اسم الكتاب: فيزياء الكوانتم: حقيقة أم خيال؟تأليف: أليستر رايترجمة: أسامة عباسالطبعة الأولى: 2016م - 1437هـ
عدد الصفحات: 282
----------------------------------
هم أعلم!
لمَّا كان العلم قوَّة كانت أعلى مظاهر الحضارة منابر العلم، فاستغلَّ ذلك الداعون لأيديولوجيَّاته م بصنع منابر مزخرفة بالتَّظاهر والتعالي. فأدخل هؤلاء الفيزياء في معركة الفلسفة، مع أنَّ الفيزياء علم لم يحسم كلمته النهائية بعد في قضايا كثيرة، فإنَّ الفيزياء المعاصرة كلَّها وصلت من عقود إلى حدود غير مرئيَّة تُذهل العلماء إلى الآن فيما لا يقتدرون على تفسيره. ومع أنَّ مجال الفلسفة أوسع من ضيق التَّجارب وما نصل إليه من علاقات فيزيائيَّة تحقيقًا أو فرضًا.
والملاحظ أنَّ من الفيزيائيين من يخوض في تفسير وجود العالم بناء على نظر فيزيائيٍّ منقطع عن النَظر المنطقيِّ، لقلة اكتراث أو لعدم التَّصديق بالحقيقة المنطقيَّة! مع أنَّ ثبوت الفيزياء فرع ثبوت المنطق، فإنَّ أيَّ علاقة فيزيائيَّة لا تكون صحيحة إلا بثبوت طرفيها وثبوت النسبة بينهما، فلو اختلَّ الحكم المنطقيُّ اختلَّت العلاقة الفيزيائيَّة نفسها.

وليت المشكلة في الفيزياء منحصرة في اختلاف التفسير، بل هي قد أُقحمت في تدعيم نظريات بل فرضيّات للوصول إلى أهداف معيَّنة واضحة، فلا تكون الفيزياء مطلوبة لرفع العلميَّة الإنسانيَّة، بل تكون مطيَّة براغماتيَّة لتحقيق مصالح بعض النَّاس.

وللأسف الشديد فإنَّ الواقع في هذا العصر يشهد دعمًا كبيرًا لأيديولوجيا الإلحاد بدعاية هائلة، فتجعل هذه الأيديولوجيا كأنَّها هي العلميَّة الوحيدة، وأنَّ كلَّ ما يخالفها لا يستحقُّ أن يُنظر إليه.

وإنَّ من توابع هذا المناخ المغشوش دعائيًّا في منطقتنا العربيَّة اهتزاز ثقة الإنسان بعلمه ودينه في مقابل تلك الموجة الكبيرة الظاهرة باسم العلم، فيقول أحدنا: هم أعلم بالعلوم الطَّبيعيَّة، فهم أقدر على الوصول إلى الحقائق المعرفيَّة والوجوديَّة. فيقع الفارغ في حبالهم جهلًا بطريقتهم ظالمًا لنفسه. ذات الإِشكال المنطقي المغلوط الذي لاحظه الغزالي في تهافته عند فلاسفة المسلمين المتأثرين بالفلسفة اليونانية.
فلذلك يجب على من نظره -نصرًا للحقِّ- أن يتعاون مع غيره في بيان الصحيح من الزائف ممَّا يُسمَّى علمًا، وما يكون له مدخليَّ في النَّظر الفلسفيِّ وما لا يكون. وما يكون من باب إحقاق حكم أو جهل بحكم.

وهذه مهمتنا جميعًا، مهمة مجابهة الجهل الذي يظهر علمًا بالعلم الحقيقيِّ، لا بمعطيات فيزيائيَّة فقط، بل بنظر منطقيٍّ عقلانيِّ صحيح تكون مادَّته العلوم الفيزيائيَّة ليخوض فيها ويفسرها تفسيرًا منطقيًا صحيحًا ويبني عليها للتقدُّم بالبشريَّة.

من هنا وقع الاختيار على الكتاب الحالي ليقف القارئ على جملة من التصورات التي من شأنها أن تعينه في تحقيق فهم أفضل لأبجديات التعاطي مع فيزياء الكوانتم قبل الجزم بشيء من قضاياها أو البناء عليها في الحكم نفيًا وإثباتًا.

----------------------------------
لماذا هذا الكتاب؟!
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
ففي بداية القرن العشرين ولدت نظرية فيزياء الكوانتم لحل إشكاليات لم تستطع الفيزياء الكلاسيكية تقديم إجابات لها، ومازال هذا التقدم الفريد في مسيرة الفيزياء غامضًا، لصعوبته من جهة، ولأنه ما زال في طور البناء من جهة أخرى. في تقديمه لكتاب (ست قطع سهلة) لـ (ريتشارد فاينمان)، يقول الفيزيائي (بول ديفيز): "ليس من المبالغة القول بأن ميكانيكا الكوانتم قد هيمنت على فيزياء القرن الحادي والعشرين، وأنها إلى حد بعيد أنجح نظرية علمية في الوجود".(1)

هذه الحقيقة وحدها كافية لتأكيد أهمية نقل هذا الكتاب إلى العربية. غير أن تشابك العلوم وتداخل المعارف يضطرنا لذكر أهمية أخرى، ألا وهي توظيفات مخرجات العلم الطبيعي في السجال الفلسفي أو اللاهوتي، وهذا يحتم على المشارك في هذه السجالات الإلمام بطبيعة الأفكار المستعملة في سجالات مماثلة، كذلك بطبيعة اللغة التي تحكم مضامينها وإطاراتها. إن فيزياء الكوانتم، كغيرها من النظريات التي كتب لها الاستقرار والانتشار، لها لُبٌ صلب يحوطه إطارٌ مرن؛ أما اللب الصلب فهو الجزء الثابت تجريبيّا، ذلك الجزء الذي لا يختلف عليه اثنان علميّا، مثل وقوع الطفرات (التغيرات) الجينية، فلا ينكر وجودها إلا جاهل أو مكابر. أما الإطار المرن فهو المستوى التأويلي الفلسفي أو (القراءة الميتافيزيقية) لما يزيد عن اللب الصلب أو يتجاوزه. وهو معترك للخلافات ومحل لنزاعات شتى، بما في ذلك صور النزاع الديني الإلحادي حول ما يمكن أن تدل عليه معطيات العلم في ذلك المستوى تحديدا. ونظرًا لافتقار المكتبة العربية الإسلامية لما يعين في ترسُّم سمات هذا النزاع الثلاثي الأطراف (العلم الطبيعي، الدين، الإلحاد)، ونظرًا لمركزية الجدل حول فيزياء الكوانتم في نزاع كهذا، وقع اختيار (مركز براهين) على هذا الكتاب المميز، مساهمة منه في سد تلك الحاجة، وإيمانًا بأن الحكم السديد على الأمور لابد أن يستند إلى تصور صحيح لواقع ما يجري. يجدر بنا التأكيد على أن فيزياء الكوانتم لم تسلم من الاختطاف والاعتساف، لتتحول في كثير من الأحيان إلى ضرب من العبث بالعلم الصحيح نفسه، وفي أحايين أخرى إلى نوع من المجون الفكري الفارغ. ولو لم يكن من مثال يذكر على ذلك إلا دعوى انتحار قانون أو مفهوم (السببية) على أعتاب فيزياء (الكوانتم) لكفى به دليلًا على مستوى الانحطاط الفلسفي الذي وصل إليه العقل الإلحادي.
على أننا لا نعفي أو نبرّئ الخطاب الديني أيضًا من المشاركة في ليِّ أعناق النصوص الشرعية، تارة لتوافق المشكوك فيه من هذا العلم، أو تسليط المشكوك فيه من هذا العلم على النصوص الشرعية، مناوئةً للمخالف، أو ربما تأليفًا لقلبه واستدرارًا لودّه. وفي كل هذا إضرار بالمحكم الصحيح من الدين والعلم معا. لقد أحسن فيلسوف الوعي (كن والبر) حين قال ذات مرة: "يوجد علم زائف مثلما يوجد دين زائف، والمعركة ذات الشأن فعلاً هي التي تنشب بين ما هو حق وزائف منهما، لا بين جنس العلم والدين".(2)
ختامًا، نحمد الله تعالى أن يسّر إنجاز هذا العمل، وأدعو الله لإخوتي في (مركز براهين) أن يثيبهم على سعيهم وصبرهم، خاصة أخي مترجم هذا الكتاب، الأستاذ الفاضل/ أسامة عباس، فقد اجتهد فأحسن في الترجمة وأجاد في التعليقات، والكمال لله وحده، والحمد لله رب العالمين.
عبد الله بن سعيد الشهري
رئيس مجلس إدارة مركز براهين


(1) Feynman, R. (2011) Six Easy Pieces, Basic Books, p. 15.
(2) Wilber, K. (2001) Of Shadows and Symbols. In Wilber, K. (Ed.) Quantum Questions: Mystical Writings of the World's Greatest Physicists, p.20.




http://www.braheen.com/center-public...0-qp-ior-intro