تداخل القواعد الفقهية في القواعد الأصولية
إن بعض القواعد الفقهية قد نجدها في أصول الفقه وفي قواعد الفقه أيضاً، فذلك نتيجة اختلاف النظر إلى القواعد؛ فالقاعدة ينظر إليها من ناحيتين: من ناحية فعل المكلَّف، ومن ناحية الاستدلال، مثل: سد الذرائع، فإذا نظرنا إليها باعتبار موضوعها دليلاً شرعيًّا، كانت قاعدة أصولية، وإذا نظرنا إليها باعتبارها فعلاً للمكلف كانت قاعدة فقهية.
إذا قيل: كل مباح أدى فعله إلى حرام، فهو حرام؛ سدًّا للذريعة، كانت قاعدة فقهية.
وإذا قيل: الدليل المثبت للحرام مثبت لتحريم ما أدى إليه، كانت قاعدة أصولية.
وإليكم المثال الثاني:
الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد:
إن لهذه القاعدة جهتين:
الأولى: لها علاقة بالفعل، حيث لو صلى أحد بالتحري أربع ركعات، كل منها في جهة، حتى أتم الأربع في أربع جهات، تصح الكل، مع أن الاجتهاد الثاني يخالف الأول، والثالث الثاني، والرابع الثالث؛ لأن الاجتهاد الثاني بعد الاجتهاد الأول لا يبطل الركعة الأولى، بل هي صحيحة.
من هذه الناحية يبدو أن هذه قاعدة فقهية؛ لأنها تتعلق بفعل المكلف، وأنها حكم عام.
الثانية: أن هذه القاعدة من أصول المجتهدين، حيث إنها ميزان وضابط يدل على أن اجتهاد المجتهد الأول لا ينقضه الاجتهاد الثاني، فكل ما كان من أصولهم فهو قاعدةٌ أصولية.
وإليكم المثال الثالث:
"الأصل: بقاء ما كان على ما كان".
إن لها جهتين:
الأولى: علاقتها بالفعل، حيث لو فقدنا رجلاً نحكم بحياته؛ لأنه عند المفارقة كان حيًّا، والأصل: بقاء ما كان على ما كان.
وكذلك لو تنازع شخصان في الطريق، فينظر إلى ما كان قبل النزاع، فإن كان الطريق قبل النزاع موجودًا، فنبقي الطريق، ونقول: "الأصل: بقاء ما كان على ما كان"، فإذًا إنها قاعدة فقهية.
الثانية: أن إبقاء الشيء على ما كان هو الاستصحاب، والاستصحاب: حجة من الحجج الشرعية، (كالإجماع، والقياس، وخبر الواحد، والمصالح المرسَلة، والاستحسان)، إن علماء الأصول يستنبطون الأحكام من الاستصحاب؛ فكل ما كان ذريعة لاستنباط الحكم فهو قاعدة أصولية؛ فإذًا الأصل: بقاء ما كان على ما كان، قاعدة أصولية[1].
فإذا أمعنا النظر في هذه النماذج تبين لنا الارتباط الوثيق والانسجام القائم بين بعض قواعد أصول الفقه وقواعد الفقه، مع اختلاف النظرة التي ننظر بها إلى كل من النوعين، فإن القاعدة إذا جرى استعمالها على أنها دليل مساعد على استنباط الأحكام من الأدلة التفصيلية - كانت أصولية، وإذا نظرنا إلى نفس القاعدة باعتبار أن موضوعها فعل المكلف - كانت قاعدة فقهية.
فينبغي أن نلحظ هنا أن مجرد وجود بعض الفروع الفقهية للقاعدة الأصولية، لا يطلق عليها صفة القاعدة الفقهية؛ فإنه ما من قاعدة أصولية إلا ولها ظلال فقهية.
__________________
[1] ولا بد من التنبيه هنا إلى: أن الاستصحاب من الأصول المختلفة بين الفقهاء.
http://www.alukah.net/sharia/0/80372/