حول خُرافة القراءة السريعة
............
لا يبدأ العلم إلا بنقد الخُرافات.. هذه الخُرافات التي تُزينها آمالنا وتطلعاتنا، ليست المادية فحسب، بل الفكرية أيضًا، فالإنسان بطبعه يميل إلى الكسل والدعة والراحة، ويتطلع لبلوغ الأماني بأقل جُهد ممكن، وقد انعكس هذا ليس على حياته المادية فقط، بل وأيضًا الفكرية، بل يظهر هذا الطبع كأظهر ما يكون في هذا الجانب الأخير، فالرغبة الشديدة في جمع أكبر قدر ممكن من الأفكار، واكتساب أوسع مساحة ممكنة من الثقافة، بأقل جُهد وفي أقل وقت، جعلته يبتكر أساليب مُبْتَذلة لاكتساب المعرفة، لكنها معرفة مُزيفة تكشفها الأيام.


ولعل من أهم هذه الأدوات الخادعة لاكتساب المعرفة (القراءة السريعة)، فكثُر الترويج لها ولأهميتها الثقافية، بل أصبح الحصول على الثقافة الجيدة رهن عدد الكلمات التي يستطيع القارئ أن يُنجزها في الدقيقة الواحدة، ولا نتكلم عن 200 أو 250 أو حتى 300 كلمة في الدقيقة، بل عن مُعدل يتراوح ما بين 500 إلى 800 كلمة في الدقيقة، وأكثر، بما يتجاوز الحد الأقصى لسرعة استيعاب مُقلة العين الآدمية من الكلمات في الدقيقة الواحدة، والتي يُقدر العلماء حد استيعابها الأقصى بـ ٣٠٠ كلمة فقط[1].


د. كيث راينور – الأستاذ في جامعة ماساشوستس وأحد أشهر خبراء طب أعصاب العيون – يقول بأن قلة قليلة جدًا من القُراء – لا يتجاوزون ما نسبته 5% – من يُمكنهم قراءة 400 كلمة في الدقيقة، وأي مكسب يحصلون عليه من جراء مثل هذه القراءة هو في الحقيقة يُمثل خسارة مُؤكدة في الفهم، أما قراءة أكثر من هذا فهو مُستحيل طبيًّا، لأنه يفوق القدرات الميكانيكية لتحريك العينين ومعالجة المعلومات بصريًا[2].


بل ولا يُمكن على المستويات التشريحية والعصبية معالجة المعلومات في سطور متعددة – على نفس نسق المسح الضوئي Scanning التصويري – في كل حركة عين، بسبب الحقيقة العلمية التي تُثبت أن عيوننا عدسات هزيلة مُقيدة فعليًا في كمية المعلومات التي تتدفق في كل حركة عين من خلال تجويفFovea Centralis المسؤول عن حدة النظر والذي يقوم بنشاط القراءة وغيره من الأنشطة[3].


د. باربرا أوكلي – إحدى أشهر أساتذة الهندسة العصبية والخبيرة في سيكولوجية التعلم وأنماط التعليم – تُشبه البناء المعلوماتي في المُخ ببناء الجدار الأسمنتي الذي يحتاج لوقت كافٍ (فواصل زمنية) ليستقر ويتماسك ويثبت، بينما الاستمرار في البناء – والذي تُطلق عليه د. باربرا (حشر المعلومات) – فلا ينتج عنه إلا أكوام من الفوضى التامة[4].


فالقراءة الصحيحة هي التي تُبنى على التأني والتدقيق في الكلمات والسطور، لذلك كان أثرها اللازم هو الفهم كليًا أو جزئيًا، وغير ذلك إنما هو محض ادعاء أو وهم، يُكذبهما العلم الصحيح والمنطق السليم، فالحقيقة التي لا يُمكن أن يُجادل فيها قارئ حقيقي أو خبير تعليم أن المُضاعفة غير المشروطة من مُعدل القراءة تتم على حساب الفهم، إذ الأصل أن العلاقة بينهما عكسية.


