الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين

أما بعد :
فإن مما يحزن النفس، ويتعب القلب ما نشاهده هذه الأيام من الهجمات المتوالية على مسلّمات الدين والشريعة ، ويبث على قنوات يتابعها الملايين من المسلمين ، وأكثرهم من عامة الناس ، لا يميزون بين الصحيح والضعيف، والغث والسمين، لا يعرفون الدواء من الداء، هم كذلك وإن ظن بعضهم أنه خلاف ذلك ، فإن ما يسمعونه شبهاتٌ ، وما سُميت الشبهة شبهة إلا لأنها تشبه الحق من بعض الوجوه، فإذا سمعها من لا يدري ظن أنها عين الحق، وليست والله إلا الباطل (كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب(.
وقد أحسن من ضرب مثلا للشبهات والشهوات بالأمراض الحسية التي في الناس، فهناك من الأمراض ما له أثر ظاهر في جسم الإنسان، فكثير منها يمكن معالجته ولو بعد حين، وذلك مَثَلُ الشهوات المحرمة .
وبعض الأمراض ليس لها أعراض جانبية ظاهرة، ولا يكتشفها المريض إلا بعد وصولها إلى مراحل متقدمة فيصعب علاجها في الغالب ، كبعض أمراض القلب والكبد ونحوها ، وهذه مَثَل الشبهات المضلة .
فلا شك أنها أي الشبهات أعظم خطرا،وأشد فتكا على دين الإنسان من مرض الشهوة ، وفي كلِّ شر .
هذا وإن من طبيعة الشبهات أنها كثيرة لا حد لها، لأن مصادرها متنوعة ، ولذلك لا يكاد يوجد شيء في الوجود إلا وقد وجد من يجادل فيه ، حتى أظهر المسائل ، وهي وجود الرب جل جلاله ، وجد من حثالة البشر من يعارض ويقدح فيها ، قال شيخ الإسلام رحمه الله : (...ولكن يُعلم أن الضلال لا حدّ له، وأن العقول إذا فسدت لم يبق لضلالها حد معقول(.
وإذا كان الأمر كذلك فمن الصعوبة التصدي لكل شبهة خرجت، وإن قدّرنا وقوع ذلك، فالعامة لن يقرؤوا كل الردود ، فإن هذا مما لا يطيقونه .
لذلك أحببت أن أكتب قواعد كلية، وإشارات منهجية يستفيد منها عامة الناس في رد الشبهات بعد توفيق الله وحفظه لهم .
ومما يذكر أن وقت كتابتي هذه الكلمات هو اليوم الثامن عشر من شهر رمضان المبارك ، للعام الهجري ١٤٣٧ ، وهو يصادف بث بعض البرامج التي ذاعت بين الناس ، كبرنامج صحوة ، وضيفه عدنان إبراهيم ، ومسلسل سيلفي الذي يكتب حلقاته بعض الكتاب والصحفيين، ولذلك سيكون في كلامي تمثيل على بعض هذه البرامج المعاصرة ، وذلك حتى تتضح الصورة تماما ، ويُستدل بها على غيرها من البرامج المشابهة .


القاعدة الأولى: ينبغي على المسلم حتى تصح رؤيته وحكمه على الأشياء النظر إليها من خلال النظر الدنيوي والنظر الأخروي ، وإهمال أحد الجانبين سبيل إلى خطأ التصور والإدراك .
ومن خلال تتبعي لكثير من مقالات الكتاب والصحفيين رأيت أنهم ينظرون إلى الأشياء بالنظرة الدنيوية الخالصة ، وكل من تأثر بهم إنما جاءه الخلل من وقوعه في هذا الغلط العظيم .


