قال الإمام : محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - : وقول الله تعالى: { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }{ لَا شَرِيكَ لَهُ } [ الأنعام : 162 - 163 ] هذه الآية تدل على أن عبادة الصلاة ، وعبادة النسك - وهو الذبح - هما لله - جل وعلا - وحده . وقوله تعالى : قُلْ إِنَّ و( إِنَّ ) من المؤكدات ، ومجيء التأكيد في الجمل الخبرية يفيد : أن من خوطب بذلك مُنكِر لهذا الأمر ، أو مُنَزَّل مَنْزِلَةَ المُنكِر له ، ولهذا يكون الاستدلال بهذه الآية على التوحيد من جهة أنها خوطب بها من ينكر أن الصلاة لله وحده استحقاقا ، وأن الذبح لله وحده استحقاقا - هم المشركون - فدل على أن هذه الآية في التوحيد وأن الذبح يجب أن يكون لله - جل وعلا - وأن الذبح لغيره مخالف لما يستحقه الرب - جل وعلا - . والنسك في قوله : { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي } هو : الذبح أو النحر ، يعني : التقرب بالدم ، والتقرب بالدم لله - جل وعلا - : عبادة عظيمة ؛ لأن الذبائح ، أو المنحورات من الإبل أو البقر ، أو الغنم ، أو الضأن ، مما تعظم في نفوس أهلها ، ونحرها تقربا إلى الله - جل وعلا - والصدقة بها عبادة عظيمة ، فيها إراقة الدم لله ، وفيها تعلق القلب بحسن الثواب من الله - جل وعلا - ، وفيها حسن الظن بالله تبارك وتعالى ، وفيها التخلص من الشح ، والرغب فيما عند الله سبحانه ، بإزهاق نفس عزيزة عند أهلها ؛ ولهذا كان النحر ، والذبح عبادة من العبادات العظيمة التي يحبها الله - جل وعلا - .
وقد دلت هذه الآية على أن النحر والصلاة عبادتان ؛ لأنه جعل النسيكة لله ، والله - جل وعلا - له من أعمال خلقه العبادات فدل قوله ( وَنُسُكِي ) على أن النسك عبادة من العبادات ، وأنه مُستحَق لله - جل وعلا - .واللام - هنا - في قوله : { لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } متعلّقة بمحذوف خبر (إن) في قوله { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي } وهي تفيد الاستحقاق ، واللام في اللغة تأتي لمعان ، واستعمالات ؛ فتأتي للملك ، كما في قوله تعالى : { أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ } يعني : يملكونها . وتأتي للاختصاص - وهو شبه الملك - وتأتي للاستحقاق ، كما في قوله تعالى : الْحَمْدُ لِلَّهِ يعني : أن جميع أنواع المحامد مستحقة لله - جل وعلا - .واللام في قوله سبحانه { وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ } مع أنها واحدة ، لكن يكون معناها برجوعها للأول غير معناها برجوعها للمحيا والممات ، فإن الله - جل وعلا - قال في هذه الآية من آخر سورة الأنعام : { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ } والمحيا والممات يعني : الإحياء والإماتة ، وهذه بيد الله - جل وعلا - وملك له ، فهو الذي يملكها سبحانه ؛ لأنها من أفراد ربوبيته - جل وعلا - على خلقه ، فهذه الآية بما اشتملت عليه من هذه الألفاظ الأربع دلت على توحيد الإلهية ، وعلى توحيد الربوبية فقوله : { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي } يدل على توحيد العبادة ، وقوله { وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي } يدل على توحيد الربوبية ، واللام في قوله : لِلَّهِ إذا أرجعتها للأوليين وهما : الصلاة ، والنسك ، كان معناها : الاستحقاق ، وإذا أرجعتها للأخير كان معناها الملك ولهذا يقول أهل التفسير هنا : { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي } لله استحقاقا ، { وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي } لله ملكا ، وتدبيرا ، وتصرفا .وقوله : { لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }{ لا شَرِيكَ لَهُ } فيه وجه استدلال ثالث على التوحيد ، حيث قال : { لَا شَرِيكَ لَهُ } يعني : فيما مر ، أي لا شريك له في الصلاة ، والنسك ؛ فلا يتوجه بالصلاة والنسك إلى أحد مع الله - جل وعلا - أو من دونه ، وكذلك لا شريك له في ملكه للمحيا والممات ، بل هو المتفرد سبحانه بأنواع الجلال ، وأنواع الكمال ، وهو المستحق للعبادة ، وهو ذو الملكوت الأعظم . --من كتاب التمهيد شرح كتاب التوحيد