التأليف لا الهجران
للشيخ بن حنفية العابدين

شيوع المقاطعة والهجران في أوساط بعض فئات الشباب الذي يرتاد المساجد لا يخفى , والعجب أن بعضهم إنما يهجر من يحافظ على الصلوات في المساجد , أمّا غيرهم ممن لايصلي أصلاً فهذا خير من هذا عنده , حتى إذا هداه الله سلطت عليه الأضواء فكان أول ما يتلقاه : إيّاك وفلاناً , ولا تسمع لفلان , ولا تكلم فلاناً , فيكون أول ما يعلم دعوته إلى كراهية الناس وبغضهم حتى يستقيم ولاؤه , وكثيراً ما يكون المنطلق في الهجران خلاف في أمر فرعي عملي , من العسير إنهاء الخلاف فيه , لكن هؤلاء يريدون أن ينتهي الخلاف بفتوى عالم سمعوها , وفتوى العالم في بعض الحالات قد تكون غير ملزمة , وإنما يتبعها من اقتنع بها , وإلاّ لا نتقلنا من تقليد وتعصب نحاربه إلى تعصب أنكى واخطر , فإذا لم تتبع فتوى عالم رآها صاحبك هجرك , وهو لا يتوسط في هجرانك بحيث يكف لسانه عنك , ويرعى فيك ذمّة الإسلام , وأخوة الإيمان , فيلقي عليك السلام أو يرده , بل ينقلب بين عشية وضحاها من صديق إلى عدو , أو من تلميذ لا زمك سنوات إلى مناوئ لا يلقاك , ورحم الله الشافعي , فقد ناظره يونس الصدفي يوماً في مسألة ثم افترقا , فلما لقيه أخذ بيده ثم قال : ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة " (سيرأعلام النبلاء :10/16).
وهذا الهجران كما هو معلوم , وإن صدر ممن يستساغ منه , لا نزجار المهجور به , كالشيخ لتلميذه , والاب لابنه , والزوج لزوجته , وذي المكانة الشرعية والاجتماعية لغيره , فإنه ينبغي أن يكون بعد الاتصال بالمذكورين لمعرفتهم عن كثب , والاطلاع على أحوالهم , وتقديم النصح لهم , والتفريق بين من شأنه المجاهرة والإصرار ,ممن دأب على المخافتة والإسرار , أما الواقع فإنه كثيراً ما يحصل ذلك بناء على النقل ممن لا يحسنونه , أو يفسدونه جهلاً , أو عمداً وقصداً , ثم يذكر لبعض أهل العلم , أو لمن ليسوا علماء , ممن وجد فيه بعض هؤلاء ضالتهم , فيصدرون لهم فتاويهم من بعيد في تجريح الناس وشتمهم , وقد يسجل كلام بعض الناس في غفلة منهم , ثم يرفع سيفاً مصلتا , والهفوات لا ينجو منها إلا القليل , وما على المحسنين من سبيل :
إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى // ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه
فعش واحدا أو صل أخاك فإنه // مقارف ذنب مرة ومجانبه
ولست بمستبق أخاً لا تلمه // على شعث , أي الرجال المهذب ؟
هذه آراء الشعراء , أما الأحكام الشرعية فلها أدلتها , والذي أعلمه أن الأصل في المؤمن أن لا يقاطع , والهجر إنما هو كالترخيص , وهو في الأصل مما يجوز , لا مما يجب , وإن كان قد يجب , ومن تراجم البخاري رحمه الله قوله :( باب ما يجوز من الهجران لمن عصى ) , كما أن المسلم لا يكره كراهة مطلقة , بل بمقدار ما معه من الخير , ويكره بمقدار ما هو عليه من الشر , , ,
ومن هنا فإن مسألة الهجران هذه من المسائل التي تختلف فيها الأنظار , لأنها من جملة ما يختلف حكمه بحسب الزمان والمكان والأحوال والأشخاص ,فهجران المسلم أخاه منوط بالمصلحة الدينية التي تعود على المهجور أو الهاجر , أو غيرهما , وبعض هذه الأقسام داخلة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .