تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: الحجاب للمنفلوطي رحمه الله ( من أروع ما أنت قارئ في الدفاع عن الحجاب من المنظور العقلي ).

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jul 2010
    الدولة
    مصر المنصورة
    المشاركات
    5,230

    افتراضي الحجاب للمنفلوطي رحمه الله ( من أروع ما أنت قارئ في الدفاع عن الحجاب من المنظور العقلي ).

    الحمد لله وبعد :
    قصة أذهلتني، روعتها، وبلاغتها ، وسيولة عباراتها ، وفداحة خطبها ومضمونها ، مع نقد لبعض ألفاظها ، إلا أنها في بابها نذير عريان للغافلين من أتباع الحضارة والثقافة والتقدم .
    الحجاب .. بقلم مصطفى لطفي المنفلوطي
    الحجاب
    مصطفى لطفي المنفلوطي
    ذهب فلان إلى أوروبا وما ننكر من أمره شيئا، فلبث فيها بضع سنين، ثم عاد وما بقيمما كنا نعرفه منه شيء.
    ذهب بوجه كوجه العذراء ليلة عرسها، وعاد بوجه كوجهالصخرة الملساء تحت الليلة الماطرة، وذهب بقلب نقي طاهر يأنس بالعفو ويستريح إلىالعذر، وعاد بقلب ملفق مدخول لا يفارقه السخط على الأرض وساكنها، والنقمة علىالسماء وخالقها، وذهب بنفس غضّة خاشعة ترى كل نفس فوقها.. وعاد بنفس ذهابة نزاعة لاترى شيئأ فوقها، ولا تلقي نظرة واحدة على ما تحتها، وذهب برأس مملوءة حكماً ورأيا،وعاد برأس كرأس التمثال المثقب لا يملأها إلا الهواء المتردد، وذهب وما على وجهالأرض أحب إليه من دينه ووطنه، وعاد وما على وجهها أصغر في عينيه منهما.
    وكنتأرى أن هذه الصورة الغريبة التي يتراءى فيها هؤلاء الضعفاء من الفتيان العائدين منتلك الديار إلى أوطانهم إنما هي أصباغ مفرغة على أجسامهم إفراغا لا تلبث أن تطلععليها شمس المشرق حتى تَنْصَل وتتطاير ذراتها في أجواء السماء، وأن مكان المدينةالغربية من نفوسهم مكان الوجه من المرآة، إذا انحرف عنها زال خياله منها، فلم أشأأن أفارق ذلك الصديق، ولبسته على علاته وفاء بعهده السابق، ورجاء لغده المنتظر،محتملا في سبيل ذلك من حمقه ووسواسه وفساد تصوراته وغرابة أطواره، ما لا طاقة لمثليباحتمال مثله، حتى جاءني ذات ليلة بداهية الدواهي.. ومصيبة المصائب، فكانت آخر عهديبه.
    دخلت عليه فرأيته واجماً مكتئباً، فحييته فأومأ إلي بالتحية إيماء، فسألتهما بالهفقال: مازلت منذ الليلة من هذه المرأةفي عناء لا أعرف السبيل إلى الخلاص منه، ولا أدري مصير أمري فيه.

    قلت: وأي امرأةتريد؟قال: تلك التي يسميها الناس زوجتي،وأسميها الصخرة العاتية في طريق مطالبي وآمالي. قلت: إنك كثير الآمال يا سيدي، فعنأي آمالك تتحدث؟ قال: ليس لي في الحياة إلا أمل واحد هو أن أغمض عيني ثم أفتحهمافلا أرى برقعاً على وجه امرأة في هذا البلد.
    قلت: ذلك ما لاتملكه ولا رأي لك فيه.

    قال: إن كثيراً منالناس يرون في الحجاب رأيي، ويتمنون في أمره ما أتمنى، ولا يحول بينهم وبين نزعه عنوجوه نسائهم وإبرازهن إلى الرجال يجالسنهم كما يجلس بعضهن إلى بعض إلا العجز والضعفوالهيبة التي لا تزال تلم بنفس الشرقي كلما حاول الإقدام على أمر جديد، فرأيت أنأكون أول هادم لهذا البناء العاديّ القديم الذي وقف سداً دون سعادة الأمة وارتقائهادهراً طويلاً، وأن يتم على يدي ما لم يتم على يد أحد غيري من دعاة الحرية وأشياعها، فعرضت الأمر على زوجتي فأكبرَته وأعظمته وخيّل إليها أنني جئتها بإحدى النكباتالعظام، والرزايا الجسام، وزعمَتْ أنها إن برزت إلى الرجال فإنها لا تستطيع أن تبرزإلى النساء بعد ذلك حياء منهن وخجلاً، ولا خجل هناك ولا حياء، ولكنه الموت والجمودوالذل الذي ضربه الله على هؤلاء النساء في هذا البلد أن يعشن في قبور مظلمة منخدورهن وخمرهن حتى يأتيهن الموت فينتقلن من مقبرة الدنيا إلى مقبرة الآخرة، فلا بدلي أن أبلغ أمنيتي، وأن أعالج هذا الرأس القاسي المتحجر علاجاً ينتهي بإحدىالحسنيين إما بكسره أو بشفائه!.. فورد علي من حديثه ما ملأ نفسي هماً وحزناً، ونظرتإليه نظرة الراحم الراثيوقلت: أعالمٌ أنتأيها الصديق ما تقول؟قال: نعم أقول الحقيقةالتي أعتقدها وأدين نفسي بها واقعة من نفسك ونفوس الناس جميعاً حيث وقعت!..

    قلت: هل تأذن لي أن أقول لك إنك عشتَ فترةطويلة في ديار قوم لا حجاب بين رجالهم ونسائهم، فهل تذكر أن نفسك حدثتك يوماً منالأيام وأنت فيهم بالطمع في شيء مما لا تملك يمينك من أعراض نسائهم فنلتَ ما تطمحفيه من حيث لايشعر مالكه؟قال: ربما وقع ليشيء من ذلك فماذا تريد؟قلت: أريد أن أقول لكإني أخاف على عرضك أن يلمّ به من الناس ما ألم بأعراض الناس منك.

    قال: إن المرأة الشريفة تستطيع أن تعيش بين الرجال من شرفهاوعفتها في حصن حصين لا تمتد إليه المطامع، فتداخلني ما لم أملك معه وقلت له: تلك هيالخدعة التي يخدعكم بها الشيطان أيها الضعفاء، والثلمة التي يعثر بها في زوايارؤوسكم فينحدر منها إلى عقولكم، ومدارككم فيفسدها عليكم، فالشرف كلمة لا وجود لهاإلا في قواميس اللغة ومعاجمها، فإن أردنا أن نفتش عنها في قلوب الناس وأفئدتهم قلمانجدها، والنفس الإنسانية كالغدير الراكد لا يزال صافياً رائقاً حتى يسقط فيه حجرفإذا هو مستنقعٌ كَدِر. والعفة لون من ألوان النفس لا جوهر من جواهرها، وقلّما تثبتالألوان على أشعة الشمس المتساقطة.

