جنايات على العلم والمنهج (2)...تحرير أقوال العلماء عبر النقل والعزو المرسل والتقصير في طلب الرواية والإسنادِ في ذلك.
قال الإمام عبد الله بن المبارك: ((الإسناد من الدين،ولولا الإسنادُ لقال من شاء: ما شاء)).
وقال ابن المبارك أيضاً: ((مثل الذي يطلب أمر دينه بلا إسناد كمثل الذي يرتقي السطح بلا سلم)).
وقال: ((بيننا وبين القوم القوائم ـ يعني ـ الإسناد))
قال أبو عبد الله الحاكم : ((فلولا الإسناد وطلب هذه الطائفة له وكثرة مواظبتهم على حفظه لدرس منار الإسلام ولتمكن أهل الإلحاد والبدع فيه بوضع الأحاديث وقل الأسانيد فإن الأخبار إذا تعرت عن وجود الأسانيد فيها كانت بُتْراً)).
قلتُ: وشرف الإسناد وضرورة طلبه لا تختص بالمرفوعات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ،بل هي كذلك في كل قول يُنسبُ إلى قائل،وما أعلم باباً من أبواب العلم تساهل أهل العلم في إسناده =غير أبواب الزهد والحكمة مع تأكيدهم على استحباب طلب الإسناد لها.
وهكذا بقيت الأمة أمة إسناد لا يرضى الواحد منهم أن ينسب مقالة لقائل إلا ويسوق سنده إلى هذا القائل ،لا يُستثنى من ذلك إلا مجالس يثقل فيها سوق الإسناد لعلم الحاضرين به وكونه ليس موضع مشاححة..
وبتناقص الزمان تتناقص الهمم ويتناقص العلم ويتناقص الحرص ويغلب طلب السهولة على الناس،وغلب على نفر من المتفقهة الذين لم يكن لهم بالحديث عناية=هجر الإسناد والاسترواح إلى النقل المُجرد العاري عن سوق الإسناد،وغلبت الثقة بالناقل على الناس فصاروا يتبعون الناقل في نقله من غير تثبت ولا روية ولا طلب إسناد والكل متلازم..
حتى إذا هجم القرن الخامس الهجري أخذت الرواية في الخفوت حتى انزوت تماماً وأصبحت تُساق لمرادات أُخر غير مراد توثيق نسبة الكلام إلى قائله...ولولا طبقة البيهقي وابن عبد البر لأوشكت كتب الفقهاء المرسلة غير المسندة أن تكون هي السمة العامة لهذا القرن...
ولله در القائل: والأسانيد متى خفيت اختلط صادق الأنباء بكذبها،وصحيح الأخبار بضعيفها،والتبس الحق بالباطل،فَصُوِّ رَ في الأذهان مالم يكن،ومُثل في العقول مالم يقع،وأخطأ اللاحق سنة السابق،وضل الآخر سبيل الأول،وتشعب الرأي،وافترق النظر،وكثرت المذاهب،فشاع الخلاف،وعمَّت الفرقة،لايذهل عن ذلك عاقل،ولا يرتاب فيه عالم.
فإلى القرن الخامس كنا قد انتهينا إذاً وفيه استهلت صارخة نكبات التقليد ..فكان العلم عند كثير من حملة العلم يومها =نقل قول إمام متقدم،ثم حسبه حكاية قوله،فصار قول المتكلم حجة المتأخر ،ورأي السابق دليل اللاحق،ومذهب الأول برهانُ الآخر...وحتى الحوادث والنوازل التي لا يُعرف للإمام السابق فيها قول ماكان حكمها يُطلب من الأدلة وإنما كان يُخرَّج تخريجاً على أقوال الإمام وما يُظن أنه أصوله..وقُرِنَ ذلك بتعظيم الأئمة الأربعة حتى أوشك البعض على القول أنهم خُلَقوا خلقاً غير خلق الناس،وأنهم لا يُدانيهم غيرهم فضلاً وعلماً وعملاً..
وإلى هذه الطبقة كان الإسناد موجوداً في بعض الكتب المتداولة وإن هُجر في مجالس الدرس والتعليم...
حتى استهل القرن السادس ومعه بلية أخرى..فقد ضعفت الهمم،وخمدت العزائم،فصار الناس إلى طلب مختصرات يختصرون فيها الكتب التي وصلتهم مسندة متصلة..فصار الناس إلى حذف الأسانيد،ثم عم هجرها فكأنه وباء سرى في الناس حتى سرى إلى أعيان الحفاظ وأعلام المحدثين...فلما شاع ذلك وكثر ألف فلم يستغرب وقبل فلم يستنكر،وصار من أراد التصنيف جمع ما عنده من كتب المتقدمين فجردها من الإسناد، وولف بينها وكتب مقدمة صرَّح فيها بمصادره،فما هو إلا أن تحذف منها أسانيدها ،حتى تتشابه كلها،فلا يتميز صدقها من كذبها،ولا حقها من باطلها..وباتت كلها في الظاهر سواء،فقد خفيت أسانيدها وجهلت أصولها...ولما كانت تلك طريقة سهلة..فقد كثرت التصانيف ،وفاضت التآليف،عارية عن الإسناد ،مبتوتة الصلة بأصولها المأخوذة عنها...وثقل الأمر على النُساخ..فأَنسيت كتب كتباً..وشغلت تصانيف محل تصانيف...وصار المختصر المعتصر المجرد هذا يستبدل بالأصل المطول في مجلدات..فهو أرخص ثمناً وأخف حملاً وأقل مؤنة..وحتى صار عالي الهمة من أهل العلم يطلب الأصل المسند السنين الطوال فلا يستطيع تحصيله ..فإذا حصله كان بآلاف الدنانير..وصرنا نحنُ إلا هذا الزمان لا نجدُ من كتاب عظيم جليل كسنن البيهقي=إلا نسخة ملفقة من عدد من النسخ فنخرج عليها الكتاب..ووالله لو شُغل النساخ والطلاب بتلكم الأصول لما ضاعت وضيعت جم العلم معها...وقُرِنَ ذلك بتعظيم ما أسموه : علوم الاجتهاد،وتضييق سبيل العلم بالرواية والرواة،والدعوة إلى الاكتتفاء في نقد السنة بنقل قول عالم من العلماء ولو كان الحاكم ،وصار الناس إلى كتب أحاديث الأحكام مجردة الأسانيد،و..وصار علم الرواية والحديث علماً للمفاليس لا غير..لا تُدرس منه سوى رسوم نظرية غلبت عليها الصبغة الأصولية الفقهية..ورحم الله أبا حاتم وأبا زرعة ومشيخة النقاد..
ومع قلة الرواية وقلة العناية بطلب الإسناد يكثر شيئان :
الدعاوى، والقياس...
أما القياس فله حديث آخر...
أما الدعاوى فهي حديثنا...
فقد آلت إلينا تركة حفتها الدعاوى من كل جانب....
إجماعات تحكى.........
وقال واشتهر فلم يعلم فيهالخلاف فكان إجماعاً..
وأقوال إلى الجماهير وأكثر العلماء تُنسب....
وهو قول أبي حنيفة....
وهو قول مالك....
وهو قول الشافعي....
وهو قول أحمد....
وبه كان يقول أبو الحسن الأشعري...
وصارت تجبهك تلك الدعاوى أينما ذهبتَ...
وليست الدعاوى تُذم لمجردها وإنما تُذم إذا عريت عما يؤيدها من الحجة والبرهان...
فإذا قلتَ: فما الحجة والبرهان فيما نحن فيه (؟؟؟)
قلنا: لانطلب حجةً ولا برهاناً فوق ما صار عليه سلفنا القرون المتتابعة إما نقل من كتاب صحت نسبته لمؤلفه..وإما إسناد ..أو شبه الإسناد من النقل المتصل بالطبقات عن الإمام الذي نسب له القول...وهل بريء ديننا من التحريف وهل حُفظ من أن يُدس فيه ماليس منه =إلا بما ذُكر....
أما مجرد النقل المرسل والعزو المجرد عن الإسناد من ناقل لم يدرك الإمام المنقول عنه فلا والله لا نثق به ثقتنا بالرواية ولا نركن إليه ركوننا للإسناد..ولا يُكتفى به بمجرده في نسبة المقالات لقائليها...
فإن قلتَ: فهل تُطرح هذه المنقولات جملة ويُرمى ويُضرب بها عرض الحائط (؟؟؟)
قلنا : لا بالطبع...
ولكن هذه المنقولات يعتورها الخطأ في النقل...والخلل في الإسناد المستور...والوهم في ضبط المنقول على وجهه...ويخلط أولئك النقلة فيجعلون ما هو من مقولات أصحاب الإمام =قولاً منصوصاً للإمام نفسه..
يقول شيخ الإسلام: ((وَهُنَا مَسْأَلَةٌ ثَانِيَةٌ قَدْ يُظَنُّ أَنَّهُ أَرَادَهَا وَلَمْ يُرِدْهَا لَكِنَّا نَتَكَلَّمُ عَلَى تَقْدِيرِ إرَادَتِهَا وَهُوَ أَنَّ مَنْ الْتَزَمَ مَذْهَبًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْهُ قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَد وَكَذَلِكَ غَيْرُ هَذَا مَا يَذْكُرُهُ ابْنُ حَمْدَان أَوْ غَيْرُهُ-أي عن أحمد- ؛ يَكُونُ مِمَّا قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا عَنْهُ وَكَذَلِكَ مَا يُوجَدُ فِي كُتُبِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ كَثِيرٌ مِنْهُ يَكُونُ مِمَّا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِمْ وَلَيْسَ مَنْصُوصًا عَنْهُمْ ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ الْمَنْصُوصُ عَنْهُمْ خِلَافَ ذَلِكَ)) .
بل وأكبر من ذلك أن الكثير مما ينقلونه عن الأئمة وينسبونه إليهم= إنما حصله الناقل استنباطاً وتخريجاً على أصول الإمام ثم هو بعدُ يستجيز أن ينسبه لإمامه تصريحاً فيقول : قال الشافعي....أو أقل رتبة في الإيهام كأن يقول: وهو قول الشافعي...
يقول شيخ الإسلام: ((وهذا أصل معروف لكثير من أهل الكلام والفقه يسوغون أن ينسب إلي النبي نسبة قولية توافق ما اعتقدوه من شريعته حتي يضعوا أحاديث توافق ذلك المذهب ولينسبونها إلي النبي، لكن ابن فورك لم يكن من هؤلاء ، وإنما هو من الطبقة الثانية الذين ينسبون إلي الأئمة ما يعتقدون هم أنه الحق فهذا واقع في كثير من طائفته، حتي أن في زماننا في بعض المجالس المعقودة قال كبير القضاة: إن مذهب الشافعي المنصوص عنه كيت وكيت، وذكر القول الذى يعلم هو وكل عالم أن الشافعي لم يقله، ونقل القاضيان الآخران عن أبي حنيفة ومالك مثل ذلك، فلما روجع ذلك القاضي قيل له: هذا الذى نقلته عن الشافعي من أين هو؟، أى أن الشافعي لم يقل هذا، فقال: هذا قول العقلاء، والشافعي عاقل لا يخالف العقلاء، وقد رأيت في مصنفات طوائف من هؤلاء ينقلون عن أئمة الإسلام المذاهب التي لم ينقلها أحد عنهم لاعتقادهم أنها حق، فهذا أصل ينبغى أن يعرف))[نقض التأسيس (1/146،147)].
ويقول الدهلوي: ((واعلم أني وجدت أكثرهم يزعمون أن بناء الخلاف بين أبي حنيفة والشافعي رحمهما الله على هذه الأصول المذكورة في كتاب البزدوي ونحوه وإنما الحق أن أكثرها أصول مخرجة على قولهم وعندي أن المسألة القائلة بأن الخاص مبين ولا يلحقه
البيان وأن الزيادة نسخ وأن العام قطعي كالخاص وأن لا ترجيح بكثرة الرواة وأنه لا يجب العلم بحديث غير الفقيه إذا انسد به باب الرأي وأن لا عبرة بمفهوم الشرط والوصف أصلا وأن موجب الأمر هو الوجوب البتة وأمثال ذلك أصول مخرجة على كلام الأئمة وأنه لا تصح بها رواية عن أبي حنيفة وصاحبيه وأنه ليست المحافظة عليها والتكلف في جواب ما يرد عليها من صنائع المتقدمين في استنباطهم كما يفعله البزدوي وغيره أحق من المحافظة على خلافها والجواب عما يرد عليه)).
وإذاً: فالرأي عندي أن يبقى في الذروة من الصحة ما كان في كتاب الإمام وكان كتابه صحيح النسبة إليه..
ومثله إن لم يفوقه بحسب قوة الإسناد=ما يُنقل عن الإمام بالسند الصحيح..
أما غيرها من المنقولات فلا تُطرح جملة وإنما تكون منزلتها من الإسناد بمنزلة الرأي من الرواية...فقد تٌقبل إن احتفت بها قرائن تُقوي حالها...
وقد تُرد إن احتفت بها قرائن تُضعف شأنها...
وقد تبقى وحظها الحكايةُ لا غير فيُكمل بها البحث ولا يُركن إليها في علم ولا تحقيق..
واعتبر بالقرون الثلاثة الأولى ..تجد فقهاً وعلماً جماً، مؤسس كله على سوق الإسناد ونسبة كل قول لقائله من الصحابة والتابعين وأتباعهم معضداً بسنده.. تجلله حجته ..يصحبه برهانه..
واعلم أنك إذا ما جعلت الإسناد طلبتك في كل قضية ،وأوقفت النقل المرسل العاري عن الإسناد فلم تعتبره ولم تقبله إلا بمعضدات=استقام نهجك وسلمت طريقتك وكنت في العلم على محجةٍ بيضاء لا يتطرق إليها الشك ولا ينتابها الريب...
وتأمل كيف يفزع أهل السنة إلى الإسناد فيما يُنسب إلى السلف من مستبشعات في الاعتقاد والتأويل =فإذا بأسانيد تلك المستبشعات مظلمة تهوي بمروياتها في جب الترك ،فإذا ساحة السلف بيضاء نقية من كل شبهة غوية..واسأل معي: لم لا يُطرد النهج فيُطلب الإسناد فلا يُنسب إلى قائل قول من غير حجة بينة ..ودلالة ظاهرة.. وبرهان واضح.. وإسناد لائح (؟؟؟)