بارك الله في الإخوان هذا نص ما قاله الأستاذ محمود شاكر رحمه الله في بيان هذه المسألة: "وعبد القاهر حكم حكما لم يبين لنا مأتاه ولا تفصيله حين قال: إن المعنى الذى جاء فى كلام سيبويه هو قولهم:"والفعل ينقسم بأقسام الزمان:ماض وحاضر ومستقبل" ثم قال:"وليس يخفى ضعف هذا فى جنبه وقصوره عنه"، ولم يزد على هذا شيئا. وقبل كل شئ فهذا الذى استضعفه الى جنب كلام سيبويه، إنما هو نص كلام أستاذه وإمامه الذى يغالى فى أستاذيته ويقدمه تقديما على سائر النحاة، أبى على الفارسى فى كتابه"الإيضاح" فى النحو، والذى عنى هو نفسه بشرحه شرحين:أحدهما كتاب "المغنى" وهو شرح مطول فى ثلاثين مجلدة، والآخر هو"المقتصد" وهو مختصر منه فى مجلدتين ولم أجد عبد القاهر فى المقتصد تعرض لنقد حد شيخه الفارسى ولا بين لنا عن وجه ضعفه أو قصوره، ووجدته صعبا عسيرا أن يدرك القارئ مأتى هذا الحكم وإن كان عبد القاهر قد قال إنه"ليس بخفى"، مع أنه خفى بلا شك فى خفائه. فرأيته واجبا أن أجتهد اجتهادا فى بيان مأتى هذا الحكم لكى يتضح لك معناه فى كلام عبد القاهر.(*). فسيبويه حين حد"الفعل" فى أول كتابه لم يرد أمثلته التى هى عندنا: فعل ماض نحو"ذهب" ومضارع نحو"يذهب" وأمر نحو"اذهب" بل أراد بيان الأزمنة التى تقترن بهذه الأمثلة كيف هى فى لسان العرب فجعلها ثلاثة أزمنة: فالزمن الأول هو المقترن بالفعل الماضى الذى يدل علي فعل وقع قبل زمن الإخبار به كقولك:"ذهب الرجل" ولكن يخرج منه الفعل الذى هو على مثال الماضى أيضا ولكنه لا يدل على وقوع الحدث فى الزمن الماضى نحو قولك فى الدعاء:"غفر الله لك" فإنه يدخل فى الزمن الثانى كما سأبينه بعد. وأما الزمن الثانى فهو الذى عبر عنه سيبويه بقوله بعد ذلك:"وما يكون ولم يقع" وذلك حين تقول آمرا:"اخرج" فهو مقترن بزمن مبهم مطلق معلق لا يدل على حاضر ولا مستقبل لأنه لم يقع بعد خروج ولكنه كائن عند نفاذ "الخروج" من المأمور به= ومثله النهى حين تقول ناهيا:"لا تخرج" فهو أيضا فى زمن مبهم مطلق معلق وإن كان على مثال الفعل المضارع فقد سلب الدلالة على الحاضر والمستقبل لأنه لم يقع ولكنه كائن بامتناع الذى نهى عن الخروج= ومثله أيضا فى مثال المضارع فى قولنا:"قاتل النفس يقتل، والزانى المحصن يرجم" فهما مثالان مضارعان ولا يدلان على حاضر ولا مستقبل وإنما هما خبران عن حكم ولم يقعا عند الإخبار بهما فهما فى زمن مبهم مطلق معلق وهما كائنان لحدوث القتل من القاتل عند القصاص وحدوث الزنا من الزانى المحصن عند إنفاذ الرجم= ويدخل فى هذا الزمن أيضا نحو قولك:"غفر الله لك" فى الدعاء وهو على مثال الماضى فإنك لا تريد إخبارا عن غفران مضى من الله سبحانه ولكن تريد غفرانا من الله يكون، ولكنه لم يقع بعد وترجو بالدعاء أن يقع. وأما الزمن الثالث فهوالذى أخبر عنه سيبويه بقوله:"وما هو كائن لم ينقطع" فإنه خبر عن حدث كائن حين تخبر عنه كقولك:"محمد يضرب ولده" فإنه خبر عن ضرب كائن حين أخبرت فى الحال ولم ينقطع الضرب بعد مضى الحال الى الاستقبال= ويلحق بهذا الزمن الثالث أيضا مثال الفعل الماضى كقوله تعالى:"وكان الله غفورا رحيما" فهو خبر عن مغفرة كانت ولا أول لها وهى كائنة أبدا لا انقطاع لها لأنها من صفات الله سبحانه هو الأول والآخر.
وبهذا البيان الموجز الذى أرجو أن أكون قد وفقت فى بيانه يتبين لك صدق عبد القاهر= بلا إبانة كانت منه = فى الحكم على عبارة أبى على الفارسى بالقصور والضعف بجانب عبارة سيبويه الجامعة المانعة فإن أبا على الفارسى مع نصه فى عبارته على أقسام الزمان حيث قال:"والفعل ينقسم بانقسام الزمان: ماض وحاضر ومستقبل" فإنه أسقط الزمن الثانى كله وهو الزمن المبهم المطلق المعلق الذى دلت عليه عبارة سيبويه وكذلك فعل سائر النحاة فقد أسقطوا هذا الزمن إسقاطا كاملا ولم يعنوا به أى عناية فى حد"الفعل" فلم يذكروا بأى زمن يقترن فعل الأمر والنهى= ولم يذكروا اقتران هذا الزمن الثانى بالفعل المضارع= ولا اقترانه بالفعل الماضى= ولا اقترانه بالفعل الماضى أيضا فى الدعاء= ولم يذكروا فى حدهم هذا دخول الفعل الماضى فى الزمن الثالث زمن الفعل المضارع فى الحال والاستقبال كما مثلت. فأنت تراه عيانا الآن أن سيبويه قد استطاع فى جملة قصيرة لا تتجاوز سطرا واحدا استطاع أن يلم بجميع الأزمنة المقترنة بأمثلة الفعل دون أن يخل بشئ منها فهى جملة محكية شديدة الإحكام عجز النحاة من بعده أن يلموا بها فى حدودهم التى كتبوها عن حد الفعل فأى رجل مبين كان سيبويه.
وأقول أنا: كان سيبويه رحمه الله حين كتب هذه العبارة وأمثالها فى كتابه فى قمة الصفاء وفى ذروة اليقظة تسمو به أنبل عاطفة من الوفاء لشيخه الخليل بن أحمدالفراهيدى (المتوفى سنة 175 أو قبلها) والذى مات ولم يجمع علمه المستفيض فى كتاب جامع فبعد موت الخليل=كما حدثنا بن على بن نصر بن على الجهضمى رواية عن أبيه= أن سيبويه لقى أباه على بن نصر بن على الجهضمى(المتوفى سنة 187) وهو قرين سيبويه فى الأخذ عن الخليل والاختصاص به فقال له سيبويه: "يا على تعال نتعاون على إحياء علم الخليل"=فتقاعس على(أى تأخر ولم يتقدم) وخذل سيبويه فيما أراده فحمى قلب سيبويه وعزم على أن ينفرد بإيحاء علم الخليل فانبرى بكل ما فى قلبه من الديانة والأمانة والحب والاخلاص مستقلا وحده بالعبء وحلق وحده كالعقاب فى جو العربية يجلى بعينيه النافذتين كل علم الخليل وغير الخليل وكل أساليب العربية وينقض على المعانى بضبط وإحكام كإحكام العقاب الصيود بكل ما فى قلبه من القدرة على الإبانة والقدرة على الاستبانة وهذا ظاهر جلى لمن يقرأ كتاب سيبويه بتذوق وتأمل وأناة ولكن أين هذا القارئ فمن أجل ذلك كان كتاب سيبويه بحرا زخارا لم يبلغ مبلغه فى الجودة والبيان عن معانى النحو نحوى واحد ممن جاء بعده وعب من عبابه وحق لعبد القاهر الإمام أن يجرى عليه مذهبه فى قضية"اللفظ والنظم" وأن يختار من عبارته عبارة مبينة جامعة ويجعلها قرينة لأشرف العبارات المبينة فى شعر الشعراء وفى كلام البلغاء كعلى رضى الله عنه والحسن البصرى رحمه الله.
رسالة في الطريق إلى ثقافتنا.
لم أنسخ كلام الأستاذ وإنما نقلته من منتدى آخر.