حكم الأشعة المقطعية


سألني أحد طُّلابي من الهند عن حكم الأشعة المقطعية التي يُشخَّص بها المرضى في المستشفيات والمراكز الطبية الحكومية والخاصة .
والأشعة المقطعية رغم فوائدها العديدة في تشخيص الأمراض الغامضة والخفية وتحديد نسبة الكسور والإصابات في الحوادث ، وكذلك الإستعانة بها في مراقبة المسافرين في المطارات والمنافذ وبعض نقاط التفتيش .
إلا أن البحوث الطبية في أمريكا وأوروبا أكَّدت تسبُّبها في إنهاك خلايا الجسم وتسبُّبها في حدوث أمراض السرطان وإتلاف الحمض النووي للمريض وبعض الأمراض الخطيرة الأخرى للجهاز العصبي .
لكن يجب الإقرار بأن تلك البحوث ليست ذات مصداقية مطلقة ، فهي تخضع لأغراض سياسية أو تجارية أو طبقية.
فيجب تقييِّمها تقييِّماً صحيحاً من جهات إشرافية محايدة ، وإلا فلا وزن لها .
والمقصود بالأشعة المقطعية : الأشعة السينية وهي أشعة مؤينة مؤذية للنسج الحية ، تُستخدم في الصور الشعاعية ودراسات الطبقي المحوري على حدِّ سواء .

وهي تختلف عن أشعة الرنين المغناطيسي التي هي عبارة عن أمواج كهرومغناطيسية لا تؤذي الأنسجة الحية إطلاقاً ، وفي نفس الوقت تعطي دقة عالية في التشخيص العلاجي .
تتميز الأشعة المقطعية بالكمبيوتر، والمعروفة باللغة الإنجليزية (CT scan) أوCAT بسقوط شعاع ضيق من الأشعة خلال الجسم ليتم التقاطها، ثم يقوم الكمبيوتر بتحليل المعلومات لتشكيل صورة أفقية يمكن تخزينها ووضعها على الشاشة، وكذلك حفظها كمادة فلمية .
بالإضافة إلى ما تقدَّم، يمكن عمل صورة ثلاثية الأبعاد بمجموع الصور الفردية المتتالية .
وقد أفاد الباحثون أن البعض يعتقد أن كمية الأشعة التي تدخل إلى الجسم نتيجة عمل الأشعة المقطعية ضئيلة وغير ضارة، إلا أن الأدلة المخبرية على تأثيرات التعرض لتلك الأشعة المتكررة، مما تمَّت ملاحظته على من بقوا على قيد الحياة بعد التعرض لإشعاعات القنبلة النووية، تُظهر ارتفاع نسبة الإصابة بالسرطان بينهم على المدى المتوسط والبعيد .

واستشرفت الدراسات الطبية البحثية أن يكون سبب 2% من جميع حالات السرطان مستقبلاً، هو تعرُّضهم لإشعاعات فحوصات الأشعة المقطعية . واقترحوا إما أن يتم تقليل تعرض الجسم لجرعة الأشعة المستخدمة في إجراء الأشعة المقطعية، أو الإستعاضة عنها إن أمكن بأنواع أخرى من الفحوصات ، كالأشعة الصوتية أو الرنين المغناطيسي، أو تقليل إجراء فحوصات الأشعة المقطعية.
التكييِّف الُأصولي والفقهي لهذه المسألة يدور حول تقييِّم السبب ودرجاته بالنسبة للمكلَّف .
والسبب كما هو معروف عند الأصوليين ليس مؤثِّراً في وجود الحكم إنما هو علامة عليه . وقد ذكر حدَّه الإمام الغزالي (ت: 505هـ ) رحمه الله تعالى فقال: ما يحصل الشي عنده لا به.
والأشعة المقطعية سبب لمعرفة الأمراض وتحديد كُنهها وأوصافها .

ومعلوم أن الأسباب بالنسبة للمكلَّف مقدور عليها وغير مقدور عليها . وهي منقسمة إلى أسباب مباحة ومحرمة ومكروهة ومأمور بها .
السبب إذا كان يُؤدِّي إلى مفسدة أو خلل في حفظ الحياة أو النفس ، كاستعمال الأشعة الضارة أو التعرُّض المستمر لها ، فإنه يكون منهياً عنه ، وقد يأثم من يُباشره أو يُجبر نفسه على استعماله من غير ضرورة مُلحَّة .

فإذا كانت الأشعة المقطعية مُضرَّة ضرراً بالغا مؤكَّداً ، فيحرم مباشرة هذا السبب ، حفظاً للنفس والبدن .
وإذا كانت الأشعة المقطعية مُضرة ضرراً متوسطاً، فيكره مباشرة هذا السبب .
وإذا كانت الأشعة المقطعية مُضرة ضرراً ضئيلاً، فيباح مباشرة هذا السبب .
هذا من حيث التقعيد الأصولي لهذه المسألة .

أما من حيث التقعيد الفقهي فلا يخفى أن من شكَّ في أمرٍ من الوسائل فيجب عليه الإحتياط لإبراء الذمة ، فلا ضرر ولا ضرار .
وهناك خلط واضح عند بعض المرضى والأطباء بين الضرورة والمشقة .
فالضرورة هي وقوع مفسدة راجحة على البدن كُّله أو بعضه ، وبعض الفقهاء يصفون الضرورة بما يكون سبباً للتلف والهلاك . بينما المشقة هي جهد وعُسر خارجان عن حدِّ العادة في الإحتمال ، يؤذيان البدن ولا يُفسدانه كله أو بعضه . والرخصة مناسبة للمشقة في نصِّ الشرع وعرف الناس .
والضرر محرم لا يجوز أن يمكَّن على النفس من الإنسان نفسه أو من غيره .
بل إن من قواعد الشريعة أن العبادة إذا كانت تُوجب للعابد ضرراً يمنعه من فعل الواجب فإنها تكون في حَقِّه محرمة .

من الأخطاء الشائعة في مثل هذه المسائل إسناد الفُتيا فيها إلى الأطباء ، فالأطباء منقسمون بينهم في تحديد المشقة والضرورة ، بل إن بعضهم يغضب إذا علم أن المريض أجرى فحصاً بالأشعة المقطعية قبل استشارة ثلاثة أطباء حاذقين .
فالصواب استشارة أهل الخبرة والتجربة مع وجوب الإستئناس برأي الشرع وأهل الفقه قبل استعمال هذه الأجهزة الطبية التي تَرجَّح ضررها في كثير من الحالات ، كما أكَّدته البراهين والبحوث الطبية والعلمية .
وقد ذكر لي أحد الأطباء مِمَّن ناقشته في هذا الموضوع أنه يوجد في العُرف الطبي ما يُسمَّى بقانون النِّسبتين عند الإختلاف الطبي: وهو حاصل طرح نسبة الضرر المتوقع من نسبة المنفعة المتوقَّعة ، وتقدير النسبة الفعلية .
فقلت له إن هذا القانون مأخوذ من الإجتهاد الفقهي والأصولي وهو غلبة الظن . وله أصلٌ في السنة كما في حديث الخصمين بعضهما ألحن من بعض ، فيكون القضاء على نحو ما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم . متفق عليه .
وقد رقم الإمام المقري (ت:759هـ)رحمه الله تعالى في قواعده معنى لمذهب الإمام مالك (ت: 179هـ) رحمه الله تعالى :” الغالب مساوٍ للمحقَّق في الحُكم ” .
والمقصود أن الأدوات الطبية إذا كان لها ضرر بالغ أو متوسِّط مع فوائد راجحة أو محتملة ، فيجب عدم مباشرتها أو استعمالها عملاً بقاعدة الضرر يُزال .


هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
1437/3/7

حسابي على تويتر
twitter.com/mourad_22_