الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين أما بعد
فإكمالا لما تقدم من قواعد تعين عموم المسلمين على كشف شبهات الزائغين، أذكر أربع قواعد :
القاعدة الأولى: الخلاف ليس دليلا شرعيا ، فلا تحتج به .
والظاهرة المشاهدة في ذلك أن بعض الناس إذا عرضتَ له مسألة وذكرت دليلا عليها، عارض الدليل وعارضك بقوله : فيها خلاف !
فيقال: ثم ماذا ؟ وهل ترد الأدلة لأجل الخلاف ؟
والاحتجاج بالخلاف غلط في الشرع، وغلط في العقل .
فأما في الشرع فالله جل وعلا أمرنا عند الاختلاف أن نتحاكم إلى الكتاب والسنة، قال تعالى (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله)، وقال سبحانه (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) .
وقد أجمع العلماء على حرمة جعل الخلاف دليلا، يقول ابن عبد البر رحمه الله : ( الاختلاف ليس بحجة عند أحد علمته من فقهاء الأمة ) ، ثم إن هذا القول يلزم منه لازم، وهو كما يقول شيخ الإسلام (أن لا يكون حراما إلا ما أُجمع على تحريمه، فكل ما اختُلف في تحريمه يكون حلالا، وهذا مخالف لإجماع الأمة، وهو معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام ).
ونقل ابن حزم الاتفاق على تفسيق من فعل هذه الطريقة تجاه الأدلة الشرعية ، فقال: (ولو أن امرأً لا يأخذ إلا بما اجتمعت عليه الأمة فقط، ويترك كل ما اختلفوا فيه مما قد جاءت فيه النصوص، لكان فاسقا بإجماع الأمة ).
وأما في العقل فبيان غلط هذه الطريقة فمن وجهين :
١- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت إلا وقد كمل الدين، والخلافات إنما حصلت بعده، فكيف تكون دليلا وحجة في الدين وهي حادثة متأخرة ؟
٢- أنها قضية يلزم منها الدور ، فمن رد دليلا بحجة وجود خلاف ، قيل له: رد الدليل لوجود الخلاف قضية فيها خلاف، فلا تُلزم بها، وإلا كنت متناقضا عقلا ، فمرة لا تقبل شيئا لوجود الخلاف، ومرة تلزم بشيء مع وجود الخلاف !!!
هذا على سبيل التنزل، وإلا فقد سبق أن الخلاف ليس دليلا بالإجماع .


وهذه الطريقة أضرت كثيرين، فحملتهم على رد الحق أو التواني في القيام به، فهناك من سمع المحرم كالموسيقى بحجة وجود الخلاف، وهناك من تهاون في صلاة الجماعة للسبب نفسه، بل وُجد من ترك الصلاة عمود الدين لأن بعض العلماء قال: (إن من تركها كسلا لا يكفر)، ولا يدري المسكين أن القائلين بذلك يقولون: إن تاركها كسلا قد فعل ما هو أعظم من الزنى والسرقة والقتل، وأنه متعرض لسخط الله وعقابه في الدنيا والآخرة وإن لم يكفر ، هذا مع أن المسلم يكبر على قلبه أن يصير على حال يختلف العلماء في إسلامه وكفره ، فكيف إذا مات ثم ظهر أن القائل بتكفير تارك الصلاة هو المصيب .

إذا تقرر لك معنى القاعدة : فاحذر إذا سمعت شبهة أن تدخل على قلبك بمجرد ذكر الخلاف فيها ، أو لأجل نسبتها إلى عالم أيا كان منزلته، بل الواجب طلب الدليل الشرعي من المتكلم ، فإن لم يأت به فلا عبرة بقوله ، وإن جاء به فلا يخلو حالك من أمرين : إما أن تكون عالما بطرق الترجيح المعروفة ، فلك اختيار أقرب الدليلين للشرع .
وإما أن تكون عاميا لا تحسن الترجيح بين الأقوال المختلفة، فالواجب عليك عندها أن تقلد الأعلم والأوثق ، ولا يكلفك الله فوق هذا .
وأكثر الناس هم من أصحاب الحالة الثانية كما لا يخفى .
وإن أردت أن تعرف مقدار الخطر الذي يكون عند إهمال ما تقدم ، فانظر إلى حال الخوارج المارقين ، فأغلبهم صغار جهلة لا يعرفون طرائق الترجيح ولا يحسنونها، سمعوا أدلة متشابهة من دعاة سوء فظنوا أنها الحق، فأوردوا أنفسهم المهالك، ولو أن الواحد منهم عرف قدر نفسه، واكتفى بتقليد الأوثق والأعلم في هذه الأعصار ، كالعلماء ابن باز وابن عثيمين مثلا، لما وقع في هذه الموبقات .

وكذلك كثير من أتباع عدنان إبراهيم تبعوا كلامه ، مع أنهم لا يحسنون التمييز بين الأدلة، فصاروا إلى إنكار قطعيات من الدين ، حتى تجد أحدهم لم يقرأ كتابا كاملا في حياته، ويقول لك : (العلماء رجال، وأنا رجل) ، ويقول: (في البخاري أحاديث ضعيفة كثيرة)، وإذا سألته : هل في بيتك صحيح البخاري؟ أو هل قرأته مرة؟ أو هل تعرف عدد مجلداته؟ لقال: لا، لكني أعرف !
وهذا كمن يخطِّئ طبيبا أجمع الأطباء على إتقانه الصنعة ، ثم تقول له : وهل قرأت كتبه أو كتب غيره في الطب حتى توصلت إلى هذه النتيجة؟ فيقول لك : لا، لم أقرأ، ولكنني أعرف !!!
أعانك الله على بلائك، وجبر مصيبة أهلك فيك .
ويزداد الأمر سوءا وخطورة حين تعلم أن هؤلاء الذين يرون الخلاف قد سوغ لهم ترك الأدلة الشرعية إلى ما يهوون من الأقوال، هم من المنكرين لمسألة الإجماع ، فلا يرون صحته في أي مسألة من الدين ، فعليه : لا توجد مسألة في الدين يصح الإلزام بها حتى لو دلت عليها عشرات النصوص ، بل إن عدنان إبراهيم صرح بأن خلاف الرافضة مانع من الحكم على مسألة أنها إجماعية، فعلى كلامه : لا يصح القول بأن العلماء أجمعوا على عدم جواز سب الصحابة، لأن الرافضة ترى سبهم .
ولا يصح القول بأن الأمة أجمعت على أن القرآن محفوظ غير محرف، لأن الرافضة أجمعوا على أنه محرف كما هو مسطر في كتبهم .
والعجيب أن عدنان إبراهيم ممن يزعم أنه يحارب فكر التكفير ، وينسبه إلى أهل السنة ظلما وبهتانا ، فيقال له: هذه مسألة غير إجماعية ، لأن أهل السنة يقولون بها كما تدعي ، فلا يصح لك الإلزام بها ، ويجب عليك احترام من اجتهد وكفّر المسلمين، واستباح دماءهم .
هذا أقوله لإلزامه بباطله ، وإلا فأهل السنة أبعد الناس عن تكفير المسلمين، واستحلال دمائهم .

القاعدة الثانية: اضرب خصمك بأدلتك، ولا تكتف بمحاولة صد ضرباته عنك ، فقد سبق معنا في المقال السابق أن الشبهات لا تنتهي ولا حد لها ، وإبراز الشبهات على أي أمر كان ولو كان ضروريا لا يشك الإنسان فيه هو من الأمور السهلة ، فأنت حين قراءتك للمكتوب الآن لا تشك أنك تقرأ، وأستطيع أن أقول لك : أنت لا تقرأ حقيقة الآن ، وإنما أنت نائم ، وما تظنه واقعا إنما هو مجرد حلم ، وستستيقظ من نومك بعد قليل .
ألم يمرّ عليك يوم في عمرك، ورأيت في منامك شيئا أفرحك أو أفزعك ، وظننته حقيقة ، وتأثرت مع أحداثه، ثم فجأة استيقظت، واكتشفت أنه حلم ؟

