أقوال الأئمة في اتِّباعِ السُّنَّةِ وتَركِ أقوالِهم المخالفَةِ لَها



أقوال الأئمة في اتِّباعِ السُّنَّةِ وتَركِ أقوالِهم المخالفَةِ لَها

ومن المفيد أن نسوق هنا ما وقفنا عليه منها أو بعضها ، لعلَّ فيها عظةً
وذكرى لمن يقلدهم - بل يقلد من دونهم بدرجات - تقليداً أعمى (1) ، ويتمسك
بمذاهبهم وأقوالهم ؛ كما لو كانت نزلت من السماء ، والله عزَّ وجلَّ يقول : { اتَّبِعُوا
مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } [الأعراف : 3] .
1- أبو حَنِيفة رحمه الله :
فأولهم الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت رحمه الله ، وقد روى عنه
أصحابه أقوالاً شتى ، وعبارات متنوعة ؛ كلها تؤدي إلى شيء واحد وهو :
وجوب الأخذ بالحديث ، وترك تقليد آراء الأئمة المخالفة له :
__________
(1) وهذا التقليد هو الذي عناه الإمام الطحاوي حين قال :
" لا يقلد إلا عصبي أو غبي " . نقله ابن عابدين في " رسم المفتي " (ص 32 ج 1) من
" مجموعة رسائله " .





1- " إذا صح الحديث ؛ فهو مذهبي " (1) .
2- " لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ؛ ما لم يعلم من أين أخذناه " (2) .
وفي رواية : " حرام على مَن لم يعرف دليلي أن يُفتي بكلامي " .
__________
(1) ابن عابدين في " الحاشية " (1/63) وفي رسالته " رسم المفتي " (1/4 من مجموعة
رسائل ابن عابدين) ، والشيخ صالح الفُلاني في " إيقاظ الهمم " (ص 62) وغيرهم ، ونقل ابن
عابدين عن " شرح الهداية " لابن الشَّحْنَة الكبير- شيخ ابن الهُمَام - ما نصه :
" إذا صح الحديث ، وكان على خلاف المذهب ؛ عُمِل بالحديث ، ويكون ذلك مذهبه ، ولا
يخرج مقلده عن كونه حنفيّاً بالعمل به ؛ فقد صح عن أبي حنيفة أنه قال :
إذا صح الحديث ؛ فهو مذهبي . وقد حكى ذلك الإمام ابن عبد البر عن أبي حنيفة ،
وغيره من الأئمة " .
قلت : وهذا من كمال علمهم وتقواهم ؛ حيث أشاروا بذلك إلى أنهم لم يحيطوا بالسنة
كلها - وقد صرح بذلك الإمام الشافعي ؛ كما يأتي - ؛ فقد يقع منهم ما يخالف السنة التي لم
تبلغهم ؛ فأمرونا بالتمسك بها ، وأن نجعلها من مذهبهم رحمهم الله تعالى أجمعين .
(2) ابن عبد البر في " الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء " (ص 145) ، وابن القيم
في " إعلام الموقعين " (2/309) ، وابن عابدين في " حاشيته " على " البحر الرائق " (6/293)
وفي " رسم المفتي " (ص 29 و 32) ، والشعراني في " الميزان " (1/55) بالرواية الثانية ، والرواية
الثالثة رواها عباس الدوري في " التاريخ " لابن معين (6/77/1) بسند صحيح عن زُفَر ، وورد
نحوه عن أصحابه : زُفَر ، وأبي يوسف ، وعافية بن يزيد - كما في " الإيقاظ " (ص 52) - ، وجزم
ابن القيم (2/344) بصحته عن أبي يوسف ، والزيادة في التعليق على " الإيقاظ " (ص 65)
نقلاً عن ابن عبد البر ، وابن القيم وغيرهما .
قلت : فإذا كان هذا قولهم فيمن لم يَعلم دليلَهم ؛ فليت شعري ! ماذا يقولون فيمن علم أن
=



زاد في رواية : " فإننا بَشَر ؛ نقول القول اليوم ، ونرجع عنه غداً " .
وفي أخرى : " ويحك يا يعقوب ! - وهو أبو يوسف - لا تكتب كل ما
تسمع مني ؛ فإني قد أرى الرأي اليوم ، وأتركه غداً ، وأرى الرأي غداً ، وأتركه
بعد غد " (1) .
__________
= الدليل خلاف قولهم ، ثم أفتى بخلاف الدليل ؟! فتأمل في هذه الكلمة ؛ فإنها وحدها كافية
في تحطيم التقليد الأعمى ؛ ولذلك أنكر بعض المقلدة من المشايخ نسبتها إلى أبي حنيفة ؛
حين أنكرتُ عليه إفتاءه بقولٍ لأبي حنيفة لم يعرف دليله !
(1) قلت : وذلك لأن الإمام كثيراً ما يبني قوله على القياس ، فيبدو له قياس أقوى ، أو
يبلغه حديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فيأخذ به ، ويترك قوله السابق . قال الشعراني في " الميزان "
(1/62) ما مختصره :
" واعتقادنا واعتقاد كل منصف في الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه ؛ أنه لو عاش حتى
دُوِّنَت الشريعة ، وبعد رحيل الحفاظ في جَمْعِها من البلاد والثغور ، وظفر بها ؛ لأخذ بها ، وترك
كل قياس كان قاسه ، وكان القياس قلَّ في مذهبه ، كما قل في مذهب غيره بالنسبة إليه ،
لكن لما كانت أدلة الشريعة مفرقة في عصره مع التابعين وتابعي التابعين في المدائن والقرى
والثغور ؛ كثر القياس في مذهبه بالنسبة إلى غيره من الأئمة ضرورةً ؛ لعدم وجود النص في
تلك المسائل التي قاس فيها ؛ بخلاف غيره من الأئمة ؛ فإن الحفاظ كانوا قد رحلوا في طلب
الأحاديث وجمعها في عصرهم من المدائن والقرى ، ودوّنوها ؛ فجاوبت أحاديث الشريعة
بعضها بعضاً ، فهذا كان سبب كثرة القياس في مذهبه ، وقلته في مذاهب غيره " .
ونقل القسم الأكبر منه أبو الحسنات في " النافع الكبير" (ص 135) ، وعلق عليه بما يؤيده
ويوضحه . فليراجعه من شاء .
قلت : فإذا كان هذا عذر أبي حنيفة فيما وقع منه من المخالفة للأحاديث الصحيحة دون
قصد - وهو عذر مقبول قطعاً ؛ لأن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها - ؛ فلا يجوز الطعن =



3- " إذا قلتُ قولاً يخالف كتاب الله تعالى ، وخبر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فاتركوا
قولي " (1) .

2- مالك بن أنس رحمه الله :
وأما الإمام مالك بن أنس رحمه الله ؛ فقال :
1- " إنما أنا بشر أخطئ وأصيب ، فانظروا في رأيي ؛ فكل ما وافق الكتاب
__________
= فيه - كما قد يفعل بعض الجهلة - ، بل يجب التأدب معه ؛ لأنه إمام من أئمة المسلمين
الذين بهم حُفِظ هذا الدين ، ووصل إلينا ما وصل من فروعه ، وأنه مأجور على كل حال ؛
أصاب أم أخطأ ، كما أنه لا يجوز لمعظِّميه أن يظلوا متمسكين بأقواله المخالفة للأحاديث ؛ لأنها
ليست من مذهبه - كما رأيت نصوصه في ذلك - ، فهؤلاء في واد ، وأولئك في واد ، والحق بين
هؤلاء وهؤلاء ، { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَ ا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًا لِلَّذِينَ
آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } .
(1) الفلاني في " الإيقاظ " (ص 50) ، ونسبه للإمام محمد أيضاً ، ثم قال :
" هذا ونحوه ليس في حق المجتهد ؛ لعدم احتياجه في ذلك إلى قولهم ؛ بل هو في حق المقلد " .
قلت : وبناءً على هذا قال الشعراني في " الميزان " (1/26) :
" فإن قلت : فما أصنع بالأحاديث التي صحت بعد موت إمامي ، ولم يأخذ بها ؟
فالجواب : الذي ينبغي لك : أن تعمل بها ؛ فإن إمامك لو ظفر بها ، وصحت عنده ؛ لربما كان
أَمَرَك بها ؛ فإن الأئمة كلهم أسرى في يد الشريعة ، ومن فعل ذلك ؛ فقد حاز الخير بكلتا يديه ،
ومن قال : (لا أعمل بحديث إلا إن أخذ به إمامي) ؛ فاته خير كثير ؛ كما عليه كثير من
المقلدين لأئمة المذاهب ، وكان الأولى لهم العمل بكل حديث صح بعد إمامهم ؛ تنفيذاً لوصية
الأئمة ؛ فان اعتقادنا فيهم أنهم لو عاشوا ، وظفروا بتلك الأحاديث التي صحت بعدهم ؛
لأخذوا بها ، وعملوا بما فيها ، وتركوا كلَّ قياس كانوا قاسوه ، وكلَّ قول كانوا قالوه " .

والسنة ؛ فخذوه ، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة ؛ فاتركوه " (1) .
2- " ليس أحد - بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا ويؤخذ من قوله ويترك ؛ إلا
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " (2) .
3- قال ابن وهب :
سمعت مالكاً سئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء ؟ فقال :
" ليس ذلك على الناس " .
قال : فتركته حتى خفَّ الناس ، فقلت له : عندنا في ذلك سنة . فقال :
" وما هي ؟ " .
قلت : حدثنا الليث بن سعد وابن لهيعة وعمرو بن الحارث عن يزيد بن
عمرو المعافري عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي عن المستورد بن شداد القرشي قال :
__________
(1) ابن عبد البر في " الجامع " (2/32) ، وعنه ابن حزم في " أصول الأحكام " (6/149) ،
وكذا الفلاني (ص 72) .
(2) نسبةُ هذا إلى مالك هو المشهور عند المتأخرين ، وصححه عنه ابن عبد الهادي في
" إرشاد السالك " (227/1) ، وقد رواه ابن عبد البر في " الجامع " (2/91) ، وابن حزم في
" أصول الأحكام " (6/145 و 179) من قول الحكم بن عُتَيبة ومجاهد ، وأورده تقي الدين
السبكي في " الفتاوى " (1/148) من قول ابن عباس - متعجباً من حسنه - ، ثم قال :
" وأخذ هذه الكلمة من ابن عباسٍ مجاهدٌ ، وأخذها منهما مالك رضي الله عنه ،
واشتهرت عنه " .
قلت : ثم أخذها عنهم الإمام أحمد ؛ فقد قال أبو داود في " مسائل الإمام أحمد "
(ص 276) :
" سمعت أحمد يقول : ليس أحد إلا ويؤخذ من رأيه ويترك ؛ ما خلا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " .


رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدلُك بخنصره ما بين أصابع رجليه . فقال :
" إن هذا الحديث حسن ، وما سمعت به قط إلا الساعة " .
ثم سمعته بعد ذلك يُسأل ، فيأمر بتخليل الأصابع (1) .

3- الشافعي رحمه الله :
وأما الإمام الشافعي رحمه الله ؛ فالنقول عنه في ذلك أكثر وأطيب (2) ،
وأتباعه أكثر عملاً بها وأسعد ؛ فمنها :
1- " ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعزُبُ عنه ،
فمهما قلتُ من قول ، أو أصّلت من أصل ، فيه عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلاف ما
قلت ؛ فالقول ما قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وهو قولي " (3) .
2- " أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لم
يَحِلَّ له أن يَدَعَهَا لقول أحد " (4) .
__________
(1) مقدمة " الجرح والتعديل " لابن أبي حاتم (ص 31 - 32) ، ورواها تامة البيهقي في
" السنن " (1/81) .
(2) قال ابن حزم (6/118) :
" إن الفقهاء الذين قُلِّدوا مبطلون للتقليد ، وإنهم نهوا أصحابهم عن تقليدهم ، وكان
أشدهم في ذلك الشافعي ؛ فإنه رحمه الله بلغ من التأكيد في اتباع صحاح الآثار ، والأخذ بما
أوجبته الحجة ، حيث لم يبلغ غيره ، وتبرَّأ من أن يُقَلَّدَ جملة ، وأعلن بذلك ، نفع الله به ،
وأعظم أجره ؛ فلقد كان سبباً إلى خير كثير " .
(3) رواه الحاكم بسنده المتصل إلى الشافعي ؛ كما في " تاريخ دمشق " لابن عساكر
(15/1/3) ، و " إعلام الموقعين " (2/363 و 364) ، و " الإيقاظ " (ص 100) .
(4) ابن القيم (2/361) ، والفلاني (ص 68) .
























3- " إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فقولوا بسنة رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَدَعُوا ما قلت " .
وفي رواية : " فاتبعوها ، ولا تلتفتوا إلى قول أحد " (1) .
4- " إذا صح الحديث ؛ فهو مذهبي " (2) .
__________
(1) الهروي في " ذم الكلام " (3/47/1) ، والخطيب في " الاحتجاج بالشافعي " (8/2) ،
وابن عساكر (15/9/1) ، والنووي في " المجموع " (1/63) ، وابن القيم (2/361) ، والفلاني (ص 100) .
والرواية الأخرى لأبي نعيم في " الحلية " (9/107) ، وابن حبان في " صحيحه "
(3/284 - الإحسان) بسنده الصحيح عنه نحوه .
(2) النووي في المصدر السابق ، والشعراني (1/57) ، وعزاه للحاكم ، والبيهقي ،
والفلاني (ص 107) ، وقال الشعراني :
" قال ابن حزم : أي : صح عنده ، أو عند غيره من الأئمة " .
قلت : وقوله الآتي عقب هذا صريح في هذا المعنى ، قال النووي رحمه الله ما مختصره :
" وقد عمل بهذا أصحابنا في مسألة التثويب ، واشتراط التحلل من الإحرام بعذر المرض
وغيرهما مما هو معروف في كتب المذهب ، وممن حُكي عنه أنه أفتى بالحديث من أصحابنا :
أبو يعقوب البُويطي ، وأبو القاسم الدَّارَكي ، وممن استعمله من أصحابنا المحدثين : الإمام أبو بكر
البيهقي وآخرون ، وكان جماعة من متقدمي أصحابنا إذا رأوا مسألة فيها حديث ، ومذهب
الشافعي خلافه ؛ عملوا بالحديث ، وأفتوا به قائلين :
مذهب الشافعي ما وافق الحديث .
قال الشيخ أبو عمرو :
فمن وجد من الشافعية حديثاً يخالف مذهبه ؛ نظر : إن كملت آلات الاجتهاد فيه
مطلقاً - أو في ذلك الباب ، أو المسألة - ؛ كان له الاستقلال بالعمل به ، وإن لم تكمل - وشَقَّ
عليه مخالفة الحديث بعد أن بحث فلم يجد لمخالفه عنه جواباً شافياً - ؛ فله العمل به ، إن =




5- " أنتم أعلم بالحديث والرجال مني ، فإذا كان الحديث الصحيح ؛
فَأَعْلِموني به - أي شيء يكون : كوفيّاً ، أو بصرياً ، أو شامياً - ؛ حتى أذهب إليه
إذا كان صحيحاً " .
__________
= كان عَمِل به إمام مستقل غير الشافعي ، ويكون هذا عذراً له في ترك مذهب إمامه هنا .
وهذا الذي قاله حسن متعين . والله أعلم " .
قلت : هناك صورة أخرى لم يتعرض لذكرها ابن الصلاح ، وهي فيما إذا لم يجد من
عمل بالحديث ؛ فماذا يصنع ؟ أجاب عن هذا تقي الدين السبكي في رسالة " معنى قول
الشافعي ... إذا صح الحديث ... " (ص 102 ج 3) ؛ فقال :
" والأولى عندي اتباع الحديث ، وليفرض الإنسان نفسه بين يدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وقد سمع
ذلك منه ؛ أيسعه التأخر عن العمل به ؟ لا والله ! ... وكل واحد مكلف بحسب فهمه " .
وتمام هذا البحث وتحقيقه تجده في " إعلام الموقعين " (2/302 و 370) ، وكتاب الفلاني
المسمى " إيقاظ همم أولي الأبصار ، للاقتداء بسيد المهاجرين والأنصار ، وتحذيرهم عن
الابتداع الشائع في القرى والأمصار ، من تقليد المذاهب مع الحمية والعصبية بين فقهاء
الأعصار " ، وهو كتاب فَذّ في بابه ، يجب على كل محبٍّ للحق أن يدرسه دراسة تفهم وتدبر .
(1) الخطاب للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله . رواه ابن أبي حاتم في " آداب الشافعي "
(ص 94 - 95) ، وأبو نعيم في " الحلية " (9/106) ، والخطيب في " الاحتجاج بالشافعي "
(8/1) ، وعنه ابن عساكر (15/9/1) ، وابن عبد البر في " الانتقاء " (ص 75) ، وابن الجوزي
في " مناقب الإمام أحمد " (ص 499) ، والهروي (2/47/2) من ثلاثة طرق عن عبد الله بن
أحمد بن حنبل عن أبيه : أن الشافعي قال له : ... فهو صحيح عنه ؛ ولذلك جزم بنسبته
إليه ابن القيم في " الإعلام " (2/325) ، والفلاني في " الإيقاظ " (ص 152) ، ثم قال :
" قال البيهقي : ولهذا كَثُر أخذه - يعني : الشافعي - بالحديث ، وهو أنه جمع علم أهل
الحجاز ، والشام ، واليمن ، والعراق ، وأخذ بجميع ما صح عنده من غير محاباة منه ، ولا ميل
إلى ما استحلاه من مذهب أهل بلده ؛ مهما بان له الحق في غيره ، وفيمن كان قبله من =




6- " كل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند أهل النقل
بخلاف ما قلت ؛ فأنا راجع عنها في حياتي ، وبعد موتي " (1) .
7- " إذا رأيتموني أقول قولاً ، وقد صحَّ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلافُه ؛ فاعلموا أن
عقلي قد ذهب " (2) .
8- " كل ما قلت ؛ فكان عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلاف قولي مما يصح ؛ فحديث
النبي أولى ، فلا تقلدوني " (3) .
9- " كل حديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فهو قولي ، وإن لم تسمعوه مني " (4) .


4- أحمد بن حنبل رحمه الله :
وأما الإمام أحمد ؛ فهو أكثر الأئمة جمعاً للسنة وتمسكاً بها ، حتى " كان
يكره وضع الكتب التي تشتمل على التفريع والرأي " (5) ؛ ولذلك قال :
__________
= اقتصر على ما عهده من مذهب أهل بلده ، ولم يجتهد في معرفة صحة ما خالفه ، والله
يغفر لنا ولهم " .
(1) أبو نعيم في " الحلية " (9/107) ، والهروي (1/47) ، وابن القيم في " إعلام
الموقعين " (2/363) ، والفلاني (ص 104) .
(2) رواه ابن أبي حاتم في " آداب الشافعي " (ص 93) ، وأبو القاسم السمرقندي في
" الأمالي " - كما في " المنتقى منها " لأبي حفص المؤدب (1/234) - ، وأبو نعيم في " الحلية "
(9/106) ، وابن عساكر (15/10/1) بسند صحيح .
(3) ابن أبي حاتم (ص 93) ، وأبو نعيم ، وابن عساكر (15/9/2) بسند صحيح .
(4) ابن أبي حاتم (ص 93 - 94) .
(5) ابن الجوزي في " المناقب " (ص 192) .

1- " لا تقلدني ، ولا تقلد مالكاً ، ولا الشافعي ، ولا الأوزاعي ، ولا الثوري ،
وخذ من حيث أخذوا " (1) . وفي رواية :
" لا تقلد دينك أحداً من هؤلاء ، ما جاء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه ؛ فَخُذ
به ، ثم التابعين بَعْدُ ؛ الرجلُ فيه مخيَّر " . وقال مرة :
" الاتِّباع : أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن أصحابه ، ثم هو من
بعد التابعين مخيّر " (2) .
2- " رأي الأوزاعي ، ورأي مالك ، ورأي أبي حنيفة ؛ كله رأي ، وهو
عندي سواء ، وإنما الحجة في الآثار" (3) .
3- " من رد حديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فهو على شفا هَلَكة " (4) .

تلك هي أقوال الأئمة رضي الله تعالى عنهم في الأمر بالتمسك
بالحديث ، والنهي عن تقليدهم دون بصيرة ، وهي من الوضوح والبيان بحيث
لا تقبل جدلاً ولا تأويلاً .
وعليه ؛ فإن من تمسك بكل ما ثبت في السنة ، ولو خالف بعض أقوال الأئمة ؛
لا يكون مبايناً لمذهبهم ، ولا خارجاً عن طريقتهم ؛ بل هو متبع لهم جميعاً ،
ومتمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها ، وليس كذلك من ترك السنة الثابتة
لمجرد مخالفتها لقولهم ؛ بل هو بذلك عاصٍ لهم ، ومخالف لأقوالهم المتقدمة ، والله
تعالى يقول : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا
__________
(1) الفلاني (113) ، وابن القيم في " الإعلام " (2/302) .
(2) أبو داود في " مسائل الإمام أحمد " (ص 276 و 277) .
(3) ابن عبد البر في " الجامع " (2/149) .
(4) ابن الجوزي (ص 182) .

























فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [النساء : 65] ، وقال : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النور : 63] .

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى :
" فالواجب على كل من بلغه أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وعرفه ؛ أن يبينه للأمة ،
وينصح لهم ، ويأمرهم باتباع أمره ، وإن خالف ذلك رأي عظيم من الأمة ؛ فإن
أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحق أن يُعَظَّم ويُقتدى به من رأي أي مُعَظَّم قد خالف أمره
في بعض الأشياء خطأً ، ومن هنا رد الصحابة ومن بعدهم على كل مخالف
سنة صحيحة ، وربما أغلظوا في الرد (1) ، لا بغضاً له ؛ بل هو محبوب عندهم
مُعَظَّم في نفوسهم ، لكن رسول الله أحب إليهم ، وأمره فوق أمر كل مخلوق ،
فإذا تعارض أمر الرسول وأمر غيره ؛ فأمر الرسول أولى أن يقدم ويتبع ، ولا يمنع
__________
(1) قلت : حتى ولو على آبائهم وعلمائهم ؛ كما روى الطحاوي في " شرح معاني الآثار "
(1/372) ، وأبو يعلى في " مسنده " (3/1317 - مصورة الكتب) بإسناد جيد رجاله ثقات
عن سالم بن عبد الله بن عمر قال :
" إني لجالس مع ابن عمر رضي الله عنه في المسجد إذ جاءه رجل من أهل الشام ، فسأله
عن التمتع بالعمرة إلى الحج ؟ فقال ابن عمر :
حسن جميل . فقال : فإن أباك كان ينهى عن ذلك ؟ فقال :
ويلك ! فإن كان أبي قد نهى عن ذلك ، وقد فعله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وأمر به ؛ فبقول أبي
تأخذ ، أم بأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟! قال : بأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فقال :
فقم عني " .
وروى أحمد (رقم 5700) نحوه ، والترمذي (2/82 - بشرح التحفة) وصححه .
وروى ابن عساكر (7/51/1) عن ابن أبي ذئب قال : =
من ذلك تعظيم من خالف أمره ، وإن كان مغفوراً له (1) ، بل ذلك المُخَالَف
المغفور له لا يكره أن يخالف أمره ؛ إذا ظهر أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخلافه " (2) .
قلت : كيف يكرهون ذلك ؛ وقد أمروا به أتباعهم - كما مر - ، وأوجبوا عليهم
أن يتركوا أقوالهم المخالفة للسنة ؟! بل إن الشافعي رحمه الله أمر أصحابه أن
ينسبوا السنة الصحيحة إليه ، ولو لم يأخذ بها ، أو أخذ بخلافها ؛ ولذلك لما جمع
المحقق ابن دقيق العيد رحمه الله المسائل التي خالف مذهب كل واحد من الأئمة
الأربعة الحديث الصحيح فيها - انفراداً ، واجتماعاً - في مجلد ضخم ؛ قال في أوله :
" إن نسبة هذه المسائل إلى الأئمة المجتهدين حرام ، وإنه يجب على
الفقهاء المقلدين لهم معرفتها ؛ لئلا يعزوها إليهم ؛ فيكذبوا عليهم " (3) .
__________
= قضى سعد بن إبراهيم (يعني : ابن عبد الرحمن بن عوف) على رجل برأي ربيعة بن
أبي عبد الرحمن ، فأخبرته عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخلاف ما قضى به ، فقال سعد لربيعة :
هذا ابن أبي ذئب - وهو عندي ثقة - يحدث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخلاف ما قضيت به . فقال
له ربيعة : قد اجتهدت ، ومضى حكمك . فقال سعد :
واعجباً ! أُنَفذّ قضاء سعد و [ لا ] أُنَفّذ قضاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟! بل أرد قضاء سعد ابن
أم سعد ، وأنفذ قضاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فدعا سعد بكتاب القضية فشقه ، وقضى للمقضي عليه .
(1) قلت : بل هو مأجور ؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
" إذا حكم الحاكم فاجتهد ، فأصاب ؛ فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد ، فأخطأ ؛ فله أجر
واحد " . رواه الشيخان وغيرهما .
(2) نقله في التعليق على " إيقاظ الهمم " (ص 93) .
(3) الفلاني (ص 99) .


ترك الأَتْباع بعضَ أقوالِ أئمتِهِم اتباعاً لِلسُّنَّةِ
ولذلك كله كان أتباع الأئمة { ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ . وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ }
(الواقعة : 13 - 14) لا يأخذون بأقوال أئمتهم كلها ؛ بل قد تركوا كثيراً منها لمَّا
ظهر لهم مخالفتها للسنة ، حتى إن الإمامين : محمد بن الحسن ، وأبا يوسف
رحمهما الله قد خالفا شيخهما أبا حنيفة (في نحو ثلث المذهب) (1) ، وكتب
الفروع كفيلة ببيان ذلك ، ونحو هذا يقال في الإمام المُزَّني (2) ، وغيره من أتباع
الشافعي وغيره ، ولو ذهبنا نضرب على ذلك الأمثلة ؛ لطال بنا الكلام ، ولخرجنا
به عما قصدنا إليه في هذا البحث من الإيجاز ؛ فلنقتصر على مثالين اثنين :
1- قال الإمام محمد في " موطئه " (3) (ص 158) :
" قال محمد : أما أبو حنيفة رحمه الله ؛ فكان لا يرى في الاستسقاء
__________
(1) ابن عابدين في " الحاشية " (1/62) ، وعزاه اللكنوي في " النافع الكبير" (ص 93)
للغزالي .
(2) وهو القائل في أول " مختصره في فقه الشافعي " المطبوع بهامش " الأم " للإمام ما
نصه :
" اختصرت هذا الكتاب من علم محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله ، ومن معنى قوله ؛
لأُقربه على من أراده ، مع إعلامِه نهيَه عن تقليدِه وتقليدِ غيرهِ ؛ لينظر فيه لدينه ، ويحتاط فيه
لنفسه " .
(3) وقد صرح فيه بمخالفة إمامه في نحو عشرين مسألة ، نشير إلى مواطنها منه : (42
و44 و103 و120 و158 و169 و172 و173 و228 و230 و240 و244 و274 و275 و284
و314 و331 و338 و355 و356) ؛ من " التعليق الممجد على موطأ محمد " .



صلاة ، وأما في قولنا ؛ فان الإمام يصلي بالناس ركعتين ، ثم يدعو ، وُيحَوِّل
رداءه ... " إلخ .
2- وهذا عصام بن يوسف البَلْخي - من أصحاب الإمام محمد (1) ، ومن
الملازمين للإمام أبي يوسف (2) - " كان يفتي بخلاف قول الإمام أبي حنيفة
كثيراً ؛ لأنه لم يعلم الدليل ، وكان يظهر له دليل غيره ؛ فيفتي به " (3) ؛ ولذلك
" كان يرفع يديه عند الركوع ، والرفع منه " (4) ؛ كما هو في السنة المتواترة
__________
(1) ذكره فيهم ابن عابدين في " الحاشية " (1/74) ، وفي " رسم المفتي " (1/17) ،
وأورده القرشي في " الجواهر المضية في طبقات الحنفية " (ص 347) وقال :
" كان صاحب حديث ، ثبتاً ، وكان هو وأخوه إبراهيم شيخي بَلْخ في زمانهما " .
(2) " الفوائد البهية في تراجم الحنفية " (ص 116) .
(3) " البحر الرائق " (6/93) ، و " رسم المفتي " (1/28) .
(4) " الفوائد " (ص 116) ثم علق عليه بقوله - وقد أجاد - :
" قلت : يُعلم منه بطلان رواية مكحول عن أبي حنيفة - : " أن من رفع يديه في الصلاة فسدت
صلاته " - ، التي اغترَّ بها أمير كاتب الإتقاني - كما مر في ترجمته - ؛ فإن عصام بن يوسف كان من
ملازمي أبي يوسف ، وكان يرفع ، فلو كان لتلك الرواية أصل ؛ لعلم بها أبو يوسف وعصام " . قال :
" ويُعلم أيضاً أن الحنفي لو ترك في مسألةٍ مذهبَ إمامهِ لقوة دليل خلافه ؛ لا يخرج به
عن ربقة التقليد ، بل هو عين التقليد في صورة ترك التقليد ، ألا ترى أن عصام بن يوسف ترك
مذهب أبي حنيفة في عدم الرفع ، ومع ذلك هو معدود في الحنفية ؟! " . قال :
" وإلى الله المشتكى من جهلة زماننا ؛ حيث يطعنون على من ترك تقليد إمامه في مسألة
واحدة ؛ لقوة دليلها ، ويخرجونه عن جماعة مقلديه !! ولا عجب منهم ؛ فإنهم من العوام ، إنما
العجب ممن يتشبه بالعلماء ، ويمشي مشيهم كالأنعام ! " .



عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فلم يمنعه من العمل بها أن أئمته الثلاثة قالوا بخلافها ، وذلك ما
يجب أن يكون عليه كل مسلم - بشهادة الأئمة الأربعة وغيرهم ؛ كما تقدم - .
وخلاصة القول : إنني أرجو أن لا يبادر أحد من المقلدين إلى الطعن في
مشرب هذا الكتاب ، وترك الاستفادة مما فيه من السنن النبوية بدعوى
مخالفتها للمذهب ؛ بل أرجو أن يتذكر ما أسلفناه من أقوال الأئمة في وجوب
العمل بالسنة ، وترك أقوالهم المخالفة لها ، وليعلم أن الطعن في هذا المشرب ؛
إنما هو طعن في الإمام الذي يقلده أيّاً كان من الأئمة ، فإنما أخذنا هذا المنهج
منهم - كما سبق بيانه - ، فمن أعرض عن الاهتداء بهم في هذا السبيل ؛ فهو
على خطر عظيم ؛ لأنه يستلزم الإعراض عن السنة ، وقد أُمرنا عند الاختلاف
بالرجوع إليها ، والاعتماد عليها ؛ كما قال تعالى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى
يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } (النساء : 65) .
أسال الله تعالى أن يجعلنا ممن قال فيهم : { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا
إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ .
وَمَن يُطَعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ } (النور : 51 - 52) .
دمشق /13 جمادى الآخرة سنة 1370 هـ