قال ابن قيم الجوزية رحمه الله في بدائع الفوائد 1 / 200 - 201 :
وتأمل كيف افتتح الآية بقوله تنزيل الكتاب والتنزيل يستلزم علو المنزل من عنده لا تعقل العرب من لغتها بل ولا غيرها من الأمم السليمة الفطرة إلا ذلك ، وقد أخبر أن تنزيل الكتاب منه فهذا يدل على شيئين:
أحدهما: علوه تعالى على خلقه والثاني أنه هو المتكلم بالكتاب المنزل من عنده لا غيره فإنه أخبر أنه منه وهذا يقتضي أن يكون منه قولا كما أنه منه تنزيلا فإن غيره لو كان هو المتكلم به لكان الكتاب من ذلك الغير فإن الكلام فإنما يضاف إلى المتكلم به ومثل هذا: ( ولكن حق القول مني ) السجدة 13
ومثله: ( قل نزله روح القدس من ربك ) النحل 102
ومثله: ( تنزيل من حكيم حميد ) فصلت 42
فاستمسك بحرف من في هذه المواضع فإنه يقطع حجج شعب المعتزلة والجهمية .
وتأمل كيف قال : ( تنزيل من ) ولم يقل: تنزيله، فتضمنت الآية إثبات علوه ومكانه وثبوت الرسالة ثم قال: ( العزيز العليم ) فتضمن هذان الإسمان صفتي القدرة والعلم وخلق أعمال العباد وحدوث كل ما سوى الله؛ لأن القدرة هي قدرة الله كما قال أحمد بن حنبل، فتضمنت إثبات القدر، ولأن عزته تمنع أن يكون في ملكه ما لا يشاؤه أو أن يشاء ما لا يكون، فكانت عزته تبطل ذلك .
وكذلك كمال قدرته توجب أن يكون خالق كل شيء وذلك ينفي أن يكون في العالم شيء قديم لا يتعلق به خلقه؛ لأن كمال قدرته وعزته يبطل ذلك ثم قال: ( غافر الذنب وقابل التوب ) والذنب مخالفة شرعه وأمره فتضمن هذان الإسمان إثبات شرعه وإحسانه وفضله، ثم قال: ( شديد العقاب ) وهذا جزاؤه للمذنبين، وذو الطول جزاؤه للمحسنين ، فتضمنت الثواب والعقاب .
ثم قال: ( لا إله إلا هو إليه المصير ) فتضمن ذلك التوحيد والمعاد فتضمنت الآيتان إثبات صفة العلو والكلام والقدرة والعلم والقدر وحدوث العالم والثواب والعقاب والتوحيد والمعاد.
وتنزيل الكتاب منه على لسان رسوله يتضمن الرسالة والنبوة ، فهذه عشرة قواعد الإسلام والإيمان تجلى على سمعك في هذه الآية العظيمة ولكن خود تزف إلى ضرير مقعد .
فهل خطر ببالك قط أن هذه الآية تتضمن هذه العلوم والمعارف مع كثرة قراءتك لها وسماعك إياها وهكذا سائر آيات القرآن ، فما أشدها من حسرة وأعظمها من غبنة على من أفنى أوقاته في طلب العلم ثم يخرج من الدنيا وما فهم حقائق القرآن ولا باشر قلبه أسراره ومعانيه فالله المستعان .اهــ