فهذه بعض أحكام اللقطة ، مما عمت به البلوى وقد يقع بعض المسلمين في أخطاء تتعلق باللقطة :
أولا : تعريف اللقطة :
هِيَ الْمَالُ الضَّائِعُ مِنْ رَبِّهِ ، يَلْتَقِطُهُ غَيْرُهُ.
أو : هِيَ مَالٌ، أَوْ مُخْتَصٌّ ضَلَّ عَنْ رَبِّهِ، وَتَتْبَعُهُ هِمَّةُ أَوْسَاطِ النَّاسِ.
قَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ: اللُّقَطَةُ ، بِفَتْحِ الْقَافِ : اسْمٌ لِلْمُلْتَقِطِ ، لِأَنَّ مَا جَاءَ عَلَى فُعَّلَةٌ فَهُوَ اسْمٌ لِلْفَاعِلِ ، كَقَوْلِهِمْ : هُمَزَةٌ وَلُمَزَةٌ وَضُحَكَةٌ وَهُزَأَةٌ ، وَاللُّقْطَةُ ، بِسُكُونِ الْقَافِ : الْمَالُ الْمَلْقُوطُ ، مِثْلُ الضُّحْكَةِ الَّذِي يُضْحَكُ مِنْهُ ، وَالْهُزْأَةُ الَّذِي يُهْزَأُ بِهِ .وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَالْفَرَّاءُ : هِيَ بِفَتْحِ الْقَافِ ، اسْمٌ لِلْمَالِ الْمَلْقُوطِ أَيْضًا.
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في شرحه الممتع :
والمراد بقوله: «همة أوساط الناس» أي: تتعلق به نفوسهم.اهــ
ثانيا : الْأَصْلُ فِي اللُّقَطَةِ :
مَا رَوَى زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ قَالَ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُقَطَةِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ ، فَقَالَ : اعْرِفْ وِكَاءَهَا ، وَعِفَاصَهَا ، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً ، فَإِنْ لَمْ تُعْرَفْ فَاسْتَنْفِقْهَ ا وَلْتَكُنْ وَدِيعَةً عِنْدَك ، فَإِنْ جَاءَ طَالِبُهَا يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ ، فَادْفَعْهَا إلَيْهِ .
ثالثا : إذا ضل مال عن صاحبه ؛ فلا يخلو من ثلاث حالات :
الحالة الأولى :
أن يكون مما لا تتبعه همة أوساط الناس ، كالسوط ، والرغيف ، والثمرة ، والعصا ، فهذا يملكه آخذه وينتفع به بلا تعريف ، لما روى جابر قال : رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في العصا والسوط والحبل يلتقطه الرجل. رواه أبو داود .
[ وقال أبو داود عقيبه : قال أبو داود: رواه النعمان بن عبد السلام عن المغيرة أبي سلمة بإسناده ، ورواه شبابة عن مغيرة بن مسلم عن أبي الزبير عن جابر قال: كانوا.
لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم .اهــ .]
قلت: وقد ضعفه الألباني في الإرواء .
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله :
وعلى هذا فنقول: من وجد مالاً فعلى ثلاثة أقسام:
الأول: أن يعلم أن صاحبه تركه رغبة عنه فهذا لواجده، كما يوجد الآن بعض الكراسي المكسرة ترمى في الأسواق، أو بعض الزنابيل، أو بعض الأواني، أو ما أشبه ذلك، نعلم أن صاحبها تركها رغبة عنها، هذه يملكها واجدها بدون شيء، حتى لو علمنا أن هذا الرجل له متاع ثقيل في البر، وعجز عنه وتركه رغبة عنه كما أراد جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ أن يسيب جمله ، فهذا لمن وجده.
وهل من ذلك السيارات التي يكون عليها حوادث وتبقى في الطرق، هل نقول: هذه مما تركها أهلها رغبة عنها، فيجوز للإنسان أن يأخذ منها أو لا يجوز؟
نقول: ننظر إلى حال السيارة إذا كان فيها معدات ونعلم أنها غالية، وأن صاحبها سوف يعود إليها، فإنه لا يجوز أخذها، أما إذا كانت هيكلاً محترقاً ما فيه إلا حديد يحتاج إلى أن يصهر بنار، فهذا لمن وجده؛ لأننا نعلم أن صاحبه لن يعود إليه.
الثاني: أن يكون مما لا تتبعه الهمة؛ لكونه زهيداً، كقلم يساوي درهماً، فهذا زهيد لا تتبعه همة أوساط الناس، فأي إنسان يجده فهو له، إلا إذا كان يعلم صاحبه فعليه أن يوصله إلى صاحبه أو يبلِّغ صاحبه به؛ لأنه أصبح الآن غير لقطة، لأن صاحبه معلوم.
الثالث: وهو الذي أشار إليه الماتن، وهو الذي تتبعه همة أوساط الناس فهذا يجب أن يعرَّف لمدة سنة، وسيأتي إن شاء الله.اهـــ كلامه.
الحالة الثانية :
أن يكون مما يمتنع من صغار السباع ، إما لضخامته كالإبل والخيل والبقر والبغال ، وإما لطيرانه كالطيور ، وإما لسرعة عدوها كالظباء ، وإما لدفاعها عن نفسها بنابها كالفهود ، فهذا القسم بأنواعه يحرم التقاطه ، ولا يملكه آخذه بتعريفه لقوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن ضالة الإبل : ( مالك ولها ؟! معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء ، وتأكل الشجر ، حتى يجدها ربها ) متفق عليه .
وروي عن عمر : ( من أخذ الضالة فهو ضال ) أي مخطئ .
وفي الحديث عند أحمد وغيره - بإسناد ضعيف - : لَا يُؤْوِي الضَّالَّةَ إِلَّا ضَالٌّ.
وقد حكم صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بأنها لا تلتقط ، بل تترك ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها .
ويلحق بذلك الأدوات الكبيرة ، كالقدر الضخمة والخشب والحديد وما يحتفظ بنفسه ولا يكاد يضيع ولا ينتقل عن مكانه ، فيحرم أخذه كالضوال ، بل هو أولى .
الحالة الثالثة : أن يكون المال الضال من سائر الأموال : كالنقود والأمتعة وما لا يمتنع من صغار السباع ، كالغنم والفصلان والعجول ، فهذا القسم إن أمن واجده نفسه عليه ، جاز له التقاطه ، وهو ثلاثة أنواع :
النوع الأول : حيوان مأكول ، كفصيل وشاة ودجاجة .. فهذا يلزم واجده إذا أخذه الأحظّ لمالكه من أمور ثلاثة :
أحدها : أكله وعليه قيمته في الحال .
الثاني : بيعه والاحتفاظ بثمنه لصاحبه بعد معرفة أوصافه .
الثالث : حفظه والإنفاق عليه من ماله ، ولا يملكه ، ويرجع بنفقته على مالكه إذا جاء واستلمه ، لأنه صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الشاة قال : ( خذها ، فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب ) متفق عليه ، ومعناه : أنها ضعيفة ، عرضة للهلاك ، مترددة بين أن تأخذها أنت أو يأخذها غيرك أو يأكلها الذئب .
قال ابن القيم رحمه الله في الكلام على هذا الحديث :
وفيه جواز التقاط الغنم ، وأن الشاة إذا لم يأت صاحبها ، فهي ملك المتلقط ، فيخير بين أكلها في الحال وعليه قيمتها ، وبين بيعها وحفظ ثمنها ، وبين تركها والإنفاق عليها من ماله ، وأجمعوا على أنه لو جاء صاحبها قبل أن يأكلها الملتقط ، له أخذها .اهــ
النوع الثاني : ما يخشى فساده ؛ كبطيخ وفاكهة ، فيفعل الملتقط الأحظّ لمالكه من أكله ودفع قيمته لمالكه ، وبيعه وحفظ ثمنه حتى يأتي مالكه .
النوع الثالث : سائر الأموال ما عدا القسمين السابقين ، كالنقود والأواني ، فيلزمه حفظ الجميع أمانة بيده ، والتعريف عليه في مجامع الناس .
- ولا يجوز له أخذ اللقطة بأنواعها إلا إذا أمن على نفسه عليها وقوي على تعريف ما يحتاج إلى تعريف ؛ لحديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه ، قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن لقطة الذهب والورق ؟ فقال :" اعرف وكاءها وعفاصها ، ثم عرفها سنة ، فإن لم تعرف ، فاستنفقها ، ولتكن وديعة عندك ، فإن جاء طالبها يوماً من الدهر ، فادفعها إليه". وسأله عن الشاة ؟ فقال :" خذها ، فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب "، وسئل عن ضالة الإبل ، فقال :" مالك ولها ؟! معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء ، وتأكل الشجر ، حتى يجدها ربها ". متفق عليه .
- ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم : ( اعرف وكاءها وعفاصها ) : الوكاء : ما يربط به الوعاء الذي تكون به النفقة ، والعفاص ، الوعاء الذي تكون فيه النفقة .
وَالْعِفَاصُ : الْوِعَاءَ الَّذِي هِيَ فِيهِ ، مِنْ خِرْقَةٍ أَوْ قِرْطَاسٍ أَوْ غَيْرِهِ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْأَصْلُ فِي الْعِفَاصِ أَنَّهُ الْجِلْدُ الَّذِي يُلْبِسُهُ رَأْسَ الْقَارُورَةِ .
- ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم : ( ثم عرِّفها سنة ) ، أي اذكرها للناس في مكان اجتماعهم من الأسواق وأبواب المساجد والمجامع والمحافل ، ( سنة ) أي : مدة عام كامل ، ففي الأسبوع الأول من التقاطها ينادى عليها كل يوم ، لأن مجيء صاحبها في ذلك الأسبوع أحرى ، ثم بعد الأسبوع ينادى عليها حسب عادة الناس في ذلك .
( وإذا كانت هذه طريقة التعريف في العهد الماضي فإنّ الملتقط يعرّف اللقطة بالطرق المناسبة في هذا العصر ، والمهم حصول المقصود وهو بذل ما يُمكن للوصول إلى صاحبها ) .
ومن أخطاء بعض الناس أن اللقطة تعرف عندهم ثلاثة أيام ، وهذا غلط .
- والحديث يدل على وجوب التعريف باللقطة ، وفي قوله صلى الله عليه وسلم : ( اعرف وكاءها وعفاصها ) : دليل على وجوب معرفة صفاتها ، حتى إذا جاء صاحبها ووصفها وصفاً مطابقاً لتلك الصفات ، دُفعت إليه ، وإن اختلف وصفه لها عن الواقع لم يجز دفعها إليه .
- وفي قوله صلى الله عليه وسلم : ( فإن لم تعرف ، فاستنفقها ) : دليل على أن الملتقط يملكها بعد الحول وبعد التعريف ، لكن لا يتصرف فيها قبل معرفة صفاتها : أي حتى يعرف وعاءها ووكاءها وقدرها وجنسها وصفتها ، فإن جاء صاحبها بعد الحول ، ووصفها بما ينطبق على تلك الأوصاف ، دفعها إليه ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( فإن جاء طالبها يوماً من الدهر ، فادفعها إليه ) .
وقد تبين مما سبق أنه يلزم نحو اللقطة أمور :
أولاً : إذا وجدها ، فلا يُقْدم على أخذها إلا إذا عرف من نفسه الأمانة في حفظها والقوة على تعريفها بالنداء عليها حتى يعثر على صاحبها ، ومن لا يأمن نفسه عليها ، لم يجز له أخذها ، فإن أخَذَها ، فهو كغاصب ، لأنه أخذ مال غيره على وجه لا يجوز له أخذه ، ولما في أخذها حينئذ من تضييع مال غيره .
ثانياً : لا بد له قبل أخذها من ضبط صفاتها بمعرفة وعائها ووكائها وقدرها وجنسها وصنفها ، والمراد بوعائها ظرفها الذي هي فيه كيساً كان أو خرقة ، والمراد بوكائها ما تُشدّ به ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك ، والأمر يقتضي الوجوب .
ثالثاً : لابد من النداء عليها وتعريفها حولاً كاملاً في الأسبوع الأول كل يوم ، وبعد ذلك ما جرت به العادة ، ويقول في التعريف مثلاً : من ضاع له شيء ونحو ذلك ، وتكون المناداة عليها في مجامع الناس كالأسواق ، وعند أبواب المساجد في أوقات الصلوات ، ولا ينادي عليها في المساجد لأن المساجد لم تبن لذلك ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد ، فليقل لا ردها الله عليك ) .
رابعاً : إذا جاء طالبها ، فوصفها بما يطابق وصفها ، وجب دفعها إليه بلا بينة ولا يمين ، لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك ، ولقيام صفتها مقام البينة واليمين ، بل ربما يكون وصفه لها أظهر وأصدق من البينة واليمين ، ويدفع معها نماءها المتصل والمنفصل ، أما إذا لم يقدر على وصفها ، فإنها لا تدفع إليه ، لأنها أمانة في يده ، فلم يجز دفعها إلى من لم يثبت أنه صاحبها .
خامساً : إذا لم يأت صاحبها بعد تعريفها حولاً كاملاً ، تكون ملكاً لواجدها ، لكن يجب عليه قبل التصرف فيها ضبط صفاتها ، بحيث لو جاء صاحبها في أي وقت ، ووصفها ردها عليه إن كانت موجودة ، أو ردَّ بدلها إن لم تكن موجودة ، لأن ملكه لها مراعى يزول بمجيء صاحبها .
ومن هنا يتبين لنا من هدي الإسلام في شأن اللقطة كيف حافظ الإسلام واعتنى عناية كبيرة بالأموال وحفظها وعنايته بحرمة مال المسلم وحفاظه عليه ، وكيف حث الإسلام على التعاون على الخير والبر والله تعالى ذكره يقول : ( وتعاونوا على البر والتقوى ).