نظرة المجتمعات القديمة والإسلام للمرأة

إنَّ المتأمِّلَ في نَظْرة المُجتمعاتِ القديمةِ البُدائيةِ منها والمُتَحَضِّرة للمَرْأة، وطبيعة تكوينها لَيَعْجَب كل العَجَب مِنْ قسوة كثيرٍ من هذه المُجتمعاتِ على المرأة، وتَحْقِيرهم لشَأْنِهَا وتسفِيههَا، وأنكارهم لجميعِ حُقُوقها الدُّنْيويَّة والأُخْرَوِيَّة ، وتأكيدًا لذلكَ سوفَ أُقَدِّمُ نُبْذَة مُخْتَصَرَة عَنْ نظرة هَذِه المُجتمعاتِ للمَرْأَة:
أولاً: المجتمع الهندي:
كان الهنود يعاملون المرأةَ بِقَسْوَة وضراوة شديدتين؛ فنجد بعض شرائعهم كشريعة "مانو" الهنديَّة تنكر على المرأة حقَّ الاستقلال في حياتها؛ وذلك لاعتقادهم أنَّها مخلوقة مختلفة عن الرجال، فهي قاصرة حتى مماتها، وأشد من نكران حقها في معاملات المعيشة نكران حقها في الحياة بعد وفاة زوجها، إذ كانت تُحْرَق معه بعد موته على موقد واحد.
ثانياً: المجتمع الصيني:
كانت المرأة فيه لا قيمةَ لها، وكانت تحتل آخر مكان في الجنس البشري، وتعمل في أحقر الأعمال، ولا يُسَرُّ أحَدٌ بمولدها، وإن اختفت إحداهنَّ لا يبكيها أحدٌ، أو يهتم بذلك، بعكس الذكور الذين كانوا يتنعَّمون كأنَّهم آلهة سقطوا من السماء.
ثالثًا: المجتمع البابلي:
أمَّا البابليون فقد كانوا في بعض شرائعهم كشريعة "حمورابي" يعدون المرأة في عداد الماشية المملوكة؛ لدرجة أنَّهم كانوا يفرضون على من قتل بنتًا لرجل أن يسلمه بنته ليقتلها، أو يملكها إذا شاء أن يعفو عنها.
رابعًا: المجتمع اليُونَانِي:
وكذلك كان اليونان القُدامى ينظرون إلى المرأة نظرة احتقار، ويعدونها دون منزلة الرجل، فهي في مكانة وسطى بين الأحرار والعبيد، وكانت الزَّوجات تعشن حياة مُنْعَزِلة تشبه حياة العبوديَّة، كما كنَّ يبعن في الأسواق مسلوبات الإرادة، ولم يكن لهنَّ حق في الميراث، أو التَّصرف في أي شأن من شؤونهن بمفردهن.
خامسًا: المرأة الرُّومانِيَّة:
لم تكن المرأة الرومانيَّة أسعد حالاً منها في المجتمعات الأخرى؛ إذ عدت بحكم القانون الروماني مملوكة للرَّجل، يعاملها معاملة الرَّقيق أو الحيوان سواء أكان أبًا، أو زوجًا، أو ابنًا؛ وذلك لأنَّ الأنوثة عندهم كانت سببًا في انعدام الأهليَّة، كصغر السن والجنون، وكان شعارهم أنَّ قيد المرأة لا ينزع، ولم تتحرَّر المرأة من هذه القيود إلاَّ بتحرر العبيد والجواري بعد تمردهم، وقيامهم بالعديد من الثَّورات؛ لأنَّ المرأة عندهم كانت في مرتبة الرق المملوك، ولم ترتقِ إلى مرتبة السَّادة.
سادسًا: نظرة المجتمع الفرعوني للمرأة الإسرائيليَّة:
تجرَّعت المرأة الإسرائيليَّة كذلك صنوفًا من العذاب على يد فرعون، وأصدق دليلٍ على ذلك ما ورد في القرآن الكريم نفسه؛ إذ وصف الله تعالى حالها في عصر الفراعنة بالذل والضَّعف والمهانة، وفي ذلك يقول الله تعالي مذكرًا بني إسرائيل بأنعمه عليهم: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: 49].
فقد استعاد فرعون وملؤه بني إسرائيل يجشمونهم الأعمال الشَّاقة المستمرَّة بلا راحة، وبالإضافة إلى عذاب العمل الشَّاق كانوا يذبحون ذكورهم، ويستحيون نساءهم: أي يستبقونهنَّ أحياء حتى يصرن نساء؛ وذلك لاسترقاقهنَّ وخدمتهم لا رحمة بهن، فصار ذلك هو سوء العذاب، ومن هذا الوصف القرآني يتَّضح لنا مدى الذل والشَّقاء اللذين كانت تعانيهما المرأة الإسرائيليَّة في هذا المجتمع المتمثلين في الشَّقاء البدني، والعناء النفسي.
وهكذا يتبيَّن لنا مدى ظلم المجتمعات القديمة للمرأة، وتعمد احتقارها وإذلالها، وعدها من جنس آخر غير جنس الرَّجل لمجرَّد الاختلاف البيولوجي بينها وبينه.
وإذا ما تركنا المجتمعات القديمة إلى المجتمعات الكتابيَّة لنبحث عن نظرتهم إلى المرأة، نجد أنَّ المرأة عندهم لم تكن أسعد حظًّا من أختها في المجتمعات غير الكتابيَّة، وسوف أعرض نبذة قصيرة عن تلك النَّظرة من خلال الديانتين اليهوديَّة والنَّصرانيَّة.
أمَّا في اليهوديَّة:
فقد كان اليهود يعدون المرأة لعنةً، ويحملونها مسؤولية إغواء آدم - عليه السلام - وخروجه من الجنَّة؛ كما كانت بعض طوائف اليهود تعد المرأة في مرتبة الخدم، وجعلوا لأبيها الحق في بيعها، وكانوا لا يورثونها إن كان لأبيها ذرية ذكور إلاَّ ما كان أبوها يتبرع به لها في حياته.
وأصدق دليل على سوء معاملة اليهود للمرأة ما رُوِيَ عنِ النَّبِيِّ من ((أنَّ اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعونهن في البيوت))؛ وذلك لأنهم كانوا يعتقدون أنَّ المرأة نجسة في هذه الحال، وبالتالي كل ما تلمسه يكون نجسًا مثلها.
وأمَّا عند النَّصارى:
فكانوا لا يسمحون للنساء أن يصلين أو يتعلمن في الكنيسة كالرجل، وإن كن يردن أن يتعلمن شيئًا فليسألن رجالهن في البيوت؛ لأنه قبيح بالنساء أن تتكلم في الكنيسة.
وفوق هذا فقد غالى رجال الكنيسة في امتهان المرأة، وإهدار قيمتها لدرجة أنَّهم حملوها مسؤولية انتشار الفواحش في المجتمع؛ لذا دعوا إلى الرَّهبنة؛ لأنَّ الزواج دنس يجب الابتعاد عنه - في نظرهم - وعدوها من أمارات التَّقوى والورع.
كما أطلق بعضهم على روح المرأة اسم "الروح الشريرة"؛ حتى وصل الأمر ببعضهم إلى الاختلاف حول طبيعة المرأة: هل هي مجرد جسم؟ أو لها روح؟ وهل تعد إنسانًا أو غير ذلك؟ وأخيرًا قرروا أنَّها إنسان خلق لخدمة الرجل فحسب، كما عدت بعض مجامع روما المرأة مخلوقًا لا نفس له، ولا حق في الحياة الأخرويَّة، لأنَّها لا تبعث كما يبعث الرجال، إنَّما تنتهي حياتها بالموت كالعجماوات.
نظرة المجتمع الجاهلي للمرأة:
وإذا ما رجعنا إلي البيئة العربيَّة قبل الإسلام، وبحثنا عن نظرة هذا المجتمع للمرأة، نجد أنَّ المرأة كانت مهضومة في كثير من حقوقها، وقد سجَّل لنا القرآن الكريم بعض مظاهر هذا الظلم ليكون حجَّة عليهم.
نظرة الإسلام إلى المرأة:
وبعد أن قدَّمت لمحة مختصرة عن نظرة المجتمعات القديمة للمرأة، أودُّ أن أبَيّن نظرة الإسلام إلى المرأة وطبيعة تكوينها، وبخاصَّة أنه أشرق في وسط الظلام المخيم، وهذه النَّظرة الجائرة الآثمة التي أهدرت كرامة المرأة، ووصفتها بكل رذيلة حسية ومعنويَّة، إلى أن وصل الأمر إلى الاختلاف في شأن إنسانيَّتها، وأحقيتها في التَّنعم بالنَّعيم الأزلي في دار الخلود، في ضوء هذا كله جاء القرآن الكريم ليقَرِّر الحقيقة الجليلة التي لم يستطع أحدٌ إنكارها بعد ذلك، وهي حقيقة مساواة المرأة للرَّجل في أصل الخلقة، واشتراكهما معًا في الطَّبيعة الإنسانيَّة سواء بسواء، وأن لها دورًا مقررًا تسهم به في بناء المجتمع الإسلامي، وهي مسؤولة مثل الرجل أمام الله تعالى إذ قال - عز من قائل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
وهذا المبدأ الإسلامي بلا شكَّ مبدأ فطرى طبعي، فما دام الناس مربوبين لرب واحد، وناشئين من أصل واحد فهم مشتركون في صفة الإنسانيَّة لا فرق في ذلك بين جنسي الذكورة والأنوثة؛ لأنَّ التَّفرقة بينهما في الاعتبار الإنساني والبشري، وأعظم برهان على ذلك أنَّ الله تعالى وجه خطابه للناس جميعًا (ذكرًا وأنثي)؛ لأنَّ القضيَّة التي تحدث عنها سبحانه قضيَّة عامَّة، وليست خاصَّة بمجتمع معيَّن، أو زمن محدَّد، ولاسيَّما أنَّ هذه الآية نزلت في المجتمع المدني بعد الهجرة، وكان أكثر أهل المدينة من اليهود الذين اشتركوا مع المجتمعات الأخرى في ظلم المرأة، وتجريدها من خصائصها الإنسانيَّة؛ لذا أمرهم الله تعالى مع سائر المكلفين بتقواه تعالى فهو خالق البشر جميعًا من أصل واحد، فعلينا أن نتجنَّب غضبه، ونحذر من عصيانه.