سئل الشيخ سعد بن حمد بن عتيق: عن الذبح عند المريض... ؟
فأجاب: لا ريب أن التقرب إلى الله بالنسك من أفضل القربات، وأعظم الطاعات، ومن أشرف الحسنات، وأفضل النفقات للمسلم إذا حسن قصده في ذلك، وتجرد من الشوائب والأسباب التي توجب حبوط العمل وعدم الانتفاع به، أو لحوقه بالمعاصي التي يعاقب عليها، قال الله تعالى:
{ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الأنعام آية: 162]، وقال:{ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [سورة الكوثر آية: 2]. فما يتقرب به المسلم إلى الله من الهدايا والأضاحي، وغير ذلك من النسك المأمور به شرعاً، كل ذلك من العبادات التي أمر الله بها عباده؛ فمن فعل من ذلك شيئاً لغير الله فهو مشرك.
وقد كان المشركون يتقربون إلى معبوداتهم بأنواع من القرب، كالهدايا والنذور وغير ذلك؛ وهذا من الشرك الذي قال الله فيه:{ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } [سورة النساء آية: 48]، وقال:{ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ } [سورة المائدة آية: 72]. في صحيح مسلم عن علي قال: " حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: لعن الله من ذبح لغير الله " 1 الحديث، وساق حديث طارق: " دخل الجنة رجل في ذباب " الحديث.
ومن الشرك: ما يقع في كثير من المدن والبوادي والقرى والأمصار، ممن ينتسب إلى الإسلام، ممن قل نصيبه من الدين، وخالف سبيل المؤمنين، وسلك طريق المغضوب عليهم والضالين، من الذبح للجن، واتخاذهم أولياء من دون الله، مضاهاة لإخوانهم من المشركين الأولين، الذين قال الله فيهم:{ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } [سورة الأعراف آية: 30]، وقال:{ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ } [سورة سبأ آية: 41]؛ وقد كانوا يجعلون الجن شركاء لله في عبادته، فيذبحون
لهم وينذرون لهم، ويستعيذون بهم، ويفزعون إليهم عند النوائب؛ وكان منهم من يفعل ذلك خوفا من شرهم، وتخلصاً من أذاهم، وساق أدلة الاستعاذة بالله من شرهم. ثم قال: فالاستعاذة بالله من أفضل مقامات العبودية، مثل الدعاء والخوف والرجاء والذبح والتوكل، فمن صرف منها شيئاً لغير الله فهو مشرك.
قال ابن القيم: ومن ذبح للشيطان ودعاه واستعاذ به وتقرب إليه بما يحب، فقد عبده وإن لم يسم ذلك عبادة، أو يسميه استخداماً، وصدق، هو استخدام من الشيطان له، فيصير من خدم الشيطان وعابديه، وبذلك يخدمه الشيطان. والذبح للجن يفعله كثير من أهل الجهل والضلال، إذا مرض الشخص أو أصابه جنون أو داء مزمن، ذبحوا عنده كبشاً أو غيره؛ وكثير منهم يصرحون بأنهم ذبحوه للجن، ويزعمون أن الجن أصابته بسبب حدث منه، فيذبحون عنده ذبيحة للجن، يقصدون تخليصه مما أصابه من ذلك الداء.
ولا شك أن الجن قد تعرض لبعض الإنس بأنواع من الأذى، كالصرع وغيره، لأسباب يفعلها الإنسي يتأذون بها؛ فإذا ابتلي الإنسان بشيء من ذلك، فالواجب عليه، الفزع إلى الله والاستعاذة به، والالتجاء إليه والتوكل عليه، فبالاعتصام بالله يندفع عدوان المعتدين، من الإنس والجن والشياطين، وأما العدول عن ذلك إلى الالتجاء إلى الجن، والذبح لهم، فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله.
ومن هذا الباب: ما يفعله الجاهلون بمكة من الذبح للجن، ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه نهى عن ذبائح الجن ". قال الزمخشري: كانوا إذا اشتروا داراً أو بنوها، أو استخرجوا عيناً، ذبحوا ذبيحة، خوفاً أن تصيبهم الجن، فأضيفت إليهم الذبائح لذلك. ثم من الناس من يذبح عند المريض لهذا المقصد الخبيث، ويظهر للناس أنه إنما قصد التقرب إلى الله، والصدقة على الفقراء والمساكين بلحم ما يذبحه، وقد اطلع الله منه على سوء القصد، وأنه إنما قصد بذبيحته التقرب إلى الجن، ولكن منعه من بيان مقصده الخوف من المسلمين؛ وهذا نفاق وزندقة ومحادة لله ورسوله، كإخوانه الموصوفين في قوله:{ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا }الآية [سورة البقرة آية: 9]. وإذا عرفت أن الذبح عند المريض على هذا الوصف الذي ذكرنا من الشرك المحرم، فاعلم: أن من الناس من يذبح عند المريض لغير مقصد شركي، وإنما يقصد بالذبح التقرب إلى الله بالذبيحة والصدقة بلحمها، ولا يخفى أن قاعدة سد الذرائع المفضية إلى الشرك تقتضي المنع من فعل ذلك والنهي عنه، لأن ذلك ذريعة لفعل الشرك، لما قد عرفت أن كثيراً من الناس يذبح عند المريض لقصد التقرب إلى الجن، ولكن يخفي قصده خوفاً من العقوبة، وبعضهم يبين قصده لإخوانه من شياطين الإنس.
وقد حدثني من لا أتهم أن من هذا الجنس من أتى إلى مريض وأشار بأن يذبح عنده ذبيحة، ثم لما تفرق الناس عنه أسر إليه وأشار أن الذبيحة لغير الله.
وبذلك يعلم: أن المتعين: النهي عن الذبح عند المريض، وإن حسن قصد الفاعل، سداً لباب الشرك، وحسماً للذرائع التي تجر إليه؛ فإن العمل وإن كان أصله قربة وفعله طاعة، فقد يقترن به ما يوجب بطلانه، ويقتضي النهي عنه، كأعمال الرياء، وتحري الدعاء والصلاة لله عند القبور، والنحر في أمكنة أعياد المشركين ومواطن أوثانهم، وساق حديث ثابت بن الضحاك - إلى أن قال - ومن مفاسد ذلك: أنه سبب لدخول أهل النفاق، فيذبحون لأوليائهم من الجن، ولا يخافون أحداً من المسلمين، لعلمهم بخفاء سوء قصدهم، وعدم اطلاع المؤمنين على ما أبطنوه من شركهم وضلالهم. انتهى ملخصاً.[الدرر السنية المجلد العاشر ص 255]