ضوابط نشر العقيدة:
نشر هذه العقيدة له ضوابط ، من هذه الضوابط:



الضابط الأول:
– أن تنشر هذه العقيدة ؛ لأنها عقيدة المسلمين ، التي لا ينبغي الحياد عنها ، ولهذا لا ينبغي الدعوة إليها على أنها تمثل توجُّهًا ما ، أو فكرًا ما . وقد ذكرتُ الأدلة عليها فيما تقدم .
الضابط الثاني:
– الالتزام بمنهج السلف في نشر عقيدتهم ؛ إذ لا يسوغ عقلاً ولا شرعًا أن يسعى الإنسان في نشر عقيدة السلف ، مع مخالفتهم في طريقة نشرها ، فالله تعالى يقول : ﴿ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ [سورة البقرة : الآية 44] .


الضابط الثالث:
– القصد الحسن في نشر هذه العقيدة ، فلا ينبغي أن يكون قصد الإنسان المماراة ، أو الدعوة إلى العصبية الجاهلية . فالنبي – صلى الله عليه وسلم – لما قال الرجل : يا للأنصار . وقال آخر : يا للمهاجرين . قال – صلى الله عليه وسلم – : « ما بال دعوى الجاهلية دعوها فإنها منتنة » . فسماها النبي – صلى الله عليه وسلم – “دعوة الجاهلية” ، مع كون هذين الاثنين محبوبين عند الله تعالى ، ولكن لما أخذا مأخذ التعصب سماها النبي – صلى الله عليه وسلم – دعوى الجاهلية


الضابط الرابع:


– ربط الناس بالوحي ، وترك ما عداه ، مما يعارضه . وتحت هذا الضابط : الدعوة إلى التحاكم إلى الكتاب والسنة ، فإن النفوس تقبل على مَن يدعوها إلى ربها ، ويعيدها إلى الأمر الأول ، التي من أجله خُلقت ، كما قال تعالى : ﴿ فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [سورة الروم : الآية 30] . وقد دل على هذا قول الله تعالى : ﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [سورة آل عمران : الآية 31] . وقوله تعالى : ﴿ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾ [سورة النساء : الآية 59] .
الضابط الخامس:
– المخاطبة بالحجج الشرعية والحجج العقلية المقنعة ، فالمسلمون في الجملة إذا خوطبوا بالدليل الشرعي من الكتاب والسنة رجعوا إليهما ؛ لأنهم يعلمون أن هذا هو ما يقتضيه إيمانهم بالله تعالى ، وإيمانهم برسوله صلى الله عليه وسلم .


الضابط السادس:


– الاحتجاج على المنكرين المخالفين بما أقروا به ، كما هي طريقة القرآن ، فالقرآن يحتج على المنكرين بتوحيد الإلهية بما أقروا به من توحيد الربوبية ، كما قال تعالى : ﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [سورة الزخرف : الآية 87] . فالقرآن هي هذه طريقته ، ولهذا ينبغي للدعاة إلى نشر هذه العقيدة السلفية أن يحتجوا على أولئك بما أقروا به ، مما جاء به النبي – صلى الله عليه وسلم – وأخذوا به .
الضابط السابع:
– الدعوة التفصيلية لا الإجمالية ، فالإجمال كل يدعيه ، ولكن عند التفصيل تحار بعض القلوب . ومعلوم أن عقيدة السلف جزء واحد لا يتجزأ ، فمن شذَّ عن شيء منها فقد فارقها بقدر شذوذه ، ولهذا نجد من سيرة النبي – صلى الله عليه وسلم – الدعوة التفصيلية ، فهو – صلى الله عليه وسلم – أمر بعبادة الله تعالى وحده ، ونهى عن الشرك على وجه الإجمال ، ودعا إلى العقيدة على وجه التفصيل ، فنهى عن الاستعانة بغير الله تعالى ، ونهى عن الحلف بغيره ، فقال : « مَن كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ » (9 ). ونهى عن التطير والسحر والكهانة ، فقال : « لَيْسَ مِنَّا مَن تَطَيَّرَ أَوْ تُطيَّرَ لَهُ أَوْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ أَوْ تَكَهَّنَ أَوْ تُكهِّنَ لَهُ » ( 10). ونهى – صلى الله عليه وسلم – عن الذبح لغير الله ، ونهى عن النذر لغير الله ، إلى غير ذلك من صور العبادة والشرك .


الضابط الثامن:
– تجنب الاستدلال بالحديث الضعيف ، سواء أكان ذلك من الأدلة النقلية أم الأدلة العقلية ، فيتجنب من الأدلة النقلية ما ضعف الاستدلال به من جهة إسناده ، ويتجنب منها ما ضعف الاستدلال بها من جهة الدلالة ، فلا يورد أحاديث ضعيفة ، يستدل بها على ما يدعو إليه ؛ لأن العقائد لا تثبت بالأحاديث الضعيفة ، وذلك أن الاستدلال به من باب الظنون ، والعقائد مجزوم بها . وكذلك لا يورد أحاديث صحيحة ، لكن دلالتها غير واضحة ، فهذا يكون وَهنًا في دعوته . وكذلك الأدلة العقلية ، فإذا أراد أن يستدل بدليل عقلي فعليه أن يتخير من الأدلة العقلية أوضحها وأقواها ، ويتجنب ما عدا ذلك .


شبهة الاستدلال بالأحاديث الضعيفة على العقيدة والرد عليها:
ولعلنا نستعرض أمرًا ملبسًا ها هنا ؛ وهو أننا نجد في كتب السلف الاستدلال بالأحاديث الضعيفة على مسائل العقيدة .
والجواب عن هذا – كما ذكر ذلك أهل العلم – هو :
أولاً : السلف لم يوردوا هذه الأحاديث على سبيل الاحتجاج بها ، وإنما الحجة عندهم قائمة على نص من القرآن ، أو السنة الصحيحة ، أو الإجماع ، وإنما يوردون هذه النصوص شواهد فقط .
ثانيًا : إن كثيرًا منهم قصد جَمْع ما ورد في الباب الواحد بإسناده ، ومن أسند فقد برئ من العهدة .
ثالثًا : قد يكون صح عنده هذا الحديث ، ولم يتبين له ضعفه .


– عدم التنازل عن شيء من أمور الاعتقاد ؛ لأنه ليس للداعية أن يتنازل عن شيء مما جاء في كتاب الله ، أو في سنة رسوله – صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الله تعالى قد أكمل لنا الدين ، كما قال : ﴿ اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ﴾ [سورة المائدة : الآية 3] . وجعفر بن أبي طالب – رضي الله عنه – لما دعا النجاشي المسلمين ، وسألهم عما يدعو إليه النبي – صلى الله عليه وسلم – واجتمع هو وأصحابه قبل أن يدخلوا على النجاشي ، اتفقوا على أن يذكروا له ما جاء في كتاب الله ، وما جاء به محمد – صلى الله عليه وسلم . فلما سألهم عن أعظم شيء عند النصارى ، وهو دعوى الألوهية ، تلا عليه جعفر – رضي الله عنه – صدر سورة طه وصدر سورة الكهف . ولم يُخفِ – رضي الله عنه – شيئًا مما جاء به ، فعلم حينئذ النجاشي أن هؤلاء قوم صدق ، ولهذا أقر بأن ما جاء به النبي – صلى الله عليه وسلم – وما جاء به عيسى – عليه الصلاة والسلام – يخرجان من مشكاة واحدة .


الضابط التاسع:


– أخذ منهج السلف من مجموع أقوالهم ، لا من أفرادها . وعدم إحكام هذا الأمر جعل كثيرًا من طلبة العلم – لحرصهم على منهج السلف – يقيمون ما ورد عن السلف مقام ما ورد عن النبي – صلى الله عليه وسلم – فيحتجون بأفراد ما ورد عن أفراد سلف هذه الأمة ، وهذا أمر ينبغي أن يتفطَّن إليه طالب العلم ، فالسلف يُؤخَذ منهجهم من مجموع الأقوال ، وأما الأفراد فلا يؤخذ قول كل واحد على أنه يمثل منهج السلف . فعلى سبيل المثال نجد بعض الأئمة قد أخطأ في بعض الأمور ، فلا ينبغي أن يُؤخَذ خطؤه على أنه من منهج السلف . ومثال ذلك حديث الصورة ، فقد أخطأ بعضهم في تفسير حديث الصورة ، فلا يقال حينئذ : إن السلف اختلفوا في حديث الصورة . بل يقال : إن فلانًا أخطأ . وفَرْقٌ بين أن يقال : إن فلانًا أخطأ ، ولا يؤخذ منهجه على أنه يمثل منهج السلف . وأن يعامل معاملة المبتدعين ، فليس الرجل من السلف يعامل معاملة المبتدعين ، لكن لا يتابع على خطئه .