بلى ، مر عليك هذا الموقف كثيرا ، أقول : وكذلك ما تقرأه الآن ، ربما يكون حلما يزول عن قريب !!!
أرأيت كيف أن الإتيان بالشبه على أمر ما من أسهل الأمور .
فإذا كان الأمر كذلك فإياك أن تكتفي برد الشبه الواردة دون أن تدلي بأدلتك وحجتك ، وهذه الطريقة ممكن تعريفها إن صح التعبير؛ بأن حقيقتها أن ينتقل السني من حال الدفاع إلى حال الهجوم ، والله يقول (بل نقدف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) .
ولنأخذ مثالا على شبهة يرددها عدنان إبراهيم كثيرا ، وهي زعمه أن اليهود والنصارى لا يلزمهم اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في شريعته في الصلاة والزكاة ونحوها من الشرائع، بل يكفيهم الإيمان بأنه رسول من عند الله ، ثم العمل بما عندهم في التوراة والإنجيل ، ويستدل على باطله بقوله تعالى (إن الذين ءامنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من ءامن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ، فيقول عدنان : الله أخبر أن اليهود والنصارى إذا ءامنوا بالله واليوم الآخر وعملوا الصالحات أنهم لا خوف عليهم، ولم يذكر اتباعهم لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم .

هذه شبهته ، ولنفرض أننا لا نعرف الجواب على الشبهة ، ولا معنى الآية ، لكن نريد تطبيق القاعدة ، وهي ما أسميناه بحالة الهجوم على الخصم، فنقول لعدنان : أجب على هذه الأسئلة :
ما معنى قوله تعالى (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا)، أليس فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل إلى جميع الناس حتى اليهود والنصارى ؟
فإن أجاب ولن يجيب، يقال له : ما معنى قوله تعالى(قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا) ؟
فإن تكلّف جوابا بعيدا، قيل له : ما معنى قوله تعالى (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين ءامنوا به وعزّروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) ، مَن هؤلاء الذين يجدونه عندهم في التوراة والإنجيل ؟ أليسوا هم اليهود والنصارى؟ ألم يذكر وجوب اتباعهم له ، وما هذه الآصار والأغلال التي وضعها عنهم؟ كيف نجمع بين كونهم لا يلزمهم اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في شريعته وبين هذه الآية ؟
فإن تعسف بالجواب، فيقال : وما معنى قوله تعالى (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) أليس فيها أن الرسول إنما يرسل ليطيعه الناس، وليس الاكتفاء بأن يقروا أنه رسول الله ؟
وقوله تعالى (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، ما الرحمة التي أصابت اليهود والنصارى برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وهم لا تجب عليهم طاعته؟
وماذا نصنع بقوله صلى الله عليه وسلم (لو أن موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي) ؟ وقوله (والله لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم لايؤمن بي وبما جئت به إلا كان من أصحاب النار)؟

حسنا: لنطلب من عدنان تفسير ما في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن وقال له (إنك تأتي قوم من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله أفترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ، فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم) ، أليس في الحديث التصريح بفرض الصلاة والزكاة عليهم، وقد عبّر في الحديث أن الصدقة تؤخذ منهم ، فمن الذي يأخذها منهم ، أهم أحبارهم ورهبانهم ، أم يأخذها إمام المسلمين أو من ينيبه ؟
ثم ما معنى كون رسالة النبي صلى الله عليه وسلم عامة ، ورسالة غيره من الرسل خاصة ؟

فإذن : نحن الآن لما أعطينا الخصم بعض أدلتنا بان الضعف الشديد في دليله حتى لو لم نعرف الجواب الخاص عن دليله .
ثم لنتزل معه أكثر وأكثر ، ونقول سلّمنا لك بصحة قولك ودليلك ، لكن فيه إشكالات ، منها :
- أليس من العجب أن يمر على هذه الآية سائر العلماء والمفسرين من عصر النبي صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا ، ثم لا يفهم واحد منهم الفهم الذي فهمته ؟
- في الآية قال الله (إن الذين ءامنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من ءامن منهم بالله) فشرط الإيمان بالله .
لماذا جعلت الإيمان بالله المراد به فقط التصديق بالله ، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس كما في الصحيحين (أتدرون ما الإيمان بالله وحده» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس» .
ألا يمكن أن يكون هذا هو الإيمان كما أجمع عليه أهل السنة ، فيدخل فيه جميع الأعمال الظاهرة والباطنة ؟

لنترك حتى هذا ، ونسلّم لكلامه ، نقول : الآن نريد تطبيق كلامك :
إذا رأيتُ نصرانيا أو يهوديا هل أدعوه إلى الدخول في الإسلام أو أدعوه لمجرد أن يقول محمد رسول صادق ؟
وإذا اختار الثانية ثم مات من وقته ، هل يجوز أن أصلي عليه ، وهل يصح دفنه في مقابر المسلمين ؟ وإذا تجرأ أحد ودفنه في مقابر الكافرين هل يكون آثما ؟
هل يصح أن يكون في الصباح يهوديا، ثم ينتقل الظهر إلى النصرانية ، ثم في العصر يكون مسلما ثم العشاء يرجع ويكون يهوديا ؟
إن صح فسلام على عقلك، وهو قول معلوم الفساد بإجماع أهل الأديان كلهم .

