تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 4 من 4 الأولىالأولى 1234
النتائج 61 إلى 64 من 64

الموضوع: دروس في السيرة النبوية

  1. #61
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي

    الدرس السادس والأربعون
    غزوة تبوك
    في رجب من السنة التاسعة كانت غزوة تبوك.
    وتقع تبوك شمال الحجاز، وتبعد عن المدينة المنورة 778 كم حسب الطرق المعبدة في الوقت الحاضر، وكانت من ديار قُضاعة الخاضعة لسلطان الروم آنذاك.
    وقد عزم النبي ﷺ على غزو الروم لنشر دين الإِسلام في هذه البلاد التي هي من أقرب البلاد إلى أرض الحجاز، والتي تقع تحت السيطرة الرومية، ولتكون تلك هي المواجهة الثانية مع الروم بعد غزوة مؤتة التي لم تحقق جميع أهدافها المرجوَّة؛ فبرغم أنها أظهرت للعالم قدرة المسلمين الفائقة، حتى في مواجهة أعظم إمبراطورية في العالم حينها، وهي إمبراطورية الروم، إلَّا أنها لم تحقق الهدف الأسمى الذي ينشده المسلمون، ألا وهو إخضاع هذه الإمبراطورية وتلك الدول للإسلام والمسلمين، وبالتالي توسيع المجال أمام الدعوة الإِسلامية أن تُنْشَر بين ساكني تلك الدول، التي يمنع حكامها الظالمون المسلمين من نشر الدين الحق فيها.
    والذي جعل النبيَّ ﷺ يخرج في هذا الوقت بالذات، رغم ما كان بالمسلمين من شدة وعُسرة، هو وصول خبر إلى المدينة أنَّ أحد ملوك غسان تجهز لغزو المسلمين، مما جعل النبيَّ ﷺ يسارع في الخروج لملاقاتهم في بلادهم، قبل مباغتتهم المسلمين في بلادهم.
    فنادى منادي رسول الله ﷺ في الصحابة بالجهاد لغزو الروم، ولم تكن تلك عادة النبي ﷺ أن يُعْلم الصحابة بوجهته الحقيقة إنما كان ﷺ إذا أراد غزوة يغزوها وَرَّى بغيرها.
    عن كَعْبِ بن مَالِكٍ ﭬ قال: كَانَ رَسُولُ الله ﷺ قَلَّمَا يُرِيدُ غَزْوَةً يَغْزُوهَا إِلَّا وَرَّى [أي: أوهم] بِغَيْرِهَا، حَتَّى كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ، فَغَزَاهَا رَسُولُ الله ﷺ في حَرٍّ شَدِيدٍ، وَاستَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا، وَمَفَازًا [المفاز: الفلاة التي لا ماء فيها]، وَاسْتَقْبَلَ غَزْوَ عَدُوٍّ كَثِيرٍ، فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ؛ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ عَدُوِّهِمْ، وَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِي يُرِيدُ.
    وأمر النبي ﷺ أصحابه بالإنفاق لتجهيز جيش العُسْرة، فقَالَ النَّبِي ﷺ: «مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ العُسْرَةِ فَلَهُ الْجَنَّةُ»، فَجَهَّزَهُ عُثْمَانُ بن عفان ﭬ.
    وقد تبرع عُثْمَانُ رضي الله عنه من المال فقط بِأَلْفِ دِينَارٍ، فَجاء بها فنْثَرَهَا في حِجْرِ النبي ﷺ، فجعل النَّبِي ﷺ يُقَلِّبُهَا في حِجْرِهِ، وَيَقُولُ: «ما ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ، مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ».
    وأخذ المنافقون يثبطون المؤمنين عن الخروج والجهاد في سبيل الله وقالوا: ﴿وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ ﴾ [التوبة: 81].
    وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ﴾ [التوبة: 81].
    يُبلغهم الله تعالى أن نار جهنم التي سيصيرون إليها بسبب مخالفتهم أمره ﷺ أشدُّ حرًا مما فروا منه.
    وجاء المعذِّرون من الأعراب الذين يسكنون حول المدينة يشكون للنبي ﷺ ضعفهم وفقرهم وعدم استطاعتهم الخروج معه ﷺ، كما جاء المنافقون مبدين الأعذار الكاذبة والحجج الواهية مستأذنين النبي ﷺ في عدم الخروج.
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

