تذكير الأنام بسفينة النجاة عابرة الأزمان
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد ... فإن المعارك الدائرة حول بعض الأشخاص المشاهير من دعاة الضلالة (ولا أسمي) من الممكن أن يستغنى عنها بحديث النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ» . رواه الشيخان . وقول ابن مسعود - رضي الله عنه - : " إِنَّ اللهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ، فَابْتَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِ مُحَمَّدٍ، فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَجَعَلَهُمْ وُزَرَاءَ نَبِيِّهِ، يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينِهِ، فَمَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا، فَهُوَ عِنْدَ اللهِ حَسَنٌ، وَمَا رَأَوْا سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللهِ سَيِّئٌ " . حسن ، رواه أحمد والطيالسي وغيرهما ؛ فما اتفق عليه علماء القرون الثلاثة نتفق عليه ، وما اختلفوا فيه نختلف فيه .
ولله دَرُّ إمامِنا الشافعي - رحمه الله - لما استدل على حُجِّيَّة الإجماع بقول الله - تعالى - :
((وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)) (النساء 115) .
وقد صح في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : «مَا كَانَ اللَّهُ لِيَجْمَعَ هَذِهِ الْأُمَّةَ عَلَى الضَّلَالَةِ أَبَدًا، وَيَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ هَكَذَا، فَعَلَيْكُمْ بِسَوَادِ الْأَعْظَمِ، فَإِنَّهُ مَنْ شَذَّ شَذَّ فِي النَّارِ» . وهو حسن بمجموع طرقه كما ذكر العلامة الألباني - رحمه الله - .
يقول سهل بن حنيف - رضي الله عنه - :
"اتَّهِمُوا الرَّأْيَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَهُ لَرَدَدْتُ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ..". رواه البخاري .
قال الإمام الذهبي - رحمه الله - :
العـِلم قال الله قال رسولـه *** قال الصحـابة ليس بالتمويه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة *** بين الرسول وبين رأى فقيه
ورحمَ الله إمام أهل السنة في عصره أحمدَ بن حنبلٍ ، كان يقول :
دِينُ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ أَخْبَارٌ نِعْمَ الْمَطِيَّةُ لِلْفَتَى الآثَارُ لا تَرْغَبَنَّ عَنِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِهِ فَالرَّأْيُ لَيْلٌ وَالْحَدِيثُ نَهَارُ وَلَرُبَّمَا جَهِلَ الْفَتَى أَثَرَ الْهُدَى وَالشَّمْسُ بَازِغَةٌ لَهَا أَنْوَارُ وَقَالَ بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ السَّقَطِيِّ : " نَظَرْتُ فِي الْعِلْمِ فَإِذَا هُوَ الْحَدِيثُ وَالرَّأْيُ ، فَوَجَدْتُ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرَ النَّبِيِّينَ ، وَالْمُرْسَلِين َ ، وَذِكْرَ الْمَوْتِ ، وَذِكْرَ رُبُوبِيَّةِ الرَّبِّ ، وَجَلالِهِ وَعَظَمَتِهِ ، وَذِكْرَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ , وَالْحَلالِ وَالْحَرَامِ ، وَالْحَثِّ عَلَى صِلَةِ الأَرْحَامِ , وَجِمَاعِ الْخَيْرِ ، وَنَظَرْتُ فِي الرَّأْيِ ، فَإِذَا فِيهِ الْمَكْرُ ، وَالْخَدِيعَةُ وَالتَّشَاحُّ ، وَاسْتِقْصَاءُ الْحَقِّ ، وَالْمُمَاكَسَة ُ فِي الدِّينِ ، وَاسْتِعْمَالُ الْحِيَلِ ، وَالْبَعْثِ عَلَى قَطْعِ الأَرْحَامِ ، وَالتَّجَرُّؤِ عَلَى الْحَرَامِ " . رواه ابن عبد البر وغيره .
ولا يعني ذلك إغلاقَ باب الاجتهاد ، بل هو مفتوح بشروطه أبد الدهر ؛ ليبذل المجتهد (المتحقق بشروط الاجتهاد) جهده ويستفرغ وسعه ؛ لبلوغ الحكم الشرعي في أمر يسوغ فيه الاجتهاد ، فلا اجتهاد فيما اتفقت عليه الأمة ، وإنما الاجتهاد في المحدَثات والقضايا الفقهية المعاصرة .
فخلافنا مع دعاة الضلالة - وأبدا لن أذكر أسماءهم ؛ لأروج لهم إشهارا مجانيا - خلاف في الأصول ومصادر التلقي ؛ فاتقوا الله والزموا سفينة خيرِ القرون واحفظوا أوقاتكم ، وسترون بركاتٍ وأنوارًا ليس لها مثيل . تقبل الله منا ومنكم . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .