقتضٍ للويل والهلاك.
الثالث: أنه مع ذلك يرى أن حاله دون حال العجائز لأنهن بقين على الفطرة وسلمن من الشك والارتياب، ولزمن الصراط، وثبتن على السبيل،فرجي لهن أن يكتب الله تعالى في قلوبهن الإيمان, ويؤيدهن بروح منه، فلهذا يتمنى أن يعود إلى مثل حالهنَّ، وإذا كانت هذه حال العجائز، فما عسى أن يكون حال العلماء السلفيين؟!]

وأما الغزالي فحاله عجيب، والذي يتراءى من صفاته أنه كان يغلب عليه ثلاثة أخلاق:
الأول: الشغف بالعلم.
الثاني: حب التفوُّق
الثالث: الحرص على حَمْل الناس على التمسّك بالعبادات الإسلامية.
فبالخُلُق الأول نظر في الفقه وأصوله والكلام، ثم حكى عن نفسه أنه لم يقنعه (3) الكلام، فنظر في الفلسفة فلم تشفه، فمال إلى التصوُّف، ثم عاد إلى مطالعة كتب الحديث، حتى مات و"صحيح البخاري" على صدره.

وبالخلق الثاني تجده عندما حصَّل الكلام يبالغ في مدحه، ثم لما أخذ الفلسفة صار يبالغ في مدحها، ويزعم أن من لم يعرف المنطق لا يوثق بعلمه، ويقول: "إن عامة المتكلمين مقلدون".
ثم لما أخذ التصوّف صار يبالغ في مدحه، ويفرط في إطرائه، ثم كأنه لما شرع في مطالعة السنة صنف كتاب "إلجام العوام عن علم الكلام" ولعله لو مُدّ في عمره حتى يتمكَّن في معرفة السنة لتَحَنْبَل

وبالخلق الثالث تراه يُحَسِّن التصوفَ للمتفلسفين، ويوهِمُ في بعض كلامه أن المتصوّفة يعتقدون بعض العقائد التي يزعم المتفلسفون أنها قطعية، ويدعو المتفلسفة إلى التزام العبادات الشرعية ولو على وجه الاحتياط إلى غير ذلك.

"وأما الفخر الرازي ففي ترجمته من (لسان الميزان) 4/ 429:

"أوصى بوصية تدل على أنه حسن اعتقاده"، وهذه الوصية في ترجمته من كتاب (عيون الأنباء) 2/ 26 - 28 قال مؤلف الكتاب: "أملى في شدة مرضه وصية على تلميذه إبراهيم بن أبي بكر بن علي الأصفهاني ... وهذه نسخة الوصية: بسم الله الرحمن الرحيم يقول العبد الراجي رحمة ربه الواثق بكرم مولاه، محمد بن عمر بن الحسين الرازي وهو =في آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة, وهو الوقت الذي يلين فيه كل قاسٍ ويتوجه إلى مولاه كل آبق ... إن الناس يقولون: الإنسان إذا مات انقطع تعلقه عن الخلق، وهذا العام مخصوص من وجهين:

الأول: أنه إن بقي منه عمل صالح صار ذلك سببًا للدعاء له آثر عند الله.
والثاني: ما يتعلق بمصالح الأطفال ... ، أما الأول، فاعلموا أني كنت رجلاً محبًّا للعلم. فكنت أكتب في كل شيء شيئًا لا أقفُ على كميةٍ وكيف، سواء كان حقًّا أو باطلاً، غثًّا أو سمينًا! إلا أن الذي نظرته (؟ نصرته) في الكتب المعتبرة إلى أن هذا العلم المحسوس تحت تدبير مدبر منزه عن مماثلة المتحيزات والأعراض، وموصوف بكمال القدرة والعلم والرحمة.

وقد أختبرت الطرق الكلامية, والمناهج الفلسفية، فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن العظيم, لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلال لله تعالى، ويمنع عن التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات، وما ذاك إلا العلم بأن العقول البشرية تتلاشى وتضمحل في تلك المضايق العميقة، والمناهج الخفية.

فلهذا أقول: كل ما ثبت بالدلائل الظاهرة من وجوب وجوده ووحدته، وبراءته عن الشركاء في القدم والأزلية، والتدبير والفاعلية، فذاك هو الذي أقول به وألقى الله تعالى به، وأما ما انتهى الأمر فيه إلى الدقة والغموض فكل ما ورد في القرآن والأخبار الصحيحة المتفق عليها بين الأئمة المتبوعين للمعنى الواحد فهو كما هو، والذي لم يكن كذلك أقول: يا إله العالمين ... وأقول: ديني متابعة محمد سيد المرسلين، وكتابي هو القرآن العظيم، وتعويلي في طلب الدين عليهما ... ". فبيَّن في وصيته هذه أنه تدرج إلى أربع درجات:
الأولى: الجري مع خاطره حقًا كان أو باطلاً.
الثانية: ما نصره في كتبه المعتبرة.
الثالثة: ارتيابه في المأخذ الخلفي وهو النظر الكلامي والفلسفي.
الرابعة: ما استقر وثوقه به ورجع إليه، وهو ما أثبته المأخذ السلفي الأول وأكده الشرع، ثم قسم الباقي إلى قسمين:الأول: ما بينه الكتاب والسنة، فهو كما بيَّناه.
الثاني: ما عدا ذلك، فبيَّن عدم وثوقه فيه بما سبق أن قاله في كتبه واعتذر عن ذلك بحسن النية". اهـ
والمقصود هنا أنه بيّن أن الكلام لا يقنع، والفلسفة لا تشفي، وظهر من رجوعه إلى مطالعة السنة أنه وجد التصوف لا يغني.
لكن هؤلاء الأكابر لم يرجعوا حتى ملؤوا الدنيا كلامًا, ولم يلتفت الناس إلى رجوعهم، كما لم يلتفتوا إلى رجوع الأشعري.
والمقصود هنا أن هؤلاء الأكابر قد زَهِدوا فيما شحنوا به كتبهم من الكلام والفلسفة، وساء ظنُّهم به، وتبرؤوا عنه، فوجب أن لا يُغترّ به لمجرَّد نسبته إليهم.