نقل شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – في كتابه المخطوط : ” بيان تلبيس الجهمية ” عن أبي موسى المديني ، قال : ” سمعت قَوَّام السُّنة يقول : أخطأ محمد بن إسحاق بن خزيمة في حديث الصورة ، ولا يطعن عليه بذلك ، بل لا يؤخذ عنه هذا فحسب ” . يعني أنه لا يؤخذ عنه خطؤه ، لكن لا يجوز الطعن فيه .
الضابط العاشر:
– ربط المتأخرين بالمتقدمين ، وفائدة هذا بيان وحدة المنهج والعقيدة ، فلا فرق بين المتقدمين منهم والمتأخرين ، وعدم التفريق ناتج عن كونهم يأخذون من مَعين واحد ، وهو الكتاب والسنة ، والله تعالى يقول : ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ﴾ [سورة النساء : الآية 82] . ويقول تعالى عن المشركين لما كانوا يصدرون من مصادر شتى : ﴿ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ ﴾ [سورة ق : الآية 5] . وقال : ﴿ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ ﴾ [سورة الذاريات : الآية 8] .


الضابط الحادي عشر:
– أنه ينبغي لمن ينشر عقيدة السلف أن يسلك مسلك الحكمة ، ولمسلك الحكمة مظاهر ، منها :
* مراعاة أحوال المدعوين ؛ من حيث علمهم وجهلهم ، ومن حيث مكانتهم الاجتماعية ، وأحوالهم الاقتصادية ، وأحوالهم النفسية . فما يقدم لطلبة العلم وما يناقشون فيه ليس هو ما يناقش فيه العامة ، أو يدعون إليه ، فأولئك يفهمون ما يريد المتكلم من أوجه الدلالات ، وغيرها . والآخرون ليسوا كذلك .
* الأخذ بالألفاظ والأساليب المناسبة لكل قوم ، وهذا نجده كثيرًا في طريقة أئمة الدعوة – رحمهم الله تعالى – فنجد الإمام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله تعالى – يخاطب الناس بما يفهمونه ، فتجد في ألفاظه الألفاظ العامية التي يتحدث بها مع الناس ، وكأنه يخاطب قومًا لا يعرفون من العربية شيئًا ، وهكذا منهج تلامذته ؛ لأن القصد إيصال الخير إلى الناس بأي طريقة كانت .


* إظهار الشفقة والرحمة بالمدعوين ، وكثرة الدعاء لهم ، وهذا نجد أيضًا في منهج إمام هذه الدعوة ، وهو كثيرًا ما يبدأ رسائله بالدعاء لمن يكتب لهم ، وهذه هي صفة الرسل ، وأتباع الرسل – عليهم الصلاة والسلام – فالله – جل وعلا – يقول مخبرًا عن نبيه نوح – عليه السلام – : ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [سورة الأعراف : الآيتان 61-62] . وقال تعالى عن هود – عليه السلام – : ﴿ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ﴾ [سورة الأعراف : الآية 68] . وقال تعالى عن شعيب – عليه السلام – : ﴿ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ [سورة هود : الآية 88] . ويقول تعالى عن إبراهيم – عليه السلام – ﴿ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ﴾ [سورة مريم : الآية 45] . وقال : ﴿ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ﴾ [سورة مريم : الآية 47] .


وأخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – عن نبي من الأنبياء قد ضربه قومه ، وهو يقول : « اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون » . ويقول تعالى عن محمد – صلى الله عليه وسلم – : ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِين َ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [سورة التوبة : الآية 128] . ويقول تعالى : ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [سورة الأنبياء : الآية 107] . ويقول تعالى : ﴿ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ﴾ [سورة آل عمران : الآية 159] . ويقول النبي – صلى الله عليه وسلم – : « اللهم اهد دوسًا » . ودعا النبي – صلى الله عليه وسلم – لأقوام كثيرين بالهداية . وكان – صلى الله عليه وسلم – يظهر الشفقة والعطف على عمه أبي طالب ، حتى في آخر لحظات حياته ، فكان يقول : « أَيْ عم ، قل : لا إله إلا الله . كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ » ( 11) . فكان – صلى الله عليه وسلم – يناديه بلفظ العمومة . إلى غير ذلك من المواقف .


وترك الغلظة إلا حيث يحتاج إليها ، قال تعالى : ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ ﴾ [النحل :الآية 125] . وقال تعالى : ﴿ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ [سورة آل عمران :الآية 159] . ولكن إذا احتيج إلى الغلظة في موضعها فلا بأس ، كما قال تعالى مخبرًا عن نبيه موسى – عليه السلام – أنه قال لفرعون : ﴿ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ﴾ [سورة الإسراء : الآية 102] . وذلك حين قال له : ﴿ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا ﴾ [سورة الإسراء : الآية 101] . ولا يفهم من هذا التعدي على الناس أو ظلمهم ، فإن هذا لا يجوز ، ولو كان مع الكافر ، بل يجب أخذه بالقسط ، كما قال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ﴾ [سورة النساء : الآية 135] . وقال تعالى : ﴿ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [سورة المائدة : الآية 8] . وقال تعالى في شأن اليهود : ﴿ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ﴾ [سورة المائدة : الآية 42] .


وأنا نبهت إلى هذا ؛ لأن بعض الناس قد شوهوا وجه الدعوة السلفية ، بإظهار الانتماء إليها ، ثم القيام بأعمال تخريبية إجرامية ، سواء أكانت مع الكفار أم مع المسلمين . والدعوة السلفية منها بريئة ، بل ربما احتجوا – إيغالاً في الإضلال – بكتب أئمة الدعوة ، وأئمة الدعوة من هذا براء . ونحن في هذه البلاد – ولله الحمد والمنة – تربينا على كتب هؤلاء الأعلام ، ونشأ عليها مشايخنا وعلماؤنا ، ولم نر منهم من وقع في هذه الأعمال ، التي لا يقرها شرع ولا دين ، وذلك لكونهم فهموا المراد منها .


ومن الحكمة العناية بالأهم ، ثم المهم ، وهذه هي طريقة الأنبياء والرسل – عليهم السلام – فتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات يوجد من يخالف فيهما ، ولكن ليست تبلغ المخالفة فيهما ما تبلغه المخالفة في توحيد العبادة ، إذ ذاك من الكثرة ، فكانت الرسل تولي العناية بتوحيد الإلهية ، وإن لم تكن تترك توحيد الربوبية والأسماء والصفات , وعلى هذا المنهج نهج علماء السلف ، فهم إذا رأوا بدعة تظهر وتنتشر بادروا إلى التحذير منها ، والإنكار على أربابها ، فتجد في الطبقة الواحدة أقوالاً ، ومؤلفاتٍ عدة في باب واحد ، مع عدم الغفلة عن الأبواب الأخرى .


الضابط الثاني عشر :


– تجنب الألفاظ المجملة ؛ لأن الداعي ليس قصده التعمية ولا الإلغاز ، وإنما قصده البيان والإيضاح . والألفاظ المجملة التي لا يتبين المراد منها تؤدي إلى الزعزة ، والشك في الداعي والمدعو إليه ، وهذه ليست طريق السلف ، وإنما هي طريقة طوائف الباطنية ، التي تنتهج منهج التلبيس والتدليس . قال الله تعالى : ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ﴾ [سورة إبراهيم : الآية 4] . وقال تعالى : ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [سورة يوسف : الآية 2] . وقال تعالى : ﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [سورة النحل : الآية 44] .


الضابط الثالث عشر :
– فَهْم مصطلحات السلف ، وذلك أن فهم مصطلحاتهم يزيل كثيرًا من الإشكالات الموجودة ، وما اختلف الناس إلا باختلافهم في فَهْم المصطلح . فعلى سبيل المثال مصطلح “الولاء والبراء” فَهِمه بعض الناس فهمًا سطحيًّا ، نتج عنه مخالفته للنصوص ، وظن أن كل تعامل مع الكفار يُعدُّ موالاة لهم وكفرًا ، وهو بهذا يكون قد قدح في النبي – صلى الله عليه وسلم – الذي تعامل مع الكفار .


فالنبي – صلى الله عليه وسلم – تعامل كثيرًا مع الكفار ومع المشركين ، وعاهدهم النبي – صلى الله عليه وسلم – وعقد معهم العقود الكثيرة ، فلا ينبغي للإنسان أن ينكر شيئًا حتى يقرأ سُنة النبي – صلى الله عليه وسلم – وحتى يقرأ سِيرته ؛ ليعرف ما كان عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – فالنبي – صلى الله عليه وسلم – كَاتَب المشركين في الحديبية على ألاَّ يردُّوا من جاء من المسلمين إليهم ، وعلى أن يرد هو مَن جاء إليه من مكة . فعاهدهم النبي – صلى الله عليه وسلم – على هذا ، فمثل هذه المعاهدات لا ينبغي للإنسان أن ينكرها – وقد فعلها النبي صلى الله عليه وسلم – إلا بدليل شرعي ، يدل على النص ونحوه .
فما جاء عن النبي – صلى الله عليه وسلم – ينبغي للإنسان أن يتريث في إنكاره ؛ حتى يعلم ناسخه ومنسوخه ، وحتى يعلم خاصه وعامه ؛ لأن الإنسان ربما أنكر أمرًا فيكون بهذا منكرًا على النبي – صلى الله عليه وسلم – فالنبي – صلى الله عليه وسلم – تعامل مع المشركين ، فابتاع منهم واشترى ، واستعان ببعض المشركين ، كما استعان بهم حينما هاجر من مكة إلى المدينة ، واستعار أدرع صفوان بن أمية ، ومات – صلى الله عليه وسلم – ودرعه مرهونة عند يهودي في شعير أخذه منه – صلى الله عليه وسلم .


ففهم المصطلحات يزيل كثيرًا من الإشكالات التي تقع بين الناس ؛ لأن فهم المصطلح فَهم للنصوص التي جاءت بها شريعة النبي – صلى الله عليه وسلم – ولهذا كان سلف هذه الأمة لا ينكرون الألفاظ المجملة ، التي جاء بها المتكلمون ؛ حتى يتبين لهم أنهم أرادوا بهذه الألفاظ أمرًا منكرًا .


الضابط الرابع عشر :
– الأخذ بالمنهجية الصحيحة في التعامل مع الشُّبَه المثارة ضد عقيدة السلف ، فلا ينبغي أن تكون الشبهة والرد عليها مجالاً لنشر عقيدة السلف ، وإنما يرد على الشبهات إذا احتيج لذلك ، والدعوة منطلقها الكتاب والسنة .
الضابط الخامس عشر :
– الدعوة إلى الاجتماع ، وترك الفرقة والاختلاف ، وذلك ببيان أن هذه العقيدة السلفية تدعو إلى الاجتماع على الكتاب والسُّنة ، تحقيقًا لقوله تعالى : ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا ﴾ [سورة آل عمران : الآية 103] .


الضابط السادس عشر :
– وجوب العدل والإنصاف ، فأهل السنة والجماعة هم أهل العدل والإنصاف ، لا يبخسون الناس شيئًا ، ولا يحملون أقوالهم ما لا تحتمله ، والعدل – كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله – : ” هو جماع الدين والحق والخير ” ( 12) . ويقول – رحمه الله – : ” أصل السنة مبناها على الاقتصاد والاعتدال ، دون البغي والاعتداء ” ( 13) . ويقول : ” وقد قال سبحانه : ﴿ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [سورة المائدة : الآية 8] . فنهى أن يحمل المؤمنين بغضهم للكفار على ألا يعدلوا فيهم ، فكيف إذا كان البغض لفاسق أو مبتدع متأول من أهل الإيمان ، فهو أولى أن يجب عليه ألا يحمله ذلك على أن يعدل على مؤمن ، وإن كان ظالمًا له . فهذا موضع عظيم المنفعة في الدين والدنيا فإن الشيطان موكل ببني آدم وهو يعرض للجميع ” ( 14) . فيجب العدل والإنصاف معهم ، ويحرم ظلمهم والبغي عليهم .


الضابط السابع عشر :
– وجوب مراعاة المصالح والمفاسد ، فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح ، والشرع جاء بتحصيل المصالح وتكميلها ، وتعطيل المفاسد وتقليلها . فكل ما أمر الله – جل وعلا – به ، أو أمر به رسوله – صلى الله عليه وسلم – فمصلحته راجحة على مفسدته ، ومنفعته راجحة على المضرة ، وإن كرهته النفوس . والذي ينشر عقيدة السلف ينبغي له مراعاة هذا الأمر جدًّا ، فإنه مهم . وذلك أنه ربما حمله الحماس لنشر عقيدة السلف على ترك النظر في هذا ، فيؤدي هذا إلى مفاسد كبيرة .
الضابط الثامن عشر :
– ترك الإلزام في المسائل الاجتهادية . يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – : ” ولهذا كان أئمة أهل السنة والجماعة ، لا يلزمون الناس بما يقولونه من موارد الاجتهاد ، ولا يكرهون أحدًا عليه ، ولهذا لما استشار هارونُ الرشيد مالكَ بن أنس في حمل الناس على موطئه قال له : لا تفعل يا أمير المؤمنين ، فإن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تفرقوا في الأمصار ، فأخذ كل قوم عمَّن كان عندهم ، وإنما جمعت علم أهل بلدي ” (15 ) .
ونقل شيخ الإسلام – رحمه الله – أقوالاً عن الأئمة في هذا ، ثم قال : ” فإذا كان هذا قولهم في الأصول العلمية وفروع الدين ، لا يستجيزون إلزام الناس بمذاهبهم ، مع استدلالهم عليها بالأدلة الشرعية ، فكيف بإلزام الناس وإكراههم على أقوالٍ لا توجد في كتاب الله ، ولا في حديثٍ عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولا تؤثر عن الصحابة والتابعين ، ولا عن أحدٍ من أئمة المسلمين ” (16 ) . وكثير من الخلافات بين الناس اليوم إنما هو من باب اختلاف التنوع ، الذي استحال وصار من باب اختلاف التضاد ، وذلك بسبب عدوان بعضهم على بعض ، وجحد كل طائفة ما عند الأخرى من الحق ، وإرادة إلزامها ما هي عليه ، وتبديعها أو تفسيقها إن لم تتبعها . وأما أهل السنة والجماعة فهم لا يفعلون ذلك ، فلا يلزمون ، ولا يؤثمون ، ولا يبدعون ، ولا يفسقون ، فضلاً عن أن يكفروا .


أيها الإخوة ، إن عقيدة أهل السنة والجماعة هي العقيدة التي مَن استمسك بها نجا ، فهي كسفينة نوح ؛ من ركبها نجا ، ومن تركها غرق .
إن عقيدة أهل السنة والجماعة تقوم عليها اليوم حرب شعواء من أعداء هذه الأمة ، وذلك أنهم علموا أن الله تعالى إنما ينصر هذه الأمة بالاستمساك بكتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم . ثم نظروا فوجدوا أن الاستمساك بكتاب الله ، والاستمساك بسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – متمثل في هذه الطائفة ، فكان لا بد أن يقيموا عليها هذه الحرب الشعواء .
فلهذا وجب على أهل الإسلام – كلٍّ بقدر استطاعته – أن ينشر هذه العقيدة السلفية ، وأن يدعو إليها ما استطاع بالحكمة والموعظة الحسنة . والله – جل وعلا – ناصر دينه وكتابه وسنة نبيه – صلى الله عليه وسلم – والبشرى لأهل الإيمان ، والبشرى لأهل السنة والجماعة ، فإنهم هم المنصورون ، وإنْ وقع عليهم ما وقع ، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – في اقتضاء الصراط المستقيم : ” إن أهل يقول إن المسلمين هم المنصورون ، وإن وقع عليهم ما وقع ، كما وقع على الرسول – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه في غزوة أحد ، فإنهم وإن كانوا قد أصابهم ما قد يسمى بالهزيمة ، إلا أن الله – جل وعلا – قد نصرهم ، وذلك أن الحق معهم ، وأنهم يدورون حيث دار الحق ، والله – جل وعلا – يقول : ﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ﴾ [سورة غافر : الآية 51] .


أيها الإخوة ، إن من بشائر الخير ، ومن الإنعام على هذه الأمة أن يوجد فيها من ينتصر لكتاب الله ، وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – من حكام ومحكومين وعلماء ، وقد تمثل هذا – ولله الحمد والمنة – في حُكَّام هذه البلاد وعلمائها ، والله – جل وعلا – قد وعَد من تمسك بكتابه بالنصر ، وإنه ينبغي على أهل الإسلام أن يشكروا الله – جل وعلا – فإن بالشكر تدوم النعم ، فالله – جل وعلا – يقول : ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [سورة إبراهيم : الآية 7] . ومِن شُكر نعمة الله – جل وعلا – أن نتمسَّك بسُنة النبي – صلى الله عليه وسلم – وأن نعتصم بحبل الله جميعًا ؛ حُكامًا ومحكومين ، فإن التمسُّك بسُنة النبي – صلى الله عليه وسلم – في كل صغير وكبير سببٌ لنصر الله – جل وعلا – لهذه الأمة . أسألُ الله – جل وعلا – بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه ، وأن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعًا مرحومًا ، وأن يرزقنا التمسك بكتاب الله ، وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – وأن يوفق أئمتنا ، وأن يوفق أئمتنا لما فيه خير العباد والبلاد ، إنه على كل شيء قدير ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .