بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله

قال الإمام ابن القيم رحمه الله في الصواعق المرسلة
فصل

وإذا قيل حروف المعجم قديمة أو مخلوقة ، فجوابه أن الحرف حرفان : فالحرف الواقع في كلام المخلوقين مخلوق ، وحروف القرآن غير مخلوقة .

فإن قيل : كيف الحرف الواحد مخلوق وغير مخلوق .

قيل : ليس بواحد بالعين وإن كان واحدا بالنوع ، كما أن الكلام ينقسم إلى مخلوق وغير مخلوق ، فهو واحد بالنوع لا بالعين .

وتحقيق ذلك أن الشيء له أربع مراتب : مرتبة في الأعيان ، ومرتبة في الأذهان ، ومرتبة في اللسان ، ومرتبة في الخط ، فالمرتبة الأولى وجوده العيني ، والثانية وجوده الذهني ، والثالثة وجوده اللفظي ، والرابعة وجوده الرسمي ، وهذه المراتب الأربعة تظهر في الأعيان القائمة بنفسها ، كالشمس مثلا وفي أكثر الأعراض أيضا كالألوان وغيرها ، ويعسر تمييزه في بعضها كالعلم والكلام ، أما العلم فلا يكاد يحصل الفرق بين مرتبته في الخارج ومرتبته في الذهن ، بل وجوده الخارجي مماثل لوجوده الذهني ، وأما الكلام فإن وجوده الخارجي ما قام باللسان ، ووجوده الذهني ما قام بالقلب ، ووجوده الرسمي ما أظهر الرسم ، فأما وجوده اللفظي فقد اتحدت فيه المرتبتان الخارجية [ ص: 509 ] واللفظية ، ومن مواقع الاشتباه أيضا أن الصوت الذي يحصل له إنشاء الكلام مثل الصوت الذي يحصل به أداؤه وتبليغه ، وكذلك الحرف ، فصوت امرئ القيس وحروفه من قوله :


قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل


كصوت المنشد لذلك حكاية عنه وحرفه ، فإذا قال القائل : هذا كلامك أو كلام امرئ القيس ؟ كان السؤال مجملا تحتمل الإشارة فيه معنيين أحدهما : أن يراد الإشارة إلى صوت المؤدي وحروفه ، والثاني : أن يراد الإشارة إلى الكلام المؤدى بصوت هذا وحروفه ، والغالب إرادته هو الثاني ، ولهذا يحمد القائل له أولا أو يذم ، وإنما يحمد الثاني أو يذم على كيفية الأداء وحسن الصوت وقبحه .

والكلام يضاف إلى من قاله مبتديا لا إلى من قاله مبلغا مؤديا ، فإذا قال الواحد منا : الأعمال بالنيات ، مؤديا له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل أحد إن هذا قولك وكلامك .

وإن قيل إنك حسن الأداء له ، حسن التلفظ به ، وهذا الذي قام به وهو حسنه وفعله وعليه يقع اسم الخلق ، ولشدة ارتباطه بأصل الكلام عسر التمييز .

ومن هاهنا غلطت الطائفتان إحداهما : جعلت الكل مخلوقا منفصلا ، والثانية : جعلت الكل قديما ، وهو عين صفة الرب نظرا إلى من تكلم به أولا .

والحق ما عليه أئمة الإسلام كالإمام أحمد والبخاري وأهل الحديث : أن الصوت صوت القارئ والكلام كلام الباري .

وقد اختلف الناس هل التلاوة غير المتلو أم هي المتلو ؟ على قولين ، والذين قالوا : التلاوة هي المتلو ، فليست حركات الإنسان عندهم هي التلاوة ، وإنما أظهرت التلاوة وكانت سببا لظهورها ، وإلا فالتلاوة عندهم هي نفس الحروف والأصوات وهي قديمة ، والذين قالوا التلاوة غير المتلو طائفتان :

إحداهما قالت : التلاوة هي هذه الحروف والأصوات المسموعة ، وهي مخلوقة ، والمتلو هي المعنى القائم بالنفس وهو قديم ، وهذا قول الأشعري .

والطائفة الثانية قالوا : التلاوة هي قراءتنا وتلفظنا بالقرآن ، والمتلو هو القرآن العزيز والمسموع بالآذان بالأداء من في رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ( المص ) ( حم ) ( عسق ) ( كهيعص ) حروف وكلمات وسور وآيات تلاه عليه جبرائيل كذلك وتلاه هو على الأمة كما تلاه عليه جبرائيل ، وبلغه جبرائيل عن الله تعالى كما سمعه ، وهذا [ ص: 510 ] قول السلف وأئمة السنة والحديث ، فهم يميزون بين ما قام بالعبد وما قام بالرب ، والقرآن عندهم جميعه كلام الله ، حروفه ومعانيه ، وأصوات العباد وحركاتهم ، وأداؤهم وتلفظهم ، كل ذلك مخلوق بائن عن الله .

فإن قيل : فإذا كان الأمر كما قررتم فكيف أنكر الإمام أحمد على من قال : لفظي بالقرآن مخلوق . وبدعه ونسبه إلى التجهم ، وهل كانت محنة أبي عبد الله البخاري إلا على ذلك حتى هجره أهل الحديث ونسبوه إلى القول بخلق القرآن .

قيل : معاذ الله أن يظن بأئمة الإسلام هذا الظن الفاسد ، فقد صرح البخاري في كتابه ( خلق أفعال العباد ) وفي آخر ( الجامع ) بأن القرآن كلام الله غير مخلوق ، وقال : حدثنا سفيان بن عيينة قال : أدركت مشيختنا منذ سبعين سنة ، منهم عمرو بن دينار يقولون : القرآن كلام الله غير مخلوق .

قال البخاري : وقال أحمد بن الحسين حدثنا أبو نعيم حدثنا سليم القاري قال سمعت سفيان الثوري يقول : قال حماد بن أبي سليمان : أبلغ أبا فلان المشرك أني بريء من دينه ، وكان يقول : القرآن مخلوق ، ثم ساق قصة خالد بن عبد الله القسري وأنه ضحى بالجعد بن درهم وقال إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما ثم نزل فذبحه .

هذا مذهب الإمام البخاري ومذهب الإمام أحمد وأصحابهما من سائر أهل السنة ، فخفي تفريق البخاري وتمييزه على جماعة من أهل السنة والحديث ، ولم يفهم بعضهم مراده وتعلقوا بالمنقول عن أحمد نقلا مستفيضا أنه قال : من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي : ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع ، وساعد ذلك نوع حسد باطن للبخاري لما كان الله نشر له من الصيت والمحبة في قلوب الخلق واجتماع الناس عليه حيث حل ، حتى هضم كثير من رياسة أهل العلم وامتعضوا لذلك ، فوافق الهوى الباطن الشبهة الناشئة من القول المجمل ، وتمسكوا بإطلاق الإمام أحمد وإنكاره على من قال [ ص: 511 ] لفظي بالقرآن مخلوق وأنه جهمي ، فتركب من مجموع هذه الأمور فتنة وقعت بين أهل الحديث .

قال الحاكم أبو عبد الله : سمعت أبا القاسم طاهر بن أحمد الوراق يقول : سمعت محمد بن شاذان الهاشمي يقول : لما وقع بين محمد بن يحيى ومحمد بن إسماعيل دخلت على محمد بن إسماعيل فقلت : يا أبا عبد الله إيش الحيلة لنا فيما بينك وبين محمد بن يحيى ، كل من يختلف إليك يطرد من منزله وليس لكم منزل ، قال : محمد بن يحيى كم يعتريه الحسد في العلم ، والعلم رزق من الله تعالى يعطيه من يشاء ، فقلت : يا أبا عبد الله ، هذه المسألة التي تحكى عندك ، فقال لي هذه مسألة مشئومة رأيت أحمد بن حنبل وما ناله من هذه المسألة جعلت على نفسي لا أتكلم فيها ، والمسألة التي كانت بينهما كان محمد بن يحيى لا يجيب فيها إلا ما يحكيه عن أحمد بن حنبل ، فسئل محمد بن إسماعيل فوقف عنها ، وهي أن اللفظ بالقرآن مخلوق ، فلما وقف عنها البخاري تكلم فيه محمد بن يحيى وقال : قد أظهر هذا البخاري قول اللفظية ، واللفظية شر من الجهمية .

قال الحاكم : سمعت أبا محمد عبد الله بن محمد العدل يقول : سمعت أبا حامد بن الشرقي يقول : سمعت محمد بن يحيى يقول : الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ، وهو قول أئمتنا مالك بن أنس ، وعبد الرحمن بن عمر والأوزاعي وسفيان بن عيينة وسفيان الثوري ، والكلام كلام الله غير مخلوق من جميع جهاته ، وحيث تصرف ، فمن لزم ما قلنا استغنى عن اللفظ وعما سواه من الكلام في القرآن ، ومن زعم أن القرآن مخلوق فقد كفر وخرج من الإيمان وبانت منه امرأته يستتاب ، فإن تاب وإلا ضربت عنقه ، وجعل ماله فيئا بين المسلمين ، ولم يدفن في مقابر المسلمين ، ومن زعم أن لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع ولا يجالس ولا يكلم ، ومن وقف وقال لا أقول مخلوق ولا غير مخلوق فقد ضاهى الكفر ، ومن ذهب بعد مجلسنا هذا إلى مجلس محمد بن إسماعيل فاتهموه فإنه لا يحضر مجلسه إلا من كان على مذهبه .

قال الحاكم : وسمعت أبا الوليد حسان بن محمد الفقيه يقول : سمعت محمد بن نعيم يقول سألت محمد بن إسماعيل البخاري لما وقع ما وقع من شأنه عن الإيمان فقال : الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ، والقرآن كلام الله غير مخلوق ، وأفضل أصحاب رسول الله أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم ، على هذا حييت [ ص: 512 ] وعليه أموت وعليه أبعث إن شاء الله تعالى ، ثم قال أبو الوليد : أي عين أصابت محمد بن إسماعيل بما نقم عليه محمد بن يحيى ، فقلت له إن محمد بن إسماعيل قد بوب في آخر الجامع الصحيح بابا مترجما ( ذكر قراءة الفاجر والمنافق وأن أصواتهم لا تجاوز حناجرهم ) نذكر فيه حديث قتادة عن أنس عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم " مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كالأترجة . . . " الحديث ، وحديث أبي زرعة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان . . . " الحديث ، فقال لي كيف قلت ؟ فأعدته عليه ، فأعجبه ذلك ، وقال : ما بلغني هذا عنه .

ومراد أبي عبد الله بهذا الاستدلال أن الثقل في الميزان والخفة على اللسان متعلق بفعل العبد وكسبه ، وهو صوته وتلفظه لا يعود إلى ما قام بالرب تعالى من كلامه وصفاته ، وكذلك قراءة البر والفاجر ، فإن قراءة الفاجر لا تجاوز حنجرته ، فلو كانت قراءته هي نفس ما قام بالرب من الكلام وهي غير مخلوقة لم تكن كذلك ، فإنها متصلة بالرب حينئذ .

فالبخاري أعلم بهذه المسألة وأولى بالصواب فيها من جميع من خالفه ، وكلامه أوضح وأمتن من كلام أبي عبد الله ، فإن الإمام أحمد سد الذريعة حيث منع إطلاق لفظ المخلوق نفيا وإثباتا على اللفظ ، فقالت طائفة : أراد سد باب الكلام في ذلك ، وقالت طائفة منهم ابن قتيبة : إنما كره أحمد ذلك ومنع ; لأن اللفظ في اللغة الرمي والإسقاط يقال لفظ الطعام من فيه ولفظ الشيء من يده إذا رمى به ، فكره أحمد إطلاق ذلك على القرآن ، وقال طائفة : إنما مراد أحمد أن اللفظ غير الملفوظ فلذلك قال : إن من زعم أن لفظه بالقرآن مخلوق فهو جهمي .

وأما منعه أن يقال : لفظي بالقرآن غير مخلوق ، فإنما منع ذلك لأنه عدول عن نفس قول السلف ، فإنهم قالوا القرآن غير مخلوق ، والقرآن اسم يتناول اللفظ والمعنى ، فإذا خص اللفظ بكونه غير مخلوق كان ذلك زيادة في الكلام أو نقصا من المعنى ، فإن القرآن كله غير مخلوق ، فلا وجه لتخصيص ذلك بألفاظ خاصة ، وهذا كما لو قال قائل : السبع الطوال من القرآن غير مخلوقة فإنه وإن كان صحيحا ، لكن هذا التخصيص ممنوع منه ، وكل هذا عدول عما أراده الإمام أحمد .

[ ص: 513 ] وهذا المنع في النفي والإثبات من كمال علمه باللغة والسنة وتحقيقه لهذا الباب فإنه امتحن به ما لم يمتحن به غيره ، وصار كلامه قدوة وإماما لحزب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة ، والذي قصده أحمد أن اللفظ يراد به أمران أحدهما : الملفوظ نفسه وهو غير مقدور للعبد ولا فعل له ، الثاني : التلفظ به والأداء له وفعل العبد ، فإطلاق الخلق على اللفظ قد توهم المعنى الأول وهو خطأ ، وإطلاق نفي الخلق عليه قد يوهم المعنى الثاني وهو خطأ ، فمنع الإطلاقين .

وأبو عبد الله البخاري ميز وفصل وأشبع الكلام في ذلك وفرق بين ما قام بالرب وبين ما قام بالعبد ، وأوقع المخلوق على تلفظ العباد وأصواتهم وحركاتهم وأكسابهم ، ونفى اسم الخلق عن الملفوظ وهو القرآن الذي سمعه جبرائيل من الله تعالى وسمعه محمد من جبرائيل ، وقد شفى في هذه المسألة في كتاب ( خلق أفعال العباد ) وأتى فيها من الفرقان والبيان بما يزيل الشبهة ، ويوضح الحق ، ويبين محله من الإمامة والدين ، ورد على الطائفتين أحسن الرد .

وقال أبو عبد الله البخاري : فأما ما احتج الفريقان لمذهب أحمد ويدعيه كل لنفسه فليس بثابت كثير من أخبارهم ، وربما لم يفهموا دقة مذهبه ، بل المعروف عن أحمد وأهل العلم أن كلام الله تعالى غير مخلوق ، وما سواه فهو مخلوق ، وأنهم كرهوا البحث والتفتيش عن الأشياء الغامضة وتجنب أهل الكلام والخوض والتنازع إلا فيما جاء به العلم وبينه النبي صلى الله عليه وسلم .

والفريقان اللذان عناهما البخاري وتصدى للرد عليهما وإبطال قولهما ، ثم أخبر البخاري أن كل واحدة من الطائفتين الزائغتين تحتج بأحمد ، وتزعم أن قولها قوله ، وهو كما قال رحمه الله تعالى فإن أولئك اللفظية يزعمون أنه كان يقول لفظي بالقرآن غير مخلوق ، وأنه على ذلك استقر أمره ، وهذا قول من يقول التلاوة هي المتلو والقراءة هي المقروء والكتابة هي المكتوب .

والطائفة الثانية الذين يقولون : التلاوة والقراءة مخلوقة ، ويقولون : ألفاظنا بالقرآن مخلوقة ، ومرادهم بالتلاوة والقرآن نفس ألفاظ القرآن العربي الذي سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمتلو المقروء عندهم هو المعنى القائم بالنفس وهو غير مخلوق ، وهو اسم للقرآن ، فإذا قالوا : القرآن غير مخلوق أرادوا به ذلك المعنى وهو المتلو المقروء ، وأما المقروء المسموع المثبت في المصاحف فهو عبارة عنه وهو مخلوق ، وهؤلاء يقولون [ ص: 514 ] التلاوة غير المتلو ، والقراءة غير المقروء ، والكتابة غير المكتوب وهي مخلوقة ، والمتلو المقروء غير مخلوق ، وهو غير مسموع ، فإنه ليس بحروف ولا أصوات .

والفريقان مع كل منهما حق وباطل ، فنقول وبالله التوفيق : أما الفريق الأول فأصابوا في قولهم إن الله تعالى تكلم بهذا القرآن على الحقيقة حروفه ومعانيه تكلم به بصوته وأسمعه من شاء من ملائكته ، وليس هذا القرآن العربي مخلوقا من جملة المخلوقات ، وأخطئوا في قولهم : إن هذا الصوت المسموع من القارئ هو الصوت القائم بذات الرب تعالى وأنه غير مخلوق ، وأن تلاوتهم وقراءتهم وألفاظهم القائمة بهم غير مخلوقة ، فهذا غلو في الإثبات يجمع بين الحق والباطل .

وأما الفريق الثاني فأصابوا في قولهم : إن أصوات العباد وتلاوتهم وقراءتهم وما قام بهم من أفعالهم وتلفظهم بالقرآن وكتابتهم له مخلوق ، وأخطئوا في قولهم إن هذا القرآن العربي الذي بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله مخلوق ، ولم يكلم به الرب ولا سمع منه ، وأن كلام الله هو المعنى القائم بنفسه ليس بحرف ولا سور ولا آيات ، ولا له بعض ولا كل وليس بعربي ولا عبراني ، بل هذه عبارات مخلوقة تدل على ذلك المعنى .

والحرب واقع بين هذين الفريقين من بعد موت الإمام أحمد إلى الآن ، فإنه لما مات الإمام أحمد قال طائفة ممن ينسب إليه ، منهم محمد بن داود المصيصي وغيره : ألفاظنا بالقرآن غير مخلوقة ، وحكوا ذلك عن الإمام أحمد فأنكر عليهم صاحب الإمام أحمد وأخص الناس به أبو بكر المروذي ذلك ، وصنف كتابا مشهورا ذكره الخلال في السنة ثم نصر هذا القول أبو عبد الله بن حامد وأبو نصر السجزي وغيرهما ، ثم نصره بعدهم القاضي أبو يعلى وغيره ثم ابن الزاغوني وهو خطأ على أحمد .

فقابل هؤلاء الفريق الثاني وقالوا : إن نفس هذه الألفاظ مخلوقة لم يتكلم الله بها ولم تسمع منه ، وإنما كلامه هو المعنى القائم بنفسه ، وقالوا : هذا قول أحمد .

والبخاري وأئمة السنة برآء من هذين القولين ، والثابت المتواتر عن الإمام أحمد هو ما نقله عنه خواص أصحابه وثقاتهم ، كما بينه صالح وعبد الله المروذي وغيرهم : من الإنكار على الطائفتين جميعا كما ذكره البخاري ، فأحمد والبخاري على خلاف قول الفريقين ، وكان يقول : من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي ، ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع ، وإن القرآن الذي يقرأه المسلمون هو كلام الله على الحقيقة [ ص: 515 ] وحيث تصرف كلام الله فهو غير مخلوق ، وكان يقول بخلق أفعال العباد وأصواتهم ، وإن الصوت المسموع من القارئ هو صوته وهو مخلوق ، ويقول في قول النبي صلى الله عليه وسلم " ليس منا من لم يتغن بالقرآن " معناه يحسنه بصوته ، كما قال " زينوا القرآن بأصواتكم " .

ولما كان كل من احتج بكلام أحمد على شيء فلا بد من أمرين أحدهما : صحة النقل عن ذلك القائل ، والثاني : معرفة كلامه ، قال البخاري : فما احتج به الفريقان من كلام أحمد ليس بثابت كثير من أخبارهم ، وربما لم يفهموا دقة مذهبه فذكر أن من المنقول عنه ما ليس بثابت ، والثابت عنه قد لا يفهمون مراده لدقته على أفهامهم .

وقال إبراهيم الحربي : كنت جالسا عند أحمد بن حنبل إذ جاءه رجل فقال : يا أبا عبد الله إن عندنا قوما يقولون إن ألفاظهم بالقرآن مخلوقة ، قال أبو عبد الله : يتوجه العبد لله بالقرآن بخمسة أوجه وهو فيها غير مخلوق : حفظ بقلب ، وتلاوة بلسان ، وسمع بأذن ، ونظرة ببصر ، وخط بيد ، فالقلب مخلوق والمحفوظ غير مخلوق ، والتلاوة مخلوقة والمتلو غير مخلوق ، والسمع مخلوق والمسموع غير مخلوق ، والنظر مخلوق والمنظور إليه غير مخلوق ، والكتابة مخلوقة والمكتوب غير مخلوق ، قال إبراهيم : فمات أحمد فرأيته في النوم وعليه ثياب خضر وبيض ، وعلى رأسه تاج من الذهب مكلل بالجواهر وفي رجليه نعلان من ذهب ، فقلت له : ما فعل الله بك ؟ قال غفر لي وقربني وأدناني ، فقال : قد غفرت لك ، فقلت له : يا رب بماذا ؟ قال : بقولك كلامي غير مخلوق .

ففرق أحمد بين فعل العبد وكسبه وما قام به فهو مخلوق ، وبين ما تعلق به كسبه وهو غير ، ومن لم يفرق هذا التفريق لم يستقر له قدم في الحق .

فإن قيل : كيف يكون المسموع غير مخلوق ، وإنما هو صوت العبد ، وأما كلامه سبحانه القائم به فإنا لا نسمعه ، وكيف يكون المنظور إليه غير مخلوق ، وإنما هو المداد والورق ، وكيف يكون المحفوظ غير مخلوق وإنما هو الصدر وما حواه واشتمل عليه ، فهل انتقل القديم وحل في المحدث أو اتحد به وظهر فيه فإن أزلتم هذه الشبهة انجلى الحق وظهر الثواب ، إلا فالغبش موجود والظلمة منعقدة .

قيل : قد زال الغبش بحمد الله وزالت الظلمة ببعض ما تقدم ، ولكن ما حيلة [ ص: 516 ] الكحال في العميان ؟ فمن يشك في القلب وصفاته ، واللسان وحركاته ، والحق وأصواته والبصر ومرئياته ، والورق ومداده ، والكاتب وآلاته .

قال الشعبي في بيع المصاحف : لا يبيع كتاب الله وإنما يبيع عمل يده ، وقال زياد مولى سعيد : سألت ابن عباس فقال : لا نرى أن تجعله متجرا ولكن ما عملت يداك فلا بأس ، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس في بيع المصاحف : إنما هم مصورون يبيعون عملهم ، عمل أيديهم ، وذكر ذلك البخاري قال ، ويذكر عن علي قال : يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه ، ولا من القرآن إلا رسمه .

قال البخاري : قال الله عز وجل : قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا قال ولكنه كلام الله تلفظ به العباد والملائكة ، قال : وقد قال تعالى : فإنما يسرناه بلسانك ولقد يسرنا القرآن للذكر قال وسمع عمر معاذا القارئ يرفع صوته بالقراءة وقال : إن أنكر الأصوات لصوت الحمير ثم روي عن أبي عثمان النهدي قال : ما سمعت صنجا قط ولا بربطا ولا مزمارا أحسن من صوت أبي موسى الأشعري إلا فلان إن كان ليصلي بنا فنود أنه قرأ البقرة لحسن صوته .

ثم قال البخاري : فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن أصوات الخلق ودراستهم وقراءتهم وتعلمهم وألسنتهم مختلفة بعضها أحسن من بعض ، وأتلى وأزين وأصوت وأرتل وألحن وأعلى وأخف وأغض وأخشع ، قال تعالى : وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا وأجهر وأخفى وأمد وأخفض وألين من بعض ، ثم ذكر حديث عائشة المتفق عليه " الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة ، والذي يشتد عليه له أجران " ومراده أن قراءته في الموضعين علمه وسعيه .

وذكر حديث قتادة : سألت أنس بن مالك عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " كان يمد مدا " وفي رواية " يمد صوته مدا " ثم ذكر حديث قطبة بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ في الفجر : والنخل باسقات لها طلع نضيد يمد بها صوته يعني فالمد والصوت له صلى الله عليه وسلم [ ص: 517 ] قال أبو عبد الله : فأما المتلو فقوله عز وجل الذي ليس كمثله شيء ، قال تعالى : هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق وقال عبد الله بن عمر : يمثل القرآن يوم القيامة فيشفع لصاحبه ، قال أبو عبد الله : وهو اكتسابه وفعله ، قال تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره .

ثم قال البخاري : فالمقروء كلام رب العالمين الذي قال لموسى : إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني إلا المعتزلة فإنهم ادعوا أن قول الله مخلوق ، وهذا خلاف ما عليه المسلمون ، ثم قال البخاري : فالقراءة هي التلاوة ، والتلاوة غير المتلو ، قال وقد بينه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم ذكر حديث " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين : يقول العبد : الحمد لله رب العالمين ، يقول الله حمدني عبدي . . . " الحديث ، فالعبد يقول : الحمد لله رب العالمين حقيقة تاليا لما قاله الله عز وجل فهذا قول الله الذي قاله وتكلم به مبتدئا تاليا وقارئا ، كما هو قول الرسول مبلغا له ومؤديا ، كما قال تعالى : قل ياأيها الكافرون قل أعوذ برب الفلق قل هو الله أحد فرسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما أمر أن يقوله ، فكان قوله تبليغا محضا لما قاله ، فمن زعم أن التالي والقارئ لم يقل شيئا فهو مكابر جاحد للحس والضرورة ، ومن عزم أن الله لم يقل هذا الكلام الذي نقرأه ونتلوه بأصواتنا فهو معطل جاحد جهمي زاعم أن القرآن قول البشر .

قال البخاري : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقرءوا إن شئتم " فالقراءة لا تكون إلا من الناس ، وقد تكلم الله بالقرآن من قبل خلقه ، فبين أن الله سبحانه هو المتكلم بالقرآن قبل أن يتكلم به العباد ، بخلاف قول المعتزلة والجهمية الذين يقولون إن الله خلقه على لسان العبد ، فتكلم العبد بما خلقه الله على لسانه من كلامه في ذلك الوقت ، ولم يتكلم به الله قبل ذلك .

[ ص: 518 ] قال البخاري : ويقال فلان حسن القراءة ورديء القراءة ، ولا يقال حسن القرآن ، وإنما ينسب إلى العباد القراءة ؛ لأن القرآن كلام الرب ، والقراءة فعل العبد ، قال ولا تخفى معرفة هذا القدر إلا على من أعمى الله قلبه ولم يوفقه ولم يهده سبيل الرشاد .