رحماكم.. معاشر الخطباء!
أحمد فال بن الدين- صحيفة العرب القطرية 29/4/1429 هـ
من عادتي كلما حططتُ رحلي في مدينة جديدة أن أتفقد بعض الأماكن الضرورية التي لا أستغني عنها. لكن أهم تلك الأماكن التي أبحث عنها بتؤدة واهتمام مسجد يتمتع بخطيب جمعة يمكن الاستماع إليه دون أن يضيف إلى قلبي أوزارا مثل أوزاره. خطيب جمعة يملأ القلب إيمانا ويحيي الأشواق الربانية في قلبي كلما وجهت وجهي شطر مسجده غداة الجمعة. وعندما وصلت الدوحة قبل أشهر، كان العثور على ذلك الخطيب من أصعب المهام التي واجهتني كالعادة.
قمت باستشارة أحد الأصدقاء النابهين الذين قَتلوا الدوحة جيئة وذهابا («وما يقتل الأرضين إلا خبيرها») قلت لصديقي: «دلني -بربك- على خطيب جمعة يهز القلب ويحرك كوامن النفس، فأنا رجل مبتلى بسوء الطالع في اختيار الخطباء». رد زميلي بالقول: «لقد سألت عن عظيم، ولقد عانيت قبلك الأمرين، وأحسبك تبحث عن «بيض الأنوق» -كما تقول العرب- لكني سأدلك على خطيب رائع لأن خطبته لا تتجاوز 10 دقائق. بعدها تجد نفسك حرا طليقا في هذه الشوارع الفسيحة».
وبدأت عميلة التنقل بين المساجد بحثا عن خطيب يملأ علي فراغ 30 دقيقة يجب أن أقضيها منصتا مصغيا (من حرك الحصى فقد لغا ومن لغا فلا جمعة له).
المحاولة الأولى كانت مع خطيب متوسط الحال، لا هو ممن يعذبونك ويجلدونك بالسياط الحامية، ولا هو ممن يحلّق بك إلى ملكوت الله فيملأ قلبك روحا ورحمة. وتجاوزته في الجمعة التي تليها باحثا عن الأفضل. كان صاحبنا الثاني من ذلك النوع الذي يخيل إليك أنه يتحدّى قدرتك على اليقظة! يتكلم بصوت خافت نحيل، يكاد يتناغم مع صوت المكيف مما يجعلك تُسلم الروحَ إلى باريها في نوم عميق لا يقطعه إلا صيحة الجالس جنبك «آمين»... وقد بدأ الدعاء عند نهاية الخطبة.
إن الجمعة فرصة نادرة لتنوير العقول والقلوب، لكنها مهدرة في معظم البلاد الإسلامية نتيجة غياب التكوين اللازم للأئمة والخطباء.
تخيلوا أن مسجدا يؤمه ألفا شخص يوم الجمعة، وأن أحد هؤلاء الخطباء الذين ليس لديهم ما يقدمونه اعتلى المنبر وأضاع 30 دقيقة في الحديث أمام هذا الجمع!!
النتيجة هي أن 1000 ساعة ضاعت من أعمار أمة محمد (صلى الله عليه وسلم) رغم أنها كانت فرصة نادرة لاستثمارها بما يعود على الأمة بالخير الكثير.
أذكر أنني حضرت خطبة في مسجد بالعاصمة نواكشوط، وفي نهاية الخطبة بدأ الرجل يدعو الله لأحمد بن طولون أمير مصر! وقد حدثني أحد أصدقائي أنه حضر خطبة إمام يحذر الناس من أن هولاكو أغار على بلاد ما وراء النهرين.
لماذا لا نعود إلى مساجدنا ونعتني بإعداد أئمتنا حتى نتنهز فرصة خطبة الجمعة لتحريك قدرات الشباب وإعادة الأمة إلى جادة الطريق.
إن العقلية المادية التي انتشرت في العالم الإسلامي وحتمت على الطلاب الأذكياء التوجه للتخصصات العملية بدل العلوم الإنسانية، جنت أيما جناية على الدراسات الإسلامية. وهذا ما نحسه في كثير ممن يتصدرون للعمل كخطباء.
لقد أرّقني موضوع الخطبة منذ سنوات، وأشكر للشيخ سلمان بن فهد العودة حديثه عنه أمس الأول، فهو موضوع حساس وهام، وكثيرا ما يتجاهله المتحدثون خوفا من تبعات الحديث عنه.
وأنهي حديثي بطلب أوجهه لكل إمام: رجاء، إذا لم تكن قد حضَّرت جيدا للخطبة فامننْ على المساكين الجالسين أمامك بخطبة لا تتجاوز ثلاث دقائق، يرحمْك الله.