قال الشيخ ابراهيم بن جاسر- رحمه الله - المتوفى 1338هـ

الحمد لله الذي جعل الرجوع إلى الحق بعد بيانه من سيما المتقين وإمارات المتورعين المخلصين لله الدين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك إله الأولين والآخرين ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد المرسلين ، وخاتم النبيين ، صلى الله عليه وعلى أصحابه أجمعين ، أما بعد : فإن الله تعالى إذا قضى أمرًا فلا راد له ، ولا بد من وقوعه ، وكان من قضائه - له الحمد على كل حال - أن أراد وقوع نزاع بين الفقير وبين مشايخه الكرام – عفى الله عن الجميع ووهب المسيئين منا للمطيع – في 7 شوال سنة 1303هـ في أربع مسائل :


أحدها : أنهم كانوا يقررون لنا سابقًا ولاحقًا أن من طلب من الميت ما هو في قُدرة الحي ؛ كأن يقول : يا فلان ادعُ الله لي فهو كافر ، وكنتُ لهم موافقًا ، فعرض لي في أثناء السنة المذكورة في نسخة لشيخ الإسلام فهمتُ منها أن ذلك ليس بكفر ، فاعتمدتُ على ذلك ، فلما شعر المشايخ بذلك شق ذلك عليهم ، وتكابروا صدوره مني ، وهم في نفس الأمر مصيبون ، ثم استبان لي بعد ذلك أن الحق ما كانوا عليه ابتداء وانتهاء ، ثبّت الله الجميع عليه ، فرجعتُ إلى قولهم اعتمادًا على الدليل الشرعي ، لا موافقة بظاهري دون باطني ، فالله حسيب من ظن ذلك بي ؛ وهو ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم يُنتفع به ، أو ولد صالح يدعو له "

فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الميت إذا مات فقد انقطع عملُه إلا من شيئ قد تسبب له في حياته ، واكتسبه حال قدرته ؛ فأجري ثوابه بعد موته ، وهي ما ذكر في هذا الحديث .. وما عدا ما ذُكر لا يلحقه إلا بإهداء الغير له كما دل على ذلك القرآن والسنة ، فمن طلب من الميت أن يسأل له الله فقد ضل عن الصراط المستقيم ، وخالف خبر النبي صلى الله عليه وسلم في أنه قد انقطع عملُه .

فإن قال قائل : لا ريب في ذلك ، وإنما الشأن في أنه هل يكفر ؟
قلنا : نعم . فإن قال : هذا خبر آحاد لا يوجب العلم اليقين ، وإنما يوجب العلم الظني .

قلنا : هذا حكم خبر الآحاد إذا لم تحتف به قرائن ، فأما إذا احتفت به قرائن فإنه يوجب العلم القطعي ، وقد احتف بهذا الخبر قرينة من أقوى القرائن ، وهي ما علم بالضرورة من الدين من قدرة الحي فقد اعتقد ثبوت ما هو معلوم من الدين بالضرورة انتفاؤه ، فيستحق إطلاق الكفر عليه حينئذ ، ومن جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم : " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " ، رواه مسلم ، وقال تعالى : ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ) ، وهذا القدر كفاية لمن هداه الله ، اللهم اهدنا والمسلمين .


الثانية : أنهم يعتمدون القول في أن شد الرَحل لزيارته صلى الله عليه وسلم لايجوز ابتداء وانتهاء ، وكنتُ معهم أولا ، ثم عرض لي ترجيح القول باستحباب ذلك ؛ مستدلا على ذلك بأحاديث ضعيفة ، وتبين لي الآن أن الصواب معهم ، نفع الله أهل الإسلام بوجودهم ، وجعلهم مسددين في جميع أمورهم ؛ لقوة مستندهم ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد " ، هذا الحديث رواه الشيخان من حديث أبي سعيد – رضي الله عنه - ، وفي رواية : " لا تشُدوا " بصيغة النهي ، رواها مسلم من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه - ، فإذا نهى صلى الله عليه وسلم عن شد الرحال إلى المساجد غير الثلاثة ؛ فشد الرحال إلى القبور أولى بالمنع .

الثالثة : أنهم كانوا يذهبون إلى القول بأن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بدعة بعد موته ، وأن حديث الأعمى الذي رواه أهل السنن وصححه الترمذي خاصٌ بحياته كما قاله الجمهور ، وصوّبه شيخ الإسلام ابن تيمية ، وكنتُ موافقًا لهم ، ثم تبين لي أخيرًا أن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم جائز ، لا شك في جوازه ؛ لأثر روي في ذلك عن بعض الصحابة – رضي الله عنهم - ، فقال المشايخ – متعنا الله بحياتهم - : القول بالمنع بعد الموت أولى ، وبالصواب أحرى ؛ سدًا للذريعة ، وقطعًا للوسيلة المفضية إلى محظورات الشريعة ، فامتنعتُ من ذلك مدة وأنا الآن قد شرح الله صدري لموافقتهم ، جعلها الله بحق اسمه موافقة مستمرة ، وعلى الحق أبدًا مستقرة ، إنه على ذلك قديرٌ وبالإجابة جدير .

الرابعة :
في شأن ابن عربي ، وذلك أن للعلماء فيه ثلاثة أقوال : الحكم بالولاية ، والتوقف فيه ، والقطع بكفره ، وهذا اختيار المشايخ ، فسنح في أثناء السنة المذكورة أن الوقف أقرب إلى الورع ، بعد أن كنتُ موافقًا لهم على قولهم ، والآن : كفرُ الرجل بكلامه واضح ، وزندقته بخذله ناضح ، فلا معنى للتوقف فيه إلا ما سبق في القضاء من وقوع هذا الأمر المقدور ، فالحمد لله على الاتفاق ، وأتضرع إليه أن يجعله اتفاقًا مؤبدا ، مرضيًا له . والله أعلم