السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.بدايةً أوجِّه التحيةَ للإخوة القائمين على شبكة الألوكة، وأسأل الله تعالى أن يجعلَ كلَّ ما يقومون به في ميزان حسناتهم، والحقيقة أنني مِن المتابعات والمُعجَبات بهذه الشبكة، وقد استفدتُ منها كثيرًا؛ ولذا اخترتُها لِأَطْرَحَ فيها استشارتي، وكلي ثقة بأنني سأجد الإجابة الشافية.
لديَّ موضوعٌ يلحُّ عليَّ منذ فترة؛ حيث تقدَّم لخطبتي شابٌّ في أواخر العشرينيَّات، على قدْرٍ مِنَ الدين والخُلُق، والجميع يشيد به، وقد تمَّتِ الموافَقةُ، وتمَّ العقدُ، لكن لم أتواصلْ معه كثيرًا، ولا أعرف عنه الكثير سوى أشياء بسيطة!
الموضوعُ الذي يَشغَلُ تفكيري هو أنني مُوَظَّفةٌ، وراتبي أعلى مِن راتبِه؛ فكيف يكون تعامُلي معه مِن ناحية الأمور المادِّيَّة؟ وهل أسمح له بالتدخُّل في راتبي، وطريقة إنفاقي له؟ وهل يُمكنني أنْ أضعَ حدًّا لهذا الموضوع منذ البداية دون أن أُثير غضبه؟
فكثيرًا ما أسمع نصائحَ مِن زميلاتي بعدم السماح للزوج بالتدخُّل في راتب الزوجة، ومنهن مَن ترى العكس! حقيقة أنا في حيرةٍ مِن أمري؛ لأني أحبه، ولا أريد أن تكونَ الأمورُ الماديةُ سببًا في المشاكل بيننا، أتمنَّى منكم توجيهي، ولكم التحيَّة.

الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم

وعليكِ السلامُ ورحمة الله وبركاته.أحْسَنَ اللهُ إليكِ، وشكر لكِ ثناءكِ العطِر، وتقبَّل دعواتكِ الطيبة، وجعل لكِ منها أوفر النصيب، ونسعد كثيرًا برضاكِ عن شبكتنا، ونعتز بثقتكِ الغالية. قد لا يكونُ لذِكْرِ عمركِ كبيرُ أهمية في هذه المرَّة، لكن احرصي على كتابتِه فيما بعدُ متى ما طلبتِ استشارةً؛ حيث إنَّ عُمْرَ السائل وبلدَه مِن أكثر ما يهمُّ المستشار ويُفيد المستشير، ولا يتم التعرُّض له أو ذِكْره إلا أن يكونَ مِنْ صُلب المشكلة! أيتها العروس السعيدة - بإذن الله -:

وعَظ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - النساءَ في العيد، ثم انصرف، فلما صار إلى منزلِه جاءتْ زينب امرأة ابن مسعود - رضي الله عنهما - تستأذن عليه، فقيل: يا رسول الله، هذه زينب، فقال: ((أي الزيانب؟))؛ فقيل: امرأة ابن مسعود، قال: ((نعم، ائذنوا لها))، فأذن لها، قالتْ: يا نبي الله، إنك أمرتَ اليوم بالصدقة، وكان عندي حُلِيٌّ لي، فأردتُ أن أتصدَّق به، فزعم ابن مسعود أنه وولدُه أحقُّ مَن تصدَّقتْ به عليهم، فقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: ((صدق ابن مسعود، زوجُكِ وولدُكِ أحقُّ مَن تصدَّقتِ به عليهم))؛ رواه البخاري. فقد كان ابن مسعود - رضي الله عنه - فقيرًا، وبحاجة لمال زوجه، ومع ذلك لم تؤمَر زينبُ - رضي الله عنها – أو تُكرَه على إمداده بقليل مالٍ أو كثيرٍ، بل رغَّبَها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ووجَّهها؛ لأنَّ زوجَها أفضل مِن غيره، وأحق بهذا المال. والحقيقةُ أن بعضَ الشباب يُفَضِّل المرأةَ العامِلَةَ؛ طَمَعًا في شيء مِن مالها، وظنًّا منه بأنه سينتفع بذلك، ويتقدَّم لخطبتها على هذا الأساس! وهنا قد تنشأ الكثيرُ مِن المشكلات المادِّيَّة حول راتب المرأة، الذي كان مِن دواعي رغبته فيها، في حين ترفُض المرأةُ تمامًا أن تمدَّ زوجها بجزءٍ مِنْ راتبها، الذي ترى أحقيتَها الكاملة له، فكيف يكون علاجُ تلك المشكلات والتخلُّص منها؟ الخروجُ مِن هذا المأزق بأن تُناقشَ الفتاةُ أمرَ الراتب بالتفصيل قبل الزواج، وأن تشترطَ على زوجها ما تشاء مِن شروطٍ مشروعةٍ، وتستوضح منه إن كان راغبًا في الحصول على جزءٍ مِنْ راتبها؛ فعن عُقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتُم به الفُروج))؛ متَّفَق عليه. والمناقَشَةُ في هذه الأمور المادية قد يَعْتَرِيها التحرُّج إن لم تكن العَلاقةُ بينكما قد توطَّدتْ بعدُ، ولما تتكرَّر المقابَلات واللقاءات بما يسمح لكما بالتحدُّث بطلاقةٍ وحرية، إلا أنَّ التحرُّج الآن خيرٌ مِن الوقوع في مشكلات الراتب، ونشوب الخلافات حوله، وكما يقال: "الراحة في الصراحة"، والاشتراطُ يضع النقاط على الأحرف بما يمنع أو يُقَلِّل المشكلات ويحصرها في أضيق الحدود. ولا داعي للتحسُّس دائمًا مِن الأمور التي تخصُّ المال، أو تتحدَّث عنه؛ فالموظَّفُ يَسْتَحْيِي أن يحدِّث رئيسه في أمر المكافأة، أو الراتب، أو زيادته بعد سنوات عديدةٍ ارتفعتْ فيها الأسعارُ، وحالتْ دون قدرته على الإنفاق على أسرةٍ كاملةٍ، والمرأةُ تستحيي أن تحادثَ زوجها في أمر النفقة، خاصة إن كانتْ عاملةً، والمَدِين يتحرَّج مِن دائنه متى رآه؛ حيث يتذكَّر المال وحاجته إليه، وكأنه عارٌ يُلاحقه أينما ولَّى، والفتاةُ تعجز أن تذكرَ لوالدِها رغبتها في زيادة المصروف لزيادة الاحتياجات، وهكذا يبقى أمرُ المال خطًّا أحمر، لا ينبغي للناس تعدِّيه، وإلا صاروا مادِّيين ودُنْيَويين، ولا يُفَكِّرون إلا في أنفسهم بمنتهى الأنانية! وكل هذا غيرُ صحيح؛ فالمالُ كغيرِه من الاحتياجات البشرية التي لا يُسْتَحْيَى مِن ذِكْرِها، والتحدثُ عنها بشفافيةٍ يُخرجه مِن ذلك الرداء الذي ألبسناه إياه دونما سببٍ واضحٍ، حتى التصقتْ بمَن يفكِّر فيه سيِّئ الصفات، وقبيحُ النعوت، ومُحْتَقَرُ الخِلال. مِن كامل حقكِ أن يُنفقَ عليكِ، سواء كان لكِ راتبٌ خاصٌّ أم لا؛ قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله -: "يجب على الزوج أن يُنفِق على أهله - على زوجته وولده - بالمعروف، حتى لو كانت الزوجةُ غنيةً؛ فإنه يجب على الزوج أن يُنفقَ، ومن ذلك ما إذا كانت الزوجةُ تدرس، وقد شرط على الزوج تمكينها مِن تدريسها، فإنه لا حقَّ له فيما تأخذه مِن راتبٍ، لا نصف، ولا أكثر، ولا أقل، الراتب لها، ما دام قد شرطَ عليه عند العقد أنه لا يمنعها مِن التدريس فرَضِي بذلك؛ فليس له الحقُّ أن يمنعَها من التدريس، وليس له الحق أن يأخذَ مِن مكافأتها - أي: من راتبها - شيئًا، هو لها". "كيف يكون تعامُلي معه من ناحية الأمور المادية؟ وهل أسمح له بالتدخُّل في راتبي وطريقة إنفاقي له؟".كثيرًا ما تُؤثِّر المشكلاتُ المادِّيَّةُ على المحبَّة بين الناس، وكثيرًا ما يُفرِّق المال بين الأحبة، ويلعب بالعواطف لعبًا عنيفًا تتطايَر معه المشاعر هنا وهناك، حتى يخمدَ الحبُّ، وتهدأَ حرارته، بعد أن كانتْ مُشتعلة تُضِيء البيت، وتنشر الدِّفء في أرجائه، فرغم أنه لا أحقية لزوجكِ في مالكِ - كما أقرَّ أهل العلم - فإني أنظر للعَلاقة الزوجية نظرةً مختلفةً، بعيدة عن كلمة: "حقي" و"حقه"، و"حدود" و"مسافات"؛ فالزواجُ عَلاقةٌ روحيةٌ، جسدية، نفسية، سامية، لا ينبغي أن يَنظرَ لها الزوجانِ تلك النظرةَ التي تحوِّلها إلى شركةٍ بها مديرٌ وموظفٌ وعاملٌ، وكلٌّ يحصر تفكيره في حقِّه وواجبه، وما له وما عليه، دون النظر أو التعامل مع هذه العَلاقة بما تستحق مِن أسلوب راقٍ يُخرِجها مِن بوتقة المادِّيات فقط، إلى عالم المحبة الفسيح بكل ما فيه مِن أمورٍ معنويَّة أو مادِّيَّة. وما أنصحكِ به أن تستهلِّي حديثكِ بالثناء عليه، وإشعاره بالثقة فيه، ثم تتحدثي بصراحةٍ حول رغبته في مُواصلتكِ للعمل، ورأيه الصريح في ذلك، وفي حالة لم يُبْدِ رغبةً في انقطاعكِ عن العمل، فتكون إشارة بلطفٍ لأمر الراتب، وكيف ينظر إليه، أو يفكِّر فيه؟ مع التوضيح لبعض الأمور التي تُبيِّن له أن عليكِ بعض الالتزامات غير المفروضة، إن كانتْ ثمَّة التزامات أو رغباتٌ تودِّين تحقيقها؛ كمدِّ يدِ العون لبعض أقربائك، أو تقديم هدايا للوالدين، أو التصدُّق على بعض المحتاجين، أو غيرها من الأمور التي تحب المرأة أن تفعلها، ولا يلزم بها الزوج. "وهل يُمكنني أن أضعَ حدًّا في هذا الموضوع منذ البداية دون أن أُثِير غضبه؟".نعم، يمكنكِ ذلك متى ما استخدمتِ الأسلوب الأنثوي الرقيق، والطريقة الهادئة الجذَّابة، وأَخرِجي من قاموسكِ في الحوار معه: "من حقي"، أو "ليس لك"، أو "الواجب عليك"، أو "يفترض بك"، أو غيرها من الألفاظ والعبارات التي تشعر الزوج بالغربة عن زوجه، وتكون بمثابة رسائل عنوانها: "نحن كيانان منفصلان"؛ حيث يرد عليها الزوجُ برسالة لن ترضيكِ، ولن تسعدكِ. فأشعريه بأنكِ تحبِّينه بصِدْقٍ، ولا تمانعين في مساعدته متى وجدتِه بحاجة إليها، وأنه أحق الناس بها، على أن كل ذلك غير مفروض عليكِ، وإنما مِن باب المحبَّة الخالصة، والثقة المتبادلة، والمودَّة العميقة. المقصودُ - أيتها الفاضلة - أن تصلَ إلى زوجكِ رسالةٌ بأن طبيعة العَلاقة بينكما نائية عن المادِّيات، بل هي أكبر مِن كل شيء ملموس! حينها لن يُفَكِّر بما يخطر ببالكِ، وما تخشين خسارته لأجله، وحينها سيتصرف على أساس روح واحدة في جسدين. والله أسأل أن يجعلكِ قرَّة عين لزوجكِ، ويجعله لكِ كذلك، وأن يُغْنِيكما مِن فضله، ويُسبِغ عليكما نِعَمه. والله الموفِّق، وهو الهادي إلى سواء السبيل.