    قال: أتنكروجود العفة بين الناس؟قلت: لا أنكرها لأنيأعلم أنها موجودة بين البله الضعفاء والمتكلّفين ، ولكني أنكر وجودها عند الرجلالقادر المختلب والمرأة الحاذقة المترفقة إذا سقط بينهما الحجاب وخلا وجه كل منهمالصاحبه.
    في أي جو من أجواء هذا البلد تريدون أن تبرز نساؤكم لرجالكم؟أفي جوالمتعلمين، وفيهم من سئل مرة: لِم لَمْ يتزوج؟ فأجاب: نساء البلد جميعاًنسائي.
    أم في جو الطلبة، وفيهم من يتوارى عن أعين خلانه وأترابه خجلا إن خلتمحفظته يوماً من الأيام من صور عشيقاته وخليلاته، أو أقفرت من رسائل الحبوالغرام؟وبعد، فما هذا الولع بقصة المرأة، والتمطّق بحديثها، والقيام والقعودبأمرها وأمر حجابها وسفورها، وحريتها وأسرها، كأنما قد قمتم بكل واجب للأمة عليكمفي أنفسكم، فلم يبق إلا أن تفيضوا من تلك النعم على غيركم؟!..
    هذبوا رجالكم قبلأن تهذبوا نساءكم، فإن عجزتم عن الرجال، فأنتم عن النساء أعجز.
    أبواب الفخرأمامكم كثيرة، فاطرقوا أيها شئتم، ودعوا هذا الباب موصداً، فإنكم إن فتحتموه فتحتمعلى أنفسكم ويلاً عظيماً.. وشقاء طويلا.
    أروني رجلا واحدا منكم يستطيع أن يزعمفي نفسه أنه يمتلك هواه بين يدي امرأة يرضاها، فأصدق أن امرأة تستطيع أن تملك هواهابين يدي رجل ترضاه.
    إنكم تكلفون المرأة ما تعلمون أنكم تعجزون عنه وتطلبون عندهاما لا تعرفونه عند أنفسكم، فأنتم تخاطرون بها في معركة أحسبكم إلا خاسرين.
    ماشكت المرأة إليكم ظلما، ولا تقدمت إليكم في أن تحلوا قيدها وتطلقوها من أسرها، فمادخولكم بينها وبين نفسها؟ وما تمضغكم ليلكم ونهاركم بقصصها وأحاديثها؟!..
    إنهالا تشكو إلا فضولكم وإسفافكم ومضايقتكم لها ووقوفكم في وجهها حيثما سارت وأينماحلت، حتى ضاق بها وجه الفضاء فلم تجد لها سبيلا إلا أن تسجن نفسها بنفسها في بيتهافوق ما سجنها أهلها، فأوصدت من دونها بابها، وأسبلت أستارها، تبرماً بكم وفرارا منفضولكم، فواعجباً لكم تسجنونها بأيديكم، ثم تقفون على باب سجنها تبكونها وتندبونشقاءها !..
    إنكم لا ترثون لها، بل ترثون لأنفسكم، ولا تبكون عليها، بل على أيامقضيتموها في ديار يسيل جوها تبرّجاً وسفورا، ويتدفق خلاعة واستهتارا، وتودون بجدعالأنف لو ظفرتم هنا بذلك العيش الذي خلفتموه هناك.
    لقد كنا، وكانت العفة في سقاءمن الحجاب موكوء ، فما زلتم به تثقبون في جوانبه، كل يوم ثقبا، والعفة تتسلل منهقطرة قطرة حتى تقبض وتكرّش ، ثم لم يكفكم ذلك منه حتى جئتم اليوم تريدون أن تحلّواوكاءه حتى لا تبقى فيه قطرة واحدة.
    عاشت المرأة المصرية حقبة من دهرها مطمئنة فيبيتها، راضية عن نفسها وعن عيشها، ترى السعادة كل السعادة في واجب تؤديه لنفسها، أووقفة تقفها بين يدي ربها، أو عطفة تعطفها على ولدها، أو جلسة تجلسها إلى جارتهاتبثها ذات نفسها ، وتستبثها سريرة قلبها، وترى الشرف كل الشرف في خضوعها لأبيهاوائتمارها بأمر زوجها، ونزولها عند رضاهما.
    وكانت تفهم معنى الحب، وتجهل معنىالغرام، فتحب زوجها لأنه زوجها، كما تحب ولدها لأنه ولدها، فإن رأى غيرها من النساءأن الحب أساس الزواج، رأت هي أن الزواج أساس الحب. فقلتم لها إنَّ هؤلاء الذينيستبدون بأمرك من أهلك، ليسوا بأوفر منك عقلاً ولا أفضل رأياً ، ولا أقدر على النظرلك من نظرك لنفسك، فلاحق لهم في هذا السلطان الذي يزعمونه لأنفسهم عليك، فازدرتأباها، وتمرّدت على زوجها، وأصبح البيت الذي كان بالأمس عرساً من الأعراس الضاحكة،مناحة قائمة، لا تهدأ نارها، ولا يخبو أوارها .
    وقلتم لها لا بد لك أن تختاريزوجك بنفسك حتى لا يخدعك أهلك عن سعادة مستقبلك، فاختارت لنفسها أسوأ مما اختار لهاأهلها، فلم يزد عمر سعادتها على يوم وليلة، ثم الشقاء الطويل بعد ذلك، والعذابالأليم.
    قلتم لها إن الحب أساس الزواج فما زالت تقلب عينيها في وجوه الرجالمصعدة مصوبة، حتى شغلها الحب عن الزواج فعنيت به عنه.
    وقلتم لها إن سعادة المرأةفي حياتها أن يكون زوجها عشيقها ، وما كانت تعرف إلا أن الزواج غير العشيق، فأصبحتتطلب في كل يوم زوجاً جديداً يحيي من لوعة الحب ما أمات الزوج القديم.. فلا قديمااستبقت ولا جديداً أفادت .
    وقلتم لها لا بد أن تتعلمي لتحسني تربية ولدك،والقيام على شؤون بيتك، فتعلمت كل شيء إلا تربية ولدها، والقيام على شؤونبيتها.
    وقلتم لها نحن لا نتزوج من النساء إلا من نحبها ونرضاها، ويلائم ذوقُهاذوقَنا، وشعورُها شعورَنا، فرأت أن لا بد لها أن تعرف مواقع أهوائكم، ومباهجأنظاركم، لتتجمل لكم بما تحبون، فراجعت فهرس حياتكم، صفحة صفحة، فلم تر فيه غيرأسماء الخليعات المستهترات، والضاحكات اللاعبات، والإعجاب بهن والثناء على ذكائهنوفطنتهن، فتخلعت، واستهترت لتبلغ رضاكم، وتنزل عند محبتكم، ثم مشت إليكم بهذا الثوبالرقيق الشفاف، تعرض نفسها عليكم عرضاً، كما تُعرض الأَمَةُ في سوق الرقيق ،فأعرضتم عنها ونَبَوتُم بها، وقلتم لها:
    -
    إنا لا نتزوج النساء العاهرات، كأنكملا تبالون أن يكون نساء الأمة جميعاً ساقطات، إذا سلمت لكم نساؤكم، فرجعت أدراجهاخائبة منكسرة، وقد أباها الخليع ، وتَرَفَّع عنها المحتشم ، فلم تجد بين يديها غيرباب السقوط فسقطت.
    وكذلك انتشرت الريبة في نفوس الأمة جميعاً وتمشّت الظنون بينرجالها ونسائها، فتعاجز الفريقان، وأظلم الفضاء بينهما، وأصبحت البيوت كالأديرة لايرى فيها الرائي إلا رجالاً مترهبين، ونساءً عانسات.
    ذلك بكاؤكم على المرأة أيهاالراحمون.. وهذا رثاؤكم لها وعطفكم عليها!..
    نحن نعلم كما تعلمون أن المرأة فيحاجة إلى العلم، فليهذبها أبوها أو أخوها، فالتهذيب أنفع لها من العلم، وإلى اختيارالزوج العادل الرحيم، فليحسن الآباء اختيار الأزواج لبناتهم وليجمل الأزواج عِشرَةَنسائهم. وإلى النور والهواء تبرز إليهما، وتتمتع فيهما بنعمة الحياة، فليأذن لهاأولياؤها بذلك، وليرافقها رفيق منهم في غدواتها وروحاتها، كما يرافق الشاةَ راعيها،خوفاً عليها من الذئاب، فإن عجزنا عن أن نأخذ الآباء والأخوة والأزواج بذلك، فلننفضأيدينا من الأمّة جميعها نسائها ورجالها، فليست المرأة بأقدر على إصلاح نفسها منالرجل على إصلاحها.
    أعجب ما أعجب له في شؤونكم أنكم تعلمتم كل شيء، إلا شيئاًواحداً هو أدنى إلى مدارككم أن تعلموه قبل كل شيء، وهو أن لكل تربة نباتاً ينبتفيها، ولكل نبات زمناً ينمو فيه.
    رأيتم العلماء في أوروبا يشتغلون بكمالياتالعلوم بين أمم قد فرغت من ضرورياتها، فاشتغلتم بها مثلهم في أمة لا يزال سوادهاالأعظم في حاجة إلى معرفة حروف الهجاء.
    ورأيتم الفلاسفة فيها ينشرون فلسفة الكفربين شعوب ملحدة، لها من عقولها وآدابها ما يغنيها بعض الغناء عن إيمانها، فاشتغلتمبنشرها بين أمة ضعيفة ساذجة لا يغنيها عن إيمانها شيء، إن كان هناك ما يغنيعنه.
    ورأيتم الرجل الأوروبي حراً مطلقاً يفعل ما يشاء ويعيش كما يريد، لأنهيستطيع أن يملك نفسه وخطواته في الساعة التي يعلم فيها أنه قد وصل إلى حدود الحريةالتي رسمها لنفسه فلا يتخطاها، فأردتم أن تمنحوا هذه الحرية نفسها رجلاً ضعيفالإرادة والعزيمة، يعيش من حياته الأدبية في رأس مُنحدرٍ زَلقٍ إن زلّت به قدمُهمرة تدهور من حيث لا يستطيع أن يستمسك، حتى يبلغ الهوّة ويتردى فيقرارتها.
    ورأيتم الزوج الأوروبي الذي أطفأت البيئة غيرته.. وأزالت خشونة نفسهوحُرْشَتَهَا ، يستطيع أن يرى زوجته تخاصر من تشاء، وتصاحب من تشاء، وتخلو بمنتشاء، فيقف أمام ذلك المشهد موقف الجامد المتلبد. فأردتم الرجل الشرقي الغيورالملتهب أن يقف موقفه، ويستمسك استمساكه!..
    ورأيتم المرأة الأوروبية الجريئةالمتفتية في كثير من مواقفها من الرجال أن تحتفظ بنفسها وكرامتها، فأردتم من المرأةالمصرية الضعيفة الساذجة أن تبرز للرجال بروزها، وتحتفظ بنفسها احتفاظها. وكل نباتيزرع في أرض غير أرضه، أو في ساعة غير ساعته، إما أن تأباه الأرض فتلفظه، وإما أنينشب فيها فيفسدها.
    إنا نضرع إليكم باسم الشرف الوطني ، والحرمة الدينية، أنتتركوا تلك البقية الباقية من نساء الأمة مطمئنات في بيوتهن، ولا تزعجوهن بأحلامكموآمالكم كما أزعجتم من قبلهن، فكل جرح من جروح الأمة له دواء، إلا جرح الشرف، فإنأبيتم إلا أن تفعلوا، فانتظروا بأنفسكم قليلاً ريثما تنتزع الأيام من صدوركم هذهالغيرة التي ورثتموها عن آبائكم وأجدادكم لتستطيعوا أن تعيشوا في حياتكم الجديدةسعداء آمنين.
    فما زاد الفتى على أن ابتسم في وجهي ابتسامة الهزء والسخرية،وقال: تلك حماقات ما جئنا إلا لمعالجتها، فنصطبرعليها حتى يقضي الله بيننا وبينها.

    فقلت له: لكأمرك في نفسك وفي أهلك فاصنع بهما ما تشاء.. وائذن لي أن أقول لك إني لا أستطيع أنأختلف إلى بيتك بعد اليوم إبقاءً عليك وعلى نفسي، لأني أعلم أن الساعة التي ينفرجلي فيها جانب ستر من أستار بيتك عن وجه امرأة من أهلك تقتلني حياءً وخجلاً. ثمانصرفت.. وكان هذا فراق ما بيني وبينه.
    وما هي إلا أيام قلائل حتى سمعت الناسيتحدثون أن فلاناً هتك الستر في منزله بين نسائه ورجاله، وأن بيته أصبح مغشياً ، لاتزال النعال خافقة ببابه، فذرفت عيني دمعة، لا أعلم هل هي دمعة الغيرة على العرضالمذال ، أو الحزن على الصديق المفقود!..
    مرت على تلك الحادثة ثلاثة أعوام لاأزوره فيها، ولا يزورني، ولا ألقاه في طريقه إلا قليلا، فأحييه تحية الغريب للغريبمن حيث لا يجري لما كان بيننا ذكر ثم أنطلق في سبيلي.
    فإني لعائد إلى منزلي ليلةأمس، وقد مضى الشطر الأول من الليل، إذ رأيته خارجا من منزله يمشي مشية الذاهلالحائر وبجانبه جندي من جنود الشرطة كأنما هو يحرسه أو يقتاده فأهمّني أمره، ودنوتمنه فسألته عن شأنه
    فقال: - لا علم ليبشيء سوى أن هذا الجندي قد طرق الساعة بابي يدعوني إلى مخفر الشرطة، ولا أعلم لمثلهذه الدعوة في مثل هذه الساعة سببا، وما أنا بالرجل المذنب، ولا المريب . فهلأستطيع أن أرجوك يا صديقي بعد الذي كان بيني وبينك أن تصحبني الليلة في وجهي هذاعلّني أحتاج إلى بعض المعونة فيما قد يعرض لي هناك من الشؤون؟قلت: لا أحب إليّ من ذلك. ومشيت معه صامتا لا أحدثه ولا يقوللي شيئا، ثم شعرت كأنه يُزَوِّرُ في نفسه كلاما يريد أن يفضي به إلي فيمنعه الخجلوالحياء، ففاتحته الحديث وقلت له:
    -
    ألا تستطيع أن تتذكر لهذه الدعوة سببا؟ فنظرإليّ نظرة حائرة،
    وقال: إن أخوف ماأخافه أن يكون قد حدث لزوجتي الليلة حادث، فقد رابني من أمرها أنها لم تعد إلىالمنزل حتى الساعة، وما كان ذلك شأنها من قبل.

    قلت: أما كان يصحبها أحد؟
    قال: لا.
    قلت: ألا تعلمالمكان الذي ذهبت إليه؟
    قال: لا.
    قلت: وممّ تخافعليها؟
    قال: لا أخاف شيئاً، سوى أني أعلم أنها امرأة غيور حمقاء، فلعل بعض الناس حاول العبث بها في طريقهافشرست عليه.. فوقعت بينهما واقعة انتهى أمرها إلى مخفر الشرطة.
    وكنا قد وصلناإلى المخفر فاقتادنا الجندي إلى قاعة المأمور فوقفنا بين يديه، فأشار إلى جنديأمامه إشارة لم نفهمها، ثم استدنى الفتى إليه وقال له:
    يسوؤني أن أقول لك ياسيدي إن رجال الشرطة قد عثروا الليلة في مكان من أمكنة الريبة برجل وامرأة في حالغير صالحة، فاقتادوهما إلى المخفر، فزعمت المرأة أن لها بك صلة، فدعوناك لتكشف لناالحقيقة في أمرها، فإن كانت صادقة أذنّا لها بالانصراف معك إكراماً لك، وإبقاء علىشرفك، وإلا فهي امرأة عاهرة لا نجاة لها من عقاب الفاجرات.. وها هما وراءكفانظرهما. وكان الجندي قد جاء بهما من غرفة أخرى، فالتفت وراءه فإذا المرأة زوجته،وإذا الرجل أحد أصدقائه..
    فصرخ صرخة رجفت لها جوانب المخفر، وملأت نوافذهوأبوابه عيوناً وآذاناً، ثم سقط في مكانه مغشياً عليه، فأشرت على المأمور أن يرسلالمرأة إلى منزل أبيها ففعل، وأطلق سبيل صاحبها، ثم حملنا الفتى في مركبة إلىمنزله، ودعونا له الطبيب فقرر أنه مصاب بحمى دماغية شديدة.. ولبث ساهراً بجانبهبقية الليل يعالجه حتى دنا الصبح، فانصرف على أن يعود متى دعوناه، وعهد إليّ بأمرهفلبثت بجانبه أرثي لحاله.. وأنتظر قضاء الله فيه، حتى رأيته يتحرك في مضجعه، ثم فتحعينيه فرآني، فلبث شاخصاً إليَّ هنيهة كأنما يحاول أن يقول لي شيئاً فلا يستطيعه،فدنوتُ منه وقلت له:
    -
    هل من حاجه يا سيدي؟فأجاب بصوت ضعيف خافت: حاجتي ألايدخل عليَّ أحد من الناس.
    قلت: لن يدخل عليك إلا من تريد.
    فأطرق هنيهة، ثمرفع رأسه فإذا عيناه مخضلتان بالدموع..

