بسم الله الرحمن الرحيم قال ابن القيم رحمه الله : قَالُوا: وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي فِي النِّسَاءِ فَهِيَ نَظَائِرُ أَمْثَالِهَا مِنْ نُصُوصِ الْوَعِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 14] وَقَوْلِهِ {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23] وَقَوْلِهِ {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ يَتَوَجَّأُ بِهَا خَالِدًا مُخَلَّدًا فِي نَارِ جَهَنَّمَ» وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذِهِ النُّصُوصِ عَلَى طُرُقٍ:
أَحَدِهَا: الْقَوْلُ بِظَاهِرِهَا، وَتَخْلِيدِ أَرْبَابِ هَذِهِ الْجَرَائِمِ فِي النَّارِ، وَهُوَ قَوْلُ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَ ةِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا.
فَقَالَتِ الْخَوَارِجُ: هُمْ كُفَّارٌ; لِأَنَّهُ لَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ إِلَّا كَافِرٌ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ : لَيْسُوا بِكُفَّارٍ بَلْ فُسَّاقٍ مُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَتُوبُوا.
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ هَذَا الْوَعِيدُ فِي حَقِّ الْمُسْتَحِلِّ لَهَا; لِأَنَّهُ كَافِرٌ، وَأَمَّا مَنْ فَعَلَهَا مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَهَا فَلَا يَلْحَقُهُ هَذَا الْوَعِيدُ وَعِيدُ الْخُلُودِ وَإِنْ لَحِقَهُ وَعِيدُ الدُّخُولِ.
وَقَدْ أَنْكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ هَذَا الْقَوْلَ وَقَالَ: لَوِ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ وَلَمْ يَفْعَلْهُ كَانَ كَافِرًا، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا قَالَ: مَنْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا.
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ ثَالِثَةٌ: الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ النُّصُوصِ مَبْنِيٌّ عَلَى ثُبُوتِ الْعُمُومِ، وَلَيْسَ فِي اللُّغَةِ أَلْفَاظٌ عَامَّةٌ، وَمِنْ هَاهُنَا أَنْكَرَ الْعُمُومَ مَنْ أَنْكَرَهُ، وَقَصْدُهُمْ تَعْطِيلُ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ عَنِ اسْتِدْلَالِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ بِهَا، لَكِنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ تَعْطِيلَ الشَّرْعِ جُمْلَةً، بَلْ تَعْطِيلَ عَامَّةِ الْأَخْبَارِ، فَهَؤُلَاءِ رَدُّوا بَاطِلًا بَأَبْطَلَ مِنْهُ، وَبِدْعَةً بِأَقْبَحَ مِنْهَا، وَكَانُوا كَمَنْ رَامَ أَنْ يَبْنِيَ قَصْرًا فَهَدَمَ مِصْرًا.
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ رَابِعَةٌ: فِي الْكَلَامِ إِضْمَارٌ.
قَالُوا: وَالْإِضْمَارُ فِي كَلَامِهِمْ كَثِيرٌ مَعْرُوفٌ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْمُضْمَرِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ بِإِضْمَارِ الشَّرْطِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَجَزَاؤُهُ كَذَا إِنْ جَازَاهُ أَوْ إِنْ شَاءَ.
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ خَامِسَةٌ بِإِضْمَارِ الِاسْتِثْنَاءِ ، وَالتَّقْدِيرُ: فَجَزَاؤُهُ كَذَا إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ، وَهَذِهِ دَعْوَى لَا دَلِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَيْهَا الْبَتَّةَ وَلَكِنَّ إِثْبَاتَهَا بِأَمْرِ خَارِجٍ عَنِ اللَّفْظِ.
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ سَادِسَةٌ: هَذَا وَعِيدٌ، وَإِخْلَافُ الْوَعِيدِ لَا يُذَمُّ بَلْ يُمْدَحُ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَجُوزُ عَلَيْهِ إِخْلَافُ الْوَعِيدِ، وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ خُلْفُ الْوَعْدِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْوَعِيدَ حَقُّهُ فَإِخْلَافُهُ عَفْوٌ وَهِبَةٌ وَإِسْقَاطٌ، وَذَلِكَ مُوجَبُ كَرَمِهِ وَجُودِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَالْوَعْدُ حَقٌّ عَلَيْهِ أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَاللَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ.
قَالُوا: وَلِهَذَا مَدَحَ بِهِ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ يَقُولُ:
نُبِّئْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَوْعَدَنِي ... وَالْعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مَأْمُولُ
وَتَنَاظَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: يَا أَبَا عَمْرٍو لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَقَدْ قَالَ {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء: 93] الْآيَةَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو عَمْرٍو: وَيْحَكَ يَا عَمْرُو، مِنَ الْعُجْمَةِ أَتَيْتَ، إِنَّ الْعَرَبَ لَا تَعُدُّ إِخْلَافَ الْوَعِيدِ ذَمًّا بَلْ جُودًا وَكَرَمًا، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
وَلَا يُرْهِبُ ابْنَ الْعَمِّ مَا عِشْتُ صَوْلَتِي ... وَلَا يَخْتَشِي مِنْ سَطْوَةِ الْمُتَهَدِّدِ
وَإِنِّي إِنْ أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ ... لَمُخْلِفُ إِيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ سَابِعَةٌ: هَذِهِ النُّصُوصُ وَأَمْثَالُهَا مِمَّا ذُكِرَ فِيهِ الْمُقْتَضِي لِلْعُقُوبَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ مُقْتَضِي الْحُكْمِ وَجُودُهُ، فَإِنَّ الْحُكْمَ إِنَّمَا يَتِمُّ بِوُجُودِ مُقْتَضِيهِ وَانْتِفَاءِ مَانِعِهِ، وَغَايَةُ هَذِهِ النُّصُوصِ الْإِعْلَامُ بِأَنَّ كَذَا سَبَبٌ لِلْعُقُوبَةِ وَمُقْتَضٍ لَهَا، وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى ذِكْرِ الْمَوَانِعِ، فَبَعْضُهَا بِالْإِجْمَاعِ، وَبَعْضُهَا بِالنَّصِّ، فَالتَّوْبَةُ مَانِعٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَالتَّوْحِيدُ مَانِعٌ بِالنُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَة ِ الَّتِي لَا مَدْفَعَ لَهَا، وَالْحَسَنَاتُ الْعَظِيمَةُ الْمَاحِيَةُ مَانِعَةٌ، وَالْمَصَائِبُ الْكِبَارُ الْمُكَفِّرَةُ مَانِعَةٌ، وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ فِي الدُّنْيَا مَانِعٌ بِالنَّصِّ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَعْطِيلِ هَذِهِ النُّصُوصِ فَلَا بُدَّ مِنْ إِعْمَالِ النُّصُوصِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ.
وَمِنْ هَاهُنَا قَامَتِ الْمُوَازَنَةُ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ اعْتِبَارًا بِمُقْتَضِي الْعِقَابِ وَمَانِعِهِ وَإِعْمَالًا لِأَرْجَحِهَا.
قَالُوا: وَعَلَى هَذَا بِنَاءُ مَصَالِحِ الدَّارَيْنِ وَمَفَاسِدِهِمَ ا، وَعَلَى هَذَا بِنَاءُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الْقَدَرِيَّةِ، وَهُوَ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ السَّارِيَةِ فِي الْوُجُودِ، وَبِهِ ارْتِبَاطُ الْأَسْبَابِ وَمُسَبِّبَاتِه َا خَلْقًا وَأَمْرًا، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِكُلِّ ضِدٍّ ضِدًّا يُدَافِعُهُ وَيُقَاوِمُهُ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ لِلْأَغْلَبِ مِنْهُمَا، فَالْقُوَّةٌ مُقْتَضِيَةٌ لِلصِّحَّةِ وَالْعَافِيَةِ، وَفَسَادُ الْأَخْلَاقِ وَبَغْيُهَا مَانِعٌ مِنْ عَمَلِ الطَّبِيعَةِ وَفِعْلِ الْقُوَّةِ، وَالْحُكْمُ لِلْغَالِبِ مِنْهُمَا، وَكَذَلِكَ قُوَى الْأَدْوِيَةِ وَالْأَمْرَاضِ، وَالْعَبْدُ يَكُونُ فِيهِ مُقْتَضٍّ لِلصِّحَّةِ وَمُقْتَضٍ لِلْعَطَبِ، وَأَحَدُهُمَا يَمْنَعُ كَمَالَ تَأْثِيرِ الْآخَرِ وَيُقَاوِمُهُ، فَإِذَا تَرَجَّحَ عَلَيْهِ وَقَهَرَهُ كَانَ التَّأْثِيرُ لَهُ.
وَمِنْ هَاهُنَا يُعْلَمُ انْقِسَامُ الْخَلْقِ إِلَى مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ وَعَكْسُهُ، وَمَنْ يَدْخُلُ النَّارَ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهَا، وَيَكُونُ مُكْثُهُ فِيهَا بِحَسَبِ مَا فِيهِ مِنْ مُقْتَضَى الْمُكْثِ فِي سُرْعَةِ الْخُرُوجِ وَبُطْئِهِ.
وَمَنْ لَهُ بَصِيرَةٌ مُنَوَّرَةٌ يَرَى بِهَا كُلَّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ أَمْرِ الْمَعَادِ وَتَفَاصِيلِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ يُشَاهِدُهُ رَأْيَ عَيْنٍ، وَيَعْلَمُ أَنَّ هَذَا هُوَ مُقْتَضَى إِلَهِيَّتِهِ سُبْحَانَهُ وَرُبُوبِيَّتِه ِ وَعِزَّتِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ خِلَافُ ذَلِكَ، وَنِسْبَةُ خِلَافِ ذَلِكَ إِلَيْهِ نِسْبَةُ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ نِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَى بَصِيرَتِهِ كَنِسْبَةِ الشَّمْسِ وَالنُّجُومِ إِلَى بَصَرِهِ، وَهَذَا يَقِينُ الْإِيمَانِ، وَهُوَ الَّذِي يَحْرِقُ السَّيِّئَاتِ كَمَا تَحْرِقُ النَّارُ الْحَطَبَ.
وَصَاحِبُ هَذَا الْمَقَامِ مِنَ الْإِيمَانِ يَسْتَحِيلُ إِصْرَارُهُ عَلَى السَّيِّئَاتِ وَإِنْ وَقَعَتْ مِنْهُ وَكَثُرَتْ، فَإِنَّ مَا مَعَهُ مِنْ نُورِ الْإِيمَانِ يَأْمُرُهُ بِتَجْدِيدِ التَّوْبَةِ كُلَّ وَقْتٍ بِالرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ بِعَدَدِ أَنْفَاسِهِ وَهَذَا مِنْ أَحَبِّ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ.
فَهَذِهِ مَجَامِعُ طُرُقِ النَّاسِ فِي نُصُوصِ الْوَعِيدِ.