أما ما ورد في تاريخ القراءة من أن أقوامًا من السلف قرأوا آلاف المُجلدات والكُتب، فإنما هو بفضل عامل الوقت الذي بورك لهم فيه بسبب انقطاعهم التام للمُدارسة والمُطالعة، ثم نعمة شَظَف العيش وخلو زمانهم من مُلهيات الأزمان اللاحقة، فأقبلوا على القراءة والكتابة إقبالًا مُنقطع النظير، واكتسبوا من المعارف ما يصعب تصوره في حساباتنا المادية، ولم تكن القراءة السريعة يومًا سببًا من أسباب اكتسابهم تلك المعارف، آية ذلك عظيم ما خلفوه من الآثار العلمية التي لم تتكرر لا في الشرق ولا في الغرب، بل كل ما وصلت إليه الحضارة الغربية – كما قالت المُستشرقة الألمانية سيجريد هونكة – يرجع فضله إليهم، ولولاهم ما وصل الغرب إلى ما وصلوا إليه من أسباب التقدم والتحضر.. فكيف يُمكن أن تكون القراءة عديمة الفهم ضعيفة النفع (السريعة) سببًا من أسباب ما بلغوه من القوة في الإنتاج العلمي؟!


فمقصود المُطالعة؛ الفهم والاستيعاب، وليس الإنجاز أو السرعة، فالعبرة بالجودة لا بالكم، ولذا كان الكُتَّاب أعظم القُراء، لا لأنهم قرأوا كثيرًا، بل لأنهم قرأوا ما قرأوه بشكل جيد، من أجل ذلك كان المُستحب في القراءة إعادتها وتكرارها، يقول الأستاذ عباس العقاد رحمه الله: (قراءة كتاب ثلاث مرات خيرٌ من قراءة ثلاثة كُتب)، ذلك أن أهمية القراءة تنبع مما تتركه من أثر في فِكر القارئ وفي تفاعله مع الواقع، وهذا يكون أفضل ما يكون في حال الإعادة والتأمل، وقد سُئل الإمام البخاري رحمه الله: (الحفظ بأي شيءٍ يكون؟)، فأجاب: (بإدامة النظر) أي بتكرار القراءة، وذكر السُّبكي عن الربيع المُزني تلميذ الإمام الشافعي رحمهم الله: (أنا أنظرُ في كتاب الرسالة مُنذ خمسين سنة، ما أعلمُ أني نظرتُ فيه مرة إلا وأنا أستفيد شيئًا لم أكن عرفته)[5].


وفي دراسة نُشرت في مجلة Consumer Research في عام 2012م تبين أن إعادة قراءة الكتاب توفر للقارئ فوائد صحية وعقلية لا توفرها له القراءة الأولى، لأن الثانية تسمح لعقله ووجدانه بالاتصال بشكل أعمق بالمادة المقروءة أكثر من الأولى التي تجذب الانتباه بصورة أكبر للأحداث والحبكة[6].


ويذكُر العلماء على أن الذاكرة العلمية عند الإنسان ليست هي الذاكرة النشطة Short Term Memory، بل الذاكرة طويلة الأمد Long Term Memory التي هي أشبه ما تكون بمستودع تخزين شاسع المساحة، وهذه الذاكرة لا تنتقل إليها المعلومات من الذاكرة النشطة إلا بالتأمل والتكرار المُتباعد، وكلاهما يحتاج إلى وقت، أما الذاكرة النشطة فلا تحتفظ إلا بقدر ضئيل من المعلومات، لأنها محدودة النطاق [7].


