ملخص السؤال:
فتاة تركتْ مذهبَ أهل السنة إلى مذهب الاعتزال؛ بسبب عدم فَهمها لصحيح للكتاب والسنة، لكنها لم تَجِدْ بُغيتها وهُداها فيه، فعادتْ إلى مذهب أهل السنة مرة أخرى، والآن وصَل بها الحال إلى الشك في وجود الله تعالى وفي كل مَن حولها، وتسأل: أفكاري مُتضاربة، أرشدوني للصواب.
تفاصيل السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.أنا فتاة ملتزمة منذ صغري بالعبادة والصلاة، عندما بلغتُ 16 عامًا بدأتُ بالقراءة في الدين، وعلمتُ أن مصادر التشريع الإسلامي القرآن والسنة، فبدأتُ بالصحاح، لكن كلما فتحتُ في الصحيح صفحةً عاد الإيمانُ في قلبي درجة للخلف! حتى توصَّلتُ إلى ترك مذهب أهل السنة.بدأتُ عملية البحث عن المذهب الصحيح حتى تعلمتُ الاعتزال، وأصبح منهجَ حياتي، فازداد به إيماني، وذهبتُ إلى عمرة ودعوتُ الله تعالى أن يريني الحق، فرأيتُ رؤيا في منامي: أني أصلي وبعدَ سُجودي لم أستطعْ رفع رأسي، وفسرتُ رؤياي برداءة المذهب، فأُصبتُ بصدمةٍ شديدةٍ، والتزمتُ البكاءَ شهورًا، حتى استسلمتُ وعُدتُ لمذهب السنة!لا أستطيع أن أنسى أفكار الاعتزال؛ مِن خَلْق القرآن والقدَر والكفر بالصحاح، ولا أستطيع التخلي عنها، وكأنها تُسيطر على كل خليةٍ في جسدي ونفسي!قررتُ الابتعاد قدْرَ المستطاع عن التفكير في تلك الأمور، وبعد فترةٍ بدأ شيء يتنامى في داخلي، ألا وهو الشك في وجود الله! فعقيدةُ السنة تشكِّل لي ظلمًا كبيرًا، ولا يمكن لإلهٍ أن يظلمَ، فصرتُ أُصلِّي فقط لأني أصلي، وأتحجب لاقتناعي بالحجاب، وليس لأن أحدًا أمرني.مشكلتي أنني لا أنسى طفولتي التي قضيتُها في حب الله، والآن أنا أكفر به، أُحاولُ أن أتجاهلَ كفري بحجبه عن نفسي، ألتزم بكل ما أمرتْ به الشريعةُ مِن صلاةٍ وزكاةٍ وصيامٍ وقيام، ليس نفاقًا، لكن طفولتي تُسيطر على تصرُّفاتي!ما زال قلبي متأثرًا بالاعتزال ويَشتاق له، وعقلي يكفرُ بالسنة تمامًا، أنا أقترب من فجوةٍ إن سقطتُ فيها وجدتني مُلحدة.
فدلوني على الصواب

الجواب

الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:فمشكلتك أيتها الابنة والتي دفعتْك إلى أن تذمِّي المذهب الحق مذهب أهل السنة والجماعة وأن تشيدي بمذهب الاعتزال - هي عدم تحقُّقك لمعنى الغنى بالله والفقر إليه، فأنت تشعرين أنك غنية بنفسك، ولستِ فقيرة إلى الله، حتى ركنتِ إلى نفسك تعظيمًا وتبجيلًا، وهذا هو حقيقةُ مذهب المعتزلة في القدَر، فإنهم جحَدوا قدرة الله التامة ومشيئته النافذة وخلقه لكل شيء، حتى قالوا: إن العبد هو مَن يخلُق أفعاله، وأنه يطيع الله بلا معونةٍ ولطف مِن الله، وأن العبد ليس مُفتقرًا إلى الله لا في قوة على عبادته ولا تحول عن المعصية، ولا أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكنْ، بل إنه سبحانه يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء، وأنه لا يقدِرُ أن يفعلَ مع مَخلوق من المصلحة الدينية غير ما فعل، ولا يقدر أن يهديَ ضالًّا ولا يضل مهتديًا!وهل تعلمين أن المعتزلة يجعلون جميع حسنات العبد وإيمانه حابطًا بارتكاب كبيرة واحدة! واللهُ تعالى لم يجعلْ شيئًا يحبط جميع الحسنات إلا الشرك والكفر، والمعتزلةُ يَجعلون الكبائر مُحبطةً لجميع الحسنات حتى الإيمان، كما أنهم شبهوا الله تعالى بخلقه، فأوجبوا عليه ما يجب على المخلوق، وأن الظلم الذي يجب تنْزيه الربِّ عنه مِن جنس الظلم الذي ينهى عنه المخلوق، وهذا كلامٌ لا يقوله مَن له أدنى بصيرة، فالربُّ تعالى غنيٌّ بنفسه عما سواه، ومحال أن يفتقرَ إلى غيره بوجه مِن الوجوه.فلو قلتِ - سلمك الله -: كيف هذا، والله تعالى يحب الأعمال الصالحة ويرضى ويفرح بتوبة التائبين؟!فالجوابُ: أنه هو سبحانه مَن خلقها للعبد ويسرها له، فلم يحصلْ ما يحبُّه ويرضاه إلا بقدرته ومشيئته، وهذا ظاهرٌ على مذهب أهل السنة والجماعة الذين يُقرون بأن الله هو المُنعم على عباده بالإيمان، وأن الله تعالى برحمته وحكمته وعدله كتَب على نفسه الرحمة، وحرَّم على نفسه الظلم، وأوجب على نفسه حقًّا لعباده المؤمنين، ولم يوجبْ ذلك مخلوقٌ، والنفوس الجاهلية الظالمة الجاحدة تتخيل أن الإنسان بعبادته وعلمه يَصير له على الله حقٌّ مِن جنس ما يصير للمخلوق على المخلوق، وهذا مِن جهل الإنسان وظلمه، وقد بَيَّن الله تعالى أن عمل الإنسان يعود نفعه عليه، وأن الله غني عن الخلق؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾ [الإسراء: 7]، وقال تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46]، وقال تعالى: ﴿ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ﴾ [الزمر: 7]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ [النمل: 40] ، وقال تعالى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُم ْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ * وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7، 8]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا ﴾ [آل عمران: 176]، وقال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 97]...، والآياتُ بهذا المعنى كثيرة جدًّا.وقد بَيَّنَ سبحانه أنه المانُّ بالعمل فقال تعالى: ﴿ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [الحجرات: 17]، وقال تعالى:﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [الحجرات: 7، 8]، وفي الحديث القدسي: ((يا عبادي، إني حرمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم محرمًا، فلا تظالَموا، يا عبادي، كلكم ضالٌّ إلا مَن هديتُه، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا مَن أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا مَن كسوتُه، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي، إنكم تُخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أَفْجَرِ قلب رجل واحد ما نقص ذلك مِن ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني فأعطيتُ كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالُكم أُحصيها لكم، ثم أُوفيكم إياها، فمَن وجَد خيرًا فلْيَحْمَد الله، ومن وجَد غير ذلك فلا يَلومنَّ إلا نفسه))؛ رواه مسلم.وصدقيني - أيتها الابنة - إنك لن تجدي في الاعتزال ولا في غيره مِن مذاهب الضلال إلا سَفْسَطَةً في العقليات، وقَرْمَطَةً في الشرعيات، فهم قومٌ زلَّتْ أقدامُهم، وضلَّتْ أفهامهم، كيف لا ولو أنك قرأت في كتب الاعتزال؛ كالمغني للقاضي عبدالجبار أو غيره - فستجدين أن القوم يضربون لله الأمثال، ولم يجعلوا له المثَل الأعلى؟ بل أوجبوا عليه وحرَّموا ما رأوا أنه يجب على العباد ويحرم بقياسه على العباد وإثبات الحكم في الأصل بالرأي، وستقفين على قولهم: إن الله إذا أمر العبدَ ولم يُعنه بجميع ما يقدر عليه من وجوه الإعانة كان ظالمًا له، والتزموا أنه لا يقدر أن يهدي ضالًّا، كما قالوا: إنه لا يقدر أن يضلَّ مُهتديًا، وقالوا: إذا أمر اثنين بأمر واحدٍ وخصَّ أحدهما بإعانته على فعل المأمور كان ظالمًا... إلى أمثال ذلك من الأمور التي هي من باب الفضل والإحسان جعلوا تركه لها ظلمًا!وكذلك ظنوا أن التعذيبَ لمن كان فعله مقدرًا ظلمٌ له، ولم يُفرِّقوا بين التعذيب لمن قام به سبب استحقاق ذلك ومَن لم يقم.وأنت أيتها الابنة إن رجعتِ بصِدقٍ إلى نفسك التي بين جنبَيك، وقلبك الذي في صدرك، لَوجدتِ الكبرَ يَملأ قلبك، وهو ما يشعرك بأنك غنية بنفسك، غير مفتقرة إلى الله، هذا هو داؤك الدفين ومشكلتُك الحقيقية التي أرجو مِن الله أن يُوفقك للاستجابة لحلها.وإن أردت النجاةَ وأن تكوني صِدِّيقةً فأنت تحتاجين لتحقيق معنى الفقر لله والغنى به، وتحقيق قول رسول الله: ((أعوذ برضاك مِن سخطك، وأعوذ بمعافاتك مِن عقوبتك، أعوذ بك منك))، وقوله: ((يا مقلِّب القلوب، ثَبِّتْ قلبي على دينك))، وتحقيق معنى لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا ملجأ منك إلا إليك وأنه على كل شيء قدير، وأنه لا يخرج شيءٌ عن قدرته وملكه، ولا يشركه أحد في حكمه، وأنه سبحانه لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وتحقيق معنى ((ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك)).ومما يعينك على ذلك أن تتأملي كيف أنك وجميع المخلوقات فقيرة إلى الله بالذات، وأنك تحتاجين إليه في كل شيء، ولا غنى لنا ولك عن الله طرفة عين، وأن مَن يهده الله فلا مُضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأن الله وحده هو مَن يُخرج أرواحنا وقلوبنا مِن ظلمات الجهل والضلال إِلى نور العلم والإيمان وإلى فضاء المعرفة والتوحيد.فإن حققتِ هذا فستشاهدين حقائق أُخر وأمورًا وشعورًا لم تأنسيها مِن نفسك، إن ألهمت أن تسألي الله تعالى الهداية والمعونة على طاعته، فيكون ذلك سبب سعادتك في الدنيا والآخرة، فكل ما في الوجود بقضاء الله وقدره، والعبد فقير إلى الله فقرًا ذاتيًّا في ذاته وصفاته وأفعاله، والله تعالى هو الغني بذاته وهو رب كل شيء ومليكه، ولا يكون شيء إلا بمشيئته وإذنه وقضائه وقدره وقدرته وفعله، ولو باشر قلبك روح التأله، وذقت طعم المحبة والخوف، والرجاء والتعظيم، والإنابة والتوكل، والاستعانة وابتغاء الوسيلة إليه، لعدتِ إلى فضل الله عز وجل، ولأدركتِ كيف أنه سبق الأسباب والوسائط، فهو الأول في كل شيء، فيتجرد نظرك إلى سبق فضله ورحمته، وأنه هو من ابتدأ بالإحسان من غير وسيلة منك، وقد كنت قبل أن تُخلقي عدَمًا محضًا، فمنه الإعدادُ والإمدادُ وسبق الفضل، وبفضله ورحمته وجدت الأقوال الشريفة، والمقامات العلية، وبتحقيق ذلك تصلين لرضاه ورحمته، وقربه وكرامته وموالاته.ومَن لم يفتقر إليه ويستعن به، ويتوكل عليه، خُذل ووُكل إلى حوله وقوته فيتولاه الشيطان، ويصده عن السبيل، ويشقى في الدنيا والآخرة، أعاذنا الله وإياك من ذلك.وليكن هِجيراك لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها بها تُحمل الأثقال، وتُكابد الأهوال، ويُنال رفيع الأحوال، ولا تسأمي مِن الدعاء وطلب العون والهداية.ونحن في شبكة الألوكة يُسعدنا التعاون معك على البر التقوى، والجواب عن أي شبهة تَعْرِض لك، أو معنى غامض يستغلق عليك.اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك.
إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم


http://www.alukah.net/fatawa_counsels/0/99942/