هل المذاهب الفقهية تشتمل على آراء وأحكام الأئمة الأربعة وفقط؟
بالطبع لا؛ لذا تجد في المذهب ما يسمى بالأطوار التي مر بها: فيبدأ بمرحلة التقعيد والتأسيس، ثم بالتحقيق والتفريع، إلى أن يصل إلى المعتمد في المذهب.
ويقسمون أصحاب المذهب إلى متقدمين ومتأخرين، ويزيد بعضهم طبقة ثلاثة وهم أوساط المذهب، وتجد في المذهب أقوالًا وأحكامًا ليس للإمام صاحب المذهب فيها قولًا مأثورًا عنه، كما في مسألة جواز نمص المرأة حاجبها بإذن زوجها عند الشافعية، فليس للإمام الشافعي فيها قولًا.
هذا كلام صحيح.
فالمذاهب فيها قول الإمام وأقوال أصحابه المخرجة على أقوال الإمام.
قال ابن القيم: (المتأخرون يتصرفون في نصوص الأئمة، ويبينونها على ما لم يكن لأصحابها ببال، ولا جرى لهم في مقال، ويتناقله بعضهم عن بعض، ثم يلزمهم من طرد لوازم لا يقول بها الأئمة، فمنهم من يطردها ويلزم القول بها، ويضيف ذلك إلى الأئمة، وهم لا يقولون به، فيروج بين الناس بجاه الأئمة، ويفتي به، ويحكم به، والإمام لم يقله قط، بل يكون نص على خلافه، وقال لا يحل أن ينسب إلى إمامه القول، ويطلق عليه أنه قوله، بمجرد ما يراه في بعض الكتب التي حفظها أو طالعها من كلام المنتسبين إليه، فإنه قد اختلطت أقوال الأئمة، وفتاويهم بأقوال المنتسبين إليهم واختياراتهم، فليس كل ما في كتبهم منصوصًا عن الأئمة بل كثير منه يخالف نصوصهم، وكثير منه لا نص لهم فيه وكثير منهم يخرج على فتاويهم وكثير منهم أفتوا به بلفظه، أو بمعناه، فلا يحل لأحد أن يقول هذا قول فلان ومذهبه، إلا أن يعلم يقينا أنه قوله ومذهبه).
قال ابن قاسم في مقدمة حاشيته للروض المربع: (وإذا تتبع المنصف تلك الكتب، واستقرأ حال تلك الأتباع، وعرضها على الكتاب والسنة، وعلى أصول الأئمة، وما صح عنهم، وجدها كما قالوا رحمهم الله، وقد يؤصل أتباعهم ويفصلون على ما هو عن مذاهب أئمتهم الصحيحة بمعزل يعرف ذلك من كان خبيرا بأصولهم ونصوصهم، ومع ذلك عند بعضهم كل إمام في اتباعه بمنزلة النبي في أمته، لا يلتفت إلى ما سواه، ولو جاءته الحجة كالشمس في رابعة النهار).
وفقكم الله دائمًا وأبدًا.
ومما جاء في هذا الفديو أيضًا: (إنكاره أن الصحابة كانوا كلهم من أهل الاجتهاد، وإنما كانوا يسألون بعضهم أمثال: (ابن عباس - زيد بن ثابت ...)، وكانوا يذهبون مذهبهم ويفتون بفتواهم.
وهذا الكلام لا شك في أنه مجانب للصواب، قال الشوكاني في مقدمة السيل الجرار: (فإن أراد إجماع الصحابة فهم لم يسمعوا بالتقليد فضلًا عن أن يقولوا بجوازه، وكذلك التابعون لم يسمعوا بالتقليد ولا ظهر فيهم بل كان المقصر في زمان الصحابة والتابعين يسأل العالم منهم عن المسألة التي تعرض له فيروى له النص فيها من الكتاب أو السنة وهذا ليس من التقليد في شيء؛ بل هو من باب طلب حكم الله في المسألة والسؤال عن الحجة الشرعية، وقد عرفت مما قدمنا أن المقلد إنما يعمل بالرأي لا بالرواية من غير مطالبة بحجة .... -إلى أن قال- وأما ما ذكروه من استبعاد أن يفهم المقصرون نصوص الشرع وجعلوا ذلك مسوغًا للتقليد، فليس الأمر كما ظنوه فهاهنا واسطة بين الاجتهاد والتقليد وهي سؤال الجاهل للعالم عن الشرع فيما يعرض له لا عن رأيه البحت واجتهاده المحض، وعلى هذا كان عمل المقصرين من الصحابة والتابعين وتابعيهم.ومن لم يسعه ما وسع هؤلاء الذين هم أهل القرون الثلاثة الفاضلة على ما بعدها فلا وسع الله عليه).