إشكالية القول المعتمد في الدراسات الفقهية

تتمايز المذاهب الفقهية فيما بينها بين مذاهب رواية تعتمد على النقل, و أخرى كتبت في عهد أصحابها وبأيديهم, ومع هذا الاختلاف في بنية المذاهب في أول الأمر إلا أنها تشترك في تعدد الأقوال داخل كل مذهب, وقد اتخذ علماء المذاهب طرقا ووضعوا ضوابط للتعامل مع تعدد الأقوال سيأتي الكلام عنها, ومع مرور الوقت ظهرت لدينا إشكالية في التعامل مع هذه الأقوال تمثلت بترك الاعتماد عليها كأقوال راجحة و معتمدة في المذاهب, واتخذ بدلا عنها أقوال مرجوحة, وقد اتخذ لذلك مسالك, منها : العمل بالراجح, والمقصود به العمل بما يوافق ظاهر الدليل, وهو مسلك في أصله صحيح إلا أن الإشكال فيه متمثل بضعف المنهج الأصولي الذي بني عليه, كما أن هذا الراجح لا يَعتبر بما تقرر في المذاهب الفقهية, فقد يكون هو الراجح فيها أو المرجوح بل وقد يكون الضعيف أو مما لا تصح نسبته للمذهب, ومما أثر في هذا المسلك غياب المدرسة التقليدية, وقد تقدم بيان هذا في مقال سابق. ومن المسالك الظاهرة كذلك التعامل مع تراث المذاهب بمنزلة واحدة دون مراعاة مراتب المسائل المدونة فيها, وليس هذا في حقيقته قبول للمذاهب أو إعمال لها, فإعمالها يكون من خلال تطبيق أصولها وقواعدها وما يُعتبر في تصحيح المسائل فيها, ومن هذا الباب مساواة ما نقل عن أئمة المذاهب بما ينقل عن سائر العلماء والأئمة وتنزيلها منزلة واحدة, وقد كان من نتائج هذه المسالك ترك الاعتماد على الأقوال المعتمدة في المذاهب, ومن ذلك غياب طرق معرفة المعتمد في المذاهب وقواعد الترجيح وتصحيح المسائل فيها, حتى أصبح الفقه المذهبي من العلوم خفية المعالم حتى عند الفقهاء وأهل الاختصاص, ومن مظاهر هذا غياب التخريج على رواياته في معالجة النوازل والمستجدات, وبالعودة إلى القول المعتمد في المذاهب, فإن الناظر في مسالك الترجيح لدى الأئمة يرى أنها تعود على القول بالقوة والصحة, والأصل في هذا أن توارد العلماء على ترجيح قول وعملهم به وتخريجهم عليه يدل على صحة أصوله التي بني عليها, وقوة دليله وظهور وجه الدلالة منه, وهو بهذا يأخذ خصائص الشرع, وهذا مما يعين على تحقيق خصائص الشرع واستمراره, ولذلك يكون العدول عنه عدول عن تحقيق ما تقدم من هذه الخصائص, وقد سلك العلماء مسالك متعددة في تميز الأقوال داخل المذاهب الفقهية, ولتقريب هذا الأمر سأضرب مثالا بالمعارف الحنبلية –موضوع الدراسة- و طريقة أئمة المذهب في الوصول إلى القول المعتمد في مذهب الإمام أحمد من خلال تجلية مسالكهم التي ساروا عليها على سبيل الإجمال هنا, من ذلك : - معرفة طبقات الأصحاب, وقد قسم العلماء طبقات الحنابلة إلى ثلاث طبقات: متقدمون, متوسطون, متأخرون, ولكل طبقة من هذه الطبقات خصائصها التي تميزها وتميز معارفها, فمعرفة هذه الطبقات مما يعين على الوصول إلى القول المعتمد. - ومن ذلك : معرفة قواعد المذهب وأصوله, فهي من أهم طرق تميز الأقوال وتصحيحها.
- معرفة أنواع الكتب في المذهب, وهذه من المهمات حيث تتنوع كتب المذهب تنوعا كبيرا في كل طبقة والكلام في هذا يطول, إلا أن الأهم هنا معرفة من سلك مسلك تصحيح الروايات والاعتماد على الراجح منها, وهي في كل طبقة من طبقات الأصحاب, وكذلك معرفة من أخل بهذا المسلك أو أكثر من الروايات الغريبة والرواة الذين عرفوا بها.
- ومن ذلك : معرفة مراتب العلماء في المذهب ومن تدور عليهم عملية التصحيح, وهم مميزون في كل طبقة من طبقات المذهب, إليهم يُرجع في معرفة الصحيح من الروايات.
- ومن ذلك : معرفة أصول وقواعد التصحيح التي سلكها علماء المذهب في كل طبقة, وهذا يقتضي من صاحبه ممارسة هذا المذهب والقراءة الواسعة لأصحابه.
- ومن ذلك : معرفة الروايات التي يدخلها التصحيح من خلال معرفة أنواع الروايات المدونة في المذهب, وهذا يعين على تحديد نوع التصحيح والقواعد المستخدمة فيه .
وهنا يمكن أن نذكر على سبيل الاختصار أنواع التصحيح التي سلكها علماء المذهب, وهي : - تصحيح من جهة النسبة للإمام, وهذا المسلك مما اشتهر في الطبقة الأولى من طبقات الأصحاب, وقلّ في الطبقتين التاليتين. - تصحيح من جهة الدلالة التي تضمنتها الرواية, وهذه كانت في الطبقة الأولى وقد اشتهر فيها ابن حامد رحمه الله في كتابه الفذ " تهذيب الأجوبة ", ثم توسع فيها علماء الطبقة الأولى من المتوسطين. - التصحيح من جهة تعارض الروايات, وقد كانت في الطبقتين الأولى والثانية بصورة ظاهرة. - التصحيح من جهة الروايات المطلقة, وهذه اشتهرت عند المتأخرين حيث وجد الإطلاق في طبقة المتوسطين.
- التصحيح من جهة أصول وقواعد المذهب, وهذا المسلك وجد في الطبقات الثلاث خصوصا لدى طبقة المتوسطين والمتأخرين. - التصحيح من جهة الدليل من الكتاب والسنة, وهذا المسلك اشتهر لدى المجتهدين من علماء كل طبقة من طبقات الأصحاب .
إذن هذه هي المسالك التي سار عليها علماء الحنابلة في تصحيح الروايات والترجيح بينها للوصول إلى القول المعتمد, وسيأتي لها مزيد تفصيل بإذن الله تعالى.

كتبه:
د. عصر محمد النصر
دكتوراة الحديث الشريف - جامعة اليرموك الأردنية


صفحة الدكتور على الفيسبوك:

www.facebook.com/asur.naser
صفحته على تويتر:
http://twitter.com/ibnmajjah77