مدارس الغواية (1)

تصدر الغرور بالنفس

الحمدُ لله الذي لولاه ما جرى قلمٌ ولا تكلَّم لسان، والصلاة والسلام على خير الأنام؛ محمد صلى الله عليه وآله الصحب الكرام، ثم أما بعد:فعندما ترتفع أنماط الذكريات، وتتعالى على ذكرها الصيحاتُ، ترضخ النفوس لهذه الآفات التي ألمَّت بالشعوب الباهتة. فمَن أخذه الزمن وطواه على صفحاتِه، فلا عبرةَ له من الدنيا مهما قلَّت زلَّاته، أو كَثُرت هفواتُه، فالأمر سِيَّان، لا نتاجَ له من عمره الذي قضاه فيه، هي تحلُّلات مائعةٌ أخذَتْ منها السنون ما أخذَتْ، وأبعدَتْه عن حاضرِه الذي يعيش فيه كلَّ البعد. تعاقبَتِ الأيامُ وسائر الشهور والدُّهور، وتوالت عليها نفسُ القصصِ تُحكى ويُعاد سردها على نفس ما كان سالفها (وليس سلفها)؛ فلا أعني هذا الأخير الذي هو خير. قصص تربَّت عليها الأجيال، وأفرطوا بالتغنِّي بها سنين مديدة، هذه الآفةُ هي: الغرور بالنفس، وتصدُّر المجالس بغير وجهِ حقٍّ، وأَخْذ مناصبَ ليس لهم باعٌ فيها ولا خبرة، همُّهم الوحيد حبُّ الذات من غير كلل ولا ملل، والتسلُّط على الغير في كل الأحوال! جرت عليهم العادةُ أن كثرةَ العدد هي السلطانُ الذي يحكم هذا الزمان، فلقد تجمَّعوا وتجمهروا على موائدِ الضالِّين، وكلُّ هذا وذاك حالَ دون تحقيق غايات سامية، تهدفُ إلى الأمل المنشود؛ وهو إحقاقُ الحق، وإحباطُ وإبطال كلِّ ما هو باطلٌ مهما كان نوعُه وجنسه الذي يميل إليه. جاء في كتاب رب العالمين:﴿ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ [العنكبوت: 13]؛ لذا كان الغرضُ منها بناءَ دكتاتورية لها نفوذ خفيٌّ تسري في الدماء لا وجود لها على أرض الواقع. وأيُّ واقع مليم هذا الذي هو في مملكةٍ حجمُها لا يسع رقعة من أرض الدنيا وسمائها وخزائنها؟فعلًا لقد تصدَّر هؤلاء الأفق، ولم يبلغوا الآفاق!الناس يجمعون طائلةَ الأعوام، وهم يجمعون طالعةَ الأوهام من حطام هذه الفانية، ولم ينالوا حتى الشَّتات والفتات!وقفوا على الأبواب يطرقونها لأخْذِ قسطٍ منها، فلا يستجيبُ لهم أحدٌ.عاد الطارق خالي الوِفاض.لقد حملوا ذنوبًا فوق ذنوبهم، وجاروا على الخلق، في صورة أنكس، ووجه أبلس، وعقل أوجس! قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ﴾ [النمل: 88]. عن أبي أميَّة الشعباني قال: أتيتُ أبا ثعلبةَ الخشني قال: قلتُ: كيف تصنعُ في هذه الآية؟ قال: أيَّةُ آيةٍ؟ قلت: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ [المائدة: 105]، قال: سألت عنها خبيرًا، سألتُ عنها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((بل ائتمروا بالمعروفِ، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحًّا مطاعًا، وهوًى متَّبعًا، ودنيا مؤثرة، وإعجابَ كلِّ ذي رأي برأيه، ورأيت أمرًا لا يَدانِ لك به، فعليك خُوَيْصَّة نفسك، فإن من ورائكم أيامَ الصبر، الصبرُ فيهن على مثل قبضٍ على الجمرِ، للعامل فيهنَّ مثلُ أجر خمسين رجلًا يعملون بمثل عمله))[1]. قال أحد الشعراء:
لم يبقَ في الناس إلا المكرُ والملقُ
شوكٌ إذا لمسوا، زهرٌ إذا رَمَقُوا