مثال ذلك : يقع كثير من شباب المسلمين في كثير من الإعجاب والإبهار ببعض المشاهير من الكفار كاللاعبين مثلا ، وهذا الإعجاب يحمل على تقليد ذلك الكافر وتتبع أخباره حتى الخاصة ، وقد يلبس لباسا فيه اسم اللاعب ورقمه ، وهذا الإعجاب عند النظرة الدنيوية الأولية قد يكون مُبرَرا ومُستساغا، لكن النظرة الأخروية ستغير الميزان تماما ، فإن من نظر إلى هذا اللاعب من جهة أنه كافر بالله، وأنه بذلك متعرض لغضب الله وسخطه ، وأنه مهما تمتع وتميز في هذه الدنيا فإنه بمجرد خروج الروح منه سيعذب عند موته، وفي قبره، وفي القيامة إلى أن يدخل النار خالدا فيها، وأنه سيذوق أصناف العذاب مما لا يخطر على بال ، إذا نظر المسلم هذه النظرة في الكافر الذي كان معجبا به، فإنه سيتغيره حكمه تماما ، وسيرى هذا الكافر من أعظم الناس غباوة وجهالة ، وأنه كما قال الله عن أمثاله (يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم) ، و(إنْ هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا(.



مثال آخر :كثر الكلام من الطاعنين في الدين وأتباعهم على الجهاد الشرعي، وأنا هنا أتكلم عن الجهاد الذي جاء فضله في الكتاب والسنة، والذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، ولا أتكلم عن الجهاد المخالف للشريعة، الذي يفعله الخوارج الضالون عليهم من الله ما يستحقون .
كثر الكلام في هذا الجهاد المشروع، وأنه اعتداء على النفوس، ووحشية وهمجية ، حتى رأينا من المنتسبين للإسلام من يريد تضييق مجالاته حتى يجعله في صور ضيق محدودة، وما كان ذلك ليكون لولا النظرة الدنيوية البحتة .
وأما من نظر إلى ذلك نظرا أخرويا أيضا ، فإنه يرى من تمام الرحمة للكفار أن نجاهدهم ، فإنه بالجهاد ينتشر الإسلام في بلادهم ، وتكون الكلمة العليا له، فتُعطى سبلا كثيرة للناس في النظر إلى محاسنه ومحبته ، فيدخلون فيه، ثم يكون سببا في نجاتهم في الحياة الحقيقية الباقية، وهي حياة الآخرة .
ووالله لو أن الكافر عاين العذاب يوم القيامة لود أن المسلمين كان لهم في بلاده الغلبة والسيادة حتى يتهيأ له الدخول في الإسلام .
إن أضرّ ما يكون على هؤلاء الكفار هم أولئك المسلمون الإنهزاميون الذين يدعُون إلى ترك الكفار وشأنهم لتحقيق الحرية المزعومة، والتقدم المصنوع .
والعجيب أن هؤلاء يجمعون على وجوب قتال الخوارج المارقين، معللين ذلك بحماية الناس من ظلم الخوارج وبطشهم، وهم مصيبون في ذلك، لكن تخليص الكفار مما هم فيه من الظلمة والكفر أولى وأحرى لو كانوا يعقلون .

وبالمناسبة : يتبين لك مما سبق غلط أولئك الذين يريدون إثارة الشبهات على الإسلام، فيقولون : (إن الإسلام انتشر بقوة السيف فقط)!!!
فإن هذه المقولة وإن كان التاريخ والواقع يكذبها، فهي محمدة لا مذمة على فرض التسليم بصحتها، إذ أن نشر ما ينفع الناس ولو بالقوة هو من الإحسان إليهم، وهذا الغرب الكافر كان وما زال ينشر ما يراه عدلا في العالم بقوته، ومن عارض رغباته من الدول فإنها تتعرض للضربات العسكرية، أو الحصار الإقتصادي ، أو غيرها من أنواع العقوبات .
وقل مثل هذا المثال في شريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن في ظاهرها تقييد حريات الناس وتدخلا في شئونهم ، وفي حقيقتها حمايتهم مما قد يضرهم في دنياهم وأخراهم .
ولو رأى الناس أبًا يمنع ولده من شرب المسكر -ولو بالضرب- خوفا على عقله لرأوه محسنا غاية الإحسان، أفيكون الذي يمنع العصاة بالنصيحة أو السلطان خوفا عليهم من عقاب الرحمن مسيئا !!!
والخلاصة في هذه القاعدة : حتى تتخلص من الشبهات، وتميز النافع لك من الضار، عليك وزن الأمور بميزان النظر إلى الدنيا والآخرة .




القاعدة الثانية:إياك والإغترار بالعقل ، فإن العقل من أضعف الأشياء في الإنسان ، وبرهان ذلك أمران :
أ- أنه من جملة الإدراكات في الإنسان، ومن المعلوم أن الأشياء التي يدرك الإنسان الأشياء بها محدودة القوة ، وذلك كالسمع والبصر مثلا .
فالسمع له قوة محدودة، فهو يسمع الأصوات القريبة منه، ولا يسمع البعيدات، وربما قوي الصوت على السمع فصار لا يميز الكلام لقوته .
وكذلك البصر يرى القريبات ولا يرى البعيدات، وربما زاد عليه قوة شعاع المرئي كالشمس أو المصباح فصار لا يميز المرئي لقوته وضعف بصره عن الاحتمال .
والعقل كالسمع والبصر تماما ، له حدود لا يمكن أن يتعداها ، لأنه من جملة المدرِكات، فيعتريه ما يعتريها ، ومن ظن أنه يمكنه إدراك كل شيء بعقله، وتمييز الصحيح من الضعيف فهو واهم وطالبٌ محالا .
ب- أن العقل تؤثر عليه أشياء كثيرة، تمنعه من التصور الصحيح ، فيؤثر عليه الجهل وغياب المعلومة، ويؤثر عليه الهوى، ويؤثر عليه العرف السائد .
فمثال تأثير الجهل وغياب المعلومة أنك إذا رأيت رجلا يضرب زوجته لحكم عقلك على الرجل بأنه عديم الرحمة، فإذا قال لك: ضربتها لأنها فعلت كذا وكذا من الجرائم، وقد أنذرتها مرات كثيرة، لحكم عقلك بأنه رجل رشيد، قد أدى ما ينبغي عليه .
فإذا قالت لك الزوجة: إنه كاذب في حديثه، فإن عقلك يرجع إلى الحكم على الرجل بأنه عديم الرحمة .
أرأيت كيف يتغير حكم العقل ويتأثر بحسب حضور المعلومة أو غيابها ، فقل لي بربك كيف لك أن تسمع لكل أحد ، ثم تزعم أنك ستحكم على صحة كلامه من عدمه بعقلك ، إنك بفعلك هذا كمن يريد ركوب البحر المتلاطم الأمواج معتمدا على سفينة مخرقة الجوانب .
ولا بأس أن أقف هنا على مثالين اثنين على هذه النقطة ، أحدهما في عدنان إبراهيم، والآخر وقع في مسلسل سيلفي .


المثال الأول :لعدنان إبراهيم مقطع مشهور في اليوتيوب، يقول فيه وهو يتكلم على كتاب السنة لعبدالله ابن الإمام أحمد: (له كتاب في مجلدين، اسمه كتاب السنة، فيه بواطيل من المستحيل أن تصدقها) ، ثم قال: (فمن بواطيله روى عن أبي هريرة أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم (ممّ الله ؟ فقال: إنه خلق خيلا، ثم عرِقت ، ثم خلق نفسه من ذلك العرق) ، ثم قال عدنان: (شيء مستحيل ، إن أردت أن تصدقه فعليك وضع عقلك جانبا حتى تصدقه ، كيف خلق الخيل ، ثم خلق نفسه من عرق الخيل ، من الذي خلق إذن ) . انتهى كلام عدنان .
قل لي أيها القارئ الكريم ولتستخدم عقلك : هل في إيراد هذا الحديث من الإمام عبدالله ما يطعن في الكتاب ومؤلفه ؟
دعني أجيب عنك فأقول : نعم لا شك في ذلك ، فهذا الحديث لا يتصوره العقل ، وإن من الغباء إيراده في كتاب ، ولا أظن عقلك إلا موافقا لحكمي هذا .

لكن انتبه : هناك معلومة غائبة عنك ، أثّرت على حكمك العقلي ، أتدري ما هي ؟
هي أن هذا الحديث غير موجود أصلا في الكتاب، وهو من كذب عدنان إبراهيم على المؤلف ، والكتاب مطبوع متداول ، ففتش في جميع صفحاته فإنك لن تجده .
كيف حكمك العقلي الآن ؟
أرأيت كيف تأثير غياب المعلومة على عقلك ، فإياك أن تسمع كلاما ، ثم تقول : سأميز بعقلي .ومن العجيب أن الدارمي وبعده شيخ الإسلام ذكرا أن الضُلَّال ينسبون إلى أهل الحق إيراد هذا الحديث في كتبهم لينفروا الناس عنهم ، فهي سنة قديمة لأهل الضَلال جدَّدها عدنان إبراهيم في عصرنا .


المثال الثاني : عُرضت في مسلسل سيلفي العام الماضي حلقة تحكي قصة أن سعوديين أرادا السفر إلى بلاد الغرب، وأحب بعضهما بعضا، ثم عرفا فيما بعد وهم في الطائرة أن أحدهما سني واسمه يزيد، والآخر رافضي واسمه عبدالنبي، فتعصب السني إلى يزيد، وتعصب الرافضي إلى الحسين، وحصل شجار بينهم في الطائرة ، ثم ذهبا إلى قسم الشرطة، فقال لهم المحقق الكافر : إنه لا بد من استدعاء يزيد واستدعاء الحسين لنعرف الموضوع أكثر ، فرد السني والرافضي: إنهما ماتا قبل أكثر من ١٤٠٠ سنة ، فقال المحقق الكافر : إذن نحولكم إلى مستشفى المجانين ، كيف يحصل شجار على أناس ماتوا قديما . انتهت خلاصة القصة .
هنا النظر العقلي يلزمك التسليم لمحتوى القصة ودلالتها ، وربما ضحكت واتهمت أهل السنة بالجنون .

لكن إليك معلومات ستغير رؤيتك للقصة :
١- هل تعلم أن يزيد هذا ليس صحابيا ، وليس له من حرمة الصحابة وعدم التعرض لهم أي شيء ، بل إن الإمام أحمد سُئل: (أيؤخذ الحديث عن يزيد؟ قال: لا، ولا كرامة).

وقال أيضا : (وهل يحب يزيدَ مَن يؤمن بالله واليوم الآخر) ، ولما سأله ابنه : (هل تلعنه؟ قال: ومتى رأيت أباك لعّانا) ، فما منعه من لعنه إلا التورع وتنزيه اللسان عن اللعن .
فما جاء في القصة من تعصب أهل السنة ليزيد كذب .
٢- هل تعلم أن أهل السنة يذمون الرافضة على بكائهم على الحسين ، ويقولون: إنه قد قتل من هو خير من الحسين كعمر وعثمان وعلي ، ومع ذلك فالمسلم مأمور بالصبر ، ومنهي عن الحزن المبالغ فيه، وعن النياحة واللطم ، وأنهم يَعدُّون مَن فعل ذلك فقد فعل كبيرة من كبائر الذنوب .
إذن : ما ذُكر في القصة منسوبا إلى أهل السنة كذب عليهم أيضا .
٣- هل تعلم أن أهل السنة يذمون الرافضة في خوضهم فيما شجر بين صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ، ويعللون ذمهم لذلك بعلل كثيرة ، منها أنهم يقولون: إنهم أمة مضوا إلى الله، فلا فائدة من ذكر ما شجر بينهم ، ويستدلون بقوله تعالى (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون(.
إذن : جنس ما قاله المحقق الكافر، والذي صوّره المسلسل أنه عين العقل، يقول مثله في هذه المسألة أهل السنة، فمن الظلم جعلهم في خانة من يتكلم فيما لا فائدة منه .
وأهل السنة لا يذمون أحدا أحبَّ الحسين رضي الله عنه ، بل يرون محبته من تمام الإيمان وعلاماته ، وإنما يذمون الغلو فيه، وزعم أن محبته تقتضي بغض أكثر الصحابة كما تقوله الرافضة .
فهذه ثلاث معلومات غيابها يؤثر في حكمك على القصة في المسلسل .
جميع ما تقدم هو أمثلة لتأثير غياب المعلومة على تصور الإنسان وعقله .




وأما تأثير الهوى على العقل فكثير ، فلو طلب رئيس الشركة رأي الموظفين في توقيع الحضور في أي وقت يكون ، في أول الدوام أو آخره ، لرأى الموظف المجتهد أنّ جعله في أول الدوام عين العقل ، ورأى الموظف الكسول أن جعله آخر الدوام هو عين العقل ، وهذا أمر مشاهد محسوس .
ويسير صاحب السيارة في طريق، فيجد بعض المشاة يريدون المرور من خلاله إلى الجهة الأخرى ، فإذا كثروا وتوقف ، قال منزعجا: أما يرون سيارتي تريد المرور ؟! ، وقال المشاة إذا تحركت السيارة : أما يرانا نريد العبور؟! ، وما اختلفوا إلا لأجل الهوى الموجود ، فكلٌ يريد تقديم مصلحته .
إذا فهمت ذلك جيدا فاعلم أنه من المصائب أن يأتي الشاب فيسمع كلاما لا يعرف حقه من باطله ، ويريد أن يحكم بعقله عليه، مع وجود الهوى في نفسه .

وأقرب شيء وأوضحه : أن يأتي شاب له سنوات في سماع الموسيقى ومحبتها، فيسمع كلامَ مَن يجيزها ، ثم يظن أن عقله دلَّه على صحة كلام المتكلم ، وفي الحقيقة أن العقل لم يدله على ذلك، وإنما هذا فعْلُ الهوى به .
ولذلك تجد أمثال هؤلاء يحبون كلام عدنان إبراهيم وخطابه، ويزعمون أن حبهم للإسلام زاد وارتفع ، وإذا سألتهم : هل زاد حرصكم على الصلاة ؟ وهل كثرت قراءتكم للقرآن ؟ وهل تنامى حب مواسم الخير كرمضان والحج في قلوبكم ؟ ستجد أن الإجابة على هذه الأسئلة كلها بالنفي !!!

إذن : ما تفسير محبة الإسلام والدِّين الذي وجده هؤلاء في قلوبهم ؟
إن تفسير ذلك هو أنهم كانوا يسمعون الغناء وفي قلوبهم حسرة وغما لسماعه ، يجدونها في أثناء السماع أو بعده ولو في بعض الأحيان، لعلمهم بحرمته وأنه يعرضهم للعقاب، فإذا سمعوا مَن يجيزه لهم فرحوا لزوال ذلك الهمّ والحسرة، فظنوا أن الراحة التي وجدوها هي زيادة محبة في الدين ، وليست هي كذلك، وإنما هي فرح بزوال الهم وموافقة الهوى .
وكذلك المرأة إذا قيل لها : إن لكِ أن تكشفي عن وجهك وشعرك، ولكِ أن تذهبي أين شئتِ ولو مسافة سفر بدون محرم ، ولكِ أن تكوني رئيسة على البلاد، فإن هذا سيوافق هوى عند بعضهن، فيدخل في عقلها دون استئذان، فتظن أنها بعقلها ميّزت وحكمت .

وتجد أيضا كثيرا من هؤلاء يقتنعون بأي دليل حتى لو كان مضحكا ، فتراهم إذا سمعوا مَن يجيز الموسيقى بحجة أن لبعض العصافير أصواتا جميلة تشبهها كبَّروا وهلّلوا، وظنوا أنه فتح عظيم لم يُسبق إليه المتكلم .
هذا مع أن الله خلق وحوشا تفترس غيرها، فعلى كلامهم: يجوز لك افتراس غيرك، لأن الله خلق وحوشا مفترسة، وإن لم تقدر على ذلك فعليك بالعضة، ولتكن من الأضراس حتى تحقق أهدافها .
ما هذا الدِّين الذي يريدون !!!




يقول عدنان إبراهيم وهو يريد تجويز الموسيقى : (إن ما يسمى بالشيلات هي استجابة لحاجة الإنسان للموسيقى(.
على كلامه ؛ كذلك النظر المحرم والمعاكسات هي استجابة لحاجة الإنسان إلى النكاح ، فتصير حلالا على قاعدته .
إن أغلب ما يفعله الإنسان هو استجابة للغرائز التي فيه ، لكن هذه الغرائز منها ما هو جائز، ومنها ما هو محرم، فليس كل ما كان استجابة للغريزة يصير حلالا ، وإلا حتى ظلم الناس وأكل أموالهم استجابة لغريزة الطمع والشح .

ومن أمثلة تأثير الهوى على عقول هؤلاء أنهم يكثرون من الكلام عن رحمة الله ومغفرته للعاصين، ولا تجد لهم كثير كلام في عقوبة الله وغضبه وسخطه، وهذا خلاف طريقة القرآن والسنة .
حتى أنني سمعت عدنان إبراهيم يتكلم في برنامجه (ليطمئن قلبي) ، ويقول ما معناه: (أيها المؤمن بالله، لا تخف مما هو قادم، ولا تسمع للمشايخ الذين يخوفونك بالموت والقبر والقيامة)، ثم يستدل على كلامه بالآيات التي فيها الإخبار عن المؤمنين بأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأنهم آمنون من الفزع يوم القيامة .
وما علم أن الطريق إلى الأمان لم يكن إلا بعد الخوف من الله في الدنيا ، ولذلك الله يخبر عن المؤمنين بأنهم يخافونه ، كما قال تعالى (ويرجون رحمته ويخافون عذابه) ، وقال(تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا) ، وقال (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار) ، وقال في الساعة (والذين ءامنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق)، والآيات في ذلك كثيرة، وحال الأنبياء وأتباعهم في الخوف من الله أشهر من أن تذكر، وحسبك من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم(لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا،ولبكيتم كثيرا)، فاللهم رحماك رحماك .


فلتحذر أخي المسلم من هذه الخطابات ، فإنها والله مهلكة لك ، وأخشى أن من يتبعها يكن له نصيب في القيامة من قوله تعالى(وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون)، فظنوا في أنفسهم خيرا، فيظهر لهم ما لم يخطر في بالهم .
والحاصل من هذه القاعدة : لا تعتمد على عقلك فقط في معرفة الحق من الباطل ، فعقلك يعرض عليه ما يغيّره ويؤثر عليه .



القاعدة الثالثة: إذا أشكلت عليك الأمور فعليك بالنظر إلى القرائن، فإنها تهديك إلى الحق إن شاء الله .
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة وضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " بينما امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب، فذهب بابن إحداهما، فقالت هذه لصاحبتها: إنما ذهب بابنك أنت، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام، فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى: لا يرحمك الله، هو ابنها، فقضى به للصغرى " .
فسليمان عليه السلام استدل بقرينة شفقة الصغرى على الطفل وخوفها عليه أنه ابنها .
فكذلك اصنع فيما تراه وتسمعه من الشبهات .

وأنا أذكر لك بعض القرائن الدالة على ضلال بعض الكتاب والمتكلمين، ولا بأس بتسمية بعضهم :
أ- كثير من هؤلاء لا تجد عندهم دعوة للفضائل المجمع عليها ، ولا إنكارا على المنكرات المجمع عليها .
فمثلا :عدنان إبراهيم وأحمد قاسم الغامدي ممن اشتهرا بالقول بجواز كشف المرأة وجهها، وجواز اختلاطها بالرجال .
حسنا : هذه المسألة فيها أشياء مجمع عليها ، فمن ذلك : أنه حتى على القول بجواز كشف المرأة وجهها، فإن العلماء مجمعون على استحباب التغطية ، وأن التغطية أفضل للمرأة من الكشف ، فهل سمعت هذين الرجلين وأمثالهما يدعوان إلى هذه الفضيلة في كلامهم !!!
وكذلك حتى على القول بجواز اختلاط المرأة بالرجال ، فإن العلماء مجمعون على فضيلة قرار المرأة في بيتها، وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على أن صلاة المرأة في بيتها خير من صلاتها في المسجد ، وأن خير صفوف النساء آخرها ، وشرها أولها ، فهل سمعت هذين الرجل وأمثالهما يدعوان إلى هذه الفضيلة !!!
وأيضا أجمع العلماء على أن صدر المرأة وساقها وشعرها من العورة التي يجب سترها، وأن كشفها عند الأجانب من المنكرات ، فهل رأيت هذين الرجلين ينكران هذا المنكر مع انتشاره لا سيما عند أهل الإعلام من مذيعات وممثلات !!!
بل والله الذي رأيناه أن هؤلاء خرجوا مع مذيعات كشفوا حتى إلى الركب .
ومع قولهم بجواز الموسيقى، هلاّ أنكروا على المغنيات اللائي يخرجن بملابس فاضحة ، مع تمايل وإغراء ورقص.، والله لن تسمع منهم كلمة واحدة في ذلك .

ألا يحملك هذا الأمر على التوقف، وعدم العجلة بالسير خلف هؤلاء ؟
إني أرجو لك هذا ، وأظنه بك .


ثم وأنا أكتب لك هذا الكلام رأيت أحمد بن قاسم الغامدي يعيد تغريدة رجل ملحد يتكلم فيها على الأديان، فيقول : (الخرافات الدينية، العقد الدينية، الفاشية الدينية) ، وتعلم أن الملحد إذا عبّر عن الأديان وطعن فيها ، فإنما يريدها كلها بما فيها الإسلام .
فيأتي بعض الطيبين من متابعي الغامدي هذا فيقول له: (يا شيخ أنت رتوت لملحد، فاحذف الرتويت) ، فيرد الغامدي: العبرة بصحة القول لا بقائله !!!
أرأيت إلى أين وصل هؤلاء .
ب- ومن القرائن على ضلالهم أيضا : كثرة تناقضاتهم ، والتناقض في الكلام أبين دليل على بطلانه .
والتناقض موجود في كلامهم بكثرة حتى أنه يصعب حصره، فعدنان إبراهيم وحسن المالكي وأضرابهم يزعمون أن اليهود والنصارى يجوز لهم عبادة الله على ما شُرِع في التوراة والإنجيل ، ولا يلزمهم اتباع شريعة محمد صلى الله عليه وسلم .
ثم إذا أراد أحدهم الطعن في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إنها مأخوذة من أهل الكتاب من الاسرائيليات) ، وإذا أرادوا الطعن في صحابي قالوا : (يروي عن بني إسرائيل) !!!
ورأيتُ عدنان إبراهيم يضعّف أحاديث كثيرة في البخاري ومسلم، فإذا أراد تضعيف حديث رواه الترمذي مثلا، قال: ضعيف لم يخرجه البخاري ومسلم !!!

وإذا قلت لأصحاب مسلسل سيلفي : لماذا لا تذكرون إلا سلبيات رجال الهيئة، ولا تذكرون إيجابياتهم؟ قالوا: لأن فكرة المسلسل قائمة على ذكر السلبيات لا الإيجابيات.
فإذا نقدتً مسلسلهم، قالوا: أنتم لا تنظرون إلا إلى السلبيات!!!
أحلال عليكم، وحرام علينا !
والكلام على تناقضاتهم يطول .
ج- أنهم انتقائيون، فيستدلون ببعض ما يريدون من الآيات، ويتركون آيات أخرى أكثر منها في الموضوع نفسه !
فإذا أراد الواحد منهم الكلام على الدنيا فتجد أنه كأنه لم يوجد كلام في القرآن عنها إلا قوله تعالى (ولا تنس نصيبك من الدنيا).
هذا مع أن الآيات في ذم الدنيا والركون إليها كثيرة جدا ، بل حتى هذه الآية التي استدلوا بها قبلها قوله تعالى (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة) ، وكثير في القرآن معنى قوله تعالى (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد(، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول (ما لي وللدنيا، إنما أنا كراكب استظل تحت شجرة ، ثم راح وتركها).
وهذه الانتقائية ليست فقط في نصوص الكتاب والسنة ، بل حتى في أقوال العلماء ، فهذا ابن حزم الذي يكثرون من الاستدلال بأقواله على جواز الموسيقى، يقول كما في كتابه طوق الحمامة : (حُرِّم على المسلم الالتذاذ بسماع نغمة امرأة أجنبية) ، فهلاّ ذكروا هذا النص ممن يمدحون علمه وفقهه !




القاعدة الرابعة:إياك والوقوع في المقابلة الظالمة ، التي تجعل الإسلام كغيره ، والحق كالباطل ، فيقول لك هؤلاء: إذا سمح لنا الكفار بالحرية في بلادهم، فلنسمح لهم بالحرية في بلادنا ، هذا من أعظم الغلط ، إذ فيه تسوية الحق بالباطل، والنور بالظلمة، فمقتضى الكلام ومنطوقه : إذا سمح الكافر لنا بالدعوة إلى الإسلام ، فلنسمح له بالدعوة إلى الكفر، ومثل هذا القائل كمثل من قال لك : أنا سمحت لك بالطهارة والنظافة في بيتي، فاسمح لي بالقذارة والنجاسة في بيتك !!!
والله جل وعلا ذم الذين يمنعون الناس عن سماع القرآن، فقال (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن) ، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بعدم سماع كلام المشركين الباطل ، وحث على الإعراض عنه فقال (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم) ، فالكل مَنَعَ من سماع شيء وأعرض عنه ، لكن من أعرض عن سماع الحق مذموم ، ومن أعرض عن سماع الباطل ممدوح .
فلا بد من فهم هذه القضية جيدا، وهي راجعة إلى التسليم بحق التشريع لله، وأن شرعه حاكم على كل أحد، رضي من رضي، وأبى من أبى .
وقد أوجب عدم الفهم لهذه القضية إشكالات كثيرة ، فترى الداعي إلى الحرية المطلقة، وترى المنادي بالتعايش في سبيل الوطن ، وهذه كلها عبارات لا يمكن لمسلم عَرَف الشريعة، وعرف وجوب تحكيمها على الأفراد والمجتمعات – لا يمكن له قبولها على ما فيها من إجمال، فهي عنده عبارات تحتمل حقا وباطلا ، فالحرية مثلا إن كان يراد بها السماح بالصلاة والزكاة وإظهار شرائع الإسلام، والبيع والشراء فيما أحله الله، فهي حرية محمودة مطلوبة .
وإن كان يراد بالحرية السماح بالرقص والمجون ، أو شرب الخمور، فهذه حرية مذمومة ممنوعة .
بل لو أن رجلا غنيا قال : أنا حر في مالي ، فوصّى أن يكون المال لأحد الأبناء دون إخوته الآخرين ، لما جاز أن تنفذ وصيته ، فهو ليس حرا في ذلك .
فإذن : لفظ الحرية لا يمكن قبوله مطلقا ، أقول هذا مع علمي بأن أكثر هؤلاء الداعين إلى الحرية هم أكثر الناس تضييقا على من يخالفهم ، فلا تجد صحيفة تابعة لهؤلاء توافق على نشر خلاف ما يعتقدون ، وقد جرّب الناصحون كثيرًا، ولم يروا من هؤلاء إلا المنع والإعراض.




القاعدة الخامسة: إذا رأيت المبطل ينشر باطله ، ولم تر ردا لأهل الحق عليه، فلا تظن أن هذا دليل على صدق كلام المبطل ، لأن الاحتمالات كثيرة، فربما أن الله بحكمته قدّر أن الرد عليه لا يكون إلا متأخرا امتحانا واختبارا للناس، والله عليم حكيم ، أو يكون الرد عليه موجودا وبكثرة، لكن التقصير منك أنت الذي لم تطلع عليها .
فمن ذلك عدنان إبراهيم هو من أكثر الناس الذين توالت عليهم الردود العلمية ، المستندة إلى الكتاب والسنة، لكن الناس لا يقرأون .
وقد أحسن كثيرون في الرد على عدنان ، لكن من أحسن الردود التي رأيت ردود الأخ أبي عمر الباحث في قناة له على اليوتيوب مشهورة، فقد بذل جهدا كبيرا في بيان باطل عدنان وضلاله ، فارجع لها .


القاعدة السادسة:من القواعد العظيمة ما كان يقوله النبي صلى الله عليه وسلم في خطبه (من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له)، فأكثرْ من الدعاء بأن يهديك الله للحق، ويجعلك سائرا عليه ، فأنت في أمس الحاجة إليه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من أن يقول (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) ، وإذا اشتبهت عليك الأمور فادع بما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام يصلي من الليل قال: اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون؛ اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم).




القاعدة السابعة: لا تحزن يا صاحب الحق إذا رأيت كثرة أهل الباطل ، وانتشار شبهاتهم ، فمهما فعلوا فدينك هو المنتصر، وهو الباقي(يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون) ، والله يقول (وإن جندنا لهم الغالبون)، ويقول (ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا).
أسأل الله لي ولك الخير والهدى، والتوفيق والسداد ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .



وكتبه: ناصر بن غازي الرحيلي
المدرس في قسم العقيدة في الجامعة الإسلامية