  2. #62
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي

    وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 90].
    ثم بيَّن الله تعالى حال أصحاب الأعذار الحقيقية، وأنه لا سبيل عليهم، فقال تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 91].
    كما بيَّن الله عز وجل تقبله عُذْرَ الفقراء الذين جاءوا إلى النبي ﷺ ليحملهم معه في تلك الغزوة، فلم يجد النبيُّ ﷺ ما يحملهم عليه، فتولَّوا وهم يبكون من شدة حزنهم لعدم استطاعتهم الخروج، فقال تعالى: ﴿وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ﴾ [التوبة: 92].
    ثم قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَ كَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [التوبة: 93].
    وكان أكثر المنافقين الذين تخلَّفوا من الأعراب أهل البادية؛ ولذلك يقول الله تعالى: ﴿الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [التوبة: 97، 98].
    ثم بيَّن الله تعالى أنه ليس كلهم كذلك، بل منهم من هو مؤمن، فقال تعالى: ﴿وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 99].
    ثم أوضح الله تعالى أن بالمدينة منافقين أيضًا، فقال تعالى: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ﴾ [التوبة: 101].
    وعمومًا فقد أذن النبي ﷺ لكل من جاءه معتذرًا، فهو ﷺ لم يشُق عن قلوبهم ولا يعلم ما بداخلها.
    فعاتبه الله تعالى، فأنزل عليه: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾ [التوبة: 43].
    يقول الله تعالى لرسوله ﷺ: هلَّا تركتهم لمَّا استأذنوك، فلم تأذن لأحد منهم في القعود؛ لتعلم الصادق منهم في إظهار طاعتك من الكاذب؛ فإنهم إن كانوا مؤمنين حقًّا ثم وجدوك لم تأذن لهم في القعود لخرجوا معك ولو كان بهم شدَّة.
    وعلى أية حال فقد كان عدم خروجهم في مصلحة المؤمنين يقول الله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ [التوبة: 46، 47].
    وخرج النبي ﷺ متوجهًا إلى تبوك بجيش تعداده قرابة الثلاثين ألف مقاتل، معهم حوالي عشرة آلاف فرس، وخلَّف على المدينة عليَّ بن أبي طالب ﭬ، فَقَالَ عليٌّ للنبي ﷺ: أَتُخَلِّفُنِي في الصِّبْيَانِ وَالنِسَاءِ؟ قَالَ: «أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى؟ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ نَبِيٌّ بَعْدِي».
    وكان خَرَوجَ النبي ﷺ إلى هذه الغزوة يَومَ الْخَمِيسِ حيث كَانَ ﷺ يُحِبُّ أَنْ يَخْرُجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ في جميع أسفاره.
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

  3. #63
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي

    وفي الطريق أصاب المسلمين مجاعةٌ شديدة وعطشٌ، فعَنْ أبي هُرَيْرَةَ أَوْ أبي سَعِيدٍ (شَكَّ الْأَعْمَشُ) قَالَ: لَمَّا كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ أَصَابَ النَّاسَ مَجَاعَةٌ، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله لَوْ أَذِنْتَ لَنَا فَنَحَرْنَا نَوَاضِحَنَا، فَأَكَلْنَا وَادَّهَنَّا، فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: «افْعَلُوا»، قَالَ فَجَاءَ عُمَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله إِنْ فَعَلْتَ قَلَّ الظَّهْرُ، وَلَكِنِ ادْعُهُمْ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ ثُمَّ ادْعُ الله لَهُمْ عَلَيْهَا بِالْبَرَكَةِ لَعَلَّ الله أَنْ يَجْعَلَ في ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: «نَعَمْ»، فَدَعَا بنطَعٍ فَبَسَطَهُ ثُمَّ دَعَا بِفَضْلِ أَزْوَادِهِم، قَالَ: فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِكَفِّ ذُرَةٍ، وَيَجِيءُ الْآخَرُ بِكَفِّ تَمْرٍ، وَيَجِيءُ الْآخَرُ بِكَسْرَةٍ، حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَى النِّطَعِ مِنْ ذَلِكَ شَيءٌ يَسِيرٌ، فَدَعَا رَسُولُ الله ﷺ عَلَيْهِ بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ قَالَ: «خُذُوا في أَوْعِيَتِكُمْ»، قَالَ: فَأَخَذُوا في أَوْعِيَتِهِمْ حَتَّى مَا تَرَكُوا في الْعَسْكَرِ وِعَاءً إِلَّا مَلَئُوهُ، قَالَ: فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا وَفَضَلَتْ فَضْلَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَأَنِّي رَسُولُ الله، لَا يَلْقَى الله بِهِمَا عبد غَيْرَ شَاكٍّ فَيُحْجَبَ عَنْ الْجَنَّةِ».
    وعن عمر بن الخطاب ﭬ، قال: خرجنا إلى تبوك في قَيظ شديد، فنزلنا منزلًا وأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إنْ كان أحدنا ليذهب فيلتمس الرحل فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، حتى إنَّ الرجل لينحر بعيره فيعتصر فرْثَه [الفرث: ما في الكرش] فيشربه، ثم يجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله إن الله قد عودك في الدعاء خيرًا، فادع الله لنا، فقال: «أتحب ذلك؟» قال: نعم، قال: فرفع يديه نحو السماء، فلم يرجعها حتى قالت السماء فأظلت ثم سكبت، فملئوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر([1]).
    فقال الصحابة لأحد المنافقين ممن كان معهم: وَيْحَك؛ هَلْ بَعْدَ هَذَا شَيءٌ؟! قَالَ: سَحَابَةٌ مَارَّةٌ.
    وفي الطريق فُقدت ناقة النبي ﷺ، فقال أحد المنافقين - واسمه زيد بن اللُّصيت - وكان في رَحْل صحابي اسمه عُمارة بن حزم: أليس محمَّد يزعم أنه نبي، ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته؟ فقال رسول الله ﷺ وعُمارة عنده: «إنَّ رَجُلًا قَالَ: هَذَا مُحَمَّدٌ يُخْبِرُكُمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ يُخْبِرُكُمْ بِأَمْرِ السَّمَاءِ وَهُوَ لَا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ، وَإِنِّي وَاَللَّهِ مَا أَعْلَمُ إلَّا مَا عَلَّمَنِي اللَّهُ وَقَدْ دَلَّنِي اللَّهُ عَلَيْهَا، وَهِيَ فِي هَذَا الْوَادِي، فِي شِعْبِ كَذَا وَكَذَا، قَدْ حَبَسَتْهَا شَجَرَةٌ بِزِمَامِهَا، فَانْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُونِي بِهَا»، فذهبوا فجاءوا بها، فرجع عمارة بن حزم إلى رحله، فقال: والله لعجبٌ من شيء حدثناه رسول الله ﷺ آنفًا، عن مقالة قائل أخبره الله عنه بكذا وكذا - للذي قال زيد بن اللُّصيت - فقال رجل ممن كان في رحل عُمارة ولم يحضر رسول الله ﷺ: زَيْدٌ والله قال هذه المقالة قبل أن تأتي، فأقبل عمارة على زيد يجأ في عنقه، ويقول: إليَّ عباد الله، إن في رحلي لداهية وما أشعر، اخرج أي عدو الله من رحلي، فلا تصحبني.
    وقد مرَّ جيش المسلمين وهو في طريقه إلى تبوك ببئر ثمود، فنهاهم النبي ﷺ أن يشربوا أو يتوضئوا منه مائها.
    فَعَنْ عبد اللهْ بن عُمَرَ ﭭ أَنَّ رَسُولَ الله ﷺ لَمَّا نَزَلَ الْحِجْرَ في غَزْوَةِ تَبُوكَ أَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَشْرَبُوا مِنْ بِئْرِهَا وَلَا يَسْتَقوا مِنْهَا، فَقَالُوا: قَدْ عَجَنَّا مِنْهَا وَاسْتَقَيْنَا؟ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَطْرَحُوا ذَلِكَ الْعَجِينَ وَيُهَرِيقُوا ذَلِكَ الْمَاءَ.
    وفي لفظ أن رَسُولَ الله ﷺ أمرهم أن يُهَرِيقُوا مَا اسْتَقَوْا مِنْ بِئْرِهَا، وَأَنْ يَعْلِفُوا الْإِبِلَ الْعَجِينَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَقُوا مِنْ الْبِئْرِ الَّتِي كَانَتْ تَرِدُهَا النَاقَةُ.
    وعنه أيضًا ﭬ أَنَّ النَّبِي ﷺ لَمَّا مَرَّ بِالْحِجْرِ([2])، قَالَ: «لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ؛ أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ»، ثُمَّ تَقَنَّعَ رسول الله ﷺ بِرِدَائِهِ وَهُوَ عَلَى الرَّحْلِ.
    ومضى رسول الله ﷺ، فجعل يتخلف عنه الرجل، فيقولون: تخلف فلان، فيقول: «دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك، فقد أراحكم الله منه».
    وتلوَّم على أبي ذر بعيرُه، فلما أبطأ عليه، أخذ متاعه فجعله على ظهره، ثم خرج يتبع أثر رسول الله ﷺ ماشيًا، ونزل رسول الله ﷺ في بعض منازله، فنظر ناظر من المسلمين، فقال: يا رسول الله, إن هذا الرجل ماش على الطريق، وحده، فقال رسول الله ﷺ: «كُنْ أَبَا ذَرٍّ»، فلما تأمله القوم، قالوا: يا رسول الله هو والله أبو ذر، فقال رسول الله ﷺ: «رَحِمَ اللهُ أَبَا ذَرٍّ يَمْشِي وَحْدَهُ، وَيَمُوتُ وَحْدَهُ، وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ».
    وكان أبو خَيْثَمَةَ ﭬ رَجَعَ بَعْدَ أَن سَارَ رَسُولُ الله ﷺ أَيّامًا إلَى أَهْلِهِ في يَوْمٍ حَارٍّ، فَوَجَدَ امْرَأَتَيْنِ لَهُ في عَرِيشَيْنِ لَهُمَا في حَائِطِهِ، قَدْ رَشَّتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَرِيشَهَا، وَبَرَّدَتْ لَهُ فِيهِ مَاءً، وَهَيَّأَتْ لَهُ فِيهِ طَعَامًا، فَلَمَّا دَخَلَ قَامَ عَلَى بَابِ الْعَرِيشِ، فَنَظَرَ إلَى امْرَأَتَيْهِ وَمَا صَنَعَتَا لَهُ، فَقَالَ: رَسُولُ الله ﷺ في الضَّحِّ وَالرِّيحِ وَالْحَرِّ، وَأبو خَيْثَمَةَ في ظِلٍّ بَارِدٍ، وَطَعَامٍ مُهَيَّأ، وَامْرَأَةٍ حَسْنَاءَ، في مَالِهِ مُقِيمٌ، مَا هَذَا بِالنَّصَفِ، ثُمَّ قَالَ: وَاَللهِ لَا أَدْخُلُ عَرِيشَ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا حَتَّى أَلْحَقَ بِرَسُولِ الله ﷺ، فَهَيِّئا لِي زَادًا، فَفَعَلَتَا، ثُمَّ قَدَّمَ نَاضِحَهُ فَارْتَحَلَهُ، ثُمَّ خَرَجَ في طَلَبِ رَسُولِ الله ﷺ حَتَّى أَدْرَكَهُ حِينَ نَزَلَ تَبُوكَ، وَقَدْ كَانَ أَدْرَكَ أَبَا خَيثَمَةَ عُمَير بن وَهْبٍ الْجُمَحِي في الطّرِيقِ، يَطْلُبُ رَسُولَ الله ﷺ، فَتَرَافَقَا، حَتَّى إذَا دَنَوَا مِنْ تَبُوكَ، قَالَ أبو خَيْثَمَةَ لِعُمَيْرِ بن وَهْبٍ: إنَّ لي ذَنْبًا، فَلَا عَلَيْك أَنْ تَخَلَّفَ عَنِّي حَتَّى آتِيَ رَسُولَ الله ﷺ، فَفَعَلَ حَتَّى إذا دَنَا مِنْ رَسُولِ الله ﷺ وَهُوَ نَازِلٌ بِتَبُوكَ، قَالَ النّاسُ: هَذَا رَاكِبٌ عَلَى الطَّرِيقِ مُقْبِلٌ، فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: «كُنْ أَبَا خَيثَمَةَ»، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله هُوَ وَاَللهِ أبو خَيْثمَةَ، فَلَمَّا أَنَاخَ أَقْبَلَ فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ الله ﷺ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله ﷺ: «أَوْلَى لَكَ يَا أَبَا خَيثَمَة»([3])، ثُمَّ أَخْبَرَ رَسُولَ الله ﷺ الْخَبَرَ؛ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله ﷺ خَيرًا، وَدَعَا لَهُ بِخَيرٍ.
    ولما وصلوا إلى تبوك حدث أيضًا ما يرويه مُعَاذ بن جَبَلٍ ﭬ أن النبي ﷺ كَانَ يَجْمَعُ الصَّلَاةَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمًا أَخَّرَ الصَّلَاةَ، ثُمَّ خَرَجَ، فَصلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، ثُمَّ دَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا، ثُمَّ قَالَ: «إِنكُمْ سَتَاْتُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ الله عَيْنَ تَبُوكَ، وَإِنكم لَنْ تَأْتُوهَا حَتَّى يُضْحِيَ النَّهَارُ، فَمَنْ جَاءَهَا مِنْكُمْ فَلَا يَمَسَّ مِنْ مَائِهَا شَيْئًا حَتَّى آتِيَ»، فَجِئْنَاهَا وَقَدْ سَبَقَنَا إِلَيْهَا رَجُلَانِ، وَالْعَيْنُ مِثْلُ الشِّرَاكِ تَبِضُّ بِشَئءٍ مِنْ مَاءٍ، قَالَ: فَسَأَلَهُمَا رَسُولُ الله ﷺ: «هَلْ مَسَسْتُمَا مِنْ مَائِهَا شَيئًا؟»، قَالَا: نَعَمْ، فَسَبَّهُمَا النَّبِي ﷺ، وَقَالَ لَهُمَا مَا شَاءَ الله أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ غَرَفُوا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْعَيْنِ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى اجْتَمَعَ في شَيء، وَغَسَلَ رَسُولُ الله ﷺ فِيهِ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِيهَا، فَجَرَتْ الْعَيْنُ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ -أَوْ قَالَ: غَزِيرٍ- حَتَّى اسْتَقَى النَّاسُ، ثُمَّ قَالَ ﷺ: «يُوشِكُ يَا مُعَاذُ إِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ أَنْ تَرَى مَا هَا هُنَا قَدْ مُلِئَ جِنَانًا».
    وأَقَامَ النَّبِيُّ ﷺ بِتَبُوكَ عِشْرِينَ يَوْمًا، فلم يَلْقَ كَيْدًا؛ حيث خافه ملكُ بني الأصفر والقبائل العربية المتنصِّرة، فلم يحضروا.
    فقفل النبي ﷺ بجيشه راجعًا إلى المدينة، بعد ما عرف الجميعُ قوة الجيش الإسلامي، وكانوا يظنون أنها ستضعف بعد مؤتة، فوجودوها قد ازدادت قوة وصلابة، حتى إنهم قد خافوا الخروج إليهم.
    وفي مرَجَع النبي ﷺ مِنْ تَبُوكَ، وحين دَنَا مِنْ الْمَدِينَةِ، قال ﷺ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا، مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: «وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ».
    وفي مرجعه ﷺ من تبوك هَمَّ نفر من المنافقين، بالفتك به ﷺ، فأطلعه الله على ما قصدوه، ففشلت خُطَّتُهم.

    عَنْ أبي الطُّفَيلِ قَالَ: لَمَّا أَقْبَلَ رَسُولُ الله ﷺ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: إِنَّ رَسُولَ الله ﷺ أَخَذَ الْعَقَبَةَ فَلَا يَأْخُذْها أَحَدٌ، فَبَيْنَمَا رَسُولُ الله ﷺ يَقُودُهُ حُذَيْفَةُ، وَيَسُوقُ بِهِ عَمَّارٌ إِذْ أَقبَلَ رَهْطٌ مُتَلَثِّمُونَ عَلَى الرَّوَاحِلِ غَشَوْا عَمَّارًا وَهُوَ يَسُوقُ بِرَسُولِ الله ﷺ وَأَقْبَلَ عَمَّارٌ يَضْرِب وُجُوهَ الرَّوَاحِلِ، فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ لِحُذَيْفَةَ: «قَدْ قَدْ»([4]) حَتَّى هَبَطَ رَسُولُ الله ﷺ، فَلَمَّا هَبَطَ رَسُولُ الله ﷺ نَزَلَ وَرَجَعَ عَمَّارٌ فَقَالَ ﷺ: «يَا عَمَّارٌ هَلْ عَرَفْتَ الْقَوْمَ؟» فَقَالَ: قَدْ عَرَفْتُ عَامَّةَ الرَّوَاحِلِ، والْقَوْمُ مُتَلَثِّمُونَ، قَالَ: «هَلْ تَدْرِي مَا أَرَادُوا؟» قَالَ: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «أَرَادُوا أَنْ يَنْفِرُوا بِرسولِ الله فَيَطْرَحُوهُ».


    ([1])أخرجه البيهقي في «الدلائل» (5/ 231)، قال ابن كثير في «البداية والنهاية» (5/ 74): إسناده جيد.

    ([2])الحجر: موضع ديار قوم ثمود.

    ([3])أولى لك: كلمة فيها معنى التهديد، معناها: دنوت من الهلكة.

    ([4])(قَدْ قَدْ): بِمَعْنَى حَسْب، وَتَكْرَارُهَا لِتأكيد الأمْر.
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

  4. #64
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي

    وفي مرجعه ﷺ أيضًا من تبوك أمر بتحريق مسجد الضِّرار، فأُحْرِق.
    حيث أقبل رسول الله ﷺ حتى نزل بمكان اسمه «ذو أوان» بينه وبين المدينة ساعة من نهار، وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله، إنا قد بنينا مسجدًا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تاتينا، فتصلي لنا فيه؛ فقال ﷺ: «إني على جَنَاحِ سَفَرٍ، وحال شغل، ولو قد قدمنا إن شاء الله لأتيناكم، فصلينا لكم فيه».
    فلما نزل ﷺ بـ«ذي أوان» أتاه خبر المسجد، فدعا رسول الله ﷺ مالك بن الدُّخْشُم، أخا بني سالم بن عوف ومعن بن عدي، وأخاه عاصم بن عدي، أخا بني العجلان، فقال: «انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدماه وحرقاه»، فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف - وهم رهط مالك بن الدُّخْشَم - فقال مالك لمعن: أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي، فدخل إلى أهله، فأخذ سعفًا من النخل، فأشعل فيه نارًا، ثم خرجا يشتدَّان حتى دخلاه وفيه أهله، فحرَّقاه وهدماه، وتفرقوا عنه، ونزل فيهم من القرآن ما نزل: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِين َ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 107 - 110].
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •