الشُبَهُ حَوْلَ المَذْهَبِ الحَنْبَلي، والرَّدُّ عَلَيْهَا

مَا يَخْلُو مَذْهَبٌ مِنَ المَذَاهِبِ الفِقْهِيَّةِ مِنِ انْتِقَادَاتٍ وشُبُهَاتٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ شُبَهًا مَقْبَوْلَةً أو مَغْلَوْطَةً، لأجْلِ هَذَا فَقَدْ نَالَ «المَذْهَبَ الحَنْبَليَّ» شَيءٌ مِنْ ذِي الشُّبَهِ الَّتِي قِيْلَتْ حَوْلَهُ إلَّا أنَّها ـ وللهِ الحَمْدِ ـ قَلِيْلَةٌ بالنِّسْبَةِ لغَيْرِهِ مِنَ المَذَاهِبِ الأُخْرَى.
فهُنَاكَ شُبْهَتَانِ طَالَمَا دَنْدَنَ حَوْلَهَا بَعْضُ مَنْ لم يَنَالُوا نَصِيْبًا كَبِيْرًا مِنَ العِلْمِ، ورُبَّما لم يُحِيْطُوا بحَقِيْقَةِ أمْرِهَا، فعِنْدَهَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِمُ الأمْرُ فَوَقَعُوا في القِيْلِ والقَالِ مِمَّا كَانَ «المَذْهَبُ الحَنْبَليُّ» مِنْهُ بَرِئٌ!
فدُوْنَكَ هَاتَيْنِ الشُّبْهَتَيْنِ ، والرَّدَّ عَلَيْهِما باخْتِصَارٍ، كَمَا يَلي:
الشُّبْهَةُ الأُوْلى: أنَّ الإمَامَ أحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ مُحَدِّثٌ غَيْرُ فَقِيْهٍ!
الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: أنَّ الحَنَابِلَةَ قَلِيْلُو الأتْبَاعِ!
* * *
أمَّا الشُّبْهَةُ الأولى: وهِيَ دَعْوَى أنَّ الإمَامَ أحْمَدَ مُحَدِّثٌ غَيْرُ فَقِيْهٍ.
لَقَدَ جَنَحَ الإمَامُ مُحَمَّدُ بنُ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ، المُتَوَفَّى سَنَةَ (310) إلى كَوْنِ الإمَامِ أحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ مُحَدِّثًا غَيْرَ فَقِيْهٍ.
لِذَا لم يَعْتَبِرْ ابنُ جَرِيْرٍ «المَذْهَبَ الحَنْبَليَّ» في الخِلافِيَّاتِ الفِقْهِيَّةِ، ولم يَذْكُرْهُ في كِتَابِهِ «اخْتِلافِ الفُقَهَاء»، وكَانَ يَقُوْلُ: «إنَّمَا هُوَ رَجَلُ حَدِيْثٍ، لا رَجُلُ فِقْهٍ»، وامْتُحِنَ لذَلِكَ!
وقَدْ أهْمَلَ مَذْهَبَهُ أيْضًا آخَرُوْنَ مِمَّنْ صَنَّفُوا في الخِلافِيَّاتِ: كالطَّحَاوِي، والدَّبُوسِي، والنَّسَفِي في «مَنْظُوْمَتِهِ »، والعَلاءِ السَّمْرَقَنْدِ ي، والفَرَاهي الحَنَفِيِّ في مَنْظُوْمَتِهِ «ذَاتِ العِقْدَيْنِ»، وهَؤلاءِ كُلُّهُم أحْنَافٌ!
وكذَلِكَ لم يَذْكُرْهُ أبو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللهِ بنُ إبْرَاهِيْمَ الأُصَيْلي المَالِكيُّ في كِتَابِهِ «الدَّلائِلِ»، وأبو حَامِدٍ الغَزَاليُّ في «الوَجِيْزِ».
ولم يَذْكُرْهُ أيْضًا ابنُ قُتَيْبَةَ في «المَعَارِفِ»، وذَكَرَهُ المَقْدِسِيُّ في«أحْسَنِ التَّقَاسِيْمِ» في أصْحَابِ الحَدِيْثِ فَقَط، مَعَ ذِكْرِهِ: دَاوُدَ الظَّاهِريَّ في الفُقَهَاءِ، كَمَا لم يَذْكُرْهُ ابنُ عَبْدِ البَرِّ في كِتَابِهِ «الانْتِقَاءِ»!
ودَعْوَى أنَّ الإمَامَ أحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ مُحَدِّثٌ ولَيْسَ فَقِيْهًا أثَارَتْ كَلامًا حَوْلَ فِقْهِ الإمَامِ أحْمَدَ ومَذْهَبِهِ، مِمَّا جَعَلَ بَعْضَ العُلَمَاءِ يَضَعُهُ دُوْنَ الإمَامَةِ في الفِقْهِ، ولا يَذْكُرُ مَذْهَبَهُ ورَأيَهُ ضِمْنَ مَذَاهِبِ الفُقَهَاءِ.
وقَدْ نُقِلَ عَنِ القَاضِي عِيَاضٍ أنَّهُ قَالَ في «المَدَارِكِ» (1/86) عَنِ الإمَامِ أحْمَدَ: «إنَّهُ دُوْنَ الإمَامَةِ في الفِقْهِ وجَوْدَةِ النَّظَرِ في مَأخَذِهِ»!
ومَعَ هَذَا؛ فَقَدِ اعْتَبَرَ كَثِيْرٌ مِنْ أهْلِ العِلْمِ المُتَقَدِّمِيْ نَ: الإمَامَ أحْمَدَ فَقِيْهًا، بَلْ إمَامًا في الفِقْهِ.
فمِنْ هَؤلاءِ: الإمَامُ الشَّافِعِيُّ، وعَبْدُ الرَّزَّاقِ الصَّنْعَاني، وأبو عُبَيْدٍ القَاسِمُ بنُ سَلَّامٍ، وأبو ثَوْرٍ، وعَبْدُ اللهِ بنُ المَدِيْنِي، والتِّرْمِذِيُّ في «جَامِعِهِ»، والنَّسَائِيُّ، وأبو دَاوُدَ السِّجِتْنَانيّ ُ، والبَغَوِيُّ، وابنُ وَارَةَ، وصَالِحُ بنُ مُحَمَّدٍ جَزَرَةَ، والبُوْشَنْجِيّ ُ، وأبو زُرْعَةَ، وإبْرَاهِيْمُ بنُ خَالِدٍ، وإسْحَاقُ بنُ رَاهَوَيْه، ويَحْيى بنُ آدَمَ،، وإبْرَاهِيْمُ الحَرْبيُّ، وأبو عَبْدِ اللهِ المَرْوَزِيُّ في كِتَابِهِ «اخْتِلافِ العُلَمَاءِ»، وأبو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، والعِجْليُّ، ويَحْيَى بنُ مَعِيْنٍ، والشِّيْرَازِيّ ُ في «طَبَقَاتِ الفُقَهَاءِ»، وغَيْرُهُم كَثِيْرٌ يَصِلُوْنَ إلى مَائَةٍ ونَيَّفٍ وعِشْرِيْنَ عَالِمًا، كَمَا ذَكَرَهُ ابنُ أبي يَعْلى في «الطَّبَقَاتِ»، فَهَؤلاءِ هُم أئِمَّةُ الدِّيْنِ وأعْلامُهُ، وأعْيَانُ البُلْدَانِ، وأئَمَّةُ الزَّمَانِ؛ فَإنْ لم يَكُوْنُوا! فمَنْ؟
وحَسْبُكَ مَا قَالَهُ الإمَامُ الشَّافِعِيُّ عَنِ الإمَامِ أحْمَدَ رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالى، وهُوَ مَا ذَكَرَهُ الرَّبِيْعُ بنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: «أحْمَدُ إمَامٌ في ثَمَانِ خِصَالٍ: إمَامٌ في الحَدِيْثِ، إمَامٌ في الفِقْهِ، إمَامٌ في اللُّغَةِ، إمَامٌ في القُرْآنِ، إمَامٌ في الفَقْرِ، إمَامٌ في الزُّهْدِ، إمَامٌ في الوَرَعِ، إمَامٌ في السُّنَّةِ». انْظُرْ: «الطَّبَقَاتِ» لابنِ أبي يَعْلى (1/5).
وقَالَ شَيْخُهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الصَّنْعَانيُّ: «مَا رَأيْتُ أحَدًا أفْقَهَ، ولا أوْرَعَ مِنْ أحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ»، قَالَ الذَّهَبِيُّ: «قُلْتُ: قَالَ هَذَا، وقَدْ رَأى مِثْلَ الثَّوْرِي، ومَالِكٍ، وابنِ جُرَيْجٍ». انْظُرْ: «السِّيَرَ» (11/195).
ومَهْمَا قِيْلَ؛ فَإنَّ الخِلافَ المَذْكُوْرَ قَدْ انْدَثَرَ، ولم يَعُدْ لَهُ قَائِلٌ فِيْمَا نَعْلَمُ؛ حَيْثُ اجْتَمَعَتْ بَعْدَئِذٍ كُتُبُ فُقَهَاءِ الإسْلامِ بِعَامَّةٍ على اعْتِبَارِ الإمَامِ أحْمَدَ فَقِيْهًا، دُوْنَ نِزَاعٍ!
هَذَا إذَا عَلِمْنَا؛ أنَّ أكْثَرَ مَنْ ظَنَّ بالإمَامِ أحْمَدَ أنَّهُ لَيْسَ فَقِيْهًا: هُم مِنَ الأحْنَافِ، وهَذَا يَزِيْدُنَا يَقِيْنًا بأنَّ السَّبَبَ وَرَاءَ ذَلِكَ، هُوَ مَا أُثِرَ واشْتُهِرَ عَنِ الإمَامِ أحْمَدَ أنَّهُ كَانَ كَثِيْرًا مَا يَذُمُّ أهْلَ الرَّأي، فلَعَلَّ هَذَا كَانَ سَبَبًا عِنْدَ أهْلِ الرَّأي، واللهُ تَعَالى أعْلَمُ.
ثُمَّ؛ إذَا قَصَدَ المُتَعَصِّبَةُ بمَقَالَتِهِم: «لَيْسَ فَقِيْهًا»، أيْ: لَيْسَ مِنْ أهْلِ فِقْهِ الرَّأي الَّذِي يُبْنَ على دَلِيْلٍ شَرْعِيٍّ؛ فَنَعَم، وهِيَ مَنْقَبَةٌ لَهُ، ولأصْحَابِهِ.
وإنْ أُرِيْدَ أنَّهُ غَيْرُ فَقِيْهٍ، أيْ: لَيْسَ مِنْ أهْلِ فِقْهِ الدَّلِيْلِ، فَهَذَا مِنْ جُحُوْدِ المَحْسُوْسِ، ونُكْرَانِ المَلْمُوْسِ!
وأيَّا كَانَ الأمْرُ؛ فَقَدْ حَمَلَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ مَقَالَةَ الإمَامِ ابنِ جَرِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ، في قَوْلِهِ: «أحْمَدُ لَيْسَ فَقِيْهًا» على أنَّهُ أرَادَ بِهِ: فَقِيْهًا لَيْسَ لَهُ أتْبَاعٌ، فَكُوْنُهُ نَفَى عَنْهُ الأتْبَاعَ لا يَلْزَمُ مِنْهُ نَفِيُ إمَامَةِ الفِقْهِ، لأنَّ إمَامَةَ أحْمَدَ في الفِقْهِ قَدْ شَهِدَ بِهَا مَنْ هُوَ أجَلُّ وأعْلَمُ مِنْ ابنِ جَرِيْرٍ، أقْصِدُ بِهِم: الإمَامَ الشَّافِعِيَّ، والصَّنْعَانِيّ َ وغَيْرَهُما مِمَّنْ ذَكَرْنَا لَكَ بَعْضَ أسْمَائِهِم.
ويَشْهَدُ لِهَذا الاعْتِذَارِ عَنِ ابنِ جَرِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ، هُوَ مَا ذَكَرَهُ عَنْ نَفْسِهِ؛ وذَلِكَ عِنْدَمَا قَالَ: «أمَّا أحْمَدُ؛ فَلا يُعَدُّ خِلافُهُ»، فَقَالُوا لَهُ: فَقَدْ ذَكَرَهُ العُلَمَاءُ في الاخْتِلافِ! فَقَالَ: «مَا رَأيْتُهُ رُوِيَ عَنْهُ، ولا رَأيْتُ لَهُ أصْحَابًا يُعَوَّلُ عَلَيْهِم»، أيْ: يُعَوَّلُ عَلَيْهِم في الفِقْهِ!
وهَذَا الكَلامُ مِنْهُ رَحمَهُ اللهُ يَدُلُّ على أنَّهُ قَالَهُ، ومَذْهَبُ الإمَامِ أحْمَدَ لم يَظْهَرْ ويَنْتَشِرْ وَقْتَئِذٍ، فَابْنُ جَرِيْرٍ وُلِد سَنَةَ (224)، في حَيَاةِ الإمَامِ أحْمَدَ المُتَوَفَّى سَنَةَ (241)، ثُمَّ تُوُفِّيَ ابنُ جَرِيْرٍ سَنَةَ (310)، ومَذْهَبُ الإمَامِ أحْمَدَ لم يَتَكَوَّنْ إقْرَاءُ فُرُوْعِهِ في هَذِهِ الفَتْرَةِ، فَكَانَ في طَوْرِ رِوَايَةِ تَلامِذَتِهِ لَهُ، وجَمْعِ الخَلَّالِ لَهُ المُتَوَفِّي سَنَةَ (311)، أيْ: بَعْدَ ابنِ جَرِيْرٍ بعَامٍ وَاحِدٍ، وأوَّلُ مُخْتَصَرٍ في الفِقْهِ الحَنْبَليِّ كَانَ مِنْ تَألِيْفِ الخِرَقِيِّ المُتَوَفَّى سَنَةَ (334)، فَصَارَ بَدْءُ إقْرَائِهِ في الكَتَاتِيْبِ، كَمَا في تَلَقُّنِ القَاضِي أبي يَعْلى لَهُ.
وعلى يَدِ أبي يَعْلى المُتَوَفَّى سَنَةَ (458)، الَّذِي تَوَلَّى القَضَاءَ، وشَيْخِهِ الحَسَنِ بنِ حَامِدٍ المُتَوَفَّى سَنَةَ (403)، بَدَأ ظُهُوْرُ المَذْهَبِ الحَنْبَلي، وتَكَوُّنُهُ، وتَكَاثُرُ أتْبَاعِهِ، والاشْتِغَالُ في تَهْذِيْبِهِ وتَدْوِيْنِ المُتُوْنِ والأُصُوْلِ، وكُلُّ هَذَا بَعْدَ وَفَاةِ الإمَامِ ابنِ جَرِيْرٍ بزَمَنٍ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، فَرَحِمَ اللهُ ابنَ جَرِيْرٍ مَا أضَرَّهُ حِيْنَمَا قَالَ: «أمَّا أحْمَدُ؛ فَلا يُعَدُّ خِلافُهُ»، ثُمَّ قَولُهُ: «مَا رَأيْتُهُ رُوِيَ عَنْهُ، ولا رَأيْتُ لَهُ أصْحَابًا يُعَوَّلُ عَلَيْهِم»؛ حَيْثُ ذَكَرَ مُرَادَهُ مِمَّا قَالَ، أيْ: أنَّهُ لَيْسَ لَهُ أصْحَابٌ يَنْقُلُوْنَ فِقْهَهُ، لا أنَّهُ لَيْسَ فَقِيْهًا!
* * *
هَذِهِ خُلاصَةُ هَذِهِ الدَّعْوَى، فَمَا دَوَافِعُهَا وأسْبَابُهَا؟
والجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ يَتَلخَّصُ في أُمُوْرٍ:
الأمْرُ الأوَّلُ: المَعْرُوْفُ أنَّ الإمَامَ أحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ اتَّجَهَ أوَّلَ حَيَاتِهِ لدِرَاسَةِ الفِقْهِ، وتَتَلْمَذَ على الإمَامِ أبي يُوسُفَ، تَلْمِيْذِ أبي حَنِيْفَةَ رَحِمَهُ اللهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْ هَذِهِ الدِّرَاسَةِ، ولم تُعْجِبْهُ؛ لأنَّهَا تَتَعَلَّقُ تَعَلُّقًا كَبِيْرًا بالرَّأي.
وبَعْدَ انْقِطَاعِهِ عَنْهَا اتَّجَهَ إلى الحَدِيْثِ والمُحَدِّثِيْن َ، والْتَقَى بهُشَيْمِ بنِ بَشِيْرٍ الوَاسِطِيِّ، ثُمَّ تَابَعَ لِقَاءَاتِهُ بالمُحَدِّثِيْن َ، بَلْ إنَّ الرِّوَايَاتِ تَنْقَلُ: أنَّهُ لم يَلْتَفِتْ إلى المَسَائِلِ الَّتِي حَفِظَهَا مِنَ الإمَامِ أبي يُوْسُفَ أوَّلًا، بَلْ أفْرَغَ جُهْدَهُ في حِفْظِ الحَدِيْثِ والآثَارِ، وقَضَى جُلَّ حَيَاتِهِ في جَمْعِهَا، ومُتَابَعَتِهَا ، والاعْتِمَادِ عَلَيْهَا، والبُعْدِ عَنِ الرَّأي، وتَتَبُّعِ الأثْرِ مَا وَجَدَ إلى ذَلِكَ سَبِيْلًا.
* * *
الأمْرُ الثَّاني: ارْتِبَاطُهُ بالحَدِيْثِ والمُحَدِّثِيْن َ أضْفَى عَلَيْهِ رَحِمَهُ اللهُ صِفَةَ المُحَدِّثِ أكْثَرَ مِنْ أيِّ صِفَةٍ أُخْرَى.
وذَمُّهُ للرَّأي والتَّأوِيْلِ، وذَمُّهُ لِمَنْ يَعْتَمِدُ على أقْوَالِ الرِّجَالِ وتَفْرِيْعَاتِه ِم مَعَ إمْكَانِهِ أخْذُ الحَقِّ مِنْ مَصْدَرِهِ الأسَاسِي أبْعَدَهُ ـ في زَعْمِ مَنْ قَالَ بأنَّهُ لَيْسَ فَقِيْهًا ـ عَنْ صِفَةِ الفِقْهِ والرَّأي.
فَقَدْ ذَكَرَ القَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللهُ في الفَصْلِ الَّذِي عَقَدَهُ لتَرْجِيْحِ مَذْهَبِ مَالِكٍ على غَيْرِهِ، ووُجُوْبِ تَقْلِيْدِ المَذَاهِبِ واتِّبَاعِهَا، وتَكَلَّمَ عَنْ أصْحَابِهَا، وبَيَّنَ مَيْزَةَ كُلٍّ مِنْهَا، وقَالَ عَنْ أحْمَدَ، ودَاوُد: كَمَا أنَّ أحْمَدَ ودَاوُدَ مِنَ العَارِفِيْنَ بعِلْمِ الحَدِيْثِ، ولا تُنْكَرُ إمَامَةُ أحْمَدَ مِنْهُمَا فِيْهِ، لكَنْ لا تُسْلَّمُ لَهُمَا الإمَامَةُ في الفِقْهِ، ولا جَوْدَةُ النَّظَرِ في مَأخَذِهِ، ولم يَتَكَلَّمَا في نَوَازِلَ كَثِيْرَةٍ كَلامَ غَيْرِهِمَا، ومَيْلِهِمَا مَعَ المَفْهُوْمِ مِنَ الحَدِيْثِ.
* * *
الأمْرُ الثَّالِثُ: ثَبَتَ عَنْهُ في أكْثَرِ مِنْ مَوْضِعٍ أنَّهُ كَانَ يَنْهَى أصْحَابَهُ عَنْ أنْ يَكْتُبُوا عَنْهُ شَيْئًا، وخَاصَّةً في مَسَائِلِهِ وفَتَاوَاهُ، وهَذَا وَارِدٌ في أكْثَرِ مِنْ مَوْضِعٍ في تَرْجَمَتِهِ، وفِيْمَا كُتِبَ عَنْهُ.
بَلْ قَدْ صَرَّحَ في بَعْضِ المُنَاسَبَاتِ أنَّهُ لَمَّا سَمِعَ أحَدَ أصْحَابِهِ يُحَدِّثُ عَنْهُ بالمَسَائِلِ الَّتِي أفْتَى فِيْهَا، ويَنْشُرُهَا في خُرَاسَانَ، جَمَعَ عَدَدًا مِنْ أصْحَابِهِ، وقَالَ: أُشْهِدُكُم أنِّي رَجَعْتُ عَنْهَا، وكَانَ يَكْرَهُ أنْ يُتَّخَذَ كَلامُهُ دِيْنًا وشَرْعًا.
* * *
الأمْرُ الرَّابِعُ: وثَبَتَ أيْضًا أنَّهُ لم يُصَنِّفْ، أو يُدَوِّنْ شَيْئًا كَبِيْرًا في الفِقْهِ، ولا في أُصُوْلِهِ، مَعَ أنَّهُ في عَصْرٍ ازْدَهَرَ فِيْهِ التَّألِيْفُ، ودُوِّنَتْ فِيْهِ العُلُوْمُ، وأُسِّسَتْ فِيْهِ المَذَاهِبُ، وجُلُّ مَا أُلِّفَ في مَذْهَبِهِ، إنَّمَا هُوَ مِنْ عَمَلِ أصْحَابِهِ الَّذِيْنَ جَاؤوا مِنْ بَعْدِهِ.
فَهَذِهِ الأُمُوْرُ وغَيْرُهَا قَدْ تَكُوْنُ هِيَ الَّتِي دَعَتِ ابنَ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيَّ رَحِمَهُ اللهُ وغَيْرَهُ إلى اعْتِبَارِ أحْمَدَ مُحَدِّثًا، ولَيْسَ فَقِيْهًا.
ونَحْنُ هُنَا نُوْرِدُ مِنَ الأدِلَّةِ والشَّوَاهِدِ مَا يُثْبِتُ أنَّ الإمَامَ أحْمَدَ مِنْ أعْظَمِ الفُقَهَاءِ، ومِنْ أقْوَاهُم في الاسْتِنْبَاطِ والاجْتِهَادِ، وأنَّ مَذْهَبَهُ بَنَاهُ على الدَّلِيْلِ والاجْتِهَادِ، خِلافًا لِمَا ظَنَّهُ ابنُ خَلْدُوْنٍ رَحِمَهُ اللهُ، حَيْثُ قَالَ في «مُقَدِّمَتِهِ» (2/544): «فَأمَّا أحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ، فمُقَلِّدُوْهُ قَلِيْلٌ لبُعْدِ مَذْهَبِهِ عَنِ الاجْتِهَادِ، وأصَالَتِهِ في مُعَاضَدَةِ الرِّوَايَةِ والأخْبَارِ بَعْضِها ببَعْضِ».
وقِلَّةُ أتْبَاعِ المَذْهَبِ لَيْسَ مِقْيَاسًا في كَوْنِ المَذْهَبِ قَرِيْبًا مِنَ الاجْتِهَادِ أو بَعِيْدًا عَنْهُ، فانْتِشَارُ المَذَاهِبُ وكَثْرَةُ أتْبَاعِهَا لَهُمَا أسْبَابٌ وظُرُوْفٌ ودَوَاعٍ كَثِيْرَةٌ غَيْرُ ذَلِكَ، كَمَا مَرَّ مَعَنَا.
* * *
وهَذِهِ بَعْضُ الرُّدُوْدِ العِلْمِيَّةِ على أنَّ الأُمُوْرَ السَّابِقَةَ لَيْسَتْ دَاعِيَةً إلى اعْتِبَارِ الإمَامِ أحْمَدَ مُحَدِّثًا، ولَيْسَ فَقِيْهًا، كَمَا تَوَهَّمَ بَعْضُهُم، وفِيْهَا أدِلَّةٌ وشَوَاهِدُ تَارِيْخِيَّةٌ على إثْبَاتِ فِقْهِ الإمَامِ أحْمَدَ، وحُسْنِ اسْتِنْبَاطِهِ:
أوَّلًا: لا يُمَارِي أحَدٌ في تَفَوُّقِ الإمَامِ أحْمَدَ في الحَدِيْثِ والآثَارِ، وقَدْ عُلِمَ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ أنَّ الفِقْهَ مُتَوَقِّفٌ على العِلْمِ بالحَدِيْثِ والأثَرِ، وعَلَيْهِ فمَنْ كَانَ مُحَدِّثًا كَانَ فَقِيْهًا ولا بُدَّ، لاسِيَّما إذَا كَانَ المُحَدِّثُ إمَامًا في القُرْآنِ واللُّغَةِ والتَّفْسِيْرِ وأُصُوْلِ الفِقْهِ، وغَيْرِهَا مِنْ عُلُوْمِ الشَّرِيْعَةِ، وحَسْبُكَ بإمَامَةِ الإمَامِ أحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ في هَذِهِ العُلُوْمِ كُلِّهَا، وهُوَ مَا شَهِدَ بِهِ أهْلُ العِلْمِ عَنْ أحْمَدَ، وعلى رَأسِهِم الإمَامُ الشَّافِعِي رَحِمَهُ اللهُ ؛ حَيْثُ شَهِدَ لإمَامِنَا بالإمَامَةِ في كَثِيْرٍ مِنْ عُلُوْمِ الشَّرِيْعَةِ، كَمَا مَرَّ مَعَنَا.
لأجْلِ هَذَا؛ فَإنَّ وُجُوْدَ النُّصُوْصِ وأقْوَالِ السَّلَفِ لَدَى الإمَامِ أحْمَدَ أغْنَاهُ عَنِ القَوْلِ في كَثِيْرٍ مِنَ المَسَائِلِ بالرَّأي المُجَرَّدِ، وتَطَرُّقُ الخَطَإ إلى الرَّأي المُجَرَّدِ أكْثَرُ وأقْوَى مِنْ تَطَرُّقِهِ إلى المَنْقُوْلِ، وكَمْ مَنْ سَلَفِ الأُمَّةِ وعُلَمَائِهَا مُنْذُ عَهْدِ رَسُوْلِ اللهِ ﷺ مَنْ جَعَلَ الحَدِيْثَ أصْلَ فَتْوَاهُ، ومَعَ ذَلِكَ يُعَدُّ مِنْ أعْظَمِ الفُقَهَاءِ دُوْنَ نِزَاعٍ.
والإمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ مِمَّنْ اعْتَنَى بالنُّصُوْصِ والآثَارِ واهْتَمَّ بِهَا، وبَنَى فِقْهَهُ عَلَيْهَا.
والأُمَّةُ كُلُّهَا مُتَّفِقَةٌ على أنَّ خَيْرَ مَنَاهِجِ القُرُوْنِ في الاسْتِنْبَاطِ هُوَ مَنْهَجُ صَحَابَةِ رَسُوْلِ اللهِ ﷺ، ومَنْ تَبِعَهُم بإحْسَانٍ، وهُوَ مِنَ الأُصُوْلِ الَّتِي بَنَى الإمَامُ أحْمَدُ عَلَيْهَا مَذْهَبَهُ.
والرُّجُوْعُ إلى أصْلِ الكِتَابِ والسُّنَّةِ وأقْوَالِ الصَّحَابَةِ، والاعْتِصَامُ بذَلِكَ آمَنُ مَزَّلَةً مِنَ الانْسِيَاقِ وَرَاءَ الرَّأي!
والخُلاصَةُ: أنَّ الإمَامَ أحْمَدَ: إمَامٌ في الحَدِيْثِ، وقَدِ اتُّفِقَ على هَذَا، ولكِنَّ إمَامَتَهُ فِيْهِ لا تُنْفِي عَنْهُ صِفَةَ الفِقْهِ، بَلْ فِقْهُهُ فِقْهُ أثَرٍ وسُنَّةٍ، وهَذَا مِمَّا امْتَازَ بِهَا مَذْهَبُهُ، وظَهَرَتْ في أُصُوْلِهِ.
ثَانِيًا: ذَمُّ الإمَامِ أحْمَدَ للرَّأي، ولتَقْلِيْدِ الرِّجَالِ، مَحْمُوْلٌ على مُعَارَضَةِ النُّصُوْصِ بذَلِكَ، وذَلِكَ لا يَخُصُّهُ وَحْدَهُ، بَلْ أئِمَّةُ المَذَاهِبِ المُعْتَبَرَةِ كُلُّهُم يَنْهَوْنَ عَنْ تَقْلِيْدِهِم، ويُوْجِبُوْنَ عِنْدَ ظُهُوْرِ الحُجَّةِ مِنْ قَوْلِ رَسُوْلِ اللهِ ﷺ أنْ يُضْرَبَ بقَوْلِهِم عُرْضَ الحَائِطِ.
ثَالِثًا: نَهْيُهُ لأصْحَابِهِ عَنْ أنْ يَكْتُبُوا عَنْهُ مَسَائِلَهُ، وفَتَاوَاهُ، كَمَا هُوَ ثَابِتٌ عَنْهُ، ومَا هَذَا مِنْهُ إلَّا خَوْفًا عَلَيْهِم مِنِ انْشِغَالِهِم بكَلامِهِ وأقْوَالِهِ عَنْ كَلامِ رَسُوْلِ اللهِ ﷺ، وصَحَابَتِهِ، لأنَّهُ رَأى بَعْضَ النَّاسِ صَرَفَتْهُم خِلافَاتُ المَذَاهِبِ، وتَقْلِيْدُ الرِّجَالِ عَنْ مَعْرِفَةِ الحَقِّ مِنْ مَصْدَرِهِ، وعَنِ النَّظَرِ في سُنَّةِ رَسُوْلِ اللهِ ﷺ، وهُوَ يَرَى أنَّ مَرْتَبَةَ الرَّأي تَأتي بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ، وعِنْدَ الضُّرُوْرَةِ.
ومَعَ ذَلِكَ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ آخِرَ حَيَاتِهِ أنَّهُ أجَازَ لأصْحَابِهِ أنْ يَكْتُبُوا عَنْهُ، بَعْدَ أنْ خَبَرَ أحَادِيْثَ رَسُوْلِ اللهِ ﷺ، ووَثِقَ بِمَا يَقُوْلُهُ، ويُفْتِي بِهِ.
وهَذِهِ بَعْضُ مُحَاوَلاتِ أصْحَابِ الإمَامِ أحْمَدَ في طَلَبِ واسْتِبَاحَةِ الكِتَابَةِ عَنْهُ، فَكَانَ مِنْهَا:
مَا حَدَثَ مِنْ عَبْدِ المَلِكِ بنِ عَبْدِ الحَمِيْدِ المَيْمُونيِّ، وهُوَ مِنْ أجَلِّ أصْحَابِ الإمَامِ أحْمَدَ، ومِنْ أكْثَرِهِم مُلازَمَةً لَهُ، وسُؤالًا ونَقلًا لمسَائِلِه، قَالَ عَنْ نَفْسِهِ فِيْمَا ذَكَرَهُ أبو بَكْرٍ الخَلَّالِ: «صَحِبْتُ أبا عَبْدِ اللهِ على المُلازَمَةِ مِنْ سَنَةِ خَمْسٍ ومِئتَيْنِ إلى سَنَةِ سَبْعٍ وعِشْرِيْنَ».
وقَالَ أيْضًا: «سَألْتُ أبا عَبْدِ اللهِ عَنْ مَسَائِلَ، فَكَتَبْتُهَا، فَقَالَ: أيُّ شَيءٍ تَكْتُبُ يا أبا الحَسَنِ؟ فَلْوَلا الحَيَاءُ مِنْكَ، مَا تَرَكْتُكَ تَكْتُبُهَا، وإنَّهُ عَليَّ لشَدِيْدٌ، والحَدِيْثُ أحَبُّ إليَّ مِنْهَا، قُلْتُ: إنَّمَا تَطِيْبُ نَفْسِي في الحَمْلِ عَنْكَ، إنَّكَ تَعْلَمُ أنَّهُ مُنْذُ مَضَى رَسُوْلُ اللهِ ﷺ قَدْ لَزِمَ أصْحَابَهُ قَوْمٌ، ثُمَّ لم يَزَلْ يَكُوْنُ للرَّجُلِ أصْحَابٌ يَلْزَمُوْنَهُ، ويَكْتُبُوْنَ، قَالَ: مَنْ كَتَبَ؟ قُلْتُ: أبو هُرَيْرَةَ: وكَانَ عَبْدُ اللهِ بنُ عَمْرٍو يَكْتُبُ، ولم أكْتُبْ، فحَفِظَ وضَيَّعْتُ، فَقَالَ لِي، فَهَذَا الحَدِيْثُ، فقُلْتُ لَهُ: فَمَا المَسَائِلُ إلَّا الحَدِيْثَ، ومِنَ الحَدِيْثِ تُشْتَقُّ»!
فهَذَا يَدُلُّ على أنَّهُ أخِيْرًا لم يُشَدِّدْ في الكِتَابَةِ عَنْهُ، وقَدْ قَالَ الخَلَّالُ: «إنَّ عِنْدَ المَيْمُوْني مِنْ مَسَائِلِ أبي عَبْدِ اللهِ نَحْوُ سِتَّةَ عَشَرَ جُزْءًا». انْظُرْ: «الطَّبَقَاتِ» (1/213).
وغَيْرُهُ مِنَ الأصْحَابِ كَتَبَ عَنْ أحْمَدَ؛ حَتَّى لَقَدْ رُوِيَ أنَّهُ كَانَ يَأمُرُ مَنْ يَكْتُبُ عَنْهُ أنْ يَقْرَأ عَلَيْهِ ليُصَحِّحَ لَهُ إنْ كَانَ فِيْهِ خَطَأٌ.
ومِنْ ذَلِكَ أنَّ إسْحَاقَ بنَ مَنْصُوْرٍ الكُوْسَجَ ـ وهُوَ أحَدُ الأصْحَابِ الَّذِيْنَ نَقَلُوا عَنْ أحْمَدَ ـ لَمَّا سَمِعَ أنَّ أحْمَدَ رَجَعَ عَنْ بَعْضِ المَسَائِلِ الَّتِي كَتَبَهَا عَنْهُ، جَاءَ بِهَا إلَيْهِ، وقَرَأهَا عَلَيْهِ، قَالَ حَسَّانُ بنُ مُحَمَّدٍ: «سَمِعْتُ مُشَايخَنَا يَذْكُرُوْنَ أنَّ إسْحَاقَ بنَ مَنْصُوْرٍ بَلَغَهُ أنَّ أحْمَدَ بنَ حَنْبَلَ رَجَعَ عَنْ تِلْكَ المَسَائِلِ الَّتِي عَلَّقَهَا عَنْهُ، قَالَ: فجَمَعَ إسْحَاقُ بنُ مَنْصُوْرٍ تِلْكَ المَسَائِلَ في جِرَابٍ، وحَمَلَهَا على ظَهْرِهِ، وخَرَجَ رَاجِلًا إلى بَغْدَادَ، وهِيَ على ظَهْرِهِ، وعَرَضَ خُطُوْطَ أحْمَدَ عَلَيْهِ في كُلِّ مَسْألَةٍ اسْتَفْتَاهُ فِيْهَا، فَأقَرَّ لَهُ بِهَا ثَانِيًا، وأُعْجِبَ بذَلِكَ أحْمَدُ مِنْ شَأنِهِ». انْظُرْ: «الطَّبَقَاتِ» (1/114).
وهُنَاكَ حَوَادِثُ كَثِيْرَةٌ عَنْ أصْحَابِهِ رَحِمَهُ اللهُ، مَذْكُوْرَةٌ في تَرَاجِمِهِم، ومَا كُتِبَ عَنْهُم.
رَابِعًا: كَوْنُهُ لم يُصَنِّفْ في الفِقْهِ، ولا في أُصُوْلِهِ، لَيْسَ سَبَبًا أيْضًا في كَوْنِهِ غَيْرَ فَقِيْهٍ، فَقَدْ كَانَ يَكْرَهُ التَّصْنِيْفَ في ذَلِكَ، ولَيْسَ كُلُّ أصْحَابِ المَذَاهِبِ الفِقْهِيَّةِ مُصَنِّفِيْنَ، والمَذْهَبُ يَتَأسَّسُ بطَرِيْقَةِ صَاحِبِهِ في الفَتَاوي والاسْتِنْبَاطِ ، وقَدْ تَقَدَّمَتِ الإشَارَةُ إلى أنَّ بَعْضَ أصْحَابِهِ دَوَّنُوا عَنْهُ «المَسَائِلَ» في حَيَاتِهِ، ومِنْهُم مَنِ اسْتَقْصَاهَا بَعْدَ مَمَاتِهِ، وكَانُوا يَتَنَاقَلُوْنَ هَا بالسَّنَدِ المُتَّصِلِ، ويُطَبِّقُوْنَ فِيْهَا مَا يُطَبِّقُوْنَهُ في الحَدِيْثِ، مِنِ اشْتِرَاطِ العَدَالَةِ والثِّقَةِ والضَّبْطِ والحِفْظِ؛ حَتَّى تَصِلَ إلى الإمَامِ أحْمَدَ، وكَوْنُ الإمَامِ لم يُصَنِّفْ في الفِقْهِ وأُصُوْلِهِ لا يُؤثِّرُ على مَكَانَتِهِ الفِقْهِيَّةِ، مَا دَامَتْ رِوَايَاتُهُ وأقْوَالُهُ مَحْفُوْظَةً مُتَدَاوَلَةً بَيْنَ النَّاسِ، ولم يَتَوَجَّهِ الإنْكَارُ إلَيْهَا، ولا الشَّكُّ فِيْهَا مِنْ أحَدٍ.
قَالَ الشَّيْخ أبو زُهْرَةُ رَحِمَهُ اللهُ في «ابنِ حَنْبَلٍ»(178): «ومَهْمَا يُثَرْ مِنَ الغُبَارِ حَوْلَ المَرْوِيَّاتِ الفِقْهِيَّاتِ عَنْ أحْمَدَ، فَإنَّ الأجْيَالَ قَدْ تَوَارَثَتْ تِلْكَ المَجْمُوْعَةَ الفِقْهِيَّةَ المَنْسُوْبَةَ إلَيْهِ، وتَدَارَسَهَا النَّاسُ، وتَكَوَّنَ مِنْ مَجْمُوْعِهَا الفِقْهُ الحَنْبَليُّ، وضُبِطَتْ بقَوَاعِدَ جَامِعَةٍ، وتَكَوَّنَ مِنْهَا مَنْطِقٌ فِقْهِيٌّ على حَدِّ تَعْبِيْرِ بَعْضِ أصْحَابِ أحْمَدَ».
هَذَا إذَا عَلِمْنَا؛ أنَّ للإمَامِ أحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ كِتَابَاتٍ وأجْوِبَةً في الأُصُوْلِ الفِقْهِيَّةِ تَصْلُحُ أنْ تَكُوْنَ تَألِيْفًا في «أُصُوْلِ الفِقْهِ»، كَمَا سَيَأتي لهَا ذِكْرٌ إنْ شَاءَ اللهُ.
* * *
أمَّا الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: فَهِيَ قَوْلُهُم: إنَّ الحَنَابِلَةَ قَلِيْلُو الأتْبَاعِ!
لَقَدْ أُخِذَ على الحَنَابِلَةِ بأنَّهم قَلِيْلُو الأتْبَاعِ، وأنَّهُم لم يَحْظَوْا بِمَا حَظِيَ بِهِ غَيْرُهُم مِنْ كَثْرَةِ الانْتِشَارِ في الأمْصَارِ، وأنَّ سَحَائِبَهُم لم تَبُلَّ بِوَابِلِهَا إلَّا قِلًّا قَلِيْلًا مِنَ الأرَاضِي والدِّيَارِ، إذْ بَزَغَ النَّجْمُ الحَنْبَليُّ بَعْدَمَا مَلأتْ نُجُوْمُ غَيْرِهِ الآفَاقَ بضِيَائِهَا.
ومِنْ ذَلِكَ مَا قَالَهُ ابنُ خَلْدُوْنٍ رَحِمَهُ اللهُ في «مُقَدِّمَتِهِ» : «فَأمَّا أحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ، فمُقَلِّدُوْهُ قَلِيْلٌ لبُعْدِ مَذْهَبِهِ عَنِ الاجْتِهَادِ، وأصَالَتِهِ في مُعَاضَدَةِ الرِّوَايَةِ والأخْبَارِ بَعْضِها ببَعْضِ».
قُلْتُ: لا شَكَّ أنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى لا يَقِفُ عِنْدَهَا إلَّا مَنْ ظَنَّ أنَّ المَنَاقِبَ تَكُوْنُ بكَثْرَةِ الأتْبَاعِ والأشْيَاعِ!
ومَا عَلِمُوا: أنَّ قُوَّةَ المَذَاهِبِ وضَعْفَهَا إنِّمَا تَكُوْنُ بأئِمَّتِهَا وشُيُوْخِهَا المُجْتَهِدِيْن َ، وعُلَمَائِهَا العَامِلِيْنَ، لا بالسَّوَادِ الَّذِي لا يُقَدِّمُ شَيْئًا، ولا يُؤخِّرُهُ في هَذَا المِضْمَارِ.
وصَدَقَ الشَّيْخُ أبو زُهْرَةَ رَحِمَهُ اللهُ إذْ قَالَ في كِتَابِهِ «ابنِ حَنْبَلٍ» (431): «وكَانَ مِنَ المُخَرِّجيْنَ، وأصْحَابِ الوُجُوْهِ مَنْ لا يُحْصَوْنَ في ذَلِكَ المَذْهَبِ الجَلِيْلِ، وكَانَ اللهُ عَوَّضَهُ عَنْ عَدَدِ العَوَامِ الَّذِيْنَ يَعْتَنِقُوْنَه ُ بعَدَدٍ عَظِيْمٍ مِنَ العُلَمَاءِ ذَوِي القَدَمِ الرَّاسِخَةِ في البَحْثِ والاسْتِنْبَاطِ والتَّخْرِيْجِ» .
وإذَا كَانَتْ العِبْرَةُ بالعُلَمَاءِ لا بالعَوَامِ، وبالأئِمَّةِ لا بالطَّغَامِ، فَإنَّ العَالِمَ الوَاحِدَ قَدْ يُقَاسُ بأُمَّةٍ، وذَلِكَ بِمَا يَبْذُلُهُ مِنَ الجُهُوْدِ العَظِيْمَةِ، وما يُقَدِّمُهُ للأمَّةِ مِنَ الأعْمَالِ الجَلِيْلَةِ الَّتِي تُخَلَّدُ مِنْ بَعْدِهِ، وتَتَوَارَثُهَا الأجْيَالُ، لا تَفْتَأ تَسْتَفِيْدُ مِنْهَا، مِمَّا لا يَسْتَطِيْعُهُ العَشَرَاتُ، فَهَذَا ابنُ حَزْمٍ لا يَكَادُ يُعْرَفُ المَذْهَبُ الظَّاهِرِيُّ إلَّا مِنْ خِلالِ كُتُبِهِ ومُصَنَّفَاتِهِ .
* * *
فالحَنَابِلَةُ إنْ قَلَّ عَدَدُهُم بالنَّظَرِ إلى غَيْرِهِم، فَقَدْ بُوْرِكَ في تِلْكَ القِلَّةِ؛ حَتَّى انْتَشَرَ عِلْمُهَا، وكَثُرَ المُسْتَفِيْدُ مِنْهَا، ونَهَلَ مِنْ مَعِيْنِهَا الصَّافي القَرِيْبُ والبَعِيْدُ، وصَارَتْ بذَلِكَ كَثْرَةً في المَعْنَى، كَمَا قَالَ القَائِلُ([2]).
وفِيْهَا مُعَارَضَةٌ للامِيَّةِ السَّمَوْألِ ابنِ عَادِيَاء، والَّتِي مَطْلَعُهَا:
إذَا المَرْءُ لم يُدَنَّسْ مِنَ اللُّؤمِ عِرْضُهُ فَكَلُّ رِدَاءٍ يَرْتَدِيْهِ جَمِيْلُ
يَقُوْلُون لي: قَدْ قَلَّ مَذْهَبُ أحْمَدٍ وكُلُّ قَلِيْلٍ في الأنَامِ ضَئِيْلُ
فَقُلْتُ لَهُم: مَهْلًا غَلِطْتُم بزَعْمِكِم ألم تَعْلَمُوا أنَّ الكِرَامَ قَلِيْلُ
ومَا ضَرَّنَا أنَّا قَلِيْلٌ وجَارُنَا عَزِيْزٌ، وجَارُ الأكْثَرِيْنَ ذَلِيْلُ

* * *
وانْتِشَارُ «المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ» بَعْدَ القَرْنِ الرَّابِعِ خَارِجَ بَغْدَادَ يَدُلُّ على قُوَّتِهِ، وتَلَقِّي النَّاسِ لَهُ بالرِّضَا والقَبُوْلِ، وتَرْجِيْحُهُ على غَيْرِهِ عِنْدَ كَثِيْرٍ مِنَ العُلَمَاءِ، كُلُّ هَذَا يَدُلُّ على أنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى لَيْسَ لهَا اليَوْمَ مَكَانٌ في مِيْزَانِ النِّقَاشِ، هَذَا إذَا عَلِمْنَا أنَّ «المَذْهَبَ الحَنْبَليَّ» مُؤخَّرًا قَدِ انْتَشَر انْتِشَارًا كَبِيْرًا، لاسِيَّما في الجَزِيْرَةِ العَرَبِيَّةِ الَّتِي يَزِيْدُ أهْلُهُا الَّذِيْنَ هُم على المَذْهَبِ على ثَلاثِيْنَ مَلْيُوْنَ نَفْسٍ، واللهُ تَعَالى أعْلَمُ.
انْظُرْ: «المَدْخَلَ المُفَصَّلَ» لبَكْرٍ أبو زَيْدٍ (1/356)، و«المَذْهَبَ الحَنْبَليّ» للتُّركِي (1/150).
والحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ

الشيخ الدكتور
ذياب بن سعد الغامدي
معالم المذهب الحنبلي
ص 247