اعلم ـ رحمني الله وإيِّاك ـ أنَّ شعيرةَ " الأمرِ بالمعروفِ والنَّهي عن المُنْكرِ" من شَعَائرِ الإسلامِ العِظَامِ، ومن أوجبِ واجباتِ الدِّين؛ بل هو مِنْ آكَدِ أصولِ قواعدِ المِلَّةِ، فهو بِحقٍّ القُطْبُ الأعظمُ في الدِّين، والأمرُ الَّذِي بعثَ الله له الأنبياء والمُرسلين، في حين أنَّهُ عُنْوانُ الإسلامِ والإيمانِ، ودليلُ السَّعادةِ والأمانِ، والفوْزُ بِعزِّ الدُّنيا ودُولُ الجِنان، وما ذَلِكَ إلاَّ أنَّهُ من أشقِّ ما يحملُه المُكلَّفِ؛ لأنَّه مقامُ الرُّسُلِ، الذين ابْتُلُوا في طريقِه، وجاهدوا من أجلِه، حَتَّى ضَحَّوْا بالغالي والرَّخيصِ، والنَّفسِ والنَّفيس.**
فمتى ـ لا قدَّر الله ـ تَهاوَنَ به أهلُه المُسْلِمُوْنَ، أو تَخَاذلَ عَنْهُ أربَابُه العالمون؛ فعندها – عياذًا بالله – يَعُمُّ العذابُ، ويَحِلُّ الهوانُ، ويَتَسلَّطُ الأعداءُ، وتتَغيَّرُ رسومُ الدِّين، وعندها تنْتَشِرُ البدعُ وتُهْجَرُ السُّننُ، وتَظْهَرُ المعاصي ويسْتَعْلي أهلُها، وتختفي الطَّاعةُ ويَضْعُفُ أهلُها... إلى غير ذَلِكَ من الفتنِ والضَّلالاتِ والمُغالطات التي يكفي بعضُها لهدِمِ معالِمِ الإسلامِ العِظام.
وما هَذِهِ الشُّبُهاتُ والأدواءُ التي أحاطتْ بنا إحَاطَةَ السِّوارِ بالمَعْصمِ، وهذه الشَّهَواتُ والأهواءُ التي أظلمتْ علينا كقِطَعِ اللَّيلِ المُظْلِم، وما هَذَا الاستعلاءُ عند أهلِ الفسقِ، والمُجاهرةُ بالمعاصي في وَضَحِ النَّهارِ؛ إلاَّ أنَّ "الأمرَ بالمعروفِ والنَّهي عن المُنكرِ" ضَعُفَ جانِبُه، وكَثُرَ في النَّاسِ مُجَانِبُه، حَتَّى وَصَلَ الحالُ – ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله – عند بعضِ من يُظنُّ بهم أنَّهُم حُماةُ الإسلامِ، وأربابُ الدَّعوةِ أن تَرَاجَعُوا القَهْقَري عن مَيَادينِ الدَّعوةِ؛ ممَّا جعلَ العُصاةَ يَمْرحُون في ميادينِ شَهَواتِهم، ويَفْتَخِرُون بعصيانِهم دون حسيبٍ أو رقيبٍ... حَتَّى أصبحَ "الأمرُ بالمعروفِ والنهي عن المُنكر" نسيًا منسيًا؛ إلاَّ بقِيَّةُ أثارةِ من عِلمٍ، يَلُوكُونَ بها الألْسُنَ، ويُعطِّرُون بها المَجالِسَ، ولرُبَّما يَتَنَاظَرُون ويُصَنِّفون من أجْلِ تَشْقيقَاتٍ فَرْعيَّةٍ حَوْلَها، في حِينَ أنَّ أرضَ الواقِعِ خُلْوٌ منهم؛ نعم بَدَأ الإسْلامُ غَرِيبًا وسَيَعُودُ غريبًا!
* * *
حتى إنَّ أحدًا لو أرادَ في هَذِهِ الأزمنةِ – المُزْمِنة – أن يَعتمدَ على يديه لِينهضَ على قَدَميه: لِيُنْكِرَ ما وجب عليه، قَالَ عَنْهُ النَّاسُ: ما أكثرَ فضوله، وما أسفه رأيه، وما أضعف عقله!
ومَنْ سَكَتَ عنهم، وأخْلَدَ إليهم، قالوا عنه: ما أكمل عقله، وما أقوى رأيه... فهؤلاء هم الرَّعاعُ الصَّادون عن سبيلِ الله، المُتساقطون في مُستنقعاتِ الشُّبُهاتِ والشَّهَواتِ الذين ليس لهم في مِيزانِ الدُّعاةِ الصَّالحين وَزْنًا.
* * *
ولكنَّ المُصيبةَ المُصيبةَ، واللَّطيمةَ اللَّطيمةَ من إخوانِنا المُتخاذلين، الخائفين المُنهزمين، المُتعالين العاطلين...!
الذين إذا أرَدتَ أن تَقُومَ لله أقْعَدُوك، وإذا بَكَيْتَ لله غَيْرةً أضْحَكُوك، وإذا تكلَّمتَ بالحقِّ أسْكَتُوك، وقالوا بعد هذا: نحنُ أربابُ الحِكمةِ!، وما عَلِمَ هؤلاء الجاهلون أنَّهُم دَوَابُ الحَكَمَةِ!، (بفتح المُهملةِ والكاف، وهي الحديدةُ التي توضعُ في فمِ الدَّابةِ لِقِيادها).
فظاهرُ عِلْمِهم من "الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكر" قَدْرُ وَهَنِهم، وحَسَبُ ضَعْفِهم، ووَفْقُ جَهْلِهم، فعندهم كما يزعمون: (عِلْمُ الحِكْمَةِ، وعَيْنُها، وحَقُّها).
فإذا تكلَّم أمْثَلُهم طَرِيقةً عن هَذِهِ الشَّعيرةِ: صاحَ بأعلى صوتِه، ونادى بِتَضحيتِه؛ قائلًا: الحِكْمةَ الحِكْمةَ، السَّكينةَ السَّكينةَ!
وبعد هَذَا يرْجِعُ فُيغْمِضُ عينيه، جامعًا رأسَه بين كَتِفَيه قائلًا: هَذَا عِلمُ الحِكْمةِ!
ثمَّ بعد هَذَا تراهُ يستَرْجِعُ أنفاسَه، ويرفعُ رأسَه، ويَتَّهِمُ جُلاَّسه؛ بأنَّ "الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر" هَذِهِ الأزمنةِ أمرٌ عسيرٌ لا يُطيقُه إلاَّ الأمراءُ والعلماءُ، أمَّا نحنُ ومَنْ هو على شَاكِلتِنا فلا، وألْفُ لا، لأنَّنا جَرَّبْنا وتَعِبْنا!
وما إنْ يَمْكُثُ هُنيئةً حَتَّى تَرَاهُ يَبْدأُ يحُكُّ شعْرَه، ويُسنِدُ ظهرَه، ويُظْهِرُ سِرَّه قائلًا: بل هَذَا عَيْنُ الحِكْمةِ!
وما إنْ يَنْتَهي هَذَا المِسْكينُ من خُرافاتِه ونَزَغَاتِ شيطانِه؛ حَتَّى يعودَ فيرْفعَ بَنَانَه، ويَهُزَّ سِنانَه، ويَحُكُّ أسْنَانَه، ويُخْرِجَ لِسَانَه قائلًا: نحنُ والله في نِعمةٍ، والخيرُ بين النَّاسِ في قِمَّةٍ، فهذه الأموالُ غَزِيرَةٌ، والوَظَائفُ كثيرةٌ، فإيَّاكم من كُفْرَانِ النِّعَم، وخُسْرانِ الحِكَم، فلا تُواجهوا أهلَ السِّياسة، أو تُناصِحُوا أهلَ الرِّياسة، فتخسروا حينها الأمنَ والأمانَ، والأهلَ والإخوانَ، والمالَ والوِلدانَ...******* ****!
ثمَّ بعد هَذَا تراهُ يَضْحكُ مِلءَ فكَّيْه، ويأكلُ مِلءَ شِدْقَيه قائلًا: هَذَا حَقُّ الحِكْمةِ!
فليت شعري؛ ما درى هؤلاء المُتخاذلون أنَّهُم في غايةِ الهوانِ والهزيمةِ؛ لفسادِ عقولِهم، وبُعْدِهم عن معرفةِ أوامرِ دينِهم.
* * *
ناهيك! لو قام كلٌّ منَّا بما وَجَبَ عَلَيْهِ من الدَّعوةِ إلى الإسلامِ، و"الأمر بالمعروفِ والنَّهي عن المنكر"، وإرشادِ الناسِ، ووعظِهِم، وتذكيرِهم بما فِيْهِ صلاحُهم واستقامتُهم، لاسْتَقرَّ الخيرُ والمعروفُ فينا، وامتنعَ انتشارُ الشَّرِّ والمُنكرِ بيننا، قَالَ تَعَالَى: ﴿واتقوا فتنةً لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أنَّ الله شديدُ العقاب﴾ [الأنفال: 25].
* * *
أخي: إنَّ الله تَعَالَى قد أخَذَ عليكم مِيثاق هَذَا الدِّين بأن تُبَيِّنُوه للنَّاس بما أوجب عليكم من الأمرِ والنَّهي، والدَّعوةِ والإرْشادِ، والعِلْمِ والتَّعليمِ، والتَّحذيرِ والإنْذَارِ، وإبعادِ النَّاسِ عن المَرَاتِعِ الوخيمةِ، والأعمالِ السَّيئةِ الذَّميمةِ؛ فإنَّكم مَسْؤولون أمامَ الله تَعَالَى عن ذلك، فأعِدُّوا للسُّؤَالِ جَوَابًا، وللجَوَابِ صَوَابًا؛ قَبْلَ ﴿ أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنتُ لمن الساخرين﴾ [الزمر: 56].
فإذا عُلم هذا؛ فَقُومُوا وُحْدانًا وزَرَافَاتٍ لِنُصْرةِ شعيرةِ "الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر" هَذِهِ الأيام خاصةً حيث تَنَكَّرَ لها كثيرٌ من أبناءِ المُسْلِمِيْنَ من زَمَنٍ بعيدٍ، أمَّا اليوم فحدِّثْ ولا حَرَج.
لذا كَانَ "الأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المُنكر" من أعظمِ أسبابِ إحياءِ السُّننِ، وإماتَةِ البدعِ، وعزِّ الطَّاعةِ وأهلِها، وذُلِّ المعصيةِ وأهلِها، وحِصنِ الدِّينِ، وسياجِه المتين.
* * *
لأجلِ هذا؛ رأيتُ من المُناسبِ أنْ أختُمَ بابَ أحكامِ المُجاهرين بالكبائرِ، بهذا الحُكمِ المُهمِّ، الَّذِي يُعتبرُ في الحقيقةِ علاجَ الأدواءِ وتقويمَ العُصاةِ، وحملَ النَّاسِ على الجَادَّةِ، وطريقِ الاستقامةِ.
وإذا كانَتْ قِيمةُ العَمَلِ تُقَدَّرُ بأهدافِه في السُّمُوِّ أو خِلافِه؛ فإنَّ أهدافَ "الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر" هي مِنْ أنْبَلِ، وأسْمَى الأهدافِ!، ويكفي شَرَفًا لها وللقيامِ بِها بأنَّها المُهِمَّةُ التي أُرْسِلَ بها الرُّسُلُ من عند ربِّهم لِنَشْرِ الفضيلةِ، ومُحَاربةِ الرَّذيلةِ، وإلزامِ الناس طَرِيقَ الرَّحمن، وإبعادِهم عن طَريقِ الشَّيطانِ، فهل هناك أهدافٌ أعلى وأسْمى من هَذِهِ الأهدافِ؟ لا والله.
وعن هَذَا الشُّمُولِ لأهدافِ الحُسْبةِ؛ يقول أبو حامدٍ الغَزَالي _ رَحِمَهُ اللهُ _: " الحُسبةُ وظيفةٌ دينيةٌ اجتماعيةٌ؛ قَبْلَ أنْ تكون وظيفةً حَكُوميةً؛ فقد شَمِلت جَوانِبَ الحياةِ كُلِّها؛ فقد دَخَلت في دواوينِ السَّلاطين، ومجالسِ القُضَاةِ، ومَدارسِ الفُقَهاءِ، وخَانَاتِ الأسواقِ، والشَّوارعِ، والحَمَّاماتِ والمَسَاجدِ، والبُيُوتِ، والمَارَسْتانات (المستشفى)، والكَتَاتيب".
* * *
وبعد هذا؛ فلا تَظُنُّ أخي المسلم أنَّ "الأمرَ بالمعروف والنَّهيَ عن المُنكر" له أعوانٌ وأنصارٌ؟ كلاَّ؛ بل ما زال هَذِهِ الأمرُ في تراجعٍ وتخاذلٍ من أهلِه للأسف، فمرَّةً تراهم يعتذرون بالحكمةِ، ومرَّةً بالسَّلامةِ، ومرَّةً بالمصلحة... وهلمَّ جرَّا.
ودونك أخي المسلم هَذَا الكلامَ الرَّبَّاني الَّذِي كَانَ لِزامًا على كلِّ طالبِ علمٍ أن يَقِفَ معه بتدبُّرٍ وتأمُّلٍ، وهو من كنوزِ الحِكَمِ للإمامِ الهُمامِ ابنِ القيم رَحِمَهُ اللهُ، إذ يصفُ لنا حالَ أكثرِ المُسْلِمِيْنَ بقولِه: " وقد غرَّ إبليسُ أكْثَرَ الخلْقِ بأنْ حَسَّنَ لهم القِيامَ بِنَوْعٍ من الذِّكرِ، والقراءةِ، والصَّلاةِ، والصِّيامِ، والزُّهدِ في الدُّنيا والانقطاعِ، وعَطَّلُوا هَذِهِ العُبُودِيَّاتِ ، فلم يُحَدِّثُوا قلوبَهم بالقيامِ بها، وهؤلاء عند ورثةِ الأنبياءِ من أقَلِّ الناسِ دِينًا؛ فإنَّ الدِّينَ هو القيامُ لله بما أمرَ به؛ فتاركُ حُقُوقِ الله التي تَجِبُ عَلَيْهِ أسْوأ حَالًا عند اللهِ ورسولِه مِنْ مُرْتكبِ المَعاصي؛ فإنَّ تَرْكَ الأمرِ أعظمُ من ارتِكَابِ النَّهي من أكثرِ مِنْ ثلاثين وجْهًا ذكرها شيخُنا رَحِمَهُ اللهُ (أي: ابن تيمية) في بعض تصانيفه.
ومَنْ له خِبْرةٌ بما بَعَثَ الله به رسولَه ﷺ، وبما كَانَ عَلَيْهِ هو وأصحابُه؛ رأى أنَّ أكْثَرَ مَنْ يُشَارُ إليهم بالدِّينِ هم أقَلُّ الناس دينًا، والله المستعان.
وأيُّ دِينٍ، وأيُّ خَيْرٍ فِيمن يرى: مَحَارمَ الله تُنْتَهك، وحُدُودَه تُضَاعُ، ودِينَه يُتْرك، وسُنَّةَ رسولِه ﷺ يُرْغبُ عنها؛ وهو بارِدُ القَلْبِ، سَاكِتُ اللِّسانِ، شَيْطانٌ أخْرسٌ؛ كما أنَّ المُتَكلِّمَ بالباطلِ شيطانٌ ناطقٌ؟!
وهل بَلِيَّةُ الدِّينِ إلاَّ مِنْ هؤلاءِ الذين إذا سَلِمتْ لهم مآكلُهم ورياساتُهم؛ فلا مُبَالاةٍ بما جرى على الدِّينِ؟!
وخِيارُهم المُتَحَزِّنُ المُتَلَمِّظُ؛ لو نُوزِعَ في بعضِ ما فِيْهِ غَضَاضةٌ عَلَيْهِ في جاهِهِ أو مالِه؛ بَذَلَ وتَبَذَّل، وجَدَّ واجْتَهد، واستعملَ مَرَاتبَ الإنكارِ الثلاثةِ حسب وُسْعِه.
وهؤلاء – مَعَ سُقُوطِهم من عينِ الله ومقتِ الله لهم _ قد بُلُوا في الدُّنيا بأعْظَمِ بَلِيَّةٍ تكون وهم لا يَشْعرون، وهو مَوْتُ القُلُوبِ؛ فإنَّ القلبَ كلَّما كانت حياتُه أتَمَّ؛ كَانَ غَضَبُه لله ورسولِه أقوى، وانْتِصَارُه للدِّينِ أكمل".
والذين يُؤْثِرُون السَّلامَةَ في أديانِهم _ فيما زعموا _ وفي أبدانِهم، ويَتْرُكُون الأمرَ والنَّهيَ الواجبَ عليهم _ مَعَ القُدْرةِ عَلَيْهِ _ لهذا السبب: هم كالمُسْتجيرِ مِنَ الرَّمْضاءِ بالنَّارِ؛ إذْ صُورَةُ حَالِهم أنَّهُم يَهْرُبُون من ضَرَرٍ مُتَوقَّعٍ إلى ضَررٍ واقعٍ؛ كما قَالَ اللهُ تَعَالَى عن المنافقين: ﴿ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإنَّ جهنم لمحيطةٌ بالكافرين﴾ [التوبة: 49].
* * *
وفي هَذَا يقول شيخ الإسلامِ ابنُ تيمية: " ولَمَّا كَانَ في الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المُنكرِ، والجهادِ في سبيلِ الله مِنَ الابتلاءِ والمِحَنِ ما يَتَعرَّضُ به المَرْءُ للفِتْنةِ؛ صَارَ في النَّاسِ مَنْ يَتَعلَّلُ لتركِ ما وجب عَلَيْهِ من ذَلِكَ بأنْ يَطْلُبَ السَّلامةَ من الفتنةِ؛ كما قَالَ تَعَالَى عن المنافقين: ﴿ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا﴾ [التوبة: 49].
ثمَّ قال: إنَّ نَفْسَ إعْرَاضِه عن الجهادِ الواجبِ، ونُكُولَه عنه، وضَعْفَ إيمانِه، ومَرَضَ قلبِه الَّذِي زَيَّنَ له تَرْكَ الجهاد: فِتْنةٌ عظيمةٌ قد سَقَطَ فيها، فكيف يَطْلُبُ التَّخَلُّصَ مِنْ فِتْنةٍ صَغيرةٍ لم تُصِبْه بِوُقُوعِه في فتنةٍ عظيمةٍ قد أصَابَتْهُ؟!
ثمَّ قال: فَمَنْ تَرَكَ القِتَالَ الَّذِي أمَرَ الله به؛ لئلا تكون فتنةٌ؛ فهو في الفتنةِ سَاقطٌ؛ لِمَا وقع فِيْهِ مِنْ رَيْبِ قَلْبِه، ومَرَضِ فؤادِه، وتَرْكِ ما أمَرَهُ الله به من الجهاد".
ويقولُ أيْضًا رَحِمَهُ اللهُ: " وإذا كَانَ كذلك فمعلومٌ أنَّ الأمرَ بالمعروفِ والنَّهيَ عن المُنكرِ، وإتْمَامَه، والجهادَ هو من أعظمِ المعروفِ الَّذِي أُمِرْنا به... وإذا كَانَ هو أعظمُ الواجباتِ والمُستحبَّاتِ، فالواجباتُ والمستحبَّاتُ لا بُدَّ أنْ تكون المصلحةُ فيها راجحةً على المفسدةِ؛ إذ بهذا بُعِثَتِ الرُّسُلُ، وأُنْزِلتِ الكُتُبُ والله لا يُحِبُّ الفسادَ".
* * *
وبعد هذا؛ لرُبَّما يظُنُّ صاحبُ الطَّاعةِ أنَّهُ في سلامةٍ من معاطبِ العاصين، وأحكامِ المُجاهرين، فعند ذَلِكَ لن يجعلَ لهذه القوارِعِ والأحكامِ كبيرَ اهتِمامٍ، فغايةُ ما هُنالك أنَّهُ وَقَفَ على أحكامٍ خطيرةٍ تُجاه أهلِ الكبائرِ، لا غير!
وما عَلِم هَذَا الطَّائِعُ – ثبَّتنا الله وإيِّاه – أنَّ من تَمامِ الطَّاعةِ التي يرجُوها، وكذا البُعْدِ عن مهالكِ المعاصي التي يَخَافُها: القِيامَ بواجبِ الإنكارِ على أهلِ المعاصي، وإلاَّ كُنَّا نحنُ وأهلُ المعاصي سواءً بسواءٍ – عياذًا بالله – إذا لم نُنْكر عليهم بحسبِ مراتبِ الإنكار.
* * *
كما لا ننسى أنَّ الإنكارَ له ارتباطٌ كبيرٌ مُطَّرِدٌ بشأنِ المعصيةِ سرًا وعلانيةً، قوَّةً وضعفًا... لذا كَانَ من الخطأ البيَّنِ أن نخلِطَ بين هَذِهِ المفاهيمِ الشَّرعيَّةِ في تحقيقِ شعيرةِ "الأمرِ بالمعروفِ والنَّهي عن المُنكر"!
وكما أنَّهُ قد تقرَّر لدينا آنفًا أنَّ الأصلَ في المُسْلِمِيْنَ سِتْرُ عُيُوبِهم، إلاَّ ما كَانَ مُجاهرًا منهم، مُعْلِنًا بمعاصيه، فهذا ليس له من السِّترِ شيءٌ؛ بل يجبُ الإنكارُ عليه، سِرًا أو علانيةً، قوَّةً أو ضعفًا؛ حَتَّى يعُودَ إلى قافلةِ التَّائبين، مُتدثِّرًا بجلبابِ الحياءِ بين المُسْلِمِيْنَ، مُتزَمِّلًا باحترامِ شعائرِ الدِّين.
ومِنْ هُنَا كَانَ "الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المُنكرِ" من الأهمِّيَّةِ بمكان، وأنَّه من شعائرِ الإسلامِ العِظامِ التي أولتْهُ الشريعةُ الإسلاميةُ اهتمامًا بالغًا، كلُّ هَذَا قيامًا بواجبِ النَّصيحة، وإبراءً للذِّمَّةِ، وحِفاظًا على حِيَاضِ الإسلامِ، وأخذًا على أيدي العابثين بأحكامِ الدِّين.
* * *
كما أنَّني هُنَا لم أقْصِدْ الكلامَ عن "الأمرِ بالمعروف والنهي عن المُنكر" بكُلِّ ما له من مسائلَ ودلائلَ: كتحقيقِ أبحاثِه، وجمعِ أدلَّتِه، وبيانِ أحكامِه، وذكرِ أحوالِه ودرجاتِه... إلى غيرِ ذَلِكَ من مباحثِه العِظام.
كلاَّ؛ لم أقْصِدْ شيئًا من ذلك؛ وما هَذَا إلاَّ أنَّ (المسألةَ) قد دُرِستْ، وبُحثتْ عند كثيرٍ من أهْل العِلْمِ – السَّلفِ منهم والخلفِ – في مُصنَّفاتٍ مُستقِلَّةٍ، وكلٌّ منهم بحسبِه، إلاَّ أنَّها في مَجْمُوعِها قد أخذتْ بمجامعِ مسألتِنا جملةً وتفصيلًا، والحمدُ لله ربِّ العالمين.
لأجلِ هذا؛ كَانَ من الحكمةِ أن اختصرَ الطريقَ، وأقفَ على مواقعِ الدَّاء التي أحسبُها من جادَّةِ بحثنا، مَعَ بيانِ ما شابها من الْتِبَاسٍ واشْتِباهٍ عند بعضِ طلبةِ العلمِ في زماننا هذا، ناهيك عمَّن سواهم.
* * *
أقولُ: لقد جَاءتِ النُّصوصُ الشَّرعيةُ من الكتابِ، والسنةِ، والإجماعِ، وأقوالِ السَّلفِ بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر، وهي كثيرةٌ جدًا لا يحيطُ بها مثل هَذَا المقام؛ لذا سنقتصر هُنَا على ما فِيْهِ مَقْنَعٌ وغُنْيةٌ.
يقول الله تَعَالَى: ﴿ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون﴾ [آل عمران: 104].
قال ابنُ كثير رَحِمَهُ اللهُ في تفسير الآية: " المقصودُ مِنْ هَذِهِ الآيةِ أنْ تكونَ فِرْقةٌ من هَذِهِ الأمَّةِ مُتَصدِّيةً لهذا الشأنِ، وإن كَانَ ذَلِكَ واجبًا على كلِّ فردٍ من الأمَّةِ بحسبِه، كما ثبتَ في صحيح مسلم عن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُوْل اللهِ ﷺ: " من رأى منكم منكرًا فليغيره بيدِه..."، ثم ساق الحديث.
وقال تَعَالَى: ﴿كنتم خير أُمَّةٍ أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله...﴾ [آل عمران110]، ولذا نجدُ عُمَرَ بنَ الخطاب – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – يقول بعد أن قرأ الآيةَ السَّابقةَ: يا أيها الناس مَنْ أراد أن يكون من هَذِهِ الأمَّةِ فليُؤَدِّ شَرْطَ الله فيها".
وقَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿لُعِنَ الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذَلِكَ بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون﴾ [ المائدة: 78ـ79].
وفي حديث أبي سعيد الخُدْري رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: سمعتُ رَسُوْل اللهِ ﷺ يقول: " من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانِه، فإن لم يستطع فبقلبِه وذلك أضعفُ الإيمان"مسلم.
فقد أوجبَ النبيُّ ﷺ على كلِّ من رأى مُنْكرًا تغييرَه؛ وذلك بحسبِ مَرَاتبِه الثلاث؛ التي مِن آخِرها: تغييرُه بالقلبِ وهو أضعفُ الإيمان.
وهذه بعضُ أقوالِ أهْل العِلْمِ في شرحِ ومعنى هَذَا الحديثِ، يقولُ أبو الفضل عياض رَحِمَهُ اللهُ: " هَذَا الحديث أصلٌ في صفةِ التَّغيير فحقُّ المُغيِّر أن يُغيِّرَه بكلِّ وجهٍ أمكن زوالُه به، قولًا كَانَ أو فعلًا، فيكسر آلات الباطل، أو يُريق المُسكر بنفسه، أو يأمرُ من يفعله، وينزعً المغصُوب ويردها إلى أصحابها بنفسه أو بأمرِه إذا أمكنه".
وقال ابنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللهُ: " فتبيَّنَ بهذا أنَّ الإنكارَ بالقلبِ فَرْضٌ على كُلِّ مُسلمٍ في كُلِّ حَالٍ، وأمَّا الإنكارُ باليدِ واللِّسانِ فبحسبِ القُدْرةِ، كما في حديث أبي بكرٍ الصديق رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عن النبي ﷺ ، قال: " ما مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فيهم بالمعاصي، ثُمَّ يَقْدِرُون على أنْ يُغَيِّرُوا، فلا يُغَيِّرُوا، إلاَّ يُوشِكُ أن يَعُمَّهم الله بعقابٍ" خَرَّجه أبو داود بهذا اللفظ، وقال: قَالَ شعبةُ فيه: " ما مِنْ قَومٍ يُعملُ فيهم بالمعاصي هم أكْثَرُ ممَّن يَعْملُه".
وعن عَبْد اللهِ بنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أنَّ النبيَّ ﷺ قال: " ما مِنْ نبي بعثَه الله في أمَّةٍ قبلي إلاّ كَانَ له من أُمَّتِه حَوَارِيُّون، وأصحابٌ يأخذون بسنَّتِه، ويقتدون بأمرِه، ثم إنَّها تَخْلُفُ من بعدِهم خُلُوفٌ، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فَمَنْ جَاهدَهم بيدِه فهو مؤمنٌ، ومن جَاهدَهم بلسانِه فهو مؤمنٌ، ومن جاهدهم بقلبِه فهو مؤمنٌ، وليس وراء ذَلِكَ من الإيمان حَبَّةُ خَرْدَلٍ".