    فقلت: ما بكاؤك يا سيدي؟قال: أتعلم أين زوجتيالآن؟قلت: وماذا تريد منها؟قال: لا شيء، سوى أن أقول لها إني قد عفوتعنها.

    قلت: إنها في بيت أبيها.

    قال: وارحمتاه لها ولأبيها ولجميع قومها! فقد كانوا قبل أنيتصلوا بي شرفاء أمجاداً فألبستُهم مذ عرفوني ثوبا من العار لا تبلوه الأيام. مَنلي بمن يبلغهم عني جميعاً أنني مريض مشرف ، وأنني أخشى لقاء الله إن لقيتُهبدمائهم، وأنني أضرع إليهم أن يصفحوا عني ويغتفروا زلتي، قبل أن يسبق إليّالأجل؟!.. لقد كنتُ أقسمت لأبيها يوم اهتديتها أن أصون عِرضها صيانتي لحياتي، وأنأمنعها مما أمنع منه نفسي، فحنثت في يميني، فهل يغفر لي ذنبي، فيغفر لي اللهبغفرانه؟ نعم إنها قتلتني!.. ولكنني أنا الذي وضعت في يدها الخنجر الذي أغمدَته فيصدري، فلا يسألها أحد عن ذنبي. البيت بيتي، والزوجة زوجتي، والصديق صديقي، وأناالذي فتحت باب بيتي لصديقي إلى زوجتي، فلم يذنب إلي أحد سواي.
    ثم أمسك عن الكلامهنيهة، فنظرت إليه فإذا سحابة سوداء تنتشر فوق جبينه شيئاً فشيئاً، حتى لبست وجهه،فزفر زفرة خِلتُ أنها خرقت حجاب قلبه، ثم أنشأ يقول:
    -
    آه ما أشد الظلام أمامعيني!.. وما أضيق الدنيا في وجهي!.. في هذه الغرفة على هذا المقعد تحت هذا السقفكنت أراهما جالسين يتحدثان فتملأ نفسي غبطة وسروراً، وأحمد الله على أن رزقني بصديقوفيّ يؤنس زوجتي في وحدتها، وزوجة سمحة كريمة تكرم صديقي في غيبتي ، فقولوا للناسجميعاً: إن ذلك الرجل الذي كان يفخر بالأمس بذكائه وفطنته، ويزعم أنه أكْيَسُ الناسوأحزمهم، قد أصبح يعترف اليوم أنه أبله إلى الغاية من البلاهة، وغبي إلى الغايةالتي لا غاية وراءها.
    -
    وَالهفا على أم لم تلدني وأب عاقر لا نصيب له في البنين . لعل الناس كانوا يعلمون من أمري ما كنت أجهل، ولعلهم كانوا إذا مررت بهم يتناظرونويتغامزون ويبتسم بعضهم إلى بعض، أو يحدقون إليّ ويطيلون النظر في وجهي ليروا كيفتتمثل البلاهة في وجوه البُله.. والغباوة في وجوه الأغبياء!..
    ولعل الذين كانوايتوددون إليّ ويتمسحون بي من أصدقائي، إنما كانوا يفعلون ذلك من أجلها لا منأجلي!.. ولعلهم كانوا يسمونني فيما بينهم قواداً ويسمون زوجتي مومساً!.. وبيتيماخوراً .. وأنا عند نفسي أشرف الناس وأنبلهم.
    فوارحمتاه لي إن بقيت على ظهرالأرض بعد اليوم ساعة واحدة، ووالهفا على زاوية منفردة في قبر موحش يطويني ويطويعاري معي. ثم أغمض عينيه وعاد إلى ذهوله واستغراقه.
    وهنا دخلت الحجرة مرضع ولدهتحمله على يدها حتى وضعته بجانب فراشه، ثم تركَته وانصرفت، فما زال الطفل يدب علىأطرافه حتى علا صدر أبيه فأحس به، ففتح عينيه فرآه فابتسم لمرآه وضمَّه إلى صدرهضمّة الرفق والحنان، وأدنى فمه من وجهه ليقبله، ثم انتفض فجأة واستسرَّ بِشْرُهُ ،ودفعه عنه بيده دفعة شديدة وأخذ يَصيح:
    -
    أبعِدوه عني لا أعرفه!.. ليس لي أولادولا نساء، سلوا أمه عن أبيه من هو واذهبوا به إليه، لا ألبس العار في حياتي وأتركهأثراً خالداً ورائي بعد مماتي.
    وكانت المرضع قد سمعت صياح الطفل فعادت إليهوحملته وذهبت به، فسمع صوته وهو يبتعد عنه شيئاً فشيئاً فأنصت إليه واستعبر باكياًوصاح:
    -
    أرجعوه إليّ، فعادت به المرضع، فتناوله من يدها وأنشأ يقلب نظره في وجههويقول:
    -
    في سبيل الله يابنيّ ما خلّف لك أبوك من اليتم، وما خلفت لك أمك منالعار، فاغفر لهما ذنبهما إليك، فلقد كانت أمك امرأة ضعيفة فعجزت عن احتمال صدمةالقضاء فسقطت، وكان أبوك حسن في جريمته التي اجترمها، فأساء من حيث أراد الإحسان. سواءً أكنتَ ولدي يا بني، أم ولد الجريمة، فإني قد سعدت بك حقبة من الدهر فلا أنسىيدك عندي حياً أو ميتاً، ثم احتضنه إليه، وقبله، في جبينه قبلة لا أعلم هل هي قبلةالأب الرحيم، أو المحسن الكريم!..
    وكان قد بلغ منه الجهد فعاودته الحمّى، وغلتنارها في رأسه، وما زال يثقل شيئاً فشيئاً حتى خِفْتُ عليه التلف، فأرسلت وراءالطبيب، فجاء وألقى عليه نظره طويلة ثم استردها مملوءة يأساً وحزناً.
    ثم بدأينزع نزعاً شديداً، ويئن أنيناً مؤلماً، فلم تبق عين من العيون المحيطة به إلاارْفَضَّت عن كل ما تستطيع أن تجود به من مدامعها.
    فإنا لجلوسٌ حوله وقد بدأالموت يسبل أستاره السوداء على سريره، وإذا امرأة مؤتزرة بإزار أسود قد دخلتالحجرة، وتقدمت نحوه ببطء، حتى ركعت بجانبه، ثم أكبّت على يده الموضوعة فوق صدرهفقبلتها وأخذت تقول له:
    -
    لا تخرج من الدنيا وأنت مرتاب في ولدك، فإن أمه تعترفبين يديك وأنت ذاهب إلى ربك، أنها وإن كانت قد دنت من الجريمة، ولكنها لم ترتكبها،فاعف عني يا والد ولدي، واسأل الله عندما تقف بين يديه أن يلحقني بك، فلا خير لي فيالحياة من بعدك.
    ثم انفجرت باكية، ففتح عينيه، وألقى على وجهها نظرة باسمة، كانتهي آخر عهده بالحياة وقضى .
    الآن عدتُ من المقبرة بعدما دفنتُ صديقي بيدي وأودعتحفرة القبر ذلك الشباب الناضر، والروض الزاهر، وجلست لكتابة هذه السطور وأنا لاأكاد أملك مدامعي وزفراتي، فلا يهوّن وجدي عليه إلا أنَّ الأمّة كانت على باب خطرعظيم من أخطارها، فتقدم هو أمامها إلى ذلك الخطر وحده، فاقتحمه.. فمات شهيداً .. فنجت بهلاكه.

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jul 2010
    الدولة
    مصر المنصورة
    المشاركات
    5,230

    افتراضي

    رحمه الله وغفر لنا وله

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •