هل يسوغ أن تنسب هذه الرسالة لابن تيمية ؟

طُبع كتاب سمّاه محققه د. عبد العزيز الزير آل حمد: ( قاعدة مختصرة في قتال الكفار ومهادنتهم
وتحريم قتلهم لمجرد كفرهم ) ونسبه إلى ابن تيمية – رحمه الله -، وقد طُبع هذا الكتاب سنة 1425هـ دون أن يذكر اسم الناشر أو الطابع .

وسأورد بإيجاز جملة من الملحوظات على تلك الرسالة كما يلي:

1- هذه الرسالة قد حكم جملة من المحققين
بعدم ثبوتها لابن تيمية، فقد ردّها الشيخ سليمان بن سحمان في عدة كراريس، ووصفها الشيخ عبد الرحمن بن قاسم بأنها نقل محرّف ( انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية – جمع ابن قاسم– 8 / 5 ) ، كما بيّن بطلان هذه الرسالة الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع، في رسالة خطية بعثها إلى الشيخ سليمان بن سحمان سنة 1340هـ ، وهذه الرسالة لا تزال مخطوطة في دارة الملك عبد العزيز بالرياض رقم ( 26+ز ؤص/3).
ولما سئل الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم عن هذه الرسالة، كان من جوابه – كما في تقريراته – ما يلي- : ( هذه جرى فيها بحث في مصر، وبيّنا لهم بياناً تاماً في الموضوع، وأنها عُرضَت على مشايخ الرياض فأنكروها .
وهذه الرسالة حقيقتها أن بعضها من كلامه، ومحذوف منها شيء، ومدخل فيها شيء آخر، وكلامه في الصارم المسلول، والجواب الصحيح وغيرهما يخالف هذا،
وهو أنهم يقاتلون لأجل كفرهم ) فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 6/200، 201، وانظر 6/199.
وأما الشيخ سليمان بن حمدان فقد دوّن سنة 1382هـ كتاباً مفرداً يزيد على مائة صفحة في الردّ على هذه الرسالة المنسوبة لابن تيمية، وسمّى كتابه بـ ( دلالة النصوص والإجماع على فرض القتال للكفر والدفاع ) كما قرر أ.د. علي العلياني في كتابه ( أهمية الجهاد ) ص 342
براءة ابن تيمية من تلك الرسالة، ومع ذلك فإن المحقق لم يذكر هؤلاء العلماء أو يبسط الحديث عن نقدهم !
2- أن الذين سردوا مؤلفات ابن تيمية كابن رشيق ، وابن عبد الهادي، وابن رجب لم يذكروا تلك الرسالة التي جزم المحقق بثبوتها لابن تيمية !
3- أن هذه الرسالة مختصرةٌ عن أصل مفقود ، ولا يعرف اسم المختصر ، ولا تاريخ نسخ المختصر، كما لا يعرف شيء عن هذا الأصل المفقود!! إضافة إلى ذلك فهذا المختصر المجهول، قد كُتِب حديثاً، فهو منقول عن نسخة كُتبت سنة 1363هـ ، أي بعد وفاة المؤلف بخمس وثلاثين وثمانمائة سنة !
4- أن ما في هذه الرسالة ينقضه تقريرات شيخ الإسلام في كتبه المشهورة كما في مجموع الفتاوى 4 / 205 ، 28 / 349 ، 358 ، 359 ، والجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح 1/75 ( ط المدني ) ، والصارم المسلول 2/514، والصفدية 2/321، ونحوها .
5- أن في هذه الرسالة آراء تخالف التقريرات المعروفة عن شيخ الإسلام، ومن ذلك أن في تلك الرسالة بيان أن المجوس أعظم شركاً من مشركي العرب كما في ص 160، 163، وهذا على عكس ما قرره شيخ الإسلام في (( التدمرية )) وغيرها، حيث بيّن أن المشركين شرٌ من المجوس ( انظر: الرسالة التدمرية ص 190 ) ، ومجموع الفتاوى 8 / 100 ، 256 ) ، كما أورد في الرسالة قوله تعالى:(( فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ)) [ التوبة: 5 ] .
أنه دليل لقول المخالفين ، مع أن شيخ الإسلام قرر هذا الدليل كما في اقتضاء الصراط المستقيم ، واستدلّ به فقال: [ إن الأمر إذا تعلق باسم مفعول مشتق من معنى كان المعنى علة للحكم كما في قوله تعالى: (( فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ )) [ التوبة: 5 ] .
وكذا أيضاً في منهاج السنة النبوية 4/179 كما أنه دليل على أن موجب القتال هو الشرك والكفر بالله تعالى .
6- لو سلّمنا جدلاً أن شيخ الإسلام غلط في هذه المسألة، وجعل موجب قتال الكفار هو المقاتلة والمحاربة، فالعبرة باتباع نصوص الوحيين، كما جاء في قوله تعالى: (( قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ )) [ التوبة : 29] .
وقوله- صلى الله عليه وسلم- : (( اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله ... )) أخرجه مسلم .
7- أورد المحقق في مقدمته نقولاً كثيرة عن ابن تيمية، لكن هذه النقول تفتقد إلى الدقة والأمانة، فقد اعتراها البتر والحذف، كما في الأمثلة الآتية:
أ– ساق المحقق في ص 22 نقلاً لابن تيمية ولم يتمّه، وتمامه " وكان دم الكافر في أول الإسلام معصوماً بالعصمة الأصلية، وبمنع الله المؤمنين من قتله .. .)) الصارم المسلول 1/210.
ب- ساق المحقق ص 24 نقلاً لابن تيمية ، وبتره فلم يكمله، والمبتور ما يلي : ( فمن امتنع من هذا قوتل باتفاق المسلمين ، وأما من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة ، كالنساء والصبيان والراهب ، والشيخ الكبير، والأعمى، والزَمِن ونحوهم، فلا يقتل عند جمهور العلماء ... )) مجموع الفتاوى 28 / 354 ) .
وقال - في موضع آخر - : (( ولهذا أوجبت الشريعة قتال الكفار، ولم توجب قتل المقدور عليهم منهم، بل إذا أُسّر الرجل منهم في القتال، أو غير القتال، فإنه يفعل فيه الإمامُ الأصلح من قتله، أو استبعاده، أو المنّ عليه، أو مفادا ته .. )) مجموع الفتاوى 28/ 354.
ج- نقل المحقق ص 24 كلاماً لابن تيمية، لكنه لم يتمّه، وتمامه : ( فإنما يُقاتل ممن كان ممانعاً عن ذلك، وهم أهل القتال، فأما من لا يقاتل عن ذلك فلا وجه لقتله كالمرأة والشيخ الكبير والراهب ونحو ذلك .. ) الصارم المسلول 2/514.
د- ساق المحقق نقلاً لابن تيمية في ص 26 لكنه حذف مطلعه، حيث قال شيخ الإسلام: ( وأنه – صلى الله عليه وسلم – أمر بقتالهم حتى يسلموا ..).
هـ- نقل المحقق ما قاله ابن تيمية في ص 27 وحذف قوله: ( والنساء لسن من أهل القتال . )
و- ساق كلاماً لابن تيمية في 28 من كتاب الجواب الصحيح ، وكان على المحقق أن يدرك أن كلام ابن تيمية هاهنا قد جاء ضمن وجوه الجمع بين جهاد الكفار وبين مجادلتهم، والأمر الآخر أن المحقق لم يكمل بقية النص، وهي بقية تُفْسد عليه بُغيته، وهاك البقية، " ( فإذا وجب علينا جهاد الكفار بالسيف ابتداءً ودفعاً، فلآن يجب علينا بيان الإسلام وإعلامه ابتداءً ودفعاً لمن يطيقه بطريق الأولى والأحرى .
إلى أن قال: ومعلوم أن يحتاج كل وقت إلى السيف ؟ ) الجواب الصحيح 1/75 ط المدني .
ز- ساق كلاماً لابن تيمية في ص 29 لكنه لم يتمّه أيضاً، وتمامه: ( ولهذا أوجبت الشريعة قتال الكفار، ولم توجب المقدور عليهم منهم ) مجموع الفتاوى 28/ 355 .
ح- أورد المحقق نصوص لابن تيمية في ص 35 .. مع أن مقصود ابن تيمية بقوله : ( فمن ليس من أهل القتال لم يؤذن في قتاله.. ) أي النساء، كما صرّح بذلك في تتمة النص الذي أسقطه المحقق !
ومع ذلك ففي هذه الرسالة المنحولة- ما يتفق مع تقريرات ابن تيمية، كما أشار إلى ذلك العلامة محمد بن إبراهيم حيث قال: ( إن بعضها من كلامه، ومحذوف منها شيء، ومُدَخل فيها شيء آخر .. ، وقد أثبت ذلك المحقق من خلال جهد مشكور، لكن المقصود هاهنا هو بطلان دعوى أن قتال الكفار لأجل المحاربة فحسب، بل إن موجب قتالهم وعلته هو الكفر بالله تعالى .
وإذا كنا نحذر من القول بلا علم، أو التقوّل مع أهل العلم، بأن يُنسب إليهم ما لم يقولوا، فإن على فضيلة محقق هذه الرسالة، أن يسعه ما وسع أئمة الدعوة، لا سيما وأنه من المشتغلين بتراثهم، وكما ينبغي التحذير من تلك الممارسات الخاطئة من تفجيرات باسم الجهاد، وسلوك الطيش والتهوّر، وعدم الالتفات في فقه المصالح والمفاسد، فكذا ينبغي الحذر من ردود الأفعال، وعدم مقابلة الانحراف السابق بانحراف آخر، يؤول إلى خنق الجهاد ومحاصرته، والتكلّف في إيراد شروط لا دليل عليها، وتهويل أخطاء المجاهدين في سبيل الله، كما في العراق وفلسطين وأفغانستان، والشيشان، وملاحقتهم بأنواع اللوم والنقد .
ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية إذ يقول: (( وسنام ذلك الجهاد في سبيل الله، فإنه أعلى ما يحبه الله ورسوله، واللائمون عليه كثير، إذ كثير من الناس الذين فيهم إيمان يكرهونه، وهم إمّا مخذّلون مفتِّرون للهمة والإرادة فيه، وإما مرجفون مضعِّفون للقوة والقدرة عليه، وإن كان ذلك من النفاق )) الاستقامة 1/265 .
أسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا ويهدينا صراطه المستقيم، إن هو البرّ الرحيم .

http://www.alabdulltif.net/index.php?option=content&task= view&id=2247&Itemid=5