قال ابنُ رجبٍ رَحِمَهُ اللهُ: " وهذا يدلُّ على جهادِ الأمراءِ باليدِ... وقد نصَّ على ذَلِكَ أحمدُ أيْضًا في رواية صالح، فقال: التَّغييرُ باليدِ أنْ يُزِيلَ بيدِه ما فعلُه مِنِ المُنكراتِ، مثل أن يُريقَ خُمُورَهم، أو يَكْسِرَ آلاتِ الملاهي التي لهم، ونحو ذلك، أو يُبْطِلَ بيدِه ما أُمِرُوا بِه من الظُّلْمِ إن كَانَ له قُدرَةٌ على ذلك، وكلُّ هَذَا جائزٌ، وليس هو من بابِ قِتالِهم، ولا من الخُرُوجِ عليهم الَّذِي وَرَدَ النَّهيُّ عنه، فإنَّ هَذَا أكْثَرُ ما يُخشى مِنْهُ أن يَقْتُلَ الآمرَ وحدَه".
وقال ﷺ: " والذي نفسي بيدِه لتأمُرُنَّ بالمعروف، ولَتَنْهَوُنَّ عن المنكرِ، أو لَيُوشِكنَّ الله أن يبعثَ عليكم عذابًا منه، ثم تَدْعُونه فلا يُسْتَجابُ لكم" أحمد والترمذي.
* * *
* أمَّا ما أُثِرَ عن بعضِ السَّلفِ _ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم _فقد رُوِيَ عن أبي بكر _ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ _ قوله: " يا أيها الناس ائْتَمِرُوا بالمعروفِ وانْهَوْا عن المنكرِ، تَعيشُوا بخيرٍ".
وقال علي _ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ _: " من أمر بالمعروفِ شَدَّ ظَهَرَ المؤمنين، ومن نَهَى عن المنكرِ رَغَّمَ أنْفَ المنافقين".
وقال حذيفة بن اليمان _ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ _ حين سُئلَ عن ميتِ الأحياءِ؟ فقال: " الَّذِي لا يُنْكرُ المُنْكرَ بيدِه ولا بلسانِه ولا بقلبِه".
والنُّصوصُ في وجوبِ الأمرِ بالمعروفِ، والنَّهي عن المنكرِ من الكتابِ، والسنةِ كثيرةٌ، وحسبنا منها ما ذُكِر.
* * *
كما دلَّ على وُجُوبِ الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكرِ إجماعُ الأمَّةِ، كما نقل ذَلِكَ الإمامُ النَّوويُّ حيث قال: " وقد تطابق على وُجُوبِ الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكر: الكتابُ، والسنةُ، وإجماعُ الأمةِ، وهو أيْضًا من النَّصيحةِ التي هي الدِّين، ولم يخالفْ في ذَلِكَ إلاَّ بعضُ الرَّافضةِ ولا يُعْتدُّ بخلافِهم".
وقال ابن عبد البرِّ رَحِمَهُ اللهُ: " وأجمع المُسْلِمُوْنَ على أنَّ تغيير المنكر واجبٌ على من قَدِرَ عليه...". وسيأتي لهذه الأقوالِ مزيدُ تفصيلٍ إنْ شَاءَ اللهُ.
* * *
وبعد أن ذكرْنا الأدلَّةَ القاطعةَ على وجوبِ "الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر"؛ كَانَ من المُناسبِ أن نَذْكُرَ شُرُوطَ الآمرَ بالمعروفِ والنَّاهي عن المُنكر على وجه الاختصار، وهي كما يلي: (شروطٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِا، وشروطٌ مُختلفٌ فيها).
* فأمَّا الشُّروطُ المُتَّفَقٌ عَلَيْهِا؛ فهي: الإسلامُ، والتَّكليفُ، والاستطاعة.
* أمَّا الشُّروطُ المُختلفُ فيها؛ فهي: العدالةُ، وإذنُ الوالي.
* * *
وهذا ما قاله ابنُ النَّحَّاسِ رَحِمَهُ اللهُ: " يُشترطُ لإيجابِ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهي عن المُنكرِ؛ ثلاثةُ شُرُوطٍ: الإسلامُ، والتَّكليفُ، والاستطاعةُ. واخْتُلِفَ في العدالةِ، والإذْنِ من الإمام".




الشيخ الدكتور
ذياب بن سعد الغامدي
أحكام المجاهرين بالكبائر
ص 486