الاستثناء في الإيمان عند الأشاعرة



الأشاعرة في مسألة الاستثناء في الإيمان موافقون أهل السنة من جهة، ومخالفون لهم من جهة أخرى.
أما جهة الموافقة فهي أنهم يقولون بالاستثناء، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:
"وأبو الحسن الأشعري نصر قول جهم في الإيمان، مع أنه نصر المشهور عن أهل السنة من أنه يستثنى في الإيمان، فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله".
ثم علق على هذا الموقف من الأشعري بقوله: "وهو دائمًا ينصر في المسائل التي فيها النزاع بين أهل الحديث وغيرهم قول أهل الحديث، لكنه لم يكن خبيرًا بمآخذهم، فينصره على ما يراه هو من الأصول التي تلقاها عن غيرهم، فيقع في التناقض ما ينكره هؤلاء وهؤلاء" (1) .
وهذا هو وجه مخالفة الأشاعرة لأهل السنة في مسألة الاستثناء، وهي أنهم بنوه على مأخذ مخالف لمآخذ السلف، إذ بنوه على مسألة الموافاة، وهي ما مات عليه العبد، ووافى ربه به (2) .
يقول شيخ الإسلام: "وأما الأشعري، فالمعروف عنه، وعن أصحابه: أنهم يوافقون جهمًا في قوله في الإيمان، وأنه مجرد تصديق القلب أو معرفة القلب، لكن قد يظهرون مع ذلك قول أهل الحديث، ويتأولونه، ويقولون بالاستثناء على الموافاة" (3) .
ويقول: "فهؤلاء لما اشتهر عندهم عن أهل السنة أنهم يستثنون في الإيمان، ورأوا أن هذا لا يمكن إلا إذا جعل الإيمان هو ما يموت العبد عليه، وهو ما يوافي به العبد ربه، ظنوا أن الإيمان عند السلف هو هذا، فصاروا يحكون هذا عن السلف، وهذا القول لم يقل به أحد من السلف ولكن هؤلاء حكوه عنهم بحسب ظنهم؛ لما رأوا أن قولهم لا يتوجه إلا على هذا الأصل" (4) .
والأشاعرة لما قالوا بالموافاة (5) انقسموا إلى فريقين:
الفريق الأول: جعلوا الموافاة شرطًا في صحة الإيمان وحقيقته في الحال، وكونه معتدًا به عند الله تعالى، ومن ثم يوجبون الاستثناء في الحال.
وإلى هذا ذهب الأشعري، وهو اختيار ابن فورك (6) ، ونسبه الأنصاري إلى سلف أصحاب الحديث، والأكثرين (7) .
وقد نقل شيخ الإسلام عن الأنصاري قوله: "وقد ذكرنا اختلافهم - يعني أصحابه الأشاعرة - في الموافاة، وأن ذلك هل هو شرط في صحة الإيمان وحقيقته في الحال، وكونه معتدا عند الله به وفي حكمه.
فمن قال إن ذلك شرط فيه يستثنون في الإطلاق في الحال، لا أنهم يشكون في حقيقة التوحيد والمعرفة، لكنهم يقولون لا يدري أي الإيمان الذي نحن موصوفون به في الحال هل هو معتد به عند الله، على معنى أنا ننتفع به في العاقبة، ونجتني من ثماره.
فإذا قيل لهم: أمؤمنون أنتم حقا؟ أو تقولون: إن شاء الله؟ أو تقولون: نرجو؟
فيقولون: نحن مؤمنون إن شاء الله، يعنون بهذا الاستثناء تفويض الأمر في ( المستقبل ) والعاقبة إلى الله سبحانه وتعالى، وإنما يكون الإيمان إيمانا معتدا به في حكم الله إذا كان ذلك علم الفوز وآية النجاة، وإذا كان صاحبه والعياذ بالله في حكم الله من الأشقياء، يكون إيمانه الذي تحلى به في الحال عارية.
قال - يعني الأنصاري -: ولا فرق عند الصائرين إلى هذا المذهب بين أن يقول: أنا مؤمن من أهل الجنة قطعا، وبين أن يقول: أنا مؤمن حقا" (8) .
ثم ذكر الأنصاري أن من ذهب إلى هذا القول "يتمسك بأشياء منها أن يقال: إن الإيمان عبادة العمر، وهو كطاعة واحدة، فيتوقف صحة أولها على سلامة آخرها، كما تقول في الصلاة والصيام والحج.
( وقد قال ابن مسعود:
لو قلت إني مؤمن حقًا، لقلت إني من أهل الجنة حقًا ) .
قالوا: ولا شك أنه لا يسمى في الحال وليًا، ولا سعيدًا، ولا مرضيًا عند الله.
وكذلك الكافر لا يسمى في الحال عدوا لله، ولا شقيًا، إلا على معنى أنه تجري عليه أحكام الأعداء في الحال؛ لإظهاره من نفسه علامتهم" (9) .
وقال شيخ الإسلام: "والذين أوجبوا الاستثناء لهم مأخذان:
أحدهما: أن الإيمان ما مات عليه الإنسان، والإنسان إنما يكون عند الله مؤمنا وكافرا باعتبار الموافاة وما سبق في علم الله أنه يكون عليه، وما قبل ذلك لا عبرة به.
قالوا: والإيمان الذي يتعقبه الكفر فيموت صاحبه كافرا ليس بإيمان، كالصلاة التي يفسدها صاحبها قبل الكمال، وكالصيام الذي يفطر صاحبه قبل الغروب.
وصاحب هذا هو عند الله كافر؛ لعلمه بما يموت عليه، وكذلك قالوا في الكفر.
وهذا المأخذ هو مأخذ كثير من المتأخرين من الكلابية وغيرهم ممن يريد أن ينصر ما اشتهر عن أهل السنة والحديث من قولهم: أنا مؤمن إن شاء الله، ويريد أن الإيمان لا يتفاضل، ولا يشك الإنسان في الموجود، وإنما يشك في المستقبل" (10) .
الفريق الثاني من الأشاعرة:
لم يجعل الموافاة شرطًا في كون الإيمان إيمانًا حقيقيًا في الحال، بل شرطًا في استحقاق الثواب عليه، وعلى هذا فهم يستثنون في المآل لا الحال.
وإلى هذا ذهب كثير من الأشاعرة، وخالفوا شيخهم الأشعري في هذه المسألة (11) ، وممن قال بهذا القول الباقلاني، والجويني، وأبو إسحاق الاسفراييني، يقول الأنصاري: "ومن أصحابنا من لم يجعل الموافاة على الإيمان شرطًا في كونه إيمانًا حقيقيًا في الحال، وإن جعل ذلك شرطًا في استحقاق الثواب عليه.
وهذا مذهب المعتزلة، والكرامية، وهو اختيار أبي إسحاق الاسفراييني، وكلام القاضي يدل عليه.
قال: وهو اختيار شيخنا أبي المعالي، فإنه قال: الإيمان ثابت في الحال قطعا لا شك فيه، ولكن الإيمان الذي هو علم الفوز وآية النجاة إيمان الموافاة، فاعتنى السلف به، وقرنوه بالاستثناء، ولم يقصدوا الشك في الإيمان الناجز (12) .
قال - أي الأنصاري -: ومن صار إلى هذا يقول: الإيمان صفة يشتق منها اسم المؤمن، وهو المعرفة والتصديق، كما أن العالم يشتق من العلم، فإذا عرفت ذلك من نفسي قطعت به كما قطعت بأني عالم وعارف ومصدق.
فإن ورد في المستقبل ما يزيله خرج إذ ذاك عن استحقاق هذا الوصف، ولا يقال: تبينا أنه لم يكن إيمانا مأمورا به، بل كان إيمانا مجزئا، فتغير وبطل، وليس كذلك قوله: أنا من أهل الجنة، فإن ذلك مغيب عنه، وهو مرجو" (13) .
فهذا الفريق من الأشاعرة لا يستثني في الحال، وإنما يستثني في المستقبل؛ لأن مذهبه أن الإيمان الحاضر لا يحتاج لربطه بالمشيئة؛ لصحته، بخلاف الإيمان في المستقبل، فإنه لا يدري بم يختم له به.
وما تقدم يكشف أن الأشاعرة اشتركوا في أصل، وافترقوا في تفاصيله، فهم يقولون بالاستثناء؛ تعليلًا بالموافاة، ونسبوا ذلك إلى السلف، محتجين
بقول ابن مسعود رضي الله عنه لما قيل له: إن قومًا يقولون: إنا مؤمنون، فقال: أفلا سألتموهم أفي الجنة هم؟
وفي رواية: قيل له: إن هذا يزعم أنه مؤمن، قال: فاسألوه أفي الجنة هو أو في النار؟
فسألوه، فقال: الله أعلم، فقال له عبدالله: فهلا وكلت الأولى كما وكلت الثانية؟
وكذلك روي عن عمر رضي الله عنه قوله: من قال: أنا مؤمن فهو كافر، ومن قال أنا عالم فهو جاهل، ومن قال هو في الجنة فهو في النار.
قالوا: فلو جاز القطع على أنا مؤمنون لكان ذلك قطعا على أنا في الجنة؛ لأن الله وعد المؤمنين الجنة، ولا يجوز القطع على الوعد بالجنة؛ لأن من شرط ذلك الموافاة بالإيمان، ولا يعلم ذلك إلا الله، وذلك الإيمان إنما يحصل بالموافاة ولا يعلم ذلك إلا الله، وكذلك الإيمان إنما يحصل بالموافاة (14) .
وقالوا: المؤمن هو من سبق في علم الله أنه يختم له بالإيمان، والكافر من سبق في علم الله أنه كافر، وأنه لا اعتبار بما كان قبل ذلك (15) .
هذه هي شبهتهم في مذهبهم في الموافاة، وربط الاستثناء بها، ومن ثم فستكون مناقشة هذه المسألة تدور فيما يلي:
أولاً: دعواهم أن القول بالموافاة قول السلف.
والجواب عن ذلك أن يقال: إن السلف لما قالوا بالاستثناء لم يكن مقصودهم الموافاة، وإنما مقصودهم أن الإيمان المطلق يتضمن فعل المأمورات، فقوله: أنا مؤمن، كقوله: أنا ولي الله، وأنا من الأبرار، ونحو ذلك.
قال شيخ الإسلام: "وأما الموافاة، فما علمت أحدًا من السلف علل بها الاستثناء، ولكن كثير من المتأخرين يعلل بها من أصحاب الحديث، من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وغيرهم، كما يعلل بها نظارهم، كأبي الحسن، وأكثر أصحابه، لكن ليس هذا قول سلف أصحاب الحديث" (16) .
ويقول: "وعند هؤلاء لا يعلم أحد أحدا مؤمنا إلا إذا علم أنه يموت عليه، وهذا قاله كثير من أهل الكلام أصحاب ابن كلاب، ووافقهم على ذلك كثير من أتباع الأئمة، لكن ليس هذا قول أحد من السلف، لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا كان أحد من السلف الذين يستثنون في الإيمان يعللون بهذا، لا أحمد ولا من قبله" (17) .
فالغلط هنا الزعم بأن السلف يعللون الاستثناء بالموافاة، وأما كون خوف العاقبة من مآخذ الاستثناء التي قال بها السلف فهذا حق، وإنما الباطل أن يدعي أن الموافاة هي مأخذ السلف في ذلك، وفرق بين المأخذين كبير، فخوف العاقبة أمر محمود، والقول بالموافاة بدعة وضلالة، إذ هي مبنية على أصل فاسد، وهو أن الإيمان الذي يتعقبه كفر يموت صاحبه عليه ليس بإيمان.
وهذا الأصل المبتدع قاله "ابن كلاب، والأشعري، وأصحابه، ومن وافقهم من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وغيرهم.
وأما أكثر الناس فيقولون: بل هو إذا كان كافرا فهو عدو لله، ثم إذا آمن واتقى صار وليا لله.
قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ إلى قوله: عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الممتحنة: 1 – 7]، وكذلك كان، فإن هؤلاء أهل مكة الذين كانوا يعادون الله ورسوله قبل الفتح، آمن أكثرهم، وصاروا من أولياء الله ورسوله.
وابن كلاب وأتباعه بنوا ذلك على أن الولاية صفة قديمة لذات الله، وهي الإرادة والمحبة والرضا ونحو ذلك، فمعناها إرادة ثابتة بعد الموت، وهذا المعنى تابع لعلم الله، فمن علم أنه يموت مؤمنا لم يزل وليا لله؛ لأنه لم يزل الله مريدًا لإدخاله الجنة، وكذلك العداوة.
وأما الجمهور فيقولون: الولاية والعداوة وإن تضمنت محبة الله ورضاه وبغضه وسخطه، فهو سبحانه يرضى عن الإنسان ويحبه بعد أن يؤمن ويعمل صالحا، وإنما يسخط عليه ويغضب بعد أن يكفر.
كما قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ [محمد: 28]، فأخبر أن الأعمال أسخطته، وكذلك قال:
فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ [الزخرف: 55]، قال المفسرون: أغضبونا (18) ، وكذلك قال الله تعالى: وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر: 7].
وفي الحديث الصحيح الذي في البخاري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يقول الله تعالى:
((من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن اسعتاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولابد له منه)).
فأخبر أنه لا يزال يتقرب إليه بالنوافل حتى يحبه، ثم قال: فإذا أحببته كنت كذا، كنت كذا، وهذا يبين أن حبه لعبده إنما يكون بعد أن يأتي بمحابه، والقرآن دل على مثل ذلك" (19) .
ثانياً: احتجاجهم بما جاء عن ابن مسعود، وبما روي عن عمر رضي الله عنه.
والجواب عن ذلك أن "ابن مسعود رضي الله عنه لم يكن يخفى عليه أن الجنة لا تكون إلا لمن مات مؤمنًا، وأن الإنسان لا يعلم على ماذا يموت، فإن ابن مسعود أجل قدرا من هذا، وإنما أراد: سلوه هل هو في الجنة إن مات على هذه الحال؟ كأنه قال: سلوه أيكون من أهل الجنة على هذه الحال؟
فلما قال: الله ورسوله أعمل، قال: أفلا وكلت الأولى كما وكلت الثانية.
يقول: هذا التوقف يدل على أنك لا تشهد لنفسك بفعل الواجبات وترك المحرمات، فإنه من شهد لنفسه بذلك شهد أنه من أهل الجنة إن مات على ذلك" (20) .
ولذلك كان الإمام أحمد يقول: أذهب إلى حديث ابن مسعود في الاستثناء في الإيمان؛ لأن الإيمان قول وعمل، والعمل الفعل، فقد جئنا بالقول، ونخشى أن نكون قد فرطنا في العمل، فيعجبني أن نستثنى في الإيمان، بقول: أنا مؤمن إن شاء الله (21) .
فهذا هو الفهم الصحيح لما جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه، ومثله ما جاء عن عمر إن صح عنه، فإنه يروى عن عمر بن الخطاب مرسلا (22) .
ثالثًا: قولهم إن القطع بالإيمان قطع بالجنة.
فيقال: هذا إنما يجيء على قول من يجعل الإيمان متناولا لأداء الواجبات وترك المحرمات، فمن مات على هذا كان من أهل الجنة، وأما على قول المرجئة والجهيمة، وهو القول الذي نصره هؤلاء الأشاعرة، فإنه يموت على الإيمان قطعا، ويكون كامل الإيمان عندهم، وهو مع هذا عندهم من أهل الكبائر الذين يدخلون النار، فلا يلزم إذا وافي بالإيمان أن يكون من أهل الجنة، وهذا اللازم لقولهم يدل على فساده (23) .
رابعًا: أنه يلزمهم على مأخذهم هذا أن يستثنوا في الكفر أيضا.
لأن ما ذكروه يطرد في الإيمان والكفر سواء، ولذلك صاروا أمام هذا
اللازم فتبين (24) :
الأولى: أخذت به وقررته على الكفر، كما فعله بعض محققيهم، مثل أبي منصور الماتريدي.
الثانية: منعت الاستثناء في الكفر، وفرقت بين الاستثناء فيه والاستثناء في الإيمان، فقالوا: نستثني في الإيمان رغبة إلى الله في أن يثبتنا عليه إلى الموت، والكفر لا يرغب فيه أحد.
قال شيخ الإسلام ردًا على دعوى التفريق بين الاستثناء في الإيمان والاستثناء في الكفر:
"ولكن جماهير الأئمة على أنه لا يستثنى في الكفر، والاستثناء فيه بدعة لم يعرف عن أحد من السلف، ولكن هو لازم لهم"، ثم قال:
"لكن يقال: إذا كان قولك: مؤمن، كقولك في الجنة، فأنت تقول عن الكافر هو كافر، ولا تقول هو في النار إلا معلقا بموته على الكفر، فدل على أنه كافر في الحال قطعا، وإن جاز أن يصير مؤمنا، كذلك المؤمن، وساء أخبر عن نفسه أو عن غيره، فلو قيل عن يهودي أو نصراني هذا كافر، قال إن شاء الله إذا لم يعلم أنه يموت كافرا، وعند هؤلاء لا يعلم أحد أحدا مؤمنا إلا إذا علم أنه يموت عليه" (25) .
خامسا: ترتب على مأخذهم هذا عدم القطع بتوبة التائب.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "ولهذا صار الذين لا يرون الاستثناء لأجل الحاضر، بل للموافاة، لا يقطعون بأن الله يقبل توبة التائب، كما لا يقطعون بأن الله يعاقب مذنبا، فإنهم لو قطعوا بقبول توبته لزمهم أن يقطعوا له بالجنة، وهم لا يقطعون لأحد من أهل القبلة لا بجنة ولا بنار إلا من قطع له النص.
وإذا قيل: الجنة لمن أتى بالتوبة النصوح من جميع السيئات؟
قالوا: ولو مات على هذه التوبة لم يقطع له بالجنة، وهم لا يستثنون في الأحوال، بل يجزمون بأن المؤمن مؤن تام الإيمان، ولكن عندهم الإيمان عند الله هو ما يوافى به، فمن قطعوا له بأنه مات مؤمنا لا ذنب له قطعوا له بالجنة، فلهذا لا يقطعون بقبول التوبة؛ لئلا يلزمهم أن يقطعوا بالجنة.
وأما أئمة السلف فإنما لم يقطعوا بالجنة؛ لأنهم لا يقطعون بأنه فعل المأمور وترك المحظور، ولا أنه أتى بالتوبة النصوح، وإلا فهم يقطعون بأن من تاب توبة نصوحاً قبل الله توبته" (26) .
سادسا: أنه ترتب على مأخذهم أيضا أن غلا بعض أتباعهم حتى طردوا الاستثناء في كل شيء، وأنكروا القطع في أي شيء.
قال شيخ الإسلام: "ومأخذ هذا القول طرده طائفة ممن كانوا في الأصل يستثنون في الإيمان أتباعا للسلف، وكانوا قد أخذوا الاستثناء عن السلف".
ثم قال: "ثم صار كثير من هؤلاء بآخرة يستثنون في كل شيء، فيقول: هذا ثوبي إن شاء الله، وهذا حبل إن شاء الله.
فإذا قيل لأحدهم: هذا لا شك فيه؟، قال: نعم لا شك فيه، لكن إذا شاء الله أن يغيره غيره، فيريدون بقولهم: إن شاء الله: جواز تغييره في المستقبل، وإن كان في الحال لا شك فيه، كأن الحقيقة عندهم التي لا يستثنى فيها ما لم تتبدل" (27) .
وقال: "وهذه الطائفة المتأخرة تنكر أن يقال: "قطعا" في شيء من الأشياء، مع غلوهم في الاستثناء، حتى صار هذا اللفظ منكرا عندهم، وإن قطعوا بالمعنى، فيجزمون بأن محمد رسول الله، وأن الله ربهم، ولا يقولون: قطعا"، ثم قال:
"والمقصود هنا أن الاستثناء في الإيمان لما علل مثل تلك العلة طرد أقوام تلك العلة في الأشياء التي لا يجوز الاستثناء فيها بإجماع المسلمين" (28) .
وفي حكم هؤلاء يقول شيخ الإسلام: "وإذا قال القائل: هذا حجر، ولا أقطع بأن هذا حجر، فهذا مخطئ، لكن إن كان مراده أني إذا قطعت بأنه حجر، فقد جعلت الله عاجزا عن تغييره.
فإنه يقال له: بل هو الآن حجر قطعا، والله قادر على تغييره.
وإن كان مراده بقوله: إن شاء الله: أن الله قدرا على تغييره، فهذا المعنى صحيح.
وإن كان شاكا في كونه حجرا، فهذا متجاهل، يعزر على ذلك" (29) .
ويقول: "أجمع المسلمون على شهادة أن لا إله الله وأن محمدا رسول الله، وأن ذلك حق يجزم به المؤمنون، ويقطعون به، ولا يرتابون.
وكل ما علمه المسلم وجزم به، فهو يقطع به، وإن كان الله قادرا على تغييره، فالمسلم يقطع بما يراه ويسمعه، ويقطع بأن الله قادر على ما يشاء.
وإذا قال المسلم: أنا أقطع بذلك، فليس مراده أن الله لا يقدر على تغييره، بل من قال إن الله لا يقدر على مثل إماتة الخلق، وإحيائهم من قبورهم، وعلى تسيير الجبال، وتبديل الأرض غير الأرض، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل" (30) .
سابعا: أنهم بقولهم هذا كشفوا عن تناقضهم في باب الإيمان.
إذ تراهم لما تكلموا عن مسألة مسمى الإيمان وأن العمل ليس منه عرفوا الإيمان بأنه التصديق؛ محتجين باللغة، تأييدا لمذهبهم.
ولما تكلموا عن الاستثناء، وأنه يجب الإتيان به في الإيمان، جعلوا الإيمان هو ما مات عليه الإنسان، ولم يلتفتوا إلى اللغة.
فهنا تناقضوا، إذ جعلا في مسألة الاستثناء: مسمى الإيمان ما ادعوا أنه مسماه في الشرع، وعدلوا عن اللغة، فهلا فعلوا هذا في الأعمال (31) ؟ (32)

http://www.dorar.net/enc/firq/683