وإن لم يصح فيقال : لماذا لم يصح وهو مؤمن بالله واليوم الآخر ؟
ولو وُجد نصرانيان فاختار أحدهما الإسلام، واختار الآخر البقاء على النصرانية مع تصديقه بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فما الدليل على جواز ترك الأول دينه، والدليل على جواز بقاء الثاني على دينه ؟
ثم مَن هم هؤلاء اليهود والنصارى الذين لا تلزمهم شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، أهم سلالة بني إسرائيل فقط، أو يدخل فيهم سائر الشعوب ؟
فإن قيل : سائر الشعوب، فما الدليل على أنهم أهل كتاب، والأدلة تدل بوضوح أن موسى وعيسى عليهما السلام إنما بعثا إلى بني إسرائيل خاصة .
وإن قيل : بل المراد من هم من سلالة بني إسرائيل ، فيقال : وكيف نعرفهم الآن ، وقد اختلطت أنسابهم بغيرهم من الشعوب كما هو معروف في التاريخ .
وأخيرا : لو تجاوزنا هذه الإشكالات فكيف يعبد اليهودي والنصراني ربه ، وقد شهد القرآن والسنة والواقع أن كتبهم الموجودة اليوم التوراة والإنجيل قد حرفت وبدلت ؟
فهل يأخذون ما هو موجود في كتبهم اليوم من نسبة التعب إلى الله سبحانه وتعالى لما خلق الخلق ؟ وهل يأخذون بنسبة العظائم إلى الأنبياء ، إلى غير ذلك من القبائح والشنائع الموجودة فيها ؟

أخي الكريم : قد أكثرت من الإيرادات والأسئلة التي ربما أصابتك بالملل ، لكن ذلك كان مقصودا لتتبين أهمية القاعدة ، حتى أني أحسب أنك عرفت بطلان الشبهة مع أني لم أذكر جوابها المباشر وتفسير الآية الصحيح ، أليس كذلك ؟ بلى هو كذلك إن شاء الله .
فخذ هذه القاعدة، واعرف قدرها، وافعلها مع كل مبطل، فإنه لا يثبت أمامها ، ورحم الله شيخ الإسلام إذ يقول : (فالحق كالذهب الخالص، كلما امتُحن ازداد جودة، والباطل كالمغشوش المضيء، إذا امتُحن ظهر فساده.
فالدين الحق كلما نظر فيه الناظر، وناظر عنه المناظر، ظهرت له البراهين، وقوي به اليقين، وازداد به إيمان المؤمنين، وأشرق نوره في صدور العالمين.
والدين الباطل إذا جادل عنه المجادل، ورام أن يقيم عوده المائل، أقام الله تبارك وتعالى من يقذف بالحق على الباطل، فيدمغه فإذا هو زاهق، وتبيّن أن صاحبه الأحمق كاذب مائق، وظهر فيه من القبح والفساد، والحلول والاتحاد، والتناقض والإلحاد، والكفر والضلال والجهل والمحال، ما يظهر به لعموم الرجال أن أهله من أضلِّ الضُلَّال) .

ولذلك ترى الذين يتابعون عدنان إبراهيم ومن على شاكلته ينتهي بهم الحال حتى يخرجوا من الدين بالكلية، وهذا أمر مشاهد وواقع ، وذلك لأنهم يأخذون منه أصولا باطلة في نفسها ، فتَرِدُ عليها أسئلة من أنفسهم أو غيرهم، فلا يجدون جوابا لها ، ويبقى الشك وعدم اليقين في قلوبهم، فيهربون منه إلى الإلحاد والكفر ، وإنما لا يرجعون إلى الإسلام ، لأن الأصول الباطلة التي تشرّبوها تمنعهم من ذلك
وحتى لا ننسى فإن الجواب المباشر للآية التي استدل بها المبطل هو أن المراد بها: أي اليهود والنصارى الذين كانوا على دين صحيح، ثم ماتوا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، فهـؤلاء هم الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
وأما من كان من اليهود والنصارى بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يُقبل من أحد منهم دينا حتى يتبع النبي صلى الله عليه وسلم وشريعة الإسلام .
ذكر هذا المفسرون في كتبهم ، فارجع إلى أي كتاب تفسير شئت .

القاعدة الثالثة: الحق واحد في نفسه، والمطلوب فيه اليقين والجزم بأنه هو الحق ، قال تعالى (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل) (يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم) (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) (ذلك الكتاب لا ريب فيه) ، والأدلة في ذلك كثيرة .
فمن أصول الضلال القول بأن الحقيقة نسبية لا يصح لأحد أن يدعيها ، وبهذا الأصل دخلت الشبهات على كثير من أبناء المسلمين ، فتجد من يعظّم اليهودي والنصراني والبوذي بحجة أنه قد يكون الحق معه، فلا يُجزم بباطله ، ثم يُتْبِعون ذلك بعبارتهم الوقحة: (الرأي والرأي الآخر) ، وحقيقتها: الهوى والهوى الآخر ، وفي بعض الأحيان والكفر الآخر .
مع أن هؤلاء يحترمون كل الآراء حتى من عبد البقر ، وتضيق صدورهم عند المناداة بتطبيق الشريعة .
ألا يجعلونه مجرد رأي يجب احترامه ؟!
وحسبك دليلا على بطلان هذا الأصل أن تعلم أن جميع الرسل دعوا أقوامهم إلى شيء واحد، وهو ما جاءوا به من الحق، وأمروا الناس بتصديقه والعمل به ، ثم الدعوة إليه ، ولم يأت رسول قط بتخيير الناس فيما يعتقدون .

وليس هذا الجزم خاصا بالرسل ، بل حتى لأتباعهم ، ولذلك أُمِر الأتباع بالدعوة إلى الدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
القاعدة الرابعة:القلوب ضعيفة، والشبه خطافة، فإياك والسماع للباطل ، أو التساهل فيه ، وما دمت على يقين من دينك، فلا يضرك جهلك بضلال غيرك ، والسلامة لا يعدلها شيء .
قال الذهبي في كتابه السير عند ترجمة الراوندي بعد ذكره لزندقته: (وكان يلازم الرافضة والملاحدة، فإذا عوتب، قال: إنما أريد أن أعرف أقوالهم.
ثم إنه كاشف وناظر، وأبرز الشبه والشكوك).
ونقل عن ابن عقيل قوله : (وكان أصحابنا الحنابلة يريدون مني هجران جماعة من العلماء، وكان ذلك يحرمني علما نافعا) . ثم علق الذهبي فقال : (كانوا ينهونه عن مجالسة المعتزلة، ويأبى حتى وقع في حبائلهم، وتجسر على تأويل النصوص - نسأل الله السلامة -) .
وقد أجمع السلف على وجوب صيانة القلوب والأسماع عن الشبه ، والنبي صلى الله عليه وسلم قال (من سمع منكم بالدجال , فلينأ عنه ، فإن الرجل يأتيه , وهو يرى أنه كاذب , فيتبعه لما يرى من الشبهات) ، وفي الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم (فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم) .
وقد يكون صاحب الباطل ذا هيئة حسنة ، مع فصاحة وحلاوة منطق ، فيغتر به الجهال ، والله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم في شأن المنافقين (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم) قال ابن كثير في تفسيره: (أي: كانوا أشكالا حسنة وذوي فصاحة وألسنة، إذا سمعهم السامع يصغي إلى قولهم لبلاغتهم) .
فالحذر الحذر ، والفرار الفرار ، والسعيد من اتعظ بغيره ، فكم ممن ضلّ، وفارق اليقين قلبه، بكلمة سمعها، أو عبارة قرأها ، قال شيخ الإسلام رحمه الله : (ومن كان عليما بهذه الأمور: تبين له بذلك حذق السلف وعلمهم وخبرتهم حيث حذروا عن الكلام ونهوا عنه، وذموا أهله وعابوهم، وعلم أن من ابتغى الهدى في غير الكتاب والسنة لم يزدد من الله إلا بعدا) .

أسأل الله أن يجنبني وإياك الفتن ما ظهر منها وما بطن ، وأن يجعل لنا من أمرنا رشدا .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .



وكتبه: ناصر بن غازي الرحيلي .
المدرس في قسم العقيدة في الجامعة الإسلامية .