الحديث الخامس
«عن أم المؤمنين أم عبد الله عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» .
رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية لمسلم «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» .

الحديث رواية :

أخرجه البخاري (2697) , ومسلم (1718-17) , وأبو داود (4606) , وابن ماجه (14) , وأحمد 6/ 240 و 270 , و الطيالسي (1422) ، وأبو يعلى (4594) , وابن الجارود في "المنتقى" (974) , وأبو عوانة 4/ 17-18 و18، وابن حبان (26) و (27) ، وأبو بكر الشافعي في "الفوائد" (1002) و (1003) , وابن عدي في "الكامل" 1/ 247، والدارقطني في "السنن" 5/ 402-الرسالة ، واللالكائي في "الاعتقاد" (190) و (191) ، والقضاعي في "مسند الشهاب" (359) و (360) و (361) ، والبيهقي 10/ 119، وفي "السنن الصغرى" (4509) , وفي "معرفة السنن والآثار" 14/ 234، والبغوي في "شرح السنة" (103) , وفي "الأنوار" (1233) , والأنصاري في "ذم الكلام وأهله" 1/ 24 , والمزي في "تهذيب الكمال" 18/ 465: من طرق عن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، حدثنا أبي، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» .
وقال البغوي: "هذا حديث متفق على صحته، أخرجاه من أوجه عن إبراهيم ابن سعد".
وأخرجه الدارقطني 5/ 406-الرسالة : من طريق سهل بن صقير، عن إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن القاسم، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صنع في ماله ما ليس في كتاب الله، فهو مردود".
قال الدارقطني: " قوله: عن الزهري، خطأ قبيح ".
قلت : وإسناده ضعيف جدًا , سهل بن صقير و يقال : ابن سقير ، أبو الحسن الخلاطي : منكر الحديث ، اتهمه الخطيب بالوضع كما في "التقريب" .
وله طريقان آخران عن سعد بن ابراهيم :
الأول : أخرجه مسلم (1718-18) , وأبو داود (4606) , وأحمد 6/ 73 و 146 و 180 و 256 , واسحاق بن راهويه (979) , والبخاري في "خلق أفعال العباد" (ص: 62) , وابن أبي عاصم في "السنة" (52) , وأبو بكر الشافعي في "الفوائد" (999) و (1000) و (1001), وأبو عوانة 4/ 18, والدارقطني 6/ 406-الرسالة , والبيهقي في "المدخل إلى السنن الكبرى" (192) , وابن حزم في "المحلى" 1/ 87 , وابن عساكر في "تاريخ دمشق" 27/ 299
والمزي في "تهذيب الكمال" 18/ 369: من طريق عبد الله بن جعفر الزهري ، عن سعد بن إبراهيم ، " قال سألت القاسم بن محمد ، عن رجل له ثلاثة مساكن ، فأوصى بثلث كل مسكن منها ؟ قال : يجمع ذلك كله في مسكن واحد ، ثم قال : أخبرتني عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " واللفظ لمسلم .

والثاني : أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" (53) , والدارقطني 5/ 406-الرسالة , وأبو نعيم في "الحلية" 3/ 173 , والأنصاري في "ذم الكلام وأهله" 1/ 24 , والمزي في "تهذيب الكمال" 18/ 465-466:
من طريق عبد العزيز بن محمد , عن عبد الواحد بن أبي عون ,عن سعد بن إبراهيم , عن القاسم , عن عائشة , أن النبي صلى الله عليه وسلم , قال: «من فعل أمرا ليس عليه أمرنا فهو مردود».
وعبد الواحد بن أبي عون : صدوق يخطئ , وعبد العزيز بن محمد هو الدراوردى : صدوق كان يحدث من كتب غيره فيخطىء ، وتوبع عليه الدراوردي :
أخرجه ابن حجر العسقلاني في "تغليق التعليق" 3/ 398 بإسناد فيه مجاهيل عن محمد بن إسحاق ، ثنا عبد الواحد بن أبي عون ، عن سعيد بن إبراهيم ، قال : كان الفضل بن العباس بن عتيبة بن أبي لهب أوصى بوصية ، فجعل بعضها صدقة ، وبعضها ميراثا ، فخلط فيها ، وأنا يومئذ على القضاء ، فوالله ما دريت كيف أنفذ منها ، فصليت المغرب إلى جنب القاسم بن محمد ، فقلت : يا أبا محمد ، وقعت إلي قضية ، ما أدري كيف أقضي فيها ؟ فقصصت عليه القصة ، قال : فإني أشير عليك أن تجيز من ماله الثلث وصية له ، فيمن أوصى له وترد سائر ذلك إلى الميراث ، فإن عائشة حدثتني ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " من أحدث في أمرنا شيئا ليس منه فهو رد " .
وأخرجه الأنصاري في "ذم الكلام وأهله" 1/ 24-25 بإسناد ضعيف عن ابن اسحاق ولم يسق لفظه .

وله طريق أخرى عن القاسم :
أخرجه الدارقطني 5/ 407-الرسالة : من طريق عبد العزيز بن محمد , ثنا زفر بن عقيل الفهري , قال: سمعت القاسم بن محمد , يقول: سمعت عائشة رضي الله عنها , تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل أمر لم يكن عليه أمرنا فهو رد»
زفر بن عقيل الفهري : لم أجد له ترجمة ولا يوجد أحدٌ بهذا الإسم سوى ما ذكره البخاري في " التاريخ الكبير"3/ 430 , وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" 3/ 607 , وابن حبان في "الثقات" 6/ 338 : زفر بن عقيل : يروي عن سعدى بنت الحارث امرأة طلحة بن عبيد الله روى عنه بكير بن الأشج .
وعبد العزيز بن محمد هو الدراوردى : تقدم الكلام في الحديث الذي قبله .

الحديث دراية :

قوله : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) ( أمرنا ) المراد بالأمر هاهنا الدين , ومعنى ( أحدث ) : أي ابتدع ,وقد جاء تفسيره في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :
"وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة" حديث صحيح , أخرجه أبو داود (4607) والترمذي (2676) وصححه، والبدعة هي كل قول أو فعل محدث نسب إلى الدين وليس له أصل في الكتاب أو السنة أو الإجماع ، قال ابن رجب "والمراد بالبدعة ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه" وقال شيخ الإسلام "البدعة ما خالفت الكتاب والسنة أو إجماع سلف الأمة من الاعتقادات والعبادات" وقال ابن رجب أيضا "فكل من أحدث شيئا ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة والدين منه بريء" و(الرد ) :بمعنى المردود , أطلق المصدر على اسم المفعول .
قال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" : " وهذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام، وهو كالميزان للأعمال في ظاهرها كما أن حديث: «الأعمال بالنيات» ميزان للأعمال في باطنها، فكما أن كل عمل لا يراد به وجه الله تعالى فليس لعامله فيه ثواب، فكذلك كل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله، فهو مردود على عامله، وكل من أحدث في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله، فليس من الدين في شيء ... . وقوله: " ليس عليه أمرنا " إشارة إلى أن أعمال العاملين كلهم ينبغي أن تكون تحت أحكام الشريعة، وتكون أحكام الشريعة حاكمة عليها بأمرها ونهيها، فمن كان عمله جاريا تحت أحكام الشرع موافقا لها، فهو مقبول، ومن كان خارجا عن ذلك، فهو مردود.
والأعمال قسمان: ( عبادات ) و ( معاملات ) فأما العبادات : فما كان منها خارجا عن حكم الله ورسوله بالكلية، فهو مردود على عامله، وعامله يدخل تحت قوله: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} (الشورى: 21) فمن تقرب إلى الله بعمل لم يجعله الله ورسوله قربة إلى الله، فعمله باطل مردود عليه، وهو شبيه بحال الذين كانت صلاتهم عند البيت مكاء وتصدية، وهذا كمن تقرب إلى الله تعالى بسماع الملاهي، أو بالرقص، أو بكشف الرأس في غير الإحرام، وما أشبه ذلك من المحدثات التي لم يشرع الله ورسوله التقرب بها بالكلية. وليس ما كان قربة في عبادة يكون قربة في غيرها مطلقا، فقد «رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا قائما في الشمس، فسأل عنه، فقيل إنه نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل وأن يصوم، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقعد ويستظل، وأن يتم صومه» فلم يجعل قيامه وبروزه في الشمس قربة يوفي بنذرهما وقد روي أن ذلك كان في يوم جمعة عند سماع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر، فنذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ما دام النبي صلى الله عليه وسلم يخطب؛ إعظاما لسماع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قربة توفي بنذره، مع أن القيام عبادة في مواضع أخر، كالصلاة والأذان والدعاء بعرفة، والبروز للشمس قربة للمحرم، فدل على أنه ليس كل ما كان قربة في موطن يكون قربة في كل المواطن، وإنما يتبع في ذلك كله ما وردت به الشريعة في مواضعها. وكذلك من تقرب بعبادة نهي عنها بخصوصها، كمن صام يوم العيد، أو صلى وقت النهي. وأما من عمل عملا أصله مشروع وقربة، ثم أدخل فيه ما ليس بمشروع، أو أخل فيه بمشروع، فهذا مخالف أيضا للشريعة بقدر إخلاله بما أخل به، أو إدخاله ما أدخل فيه، وهل يكون عمله من أصله مردودا عليه أم لا؟ فهذا لا يطلق القول فيه برد ولا قبول، بل ينظر فيه: فإن كان ما أخل به من أجزاء العمل أو شروطه موجبا لبطلانه في الشريعة، كمن أخل بالطهارة للصلاة مع القدرة عليها، أو كمن أخل بالركوع أو بالسجود أو بالطمأنينة فيهما، فهذا عمل مردود عليه، وعليه إعادته إن كان فرضا، وإن كان ما أخل به لا يوجب بطلان العمل، كمن أخل بالجماعة للصلاة المكتوبة عند من يوجبها ولا يجعلها شرطا، فهذا لا يقال: إن عمله مردود من أصله، بل هو ناقص. وإن كان قد زاد في العمل المشروع ما ليس بمشروع، فزيادته مردودة عليه، بمعنى أنها لا تكون قربة ولا يثاب عليها، ولكن تارة يبطل بها العمل من أصله، فيكون مردودا، كمن زاد في صلاته ركعة عمدا مثلا، وتارة لا يبطله، ولا يرده من أصله، كمن توضأ أربعا أربعا، أو صام الليل مع النهار، وواصل في صيامه، وقد يبدل ما يؤمر به في العبادة بما هو منهي عنه، كمن ستر عورته في الصلاة بثوب محرم، أو توضأ للصلاة بماء مغصوب، أو صلى في بقعة غصب، فهذا قد اختلف العلماء فيه: هل عمله مردود من أصله، أو أنه غير مردود وتبرأ به الذمة من عهدة الواجب؟ وأكثر الفقهاء على أنه ليس بمردود من أصله، وقد حكى عبد الرحمن بن مهدي عن قوم من أصحاب الكلام يقال لهم: الشمرية أصحاب أبي شمر أنهم يقولون: إن من صلى في ثوب كان في ثمنه درهم حرام أن عليه إعادة صلاته، وقال: ما سمعت قولا أخبث من قولهم، نسأل الله العافية، وعبد الرحمن بن مهدي من أكابر فقهاء أهل الحديث، المطلعين على مقالات السلف، وقد استنكر هذا القول وجعله بدعة، فدل على أنه لم يعلم عن أحد من السلف القول بإعادة الصلاة في مثل هذا.ويشبه هذا الحج بمال حرام، وقد ورد في حديث أنه مردود على صاحبه، ولكنه حديث لا يثبت، وقد اختلف العلماء هل يسقط به الفرض أم لا؟ . وقريب من ذلك الذبح بآلة محرمة، أو ذبح من لا يجوز له الذبح، كالسارق، فأكثر العلماء قالوا: إنه تباح الذبيحة بذلك، ومنهم من قال: هي محرمة، وكذا الخلاف في ذبح المحرم الصيد، لكن القول بالتحريم فيه أشهر وأظهر، لأنه منهي عنه بعينه. ولهذا فرق من فرق من العلماء بين أن يكون النهي لمعنى يختص بالعبادة فيبطلها، وبين أن لا يكون مختصا بها فلا يبطلها، فالصلاة بالنجاسة، أو بغير طهارة، أو بغير ستارة، أو إلى غير القبلة يبطلها لاختصاص النهي بالصلاة بخلاف الصلاة في الغصب، ويشهد لهذا أن الصيام لا يبطله إلا ارتكاب ما نهي عنه فيه بخصوصه، وهو جنس الأكل والشرب والجماع، بخلاف ما نهي عنه الصائم، لا بخصوص الصيام، كالكذب والغيبة عند الجمهور. وكذلك الحج ما يبطله إلا ما نهي عنه في الإحرام، وهو الجماع، ولا يبطله ما لا يختص بالإحرام من المحرمات، كالقتل والسرقة وشرب الخمر. وكذلك الاعتكاف: إنما يبطل بما نهي عنه فيه بخصوصه، وهو الجماع، وإنما يبطل بالسكر عندنا وعند الأكثرين، لنهي السكران عن قربان المسجد ودخوله على أحد التأويلين في قوله تعالى: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} (النساء: 43) أن المراد مواضع الصلاة، فصار كالحائض، ولا يبطل الاعتكاف بغيره من ارتكابه الكبائر عندنا وعند كثير من العلماء، وإن خالف في ذلك طائفة من السلف، منهم عطاء والزهري والثوري ومالك، وحكي عن غيرهم أيضا. وأما المعاملات كالعقود والفسوخ ونحوهما، فما كان منها تغيرا للأوضاع الشرعية، كجعل حد الزنا عقوبة مالية، وما أشبه ذلك، فإنه مردود من أصله، لا ينتقل به الملك، لأن هذا غير معهود في أحكام الإسلام، ويدل على ذلك أن «النبي صلى الله عليه وسلم قال للذي سأله: إن ابني كان عسيفا على فلان، فزنى بامرأته، فافتديت منه بمائة شاة وخادم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: المائة الشاة والخادم رد عليك وعلى ابنك جلد مائة، وتغريب عام ... وهذا الحديث إنما رواه القاسم بن محمد لما سئل عن رجل له ثلاثة مساكن، فأوصى بثلث ثلاث مساكن هل تجمع له في مسكن واحد؟ فقال: تجمع له في مسكن واحد، حدثتني عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» خرجه مسلم. ومراده أن تغيير وصية الموصي إلى ما هو أحب إلى الله وأنفع جائز، وقد حكي هذا عن عطاء وابن جريج، وربما يستدل بعض من ذهب إلى هذا بقوله تعالى: {فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه} [البقرة: 182] ولعله أخذ هذا من جمع العتق، فإنه صح " «أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم فجزأهم ثلاثة أجزاء، فأعتق اثنين وأرق أربعة» " خرجه مسلم. وذهب فقهاء الحديث إلى هذا الحديث؛ لأن تكميل عتق العبد مهما أمكن أولى من تشقيصه، ولهذا شرعت السراية والسعاية إذا أعتق أحد الشريكين نصيبه من عبد. «وقال صلى الله عليه وسلم فيمن أعتق بعض عبد له: هو عتيق كله ليس لله شريك» . وأكثر العلماء على خلاف قول القاسم هذا، وأن وصية الموصي لا تجمع، ويتبع لفظه إلا في العتق خاصة، لأن المعنى الذي جمع له في العتق غير موجود في بقية الأموال، فيعمل فيها بمقتضى وصية الموصي.وذهب طائفة من الفقهاء في العتق إلى أنه يعتق من كل عبد ثلثه، ويستسعون في الباقي، واتباع قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق وأولى، والقاسم نظر إلى أن في مشاركة الموصى له للورثة في المساكن كلها ضررا عليهم، فيدفع عنهم هذا الضرر بجمع الوصية في مسكن واحد، فإن الله قد شرط في الوصية عدم المضارة بقوله تعالى: {غير مضار وصية من الله} (النساء: 12) فمن ضار في وصيته، كان عمله مردودا عليه لمخالفته ما شرط الله في الوصية. وقد ذهب طائفة من الفقهاء إلى أنه لو وصى له بثلث مساكنه كلها، ثم تلف ثلثا المساكن، وبقي منها ثلث أنه يعطى كله للموصى له، وهذا قول طائفة من أصحاب أبي حنيفة، وحكي عن أبي يوسف ومحمد، ووافقهم القاضي أبو يعلى من أصحابنا في خلافه، وبنوا ذلك على أن المساكن المشتركة تقسم بين المشتركين فيها قسمة إجبار، كما هو قول مالك، وظاهر كلام ابن أبي موسى من أصحابنا، والمشهور عند أصحابنا أن المساكن المتعددة لا تقسم قسمة إجبار وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وقد تأول بعض المالكية فتيا القاسم المذكورة في هذا الحديث على أن أحد الفريقين من الورثة أو الموصى لهم طلب قسمة المساكن فكانت متقاربة بحيث يضم بعضها إلى بعض في القسمة، فإنه يجاب إلى قسمتها على قولهم، وهذا التأويل بعيد مخالف للظاهر، والله أعلم» انتهى بتصرف .
والعبرة في قبول ظاهر العمل أن يكون موافقًا للشرع , كما أن العبرة في قبول باطن العمل إخلاص النية , أما الإعتماد على مجرد حسن النية والمحبة مع عدم مراعاة موافقة العمل للشرع فتصرف باطل مخالف للكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح وقد ورد عنهم آثار كثيرة تؤيد هذا الأصل, أخرج الدارمي في "سننه" (204) , وابن أبي شيبة في "المصنف"15/ 306 مختصرًا , وبحشل في "تاريخ واسط" (ص: 198-199) : من طريق عمرو بن يحيى بن عمرو بن سلمة، قال: سمعت أبي، يحدث، عن أبيه قال: كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قبل صلاة الغداة، فإذا خرج، مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري رضي الله عنه فقال: أخرج إليكم أبو عبد الرحمن قلنا: لا، بعد. فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج، قمنا إليه جميعا، فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن، إني رأيت في المسجد آنفا أمرا أنكرته ولم أر - والحمد لله - إلا خيرا. قال: فما هو؟ فقال: إن عشت فستراه. قال: رأيت في المسجد قوما حلقا جلوسا ينتظرون الصلاة في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصا، فيقول: كبروا مائة، فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة، فيهللون مائة، ويقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة، قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئا انتظار رأيك أو انتظار أمرك. قال: «أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم»، ثم مضى ومضينا معه حتى أتى حلقة من تلك الحلق، فوقف عليهم، فقال: «ما هذا الذي أراكم تصنعون؟» قالوا: يا أبا عبد الرحمن حصا نعد به التكبير والتهليل والتسبيح. قال: «فعدوا سيئاتكم، فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء ويحكم يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده، إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد صلى الله عليه وسلم أو مفتتحو باب ضلالة». قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن، ما أردنا إلا الخير. قال: «وكم من مريد للخير لن يصيبه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن" قوما يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم "، وايم الله ما أدري لعل أكثرهم منكم، ثم تولى عنهم. فقال عمرو بن سلمة: رأينا عامة أولئك الحلق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج ".
قال الشيخ الألباني في "الصحيحة" 5/ 12-14: " وهذا إسناد صحيح ... قصة ابن مسعود مع أصحاب الحلقات، فيها عبرة لأصحاب الطرق وحلقات الذكر على خلاف السنة، فإن هؤلاء إذا أنكر عليهم منكر ما هم فيه اتهموه بإنكار الذكر من أصله! وهذا كفر لا يقع فيه مسلم في الدنيا، وإنما المنكر ما ألصق به من الهيئات والتجمعات التي لم تكون مشروعة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فما الذي أنكره ابن مسعود رضي الله عنه على أصحاب تلك الحلقات؟ ليس هو إلا هذا التجمع في يوم معين، والذكر بعدد لم يرد،وإنما يحصره الشيخ صاحب الحلقة، ويأمرهم به من عند نفسه، وكأنه مشرع عن الله تعالى! {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} زد على ذلك أن السنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم فعلا وقولا إنما هي التسبيح بالأنامل، كما هو مبين في " الرد على الحبشي "، وفي غيره , ومن الفوائد التي تؤخذ من الحديث والقصة، أن العبرة ليست بكثرة العبادة وإنما بكونها على السنة، بعيدة عن البدعة، وقد أشار إلى هذا ابن مسعود رضي الله عنه بقوله أيضا: " اقتصاد في سنة، خير من اجتهاد في بدعة ", ومنها: أن البدعة الصغيرة بريد إلى البدعة الكبيرة، ألا ترى أن أصحاب تلك الحلقات صاروا بعدُ من الخوارج الذين قتلهم الخليفة الراشد علي بن أبي طالب؟ فهل من معتبر؟ ! " انتهى كلامه رحمه الله تعالى
والبدع كلها محرمة مذمومة شرعا لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم :" كل بدعة ضلالة" أخرجه مسلم (867)، وليس في الدين بدعة حسنة كما يزعم ذلك أهل البدع وحكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في البدعة قاعدة عامة لا يستثنى منها شيئ ,ومن استثنى شيئا منها فعليه الدليل , قال تعالى { قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} , ولا يحفظ في ذلك شيء مرفوع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأما قول عمر رضي الله عنه لما رأى الصحابة إجتمعوا على إمام واحد في صلاة التراويح وكانوا يصلون أوزاعا قال "نعمت البدعة هذه" فمحمول على معنى البدعة اللغوي وليس المعنى الشرعي , وذلك أن هذا العمل جديد بالنسبة لهم , لم يفعلوه بعد ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم له , فأحياه عمر رضي الله عنه بعد زوال خوف فرضه عليهم فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلّى صلاة الليل في رمضان فصلى رجال بصلاته ثم فعل ذلك الليلة الثانية والثالثة ثم ترك ذلك في الرابعة وقال : "إني خشيت أن تفرض عليكم ".
فليس في الشرع بدعة حسنة فضلا عن أن تنقسم البدع الى خمسة أقسام !!
قال تعالى :{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21)
وقال تعالى :{قلْ أرَأيْتُم ما أنَزلَ الله لَكمْ مِنْ رزقٍ فجعَلتُمْ منْهُ حَرامًا وَحلالاً} (يونس: 59)
و قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد"
أخرجه البخاري ومسلم وفي رواية لمسلم "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " .
وعن العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال "إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار".
صحيح: أخرجه أبو داود (5407) والترمذي (2676) وصححه , وابن ماجة (42) وغيرهم.
هذه الأحاديث نص جلي على أنه ليس في الشرع بدعة حسنة بل هي نصوص في أن كل بدعة في الشرع ضلالة ولقد قسّم بعض العلماء البدعة الى بدعة حسنة والى بدعة سيئة وممن ذهب هذا المذهب ابن حزم ، والغزالي , وابن الأثير ، والعز بن عبدالسلام، والنووي، والقرافي ، والسبكي ، والزركشي ، وابن حجر ، والعيني ,والهيثمي ,والسخاوي ,والسيوطي ، ، والصنعاني ، والزرقاني , وابن عابدين وغيرهم , بل قسّم بعضهم البدعة إلى الأحكام التكليفية الخمسة (الوجوب والاستحباب والإباحة والتحريم والكراهة)!!
وقد اشتهر هذا عن العز بن عبدالسلام
قال في كتابه "قواعد الأحكام" 2/ 172-174 : " البدعة منقسمة إلى واجبة ومحرّمة ومندوبة ومكروهة ومباحة ثم قال: والطريق في ذلك أن تُعرض البدعة على قواعد الشريعة، فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، أو في قواعد التحريم فهي محرمة، أو الندب فمندوبة، أو المكروه فمكروهة، أو المباح فمباحة" انتهى.
وضرب النووي لها أمثلة في " شرح صحيح مسلم"6/ 154-155 , وإليك ماذكره :
(1) بدعة واجبة. ومثالها: نظم أدلة المتكلمين على الملاحدة.
(2) المندوبة. ومثالها: تصنيف كتب العلم.
(3) المباحة. مثالها: التبسط في ألوان الطعام.
(4) مكروهة .(لم يذكر مثالا ) , ومثالها : زخرفة المساجد
(5) محرمة.(لم يذكر مثالا ) ومثالها : بدعة الخوارج والشيعة والجهمية وهلم جرا .
أولا فلنبين البدعة من حيث اللغة والشرع , ففي اللغة : البدعة: مأخوذ من البدع وهو الاختراع على غير مثال سابق،أوالأمر الجديد غير المعهود.
وأما البدعة الشرعية: فما لم يدل عليه دليل شرعي.
ويحتج من يقول بالبدعة الحسنة بحديث: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة".
والجواب:
أن هذا الحديث لا حجة فيه، وذلك لأنه ورد في أمر ثابت في الشرع وهو الصدقة، فعن المنذر بن جرير عن أبيه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار قال: فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً فأذن وأقام، فصلى ثم خطب فقال: "{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء: 1] إلى آخر الآية
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} والاية التي تلي في {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ} (الحشر: 18) تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره، ولو بشق تمرة" قال: فجاء رجل من الأنصار بصُرَّة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت قال: ثم تتابع الناس، حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل، كأنه مذهبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء،ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء".
أخرجه مسلم "1017".
قال الشاطبي في الموافقات "1/ 183": فتأملوا أين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من سن سنة حسنة" تجدوا ذلك فيمن عمل بمقتضى المذكور على أبلغ ما يقدر عليه، حتى بتلك الصرة، فانفتح بسببه باب الصدقة على الوجه الأبلغ، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال: "من سن في الإسلام سنة حسنة"، فدل على أن السنة هاهنا مثل ما فعل ذلك الصحابي، وهو العمل بما ثبت كونه سنة، فظهر أن السنة الحسنة ليست بمبتدعة. انتهى.
ويحتج أيضا من يقول بالبدعة الحسنة بقول عمر لما رأى الناس مجتمعين في صلاة التراويح نعمت البدعة هذه.
والجواب: تقدّم الجواب عن هذا , وأضيف هنا قول شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 589-أن- أكثر ما في تسمية عمر تلك بدعة مع حسنها، وهذه تسمية لغوية لا تسمية شرعية،
وذلك أن البدعة في اللغة تعم كل ما فعل ابتداء من غير مثال سابق، وأما البدعة الشرعية فما لم يدل عليه دليل شرعي، فإذا كان نص رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دل على استحباب فعل، أو إيجابه بعد موته، أو دلَّ عليه مطلقاً ولم يعمل به إلا بعد موته، ككتاب الصدقة الذي أخرجه أبو بكر رضي الله عنه، فإذا عمل ذلك العمل بعد موته، صحَّ أن يسمى بدعة في اللغة لأنه عمل مبتدأ، كما أن نفس الدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم يُسمى مُحدثا في اللغة، كما قالت رسل قريش للنجاشي عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين إلى الحبشة: "إن هؤلاء خرجوا من دين آبائهم ولم يدخلوا في دين الملك، وجاؤوا بدين محدث لا يُعرف" ثم ذلك العمل الذي دل عليه الكتاب والسنة ليس بدعة في الشريعة وإن سمي بدعة في اللغة. انتهى.
وقال ابن رجب في جامع العلوم : وأما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية
لا الشرعية. انتهى.

ويحتج أيضا من يقول بالبدعة الحسنة بأثر: "ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن".
والجواب عنه : ما قاله ابن القيم في "الفروسية" (ص-60): في هذا الأثر دليل على أن ما أجمع عليه المسلمون ورأوه حسنا عند الله فهو حسن، لا مارآه بعضهم فهو حجة عليكم. انتهى.
وقال الألباني في الضعيفة 2/ 17: إن من عجائب الدنيا أن يحتج بعض الناس بهذا الحديث على أن في الدين بدعة حسنة، وأن الدليل على حسنها اعتياد المسلمين لها!
ولقد صار من الأمر المعهود أن يبادر هؤلاء إلى الإستدلال بهذا الحديث عند ما تثار هذه المسألة. وخفي عليهم.
أ - أن هذا الحديث موقوف فلا يجوز أن يحتج به في معارضة النصوص القاطعة في أن "كل بدعة ضلالة" كما صح عنه صلى الله عليه وسلم.
ب - وعلى افتراض صلاحية الإحتجاج به فإنه لا يعارض تلك النصوص لأمور:
الأول: أن المراد به إجماع الصحابة واتفاقهم على أمر، كما يدل عليه السياق، ويؤيده استدلال ابن مسعود به على إجماع الصحابة على انتخاب أبي بكر خليفة وعليه فاللام في "المسلمون" ليس للاستغراق كما يتوهمون بل للعهد.
الثاني: سلمنا أنه للاستغراق ولكن ليس المراد به قطعا كل فرد من المسلمين ولو كان جاهلا، فلا بد إذن من أن يحمل على أهل العلم منهم. انتهى.
وقال الشيخ ابن باز في "مجموع فتاوى ومقالات متنوعة"الجزء الخامس في : "هذا الذي نقلته عن النووي في تقسيمه البدعة إلى خمسة أقسام قد ذكره جماعة من أهل العلم، وقالوا: إن البدعة تنقسم إلى أقسام خمسة: واجبة ومستحبة، ومباحة، محرمة، مكروهة. وذهب آخرون من أهل العلم إلى أن البدعة كلها ضلالة وليس فيها تقسيم بل كلها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ضلالة، قال عليه الصلاة والسلام: ((كل بدعة ضلالة)) هكذا جاءت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ومنها ما رواه مسلم في الصحيح عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة ويقول في خطبته: ((أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة)) وجاء في هذا المعنى عدة أحاديث من حديث عائشة ومن حديث العرباض بن سارية وأحاديث أخرى، وهذا هو الصواب، أنها لا تنقسم إلى هذه الأقسام التي ذكر النووي وغيره بل كلها ضلالة، والبدعة تكون في الدين لا في الأمور المباحة، كالتنوع في الطعام على وجه جديد لا يعرف في الزمن الأول، فهذا لا يسمى بدعة من حيث الشرع المطهر، وإن كان بدعة من حيث اللغة، فالبدعة في اللغة هي الشيء المحدث على غير مثال سبق، كما قال عز وجل: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}الب رة من الآية 117, يعني مبتدعها وموجدها على غير مثال سابق، لكن لا يقال في شيء أنه في الشرع المطهر بدعة إلا إذا كان محدثا لم يأت في الكتاب والسنة ما يدل على شرعيته، وهذا هو الحق الذي ارتضاه جماعة من أهل العلم وقرروه وردوا على من خالف ذلك.أما تأليف الكتب وتنظيم الأدلة في الرد على الملحدين وخصوم الإسلام فلا يسمى بدعة؛ لأن ذلك مما أمر به الله ورسوله وليست ذلك بدعة، فالقرآن الكريم جاء بالرد على أعداء الله وكشف شبههم بالآيات الواضحات، وجاءت السنة بذلك أيضا بالرد على خصوم الإسلام، وهكذا المسلمون من عهد الصحابة إلى عهدنا هذا. فهذا كله لا يسمى بدعة بل هو قيام بالواجب وجهاد في سبيل الله وليس ببدعة، وهكذا بناء المدارس والقناطر وغير هذا مما ينفع المسلمين لا يسمى بدعة من حيث الشرع؛ لأن الشرع أمر بالتعليم، فالمدارس تعين على التعليم، وكذلك الربط للفقراء؛ لأن الله أمر بالإحسان إلى الفقراء والمساكين، فإذا بني لهم مساكن وسميت ربطاً فهذا مما أمر الله به، وهكذا القناطر على الأنهار، كل هذا مما ينفع الناس وليس ببدعة، بل هو أمر مشروع، وتسميته بدعة إنما يكون من حيث اللغة؛ كما قال عمر رضي الله عنه في التراويح لما جمع الناس على إمام واحد وقال: (نعمت البدعة هذه)، مع أن التراويح سنة مؤكدة فعلها النبي صلى الله عليه وسلم وحث عليها ورغب فيها، فليست بدعة بل هي سنة، ولكن سماها عمر بدعة من حيث اللغة؛ لأنها فعلت على غير مثال سابق؛ لأنهم كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده يصلون أوزاعا في المسجد ليسوا على إمام واحد،هذا يصلي مع اثنين وهذا يصلي مع ثلاثة، وصلى بهم النبي عليه السلام ثلاث ليال ثم ترك وقال: ((إني أخشى أن تفرض عليكم صلاة الليل)) فتركها خوفا على أمته أن تفرض عليهم، فلما توفي صلى الله عليه وسلم أُمن ذلك، ولذا أمر بها عمر رضي الله عنه.
فالحاصل أن قيام رمضان سنة مؤكدة وليست بدعة من حيث الشرع. وبذلك يعلم أن كل ما أحدثه الناس في الدين مما لم يشرعه الله فإنه يسمى بدعة وهي بدعة ضلالة، ولا يجوز فعلها، ولا يجوز تقسيم البدع إلى واجب وإلى سنة وإلى مباح... إلخ؛ لأن ذلك خلاف الأدلة الشرعية الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم كما سبق إيضاح ذلك. والله ولي التوفيق" انتهى .
قال صاحب "معيار البدعة" : "وهذا الخلاف واقع قديماً بين أهل العلم في تقسيم البدعة إلى حسنة وقبيحة,وإلى أحكام التكليف الخمسة , وهو في ظني أشبه أن يكون لفظيا، إلا في بعض جوانب التطبيق, وذلك لاتفاق الجميع على أن هذا التقسيم إنما هو للبدعة اللغوية دون البدعة الشرعية ,وأن البدعة التي توصف بأنها حسنة إنما هي البدعة اللغوية. والبدعة في اللغة هي :الاختراع ومطلق الاحداث محموداً كان أو مذموماً,في الدين كان أو في غيره.
ولاتفاقهم أيضاً على ان البدعة الشرعية لا تنقسم إلى حسنة وسيئة بل إنها لا تكون إلا ضلالة , والبدعة شرعاً هي : الإحداث في الدين بغير دليل , فهي خاصة بالإحداث المذموم في الدين .
وبهذا يعلم ان كلاً من القولين إنما أراد من لفظ البدعة معنى غير الذي أراده القول الآخر , فلم يلتق القولان في محزٍّ واحد ولم يتوارد النفي والإثبات على محلٍ واحد.
إلا أنه قد ترتبت خاصة عند المتأخرين مفاسد جلية على إثبات البدعة الحسنة الناشىء عن القول بتقسيم البدعة اللغوية إلى حسنة وسيئة , وإلى أحكام التكليف الخمسة ولذا فإنه يشترط في في اعتبار هذا التقسيم أمراً لفظياً أن يسلم من تلك المفاسد .
وبهذا يمكن أن يكون الخلاف في تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة , وإلى أحكام التكليف الخمسة خلافاً معنوياً , وذلك متى اقترن بهذا التقسيم ولزم منه شيء من المفاسد...".
فهذا العز بن عبد السلام وهو من أشهر من قال بتقسيم البدعة إلى حسنة و سيئة يقول في كتابه "الفتاوى" (ص392) : ( ولا يستحب رفع اليد في القنوت كما لا ترفع في دعاء الفاتحة، ولا في الدعاء بين السجدتين، ولم يصح في ذلك حديث، وكذلك لا ترفع اليدان في دعاء التشهد؛ ولا يستحب رفع اليدين في الدعاء إلا في المواطن التي رفع فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، ولا يمسح وجهه بيديه عقيب الدعاء إلا جاهل، ولم تصح الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في القنوت، ولا ينبغي أن يزاد على صلاة رسول الله في القنوت بشيء ولا ينقص) اهـ.
وقال في"الترغيب عن صلاة الرغائب الموضوعة"(ص7- 8) : ( فإن الشريعة لم ترِد بالتقرب إلى الله تعالى بسجدةٍ منفردةٍ لا سبب لها، فإن القرب لها أسباب، وشرائط، وأوقات، وأركان، لا تصح بدونها.فكما لا يتقرب إلى الله تعالى بالوقوف بعرفة ومزدلفة ورمي الجمار، والسعي بين الصفا والمروة من غير نسكٍ واقعٍ في وقته بأسبابه وشرائطه؛فكذلك لا يتقرب إليه بسجدةٍ منفردةٍ، وإن كانت قربةً، إذا لم يكن لها سبب صحيح.
وكذلك لا يتقرب إلى الله عز وجل بالصلاة والصيام في كل وقتٍ وأوانٍ، وربما تقرب الجاهلون إلى الله تعالى بما هو مبعد عنه، من حيث لا يشعرون) اهـ.
وقال أيضاً العز بن عبد السلام كما في "فتاوى العز بن عبد السلام" (ص289) : ( ومن فعل طـاعة لله تعالى، ثم أهدى ثوابها إلى حي؛ أو ميت لم ينتقل ثوابها إليه إذ ( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ) النجم:39 فإن شرع في الطاعة ناوياً أن يقع عن ميت لم يقع عنه إلا فيما استثناه الشرع كالصدقة:والصوم، والحج) انتهى كلامه.
وهذا الحافظ ابن حجر رحمه الله نقل تقسيم العز اِبْن عَبْد السَّلَام : فِي أَوَاخِر " الْقَوَاعِد " الْبِدْعَة خَمْسَة أَقْسَام ....
ولكنه يقول (في باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم) : و" الْمُحْدَثَات " بِفَتْحِ الدَّالّ جَمْع مُحْدَثَة وَالْمُرَاد بِهَا مَا أُحْدِث ، وَلَيْسَ لَهُ أَصْل فِي الشَّرْع وَيُسَمَّى فِي عُرْف الشَّرْع "بِدْعَة " وَمَا كَانَ لَهُ أَصْل يَدُلّ عَلَيْهِ الشَّرْع فَلَيْسَ بِبِدْعَةٍ ، فَالْبِدْعَة فِي عُرْف الشَّرْع مَذْمُومَة بِخِلَافِ اللُّغَة فَإِنَّ كُلّ شَيْء أُحْدِث عَلَى غَيْر مِثَال يُسَمَّى بِدْعَة سَوَاء كَانَ مَحْمُودًا أَوْ مَذْمُومًا" فتح الباري
وقال ( في باب ما يكره من التعمق والتنازع) وَأَمَّا " الْبِدَع " فَهُوَ جَمْع بِدْعَة وَهِيَ كُلّ شَيْء لَيْسَ لَهُ مِثَال تَقَدَّمَ فَيَشْمَل لُغَة مَا يُحْمَد وَيُذَمّ ، وَيَخْتَصّ فِي عُرْف أَهْل الشَّرْع بِمَا يُذَمّ وَإِنْ وَرَدَتْ فِي الْمَحْمُود فَعَلَى مَعْنَاهَا اللُّغَوِيّ." فتح الباري
وقال الحافظ ابن حجر العسقلانيُّ رحمه الله: «قوله: «كلَّ بدعة ضلالة(قاعدة شرعيَّة كليَّة بمنطوقها ومفهومها، أمَّا منطوقها فكأن يقال: حكم كذا بدعة، وكلُّ بدعة ضلالة، فلا تكن من الشَّرع؛ لأنّ الشَّرعَ كلَّه هدى، فإن ثبت أنَّ الحكم المذكور بدعة صحَّت المقدِّمتان، وأنتجتا المطلوب) انتهى .
وقال الحافظ ابن رجب في شرحه ( والمراد بالبدعة ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه ،وأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه ،فليس ببدعة شرعا ،وان كان بدعة لغة ) .
وإنما تكون البدعة الموصوفة بالضلالة فيما كان من الأمور التعبدية التي يتقرب بها إلى الله ، وأما العادات التي لا تشوبها عبادة والأمور الدنيوية فلا مدخل لها في باب البدعة ولذلك يجوز الإنتفاع في كل مايحقق مصلحة دينية أو دنيوية من صناعات الكفار وآلاتهم التي ليست من خصائصهم كما ثبت ذلك من هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتصرفاته في أمور المعاش وشؤون الحرب وسياسة الخلق ، والأصل في العبادات التوقيف إلا ما دل الشرع على فعله والأصل في العادات الحل إلا ما دل الشرع على منعه , قال شيخ الإسلام في "الإقتضاء " 2/ 86: "ولهذا كان الأصل الذي بنى الإمام أحمد وغيره من الأئمة عليه مذاهبهم أن أعمال الخلق تنقسم إلى: عبادات يتخذونها دينا ينتفعون بها في الآخرة أو في الدنيا والآخرة . وإلى عادات ينتفعون بها إلى معايشهم. فالأصل في العبادات أن لا يشرع منها إلا ماشرعه الله. والأصل في العادات أن لا يحظر منها إلا ما حظره الله".
وأما اتخاذ عمر رضي الله عنه الديوان والسجون وقتل الجماعة بالواحد , وجمع عثمان رضي الله عنه القرآن , وبناء المسلمين المدارس , ونحو ذلك : فليس من هذا الباب ألبتة, وإنما هو من المصالح المرسلة , والمصلحة المرسلة تكون في الوسائل , ولا يقصد التعبد بها وقد دل الشرع على اعتبار جنسها وليس فيها مخالفة للشرع ولا منافاة لمقاصده , ولم يقم المقتضي من هذه الأعمال في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وأما البدعة فتكون في الأمور التعبدية ويقصد بها التقرب إلى الله وليس لها أصل في الشرع , وبهذا يتضّح الفرق بين المصلحة المرسلة والبدعة .
ولا مانع من توضيح ما هو المقصود بالصلحة المرسلة , فأقول : المصلحة المرسلة : وهي التي لم يرد في اعتبارها أو إبطالها دليل خاص من الشرع ، لكنها لم تخل من دليل عام كلي يدل عليها ، بل تستند إلى مقاصد الشريعة
وسميت مرسلة لإرسالها أي: إطلاقها عن دليل خاص يقيد ذلك الوصف بالاعتبار أو بالإهدار , فالمصلحة المرسلة: وسيلة لتحقيق المقاصد , وأما البدعة :فتكون في مقاصد الشريعة نفسها , وقد وضع العلماء ضوابط للعمل بالمصلحة المرسلة وهي :
أولاً : أن تكون ضرورية أي مبنية على الضرورات الست أي تكون مصلحة حقيقية تندرج تحت قاعدة كلية من قواعد التشريع ، وتحقق فعلاً مصلحة شرعية لحفظ الدين ، أو النفس ، أو العقل ، أو العرض ، أو النسب ، أو المال ، وترتيب المصالح التي ينبغي أن تراعى يكون أولها الدين وثانيها النفس وهكذا ، فأول المصالح التي تراعى مصلحة الدين ومن ثم النفس فالأمر الذي يحقق مصلحة دينية ويحفظ للناس دينهم يعمل به ولو أضر بالأرواح فحفظ الدين أولى ، ولتفصيل هذا انظر "الموافقات" 2/ 29 للشاطبي.
فجمع القرآن في مصحف واحد لمصلحة حفظ الدين وهي مشروعة، وقتل الجماعة بالواحد لمصلحة حفظ النفس وهي مشروعة وهكذا في جميع الضروريات الست .
ثانياً : أن تكون كلية أي مصلحتها قائمة لجميع المسلمين أو لأغلبهم في واقعة معينة على الأقل .
ثالثاً: أن تكون قطعية أي لا تكون هذه المصلحة معارضة لنص شرعي أو إجماع أو قياس لأنه لا مصلحة قط في مخالفة أمر الله ونهيه .
رابعاً : أن لا يفضي الأخذ بهذه المصلحة إلى حصول مضرة مساوية لها أو زائدة عنها لأن هذا يكون عبثاً وضرراً ، فالمصلحة التي تؤدي إلى مضار مساوية أو زائدة لا شك أنها مصلحة ملغاة .
خامساً : ألا تكون مفوّتة لمصلحة أعظم منها لأن السياسة الشرعية تقتضي تحصيل أعظم المنفعتين ، فلو كنا أمام منفعتين لا سبيل إلا لتحصيل واحدة منهما ، وجب أن نأخذ بأعظم المنفعتين وأكبر المصلحتين .
وجاء في الشريعة اعتبار المصالح المرسلة , فقد جاء في كتاب الله تعالى اعتراضُ موسى عليه الصلاة والسلام على الخضر عليه السلام , فلما نبَّأه بتأويلها وبين له ما قصده فيها من المصلحة سلَّم له .
قال شيخ الإسلام " … ما فعله الخضر لم يكن مخالفا لشريعة موسى عليه السلام ، وموسى لم يكن عَلِمَ الأسباب التي تبيح ذلك ، فلما بينها له وافقه على ذلك ؛ فإنَّ خَرْقَ السفينة ثم ترقيعها لمصلحة أهلها خوفا من الظالم أن يأخذها إحسان إليهم وذلك جائز ، وقتل الصائل جائز وان كان صغيرا ، ومن كان تكفيره لأبويه لا يندفع إلا بقتله جاز قتله … " .
وقال في موضع آخر : " … قصة الخضر مع موسى لم تكن مخالفة لشرع الله وأمره ، … بل ما فعله الخضر هو مأمور به في الشرع بشرط أن يعلم من مصلحته ما علمه الخضر ؛ فإنَّه لم يفعل محرما مطلقا ، ولكن خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار ؛ فان إتلاف بعض المال لصلاح أكثره هو أمر مشروع دائما وكذلك قتل الإنسان الصائل لحفظ دين غيره أمر مشروع … فهذه القضية تدل على أنَّه يكون من الأمور ما ظاهره فساد ؛ فيحرِّمه من لم يعرف الحكمة التي لأجلها فعل ، وهو مباح في الشرع باطناً وظاهراً لمن علم ما فيه من الحكمة التي توجب حسنه وإباحته " .
ومن السنة أدلَّة ، منها : تولي خالد بن الوليد رضي الله عنه إمرة المسلمين في غزوة مؤتة بعد استشهاد الأمراء ، مع أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يؤمِّره فيها ؛ وإنما مستنده في ذلك المصلحة الشرعية ؛ إذ كانت تقتضي وجود قيادة للجيش ، وليس ثمت نص يُرجع إليه , وقد أثنى عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع ذكره تأمُّرَه من غير تأمير منه .
وأمَّا الإجماع ؛ فقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم إجماعاً سكوتياً على العمل بالمصالح المرسلة وهذا من سبيل المؤمنين ، مثاله : جمع المصحف ( كما عند البخاري ) ؛ وعهد أبي بكر بالخلافة إلى عمر رضي الله عنهما (وهو في الصحيحين ) ؛ وتدوين الدواوين ( وهو في الموطأ والطبقات الكبرى وغيرها ) , وقتل الجماعة بالواحد ( كما في "الموطأ" وابن أبي شيبة بإسناد صحيح : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قتل سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلا ، وقال :" لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم
جميعا" ) , وعقوبة شارب الخمر بثمانين ( وهو في الصحيحين ) .


وكتب

أبو سامي العبدان
حسن التمام
9 ربيع الآخر 1437 من هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم