بعدما تبين أن مدار الحروب عند الكفار تدور حول أسباب مادية ودينية لمدافعة الحق فلابد من بيان عقيدة الجهاد في الإسلام وبيان أنه إنما هو جهاد عقيدة..
فعن أَبي موسى قال: جاء رجل إِلى النبي فقال: يا رسولَ الله، ما القتال في سبيل الله؟ فإنَّ أَحدنا يقاتل في سبيلِ الله؟ فإن أَحدنا يقاتل غضباً ويقاتِل حمِيَّةً. فرَفع إليه رأسَه قال: وما رفع إليهِ رأسَه إِلا أَنه كان قائماً ـ فقال: من قاتَل لتَكون كلمةُ الله هي العليا فهوفي سبيل اللّهِ عز وجل"
فكل السبل القتالية موصدة إلا ماكان المقصد منه إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى
ولما كانت هذه الرسالة هي وحدها الحقيقة بالإيمان لكونها المهيمنة على الشرائع السابقة
وحيث إن دعوة رسول الله عالمية بدليل قوله تعالى"وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"
فلا غَرو أن يكون الجهاد الإسلامي محفوفا بمنظومة من القيم والأخلاق التي تنزهه عن كونه حربًا مجردة من المعاني النبيلة والغايات السامقة
لأن العقيدة التي من أجلها جردت سيوف الجهاد..هي في ذاتها تتسم بالصفاء عن كل الشوائب الوضعية
لدرجة المبالغة في سد الذرائع المفضية إلى الشرك ولو بسبب خفي..كما تتصف بالحض على مكارم الأخلاق في ذات الوقت
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم"إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق"
ثم هي رسالة قائمة على العدل والإحسان..حتى مع المخالف الكافر كما قال تعالى"ولايجرمنك شنآن قوم على ألا تعدلوا"..وقال "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليه"
وماذاك إلا لكونها ربانية المصدر..
فليس غريبا إذن أن يكون الجهاد مع ما تقدم قائما على العدل ..فهو لم يشرع أصلا إلا لسعادة البشرية..
ولهذا الأصل ينبغي أن يكون المهيع في تأويل ما يفتريه المستشرقون وأذنابهم- أعني في محاولاتهم الدؤوبة للطعن بهذا الدين عبر رميه بالتهم والأباطيل والشبهات التي سأعرض لبعضها في ثنايا المقال
ولمعرفة حقيقة العلاقة بين العقيدة والجهاد..يتحتم معرفة حقيقة كلمة التوحيد ومقتضياتها ولوازمها
فالذين عزلوا لوازمها عنها وقعوا في الإخلاد إلى الأرض أو الركون إلى الذين ظلموا وربما نسبوا ذلك إلى سماحة الإسلام! وهؤلاء هم المرجئة والمميعون وأضرابهم..والذين غلوا,قاتلوا المؤمنين لأتفه الأسباب كما كان من الخوارج وقتالهم للصحابة
والحق بين هؤلاء وهؤلاء..وسواء قلنا إن الجهاد دفاعي أو هجومي فإن المتفق عليه بين الجميع أن الجهاد مشروع لـ"حماية المشروع " الذي هو الدين الخالص الحق..وهذه الحماية يترتب عليها نوعا الجهاد,الدفع والطلب جميعا بحسب الحال
ولبيان حقيقة الصلة بين حقيقة كلمة التوحيد وشرعة الجهاد..نذكر طرفا من معاني هذي الكلمة..ونذكر بإزائها وجه العلاقة:-
-فهي أولا نفي لاستحقاق أي شيء سوى الله تعالى للعبادة..وهذه العبادة كما يقول ابن تيمية:(اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهر والباطنة)..فحيثم استعبد قومٌ قومًا كان من لازم تحقيق العبادة لله عز وجل أن يرفع هذا الاستعباد..ليكون الناس أحرارًا من العبودية للعباد..لا سلطان لأحد عليهم سوى الله..وبذلك تتحقق العدالة في أبهى صورها
-ثم هي إثبات لاستحقاق الله وحده بذلك..فهو سبحانه المهيمن المطلق فكان من ينازع الله في حكمه معطلاً لحركة الحياة ومؤسسًا لهدم الدين الحق الذي هو الإسلام..ويستحق المدافعة
-وكذلك فإن الإقرار للنبي محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة..أحد ركني شهادة التوحيد..وهو عليه الصلاة وسلم أرسل للناس كافة..وأرسله ربه رحمة للعالمين..
هذا الإقرار يجعل لزاما على من آمن به أن يسعى في نشر دينه فإن الله وصل به الرسالات وأتمها به..فالنكوص عن تبليغ دعوته قطع لما أمر الله به أن يوصل وسلوك لسبيل المغضوب عليهم والضالين
فإذا ما تصدى لهذه الدعوى مناوئوها..لزم جهادهم بكل وسيلة مشروعة ممكنة
-ثم إن العبادة كلمة تلتئم من معنيين:الحب والذل..والجهاد وإن كان مكروهًا على النفس كما قال تعالى"كتب عليكم القتال وهو كره لكم"..غيرَ أنّ تحقيق الخيرية هو في غايته التي من أجلها شرع ولهذا قال سبحانه عقب ذلك"وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم"..وهذه حقيقة الحب..الذي هو حب الله تعالى ..لأن المجاهد قدم محابّ الله ومراضيه على ملذاته الشخصية ورغائبه الوقتية..
وأما الذل..فإن الإنسان مخلوق من ضعف..والله تعالى من تكريمه لهذا الإنسان..حرم عليه أن يكون ذليلا لأحد سواه
فيتكبّد من المشاق والصعاب والأذى ما يكون به ذليلاً لله جل ثناؤه..عزيزا على الكافرين..ليكون الدين كله لله تبارك وتعالى
إذا تقرر ماسبق من أن شريعة الجهاد فرع عقيدة الإسلام الذي جاء به كل الرسل..
فإن هذه العقيدة ليس من شأنها "السماحة" المائعة التي تخالف الفطر السليمة على طريقة تعاليم النصارى والتي تتلخص بما ينسب للمسيح عليه السلام أنه قال"إذا ضربك أحد على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر"و التي ينقضونها بأفعالهم..كما يشهد بذلك التاريخ والواقع المعاصر سواء بسواء..
كما أنه ليس من شأنها الظلم والعسف والعنصرية الصارخة التي تقررها تعاليم التوراة المحرفة والتي شرحها حاخامات الحقبة البابلية بالسفر الضخم المسمى بالتلمود..وهذا يقودنا إلى المبحث القادم وهو مناقشة الحكمة من مشروعية الجهاد وكونه ذروة سنام الإسلام
يتبع مع بيان المزيد عن الآصرة الوثيقة بين حقيقة العقيدة الصافية والجهاد وما يتبع ذلك من مقتضيات إن شاء الله تعالى