فإن دعَتْك ضروراتٌ لعِشْرتِهم
فكن جحيمًا لعلَّ الشوكَ يَحترقُ
خذ من هذا أيها المسلم، ولا تأخُذْ من ذاك.لقد راعى الإسلامُ حقوقَ البشر في الدنيا إحكامًا، ورسمها في دستوره أحكامًا؛ هي دسترة لا تبديل فيها ولا تغيير، يَعِظُ الله في بيِّناته من شاء بيُسرٍ منه وفضل، ويأخذُهم في واسع رحمته دون إهمالٍ. ويتركُ باقيهم للحظات ليس للعمرِ بقيَّة فيها، ولا خلاص منها، بل ويأخذُهم دون إمهال، جاء في قوله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ﴾ [المؤمنون: 99، 100]. عندما نفتحُ صفحاتِ الغابرين الذين طمرت وجوههم، وسعرت في وادٍ سحيق الويلات، حيث لا ينفع الندمُ والبكاء على ما فات. جرى عليهم القلمُ آلافَ السنين حتى وَهَن وخفت.لقد تصدَّر فرعون زمانه إحدى صفحاتها، وغرَّه طول الأمل بالبقاء على ظهر هذه الأرض، ودوَّن اسمَه على أحرف من الذهب النيء، حيث خاب سعيُه السيئ، وحيث الحضارة الفرعونية شاهدةٌ على تشييده لها يومًا ما! ففَنِيَ هو، ولم يفنَ الذهبُ، ولم يَزَل إلى يومنا هذا، ثم تَبِعه بعد ذلك أقوام وأقوام؛ هامان وقارون... إلخ، وما زال الأغرارُ يتصدَّرون الأمم بقُبْح فِعالهم و سوءاتها. وإذا أَمَطنا لِثام اللئام عن هذه الفئام، وسُئِلوا بعد أن جاء وقت الحصاد:ماذا جنيتم من تلك الدور والأصنام التي نقشتموها على الأحجار، والتي شيدتموها بأيديكم، فلقد ارتفع صَرْحُكم وما ارتفعتم؟!أين هي حسناتكم؟وأين هو نباتكم وإرثكم؟ألم تخلِّفوه وراء ظهوركم؟ لقد نادى ربُّ العزة والجبروت جل جلاله هؤلاء الأقوام، حيث قال تعالى: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ﴾ [القصص: 58]. إن هذا الداء العضال الذي استعصى على شوكة الأمم لم يجدوا له حلًّا مقبولًا إلا قلعَ ضراسِ الرأس، أو كما قال شعراء الأمس. وأنفع وسيلة له هو استئصالُ هذه الفئة التي تُصدِّر غرورَها من الآذان حتى أسافلِ الأقدام؛ فقد استشرى عمودُه، وطال أمده، وتجذَّرت عروقه ظاهرًا وباطنًا. أو ربما الجينات الهرمونية لها دورٌ كبير في تناقلِ هذا العنصر الجِيني عبْرَ الأجيالِ، حيث وَرِثَتْه كابرًا عن كابر، فلا ينصحُ بتعقُّبه مهما كان لون بَشَرِه؛ لأن له أثرًا سخيفًا لا يحمد عُقباه. والأفضلُ تركُ الفطرةِ لكي تنضجَ بذور القلوبِ وتصلحها، وترعى رجاحة العقول وتغرس فيها روح العصر الطيِّب النقي التقي الوفي برجاله المتمسِّكين بسُنَّته الغرَّاء في زلف الليل وواضحة النهار. ففي الحديث: ((ما من عثرة، ولا اختلاجِ عرق، ولا خدشِ عودٍ، إلا بما قدَّمت أيديكم، وما يغفر الله أكثر))[2].خذوا العبرة ممن اعتبرَ، لا من رآها ولم يزدجِر ولم يأتمر.

[1] ابن ماجه، الترمذي، أبو داود.
[2] أخرجه ابن عساكر عن البراء.





وهنا لمن أراد تصفحه وتحميله

رابط الموضوع: http://www.alukah.net/culture/0/104327/#ixzz4BsluC1fa