فالقراءة ليست مجرد نشاط بصري يتعرف على الرموز والأشكال المخطوطة والمطبوعة، بل هي سلوك يحتوي كل أنماط التفكير والتحليل والنقد والحُكم، هي عملية يدخل فيها الفهم والإدراك والربط والموازنة والاختيار والترتيب والتنظيم، ومن هذا المُنطلق تُعرف قيمتها في اكتشاف الأشياء والوصول للحقائق واكتساب المعرفة وتطوير العقل وتقوية المدارك وخلق الوعي وتعميق الفِكر وتعلم المهارات وتحسين اللُغة وإثراء المُفردات وتوسيع الخيال وفهم ما وراء الطبيعة وإدراك ما لا يُمكن إدراكه بالحواس الجسدية، وبناء الشخصية المتوازنة، وتعزيز المهارات الاجتماعية، وتحسين التواصل الاجتماعي، وضبط السلوك، واكتساب الخبرة، وزيادة الجانب الإبداعي في الإنسان.


ولا تقف أهميتها عند هذا الحد، بل لها من الفوائد النفسية التي تنعكس على السلوك وتُؤثر في الشخصية ما لا يُمكن حصره، فعشرات التجارب الطبية أثبتت أن القراءة تُؤدي لتحسين الذاكرة، وزيادة التركيز، واكتساب الذكاء، وتجديد النشاط العقلي، وهي تجمع النفس وتقويها، يقول أستاذ الأدب الإنكليزي والدراسات الإنسانية هارولد بلوم في كتابه (كيف نقرأ ؟! ولماذا ؟!): (القراءة تنهار ويتبعثر معها قدر كبير من النفس)، وهي أفضل وأسرع وسيلة للتخلص من القلق والاكتئاب والملل والرتابة، والحد من التوتر، وتهدئة الأعصاب بفاعلية، وعلى حد تعبير د. ديفيد لويس أستاذ الطب العصبي والنفسي المعرفي: (Losing yourself in a book is the ultimate relaxation) [8].


ولنواجه هذه الحقيقة؛ القراءة مُفيدة لكنها ليست بالشيء السهل، كثيرون يدعون أنها كذلك لكنهم لا يصبرون على قراءة كتاب واحد، كثيرون يزعمون حُب المعرفة لكنهم لا يقدرون على إعادة قراءة كتاب قرأوه من قبل ولم يفهموه جيدًا، كثيرون لا يملون من ادعاء أن القراءة مصنع الأفكار لكنهم لا يُخصصون لها من وقتهم إلا أقل القليل.


ولا أقصد بهذا التنفير من القراءة أو تعقيدها، لكن إدراك الحقائق هو البداية الصحيحة للتغيير، إذا كُنا نرغب في الخروج من أزماتنا الفكرية والتيه الثقافي الذي نُعاني منه، فلابُد من التخلي عن التضليل المعرفي والغطرسة الثقافية التي لم تُقدم ولم تُؤخر، فالإصلاح لن يتم إلا باستصلاح الهمم وبذل الجُهد والوقت المُناسبين لآمالنا في إحداث التغيير.


—————————— —————————— —————————— —————————— —————————


[1] د. سكوت ليلينفيلد، د. ستيفن جاي لين، د. جون روشيو، د. باري إل بايرستاين: أشهر ٥٠ خرافة في علم النفس.. هدم الأفكار الخاطئة الشائعة حول سلوك الإنسان، دار كلمات للترجمة والنشر (القاهرة)، الطبعة الأولى 2013م، (35).


[2] https://skeptoid.com/episodes/4229.


http://psycnet.apa.org/psycinfo/1998-11174-004.


[3] https://en.wikipedia.org/wiki/Fovea_centralis.


http://www.scotthyoung.com/blog/2015/01/19/speed-reading-redo.

###

[5] تاج الدين بن علي بن عبدالكافي السبكي: طبقات الشافعية الكُبرى، تحقيق د. محمود محمد الطناحي ود. عبدالفتاح محمد الحلو، دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع (القاهرة)، الطبعة الثانية 1413هـ، (2/99).


[6] Rob Waugh; Reading a book really is better the second time round – and can even offer mental health benefits, Daily Mail, 15 Feb 2012.


http://www.dailymail.co.uk/sciencetech/article-2101516/Reading-book-really-better-second-time-round–reading-offer-mental-health-benefits.html.