تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: أيهما المقصود التفكر أم القراءة | أحمد الغامدي

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Dec 2010
    المشاركات
    111

    افتراضي أيهما المقصود التفكر أم القراءة | أحمد الغامدي

    القراءة وسيلة للوصول إلى المعارف والتصورات والتصديقات بأنواعها، وطريق لتفتيق الفكر والفهم وتنوع المعرفة وزيادتها، إن القراءة وسيلة وما وراء القراءة من التفكر والاستنتاج والفهم وتفتيق الذهن هو المقصود الأسمى من القراءة.فليس مهما قدر ما نقرأه، كما أنه ليس صوابا أن نبقى نردد الشعارات حول أهمية القراءة، أو أن نتفاخر بالماضي العامر بالمكتبات والكتب والكتاب، إن ذلك كله يشعر بأننا ما زلنا نعوض عن ثقافتنا المفرطة في الشفهية بالنظر إلى تمجيد القراءة على أنها المخلص لمشاكلنا وعلى أننا أمة اقرأ فقط دون تفكر وتدبر وفهم ومناقشة، إن ذلك التمجيد المطلق للقراءة شماعة تشبه نظرية المؤامرة لكن بشكل آخر، فكما أن نظرية المؤامرة يعتبرها كثيرون السبب الرئيس لكل مشاكلنا واخفاقاتنا، كذلك هناك الكثير يرددون بأن القراءة هي الدواء السحري الشافي لكل أمراضنا ومشاكلنا.فالطرح النظري الذي نلحظه من حين لآخر حول تمجيد القراءة المطلقة لا يختلف عن الواقع العملي الذي نعيشه بل هو أكثر بؤسا، وما طرح قريبا كمسابقة للقراءة مع يتمها لم يتطرق فيه لنوعية ما يقرأ أو نوعية القراءة لتعود على الناشئة بالفائدة الحقيقية ومع ذلك تعتبر خطوة جيدة تستحق الشكر لدولة الامارات.إن ذلك الضعف الاستراتيجي في تربية الناشئة يجب تصحيحه، فكم نجد من القراء الموصوفين بالنهم، والذين يقرؤون كتبا جيدة، وربما يدرسون في بيئات متميزة، إلا أنهم رغم ذلك لا يلحظ عليهم فرق كبير على مدى الزمن، ولعل قائلا يقول إن متعة القراءة تكفينا، وان صيانة القراءة للمرء عن نشاطات غير نافعة أو مضرة مكسب يكفينا، وهذا في الحقيقة يدلنا بصورة دقيقة على مكمن الخلل حتى فيمن يقرأ كثيرا ويقرأ كتبا جيدة ويدرس في بيئات متميزة، إن حال من رضي من القراءة بمتعتها أو الانشغال بها عما لا ينفع كحال من رضي بالفتات وترك الوليمة.إن القراءة خطوة نحو التطور، وهي تشبه خشبة القفز التي يستعين بها من يسبح ليقفز في مسبح عميق، فمن يقف على خشبة القفز بزي السباحة ويظن أنه صار سباحا ماهرا فهو واهم، كما أن من يقفز من غير خشبة القفز، قد يفقد الاتجاه والارتفاع الصحيحين، بل قد يؤذي نفسه.والواجب أن يصحب القراءة التفكر، ومعنى هذا أن علينا أن نقرأ قليلا، ونفكّر كثيرا وليس العكس، أما كثرة القراءة وحشو الرأس بما قال الآخرون دون تحقق صحة أو تدبر دلالة فضار، ومن الضروري أن نتفكر لنفهم ما نقرأ ولنصل للحقيقة ولنصحح واقعنا، هذا ما يجعل القراءة النقدية العقلانية ضرورة ملحة.أما من يقرأ قراءة متلبسة بروح التسليم بصحة كل ما بين دفتي ما يقرأ على أنه حق يجب اعتناقه دون تبصر وتفكر فلن يستفيد كثيرا بل سيكون ضحية ذلك التسليم الأعمى.إن علينا أن نقرأ مع تفكر وتدبر وتأمل وفهم لنتحقق من صحة ما نقرأ ولنتمسك بالصحيح ونصحح الخطأ ولنكون رأيا خاصا بنا فيما نقرأ، ولذلك لا بأس بأن نتجادل بأدب مع كاتب الكتاب، وأن نضع الملاحظات على الهوامش، وأن نتحقق من صحة استدلالاته وصواب رأيه وخطئه لتكون قراءتنا نافعة مفيدة فكرا وعملا ولتنتج لنا من الاستنارة أضعافا مضاعفة من الجهد المبذول في القراءة العمياء.إن القراءة مهمة لكنها مع التوقف عن التفكر فيما نقرأ أو مع افتراض هيبة زائدة للمؤلف أو الكتاب تعني أننا إزاء مشروع تخريج فوج من الببغاوات، وأننا أمام أمر خطير هو أننا نقرأ قراءة عاطفية استلابية أو انتقامية.ولذلك نجد البعض قد يكره كاتبا، فيفجر في الخصومة معه، فلا يقرأ له أبدا، أو يقرأ له ليتصيد الأخطاء ويصفي حساباته العاطفية معه، كما أن هناك من يقرأ لكاتب يحبه، فيكون مستعدا للذوبان في كل ما يقوله حقا أو باطلا.

    إن الله يحثنا على ما هو أهم وأرقى وأصعب من القراءة؛ إنه التفكر فلسنا أمة (اقرأ) فقط، بل نحن أمة (يتفكرون).ولذلك جاء الحض على التفكر في أكثر من عشرة مواضع في القرآن، فالتفكير عملية بيولوجية محتومة على البشر، بل وعلى كثير من الكائنات غيرهم، لكن التفكر هو الذي يميز الإنسان، وعلى أساسه كان تكليف الإنسان وبه يتحقق اختيار المكلف.إن علينا ألا نتورط بتقديس من يقال إنه العالم العلامة، والفاهم الفهامة، والخبير النحرير، والمنظر الخطير، والأديب الأريب وهو خلو من صحة ما يكتب أو يقول، لأن كل ما فعله هو أنه قرأ عددا من الكتب، ثم اعتقد أنه وصل إلى مرحلة الاكتفاء، وظن أنه من المعرفة بمكان بحيث لا يحتاج إلى أن يقرأ أكثر من ذلك، فضلا عن أن يستمع لمن يخالفه، فقد أصبح يكفيه ما تلتقطه أذناه هنا وهناك، والباقي متروك لعقله الفتاك، مع أن أول درس في أخلاقيات القراءة هو التواضع والتوازن ومن دون هذا سيكون الانتقال إلى مرحلة التفكر مستحيلا.إن طبيعة التفكر تقتضي النهم الدائم والشك الدائم أي تمحيص ما يقرأ والتدقيق في معناه وتدبر دلالاته وتقليب الأمور بوضع افتراض دائم بأن الحقيقة قد تكون في الجهة الأخرى، أو قد تكون مجزأة في جهات كثيرة أخرى أكثر من أن تحصى، واعتقاد احتمال تفرق الحقيقة سيتعارض مع فكرة الاكتفاء؛ لأنها تقتضي الدعة والتسليم، والتفكر فيه شيء من القلق، بل كثير من القلق أحيانا.إن علينا أن ندرك في النهاية، أنه لا خير في قراءة لا تجعلنا نشتبك بها مع الحياة، نعم جميل أن نقرأ من أجل المتعة أحيانا، لكن يجب أن نعلم أن القراءة المريحة خيار الكسالى أو السذج الذين لا يريدون أن يخرجوا من صدفاتهم المريحة، ولا يريدون أن يتعرضوا لأفكار تنفض الغبار عن طاولاتهم الفكرية، إننا نقرأ لنعيش بشكل أفضل، ولنعبد الله على وجه أكمل، ولنعمر الأرض كما أراد لنا أن نفعل، وهذا السعي والدأب والحراك يقتضي أن نسير سيرا فكريا واعيا متدبرا لا سيرا جسديا وسعيا ماديا فقط.إنه من الضروري أن يفهم المعلمون والمتعلمون في جميع المراحل التعليمية أن القراءة وسيلة لتوسيع أفق الإنسان في سبر غور المعرفة وعالم الأفكار والغموض، وأن القراءة كالتفكير بواسطتها يمثل القارئ الأفكار والمفاهيم التي تبثها المادة المقروءة ويعيد صياغتها بعد مزجها بخبراته وتجاربه، ويمثل الشك والرغبة في إثارة الأسئلة بداية هذه العملية التي تبقى مستمرة ما دام الفرد مستمراً ومواظبا على عملية القراءة.كما أن القراءة كالتفكير فيها يهتم القارئ ويأخذ باعتباره السياق العام للصفحة الواحدة أو المقطع الواحد وما يحتويه من عناصر وأمور ومشكلات محاولا تتبع الأحداث في المادة المقروءة للإمساك بالخيط الذي يوصله إلى الفهم الصحيح في نهاية المطاف.وبهذا المعنى تصبح القراءة عملية عقلية تمثل عملا لا قيمة له إذا لم تتحرك قوى وفكر القارئ في فحص وتحسين أفكاره وحياته بشكل دائم ومستمر.لقد أدى تشعب الحياة وتعقد ميادينها وكثرة علومها من جهة، وزيادة الوعي بالحقيقة التي تؤكد أن مجرد فهم الصفحة المكتوبة لا يمثل النضج في القراءة من الجهة الأخرى، إلى زيادة الحاجة إلى القراءة الناقدة والتحسس بدورها الفعال في حياة القارئ، فأصبح القارئ الجيد تبعا لذلك، ليس هو القادر على القراءة فحسب، بل هو الشخص الذي يعرف كيفية استخدام ما يقرأ. وعلى هذا الأساس اعتبر تدريس القراءة الناقدة واحدا من الأهداف الرئيسة التي يسعى لتحقيقها العديد من المدارس في دول العالم المتقدم.إن تنمية القراءة الناقدة لكل قارئ، وفي المراحل التعليمية الأولى وما بعدها مطلب مهم للأجيال القادمة وهي تعتمد بشكل رئيس على المعلم والأساليب التي يستخدمها.
    كناشة الرميـح على التليجرام
    حيثُ المتعة والفائـدة ..
    [url]https://telegram.me/romeh06/url]

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي

    (فن التفكير)
    وسائل تحسين التَّفكير:
    كما أن الإنسانَ يستطيع بالرياضة أن يحسِّن من لياقته البدنية، فهو يستطيع كذلك أن يحسِّنَ من تفكيره بطرق عدة، من أهمها: التخلُّق ببعض الأخلاق العليا، الحوار، القراءة، الكتابة، تجنُّب أخطاء التَّفكير.

    1- التخلُّق ببعض الأخلاق العليا:
    وما يناسب هذا المقام منها اثنان:
    أ- قول: لا أدري.
    ب- الإخلاص في طلَبِ الحق.

    • لا يستطيع إنسان أن يحيطَ بكل العلوم، فإذا سُئِل عما لا يعلَمُ أجاب: (لا أدري)؛ حتى يتجنَّب الكلامَ فيما لا يُحسِن، ويسلَمَ من الخطأ، قال الشاعر:
    ومَن كان يَهوَى أن يُرى متصدِّرًا ويكرَهُ: (لا أدري)، أُصيبَتْ مَقاتِلُه

    • الإخلاص في طلبِ الحقيقة والصواب؛ قال الإمام الشافعي رحمه الله: "ما ناظرتُ أحدًا إلا أحببتُ أن يوفَّق، أو يسدَّد، أو يُعانَ، ويكون له رعاية من الله وحفظ، وما ناظرتُ أحدًا إلا ولم أبالِ بيَّن الله الحقَّ على لساني أو لسانه، وما ناظرتُ أحدًا فأحببتُ أن يخطئَ، وما ناظرتُ أحدًا على الغَلَبة، إنما على النصيحةِ".

    2- الحوار: (خاصةً مع المخالِف؛ لنستفيدَ من الصواب الذي عنده):
    الحوارُ هو نافذة فِكرية وشعورية بين الفرد وبين الآخرين، والذي يستغني عن الحوارِ يعيش منغلِقًا على ذاتِه، لا يرى الأمورَ إلا من زاويتِه الشخصية، فيكون أكثرَ تعرُّضًا للخطأ، وإن زعَم أو ظن أنه أقربُ إلى الصواب من سواه؛ فالصواب ليس حِكرًا على أحدٍ دون أحد، وما زال أهلُ الحكمة يستشيرون من سواهم في صغير الأمور وكبيرِها؛ لأن الشُّورى كالحوارِ طلبُ التعرُّف على الرأيِ الآخر، وأغلبُ الذين يرفضون الحوارَ يرفضونه بدافعِ الخوف منه: إما لعجزِهم عنه، وإما لضعفِ أدلتِهم وقلة ثقتِهم بما يؤمِنون به من الأفكار، وإما بدافعِ الجمود والتعصُّب، وإما خشيةً من تغييرِ موروثاتٍ عاشت معهم وعاشوا معها، واكتسَبَتْ عندهم القداسةَ والإجلال.

    "إن كثيرًا من الناس يكوِّنونَ لأنفسهم عالَمًا خاصًّا يظنون أنه العالَم كله، ويُنضِجون في عالَمهم ذاك الكثيرَ من المعايير الخاصة المتولِّدة من بيئة نفسية وفكرية ذاتِ نمط واحد، وهذا الصِّنفُ من الناس يقعُ ضحية للتحيُّر، والتعميم، والتسرُّع في الأحكام، وعدم القدرة على رؤية متوازية، وتكون قدراتُهم على التكيُّف - في العادة - محدودةً، ما يجعل حياتَهم عبارةً عن صراع مستمرٍّ مع ما حولَهم!

    "إن المطلوبَ من الحوار لا يُشترط أن يكونَ توحيدَ الرأي دائمًا، وإنما المطلوب هو شرحُ وجهة نظر الأطراف المختلفة، بعضها لبعض؛ أي: أن يُريَ كلُّ طرفٍ الطرفَ الآخَرَ ما لا يراه، وإذا أدَّى الحوارُ إلى تضييق شقَّة الخلاف، فإنه يكون قد أدى كثيرًا مما نطلب منه، ثم إن وَحدة الرأي في كل صغيرةٍ وكبيرة - لا سيما فيما هو محلُّ للاجتهاد - ليست ظاهرةً صحية دائمًا؛ فالتنوُّع المؤطَّر مطلوبٌ كالوحدة"[1].

    3- القراءة:
    إن أولَ كلمة من الوحيِ الذي نزَل على الرسول الخاتَم عليه أفضل صلاة وتسليمٍ هي كلمة ﴿ اقْرَأْ ﴾ [العلق: 1]؛ ولهذا الأمرِ دلالةٌ هائلة على أهميةِ القراءة في الإسلام خاصة، وفي حياةِ الإنسان عامَّة[2].

    ولا حاجةَ بنا إلى إثباتِ أهمية القراءة، إلا أن الذي نُريد الإشارةَ إليه في هذا المقام أن القارئَ الواعيَ يضيف إلى خبرته خبراتِ الآخرين، فيعيش حياتَه بشكلٍ أعمقَ وأغنى؛ قال الشاعرُ الحكيم:
    ومَن وعى التَّاريخَ في صدرِه أضاف أعمارًا إلى عُمرِه

    وكذلك الذي يَعِي أفكارَ الآخرين يُضيف أفكارًا إلى فِكره، وعندما سُئِل عبقريُّ الفيزياء الأشهر نيوتن عن سرِّ إنجازاته وتفوُّقِه أجاب: لقد وقفتُ على أكتافِ العمالقة الذين جاؤوا قبلي[3]؛ أي: إنه قرَأ ما كتَبوا، وفهِمه، واستفاد منه، وأضاف إليه.

    قال العقَّاد[4] رحمه الله في مقالٍ له بعنوان: (لماذا هَوِيْتُ القراءةَ): "أهوَى القراءةَ لأن عندي حياةً واحدة في هذه الدنيا، وحياةٌ واحدة لا تكفيني, والقراءة دونَ غيرها هي التي تُعطيني أكثرَ من حياةٍ واحدة في مدى عمر الإنسان الواحد؛ لأنها تَزيدُ هذه الحياةَ من ناحيةِ العُمق، وإن كانت لا تُطيلُها بمقاديرِ الحساب".

    وعند الحديثِ عن القراءة يثُورُ سؤالانِ مهمَّان: ماذا نقرأ؟ وكيف نقرأ؟
    وللإجابة عن السؤال الأول نقول: "إننا حين نقرأُ نستثمر العقل والوقت في القراءة، ولا بد أن يكونَ هذا الاستثمار مربِحًا بقدر المستطاع"[5]؛ فالعالم مملوءٌ بالكتب التي يزيد غثُّها على سَمِينها، فكيف نختارُ منها الأحسَنَ والأجودَ؟

    إن في كلِّ عِلم من العلوم أو فنٍّ من الفنون أعلامًا نابِهين مشهورين، أسهَموا فيه وأغنَوْه، وإذا مثَّلْنا لذلك بما يعرفُه الناس، وأخذنا علم التفسير مثلاً، وجدنا مِن أعظم مَن كتب فيه الطبريَّ وابنَ كثير، وإذا أخذنا علم الحديث، فمَن منَّا لا يعرف صحيحيِ البخاري ومسلم؟ وإذا أخذنا المعاجم، فهل ينسى أيُّ دارس للغة العربية معجمي: لسان العرب والقاموس المحيط؟ وإذا ذُكر الشُّعراء، فهل يفوتُ أحدًا دواوينُ المتنبي، وأبي تمَّام، والبُحتري، وأبي العلاء المعرِّي؟ وهكذا.. فمن الأنفعِ إذًا أن نقرَأ للروَّاد في كل علمٍ أو فنٍّ نُريدُ دراستَه، أو الاطلاعَ عليه، وليس عسيرًا معرفةُ هؤلاء؛ فالمتخصِّصون في كل علمٍ يعرفون عظماءَ مَن كتبوا فيه.

    وللإجابة عن السؤال الثاني: كيف نقرأ؟ نقول: القراءة أنواع، أهمها: القراءةُ الجادة الواعية للكتب الأساسية، وهذه تحتاجُ إلى جُهدٍ، وتركيز، وتكرار، وغالبًا ما يكون القارئُ ممسكًا بالقلم ليضع خطًّا تحت المهمِّ من الأفكار، وللتعليق، والتلخيص، والإضافة، والاستفسار، وهذه القراءةُ هي التي تكوِّنُ العِلم، وأوضحُ أمثلتِها الكتبُ المقرَّرة على الطلاب في المدارس والجامعات.

    وتأتي بعد ذلك المطالَعة التي يقلُّ فيها نصيبُ الجُهد، ويرتفع نصيب الاستمتاع، وتكون فيما سوى ذلك من الكتبِ، وأوضحُ أمثلتِها قراءةُ الصحف والمجلات، وهكذا نجد مِن الكتب ما تستغرق قراءتُه الأيامَ الطوال والليالي، ولا بد من العودةِ إليه مرة إثر أخرى، ومنها ما نصحبُه سويعةً نقرأ فيها مقدمتَه، ونطَّلع على فِهرسه وخاتمته، ونقلِّبُ صفحتَه لنقرأ فيها ما يثير اهتمامنا، أو نحتاج إليه، ونكونُ بذلك قد تعرَّفْنا على الكتابِ، فإما نتركه إلى غيرِ رَجْعة، وإما نرجع إليه إذا دعَتْنا الحاجةُ إليه.

    وهكذا نجد أن القراءةَ تُمدنا بموادِّ المعرفة والتَّفكير، ولكنها وحدها لا تصنَعُ منَّا مفكرين؛ لأن التَّفكيرَ كما قال جون لوك: "هو الذي يجعَلُ ما نقرؤُه مِلكًا لنا"[6].

    "ومن هنا، فإن بعضَ المفكِّرين كان يتجه إلى تغليب التَّفكير على القراءة، وبعضهم يتَّجِه إلى تغليب القراءة على التَّفكير، ولكن مِن المتفق عليه أنه لا بد من تخصيصِ وقت للقراءة، ووقت للتفكير، ويمكن أن نغلِّبَ القراءةَ في البداية حتى نهيئَ لعقولنا مادة التَّفكير؛ فالطاحون لا تصنع شيئًا دون وجودِ شيء تطحنه".

    4- الكتابة:
    "ومما يساعدُ على التَّفكير المركَّز أن ندوِّن الأفكارَ التي نحتاج إليها، أو تخطر لنا فيما يتعلق بموضوعِ تفكيرنا، ومن الضروريِّ مراجعةُ تلكم الأفكار، حتى نُبقيَ على مسارات تفكيرنا الأصلي، فلا نبدأ باتجاه، وننتهي إلى اتجاه آخر"[7].

    ويقول هنري هنري هازليت[8]: "إن الكتابةَ ترتبط ارتباطًا متينًا بالتَّفكير، وهي عاملٌ مساعِد على التركيز، وبطؤُها هو النقصُ الوحيد فيها، ولكن مزيتَها المهمة هي أنها تحفَظُ الفكر، والأفكارُ سريعة الهروب؛ لذا كانت الطريقةُ المثلى لاقتناصها تقييدَها بالكتابة عقبَ لَمَعانِها في الذِّهن؛ إذ يجوزُ أن تضيعَ إلى الأبد.

    "ولتسهيل كتابةِ أفكارك وتأمُّلاتِك أقترح عليك الاحتفاظَ بدفتر صغير خاص بهذا الغرض، وأن تحملَ معك دائمًا قلمًا وورقًا[9] حتى تكونَ مستعدًّا دائمًا لتدوينِ ما يحتاج إلى التدوينِ بسرعة واختصار".

    بعد هذا نأتي للحديثِ عن بعض أخطاء التَّفكير التي يساعدُنا اجتنابُها على الوصولِ إلى التَّفكير السديد.

    --------------------------------------------------------------------------------
    [1] فصول في التفكير الموضوعي - د. عبدالكريم بكار: 275، 277.
    [2] ولفظة (القرآن) ذاتها التي هي عَلَمٌ على خاتَم الكتب تعني - فيما تعنيه - القراءةَ؛ فهي مصدر (قرَأ) على وزنِ فُعلان؛ كغُفران وشُكران؛ انظر: المعجم الوسيط 2/729.
    [3] التفكير علم وفن - هنري هازليت: 271.
    [4] أنا: 85، بتصرف.
    [5] فصول في التفكير الموضوعي، د/ عبدالكريم بكار: 30.
    [6] التفكير علم وفن، هنري هازليت: 133.
    [7] فصول في التفكير الموضوعي، د/ عبدالكريم بكار: 32-34 بتصرف.
    [8] التفكير علم وفن: 179-181 بتصرف.
    [9] قال الشاعر العربي:
    لا بد للطالبِ مِن كُناشِ يكتُبُ فيه قاعدًا أو ماشي
    وجاء في المعجم الوسيط (2/807): الكُنَاشة: الأوراق تُجعَل كالدفتر، تُقيَّد فيها الفوائدُ والشواردُ.

    رابط الموضوع: http://www.alukah.net/social/0/69354/#ixzz2AznyKRee[/CENTER]
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي

    من أخطاء التَّفكير:

    1- إساءة التعميم، أو التسرُّع في الاستنتاج.
    2- الخطأ في استعمال التَّفكير النظري.
    3- الاعتماد على مصادرَ غيرِ صحيحة.
    4- تدخُّل العواطف (الهوى) في الحُكم.
    5- المبالغة في التبسيط.
    6- الخَلط بين التقدير والتقديس.
    7- عدم التَّفرِقة بين النص وتفسير النص.
    8- أخطاء المقارنة.
    9- تناقُض الموازين (الكَيْلُ بمكيالين).
    10- الخطأ في استعمال اللُّغة.

    ولنتحدث بإيجاز عن كلِّ واحد من هذه الأخطاء:
    1- إساءة التعميم، أو التسرُّع في الاستنتاج:
    "المقصود بالتعميم: هو العبارة التي تقرِّرُ انطباقَ حُكْم ما على جميعِ أفراد المجموعة"[1].

    ويقدِّمُ علماءُ التربية نصيحتينِ مهمتين لمن يريد التعميمَ، أو صياغة قاعدة أو قانون، حتى يكونَ أقربَ ما يكون من الحقيقةِ، هاتان النصيحتان هما:
    • افحَصْ عددًا كافيًا من أفراد النوع أو المجموعة التي تريدُ أن تصدرَ بشأنها حُكمًا عامًّا.
    • تأكَّدْ من أن الأشياءَ التي تفحصُها تمثِّلُ النوع أو المجموعة أفضلَ تمثيل.

    "ومن الأخطاءِ المتصلة بهذا النوع من التَّفكير اتصالاً وثيقًا ما يوضِّحُه المثال التالي: إن التوتُّر والإجهاد يسبِّبان السرطان؛ فإن السيدة (الفلانية) أصيبتْ بالسَّرطان بعد أن أُجرَيَتْ لها عملية المرارة، أما (فلان) فقد أصيب بهذا المرضِ بعد وفاة زوجته بأربعة أشهر، في حين أن آخَرَ أصيب به بعد أن صدمَتْه سيارة بفترة وجيزة، فلا بد أن هناك علاقةً ما بين السرطان والصَّدَمات النفسية التي يتعرَّض لها الناس.

    "مِثل هذا النوعِ من التسرُّع في التَّفكير يمكنُ أن يسمَّى البرهانَ، عن طريقِ اختيار الأمثلة، فلا شك أن بِضعةَ أمثلة من ملايين الحالات لا يمكن أن تعتبر دليلاً حقيقيًّا، إن الأمثلة القليلة لا تزوِّدُنا إلا بأساس لنظرية معقولة، أو مجرد تخمين للصلة بين الأشياء، هذه الصِّلةُ يجب أن تؤخَذَ بعين الاعتبار، وتُدرَسَ جيدًا، ومع ذلك فإن الكثيرينَ من الناس يتسرَّعونَ في الوصولِ إلى نتائجَ، اعتمادًا على عددٍ قليل من الأمثلة"[2].

    يقول الدكتور محمد عثمان نجاتي[3]: ليس من المتيسرِ للإنسان أن يفكرَ تفكيرًا سليمًا في موضوع ما دون أن تكونَ لديه البياناتُ الكافية، والمعلومات الضرورية المتعلِّقة بالموضوع الذي يفكِّرُ فيه، ولا يستطيع أن يصلَ بتفكيره إلى نتيجةٍ سليمة دون أن تتجمَّعَ لديه الأدلة والبراهين الكافية التي تؤيِّد صحةَ ما يصل إليه... والعلماء والحكماء يتحرَّجون أشدَّ الحرَجِ في إبداء آرائهم، أو إصدار أحكامِهم دون أن تكونَ لديهم الأدلةُ الواضحة الكافية التي يستنِدون إليها فيما يُصدِرون من آراءٍ وأحكامٍ.

    ومما يتصلُ بهذا الموضوع عدمُ اطِّلاعنا على حُجَج المخالِفين، وهو في الحقيقة عدمُ استيفاء البحثِ محلِّ النظر، وعدم إعطائه حقَّه من النظرِ والتأمُّل والدراسة، ويتصلُ بهذا أيضًا ألا نأخذَ رأيَ غيرنا إلا مِن كلامه أو كتبه، وسبب وقوعنا في هذا الخطأ: إما الهوى، وإما الجهلُ بأصول البحث، ولو اطَّلعنا على حُجَج المخالفين لوجَدْنا في عدد من الحالات أن الاختلافَ بين الرأيَيْنِ ليس اختلافًا بين خطأ وصواب كما نعتقدُ أو نظن، إنما هو بين راجح ومرجوح، (أيضًا: من وجهة نظرِنا، وحسَب عِلمنا، وعقلنا، وفهمنا).

    2- الخطأ في استعمال التَّفكير النظري:
    المراد بالتَّفكير النظري هو: "التَّفكير الذي يبحثُ عن الحقائقِ النظرية، ويحاول أن يبرهنَ عليها"، وهو تفكيرٌ محترَم لازمٌ حتى في صياغةِ النظريةِ العِلمية والبرهان عليها في بعضِ الأحيان، ولكنَّه لا يُغنِي عن (التَّفكير العملي) في المجالات التي لا بدَّ لنا فيها من الحصولِ على الحقائقِ والمعلومات".

    فنحن نستطيع - مثلاً - أن نبرهنَ "نظريًّا" على أن العددَ (3) هو الجذرُ التَّكعيبي للعدد (27)، لكننا لا نستطيعُ أن نحدِّدَ متوسط عدد الوجبات التي ينبغي أن نقدِّمَها للطفل الرضيع بمجردِ التَّفكير النظري، دون التَّجرِبة والمشاهَدة لعددٍ كافٍ من الأطفال.

    وكثيرٌ من الناس يكوِّنونَ آراء ومعتقدات يدافعون عنها بشدة بمجرد التَّفكير النظريِّ البعيد عن التَّجرِبة والواقع، في حين لا بد لهم لتكوين الرأي الصحيح عنها من معلوماتٍ صحيحة منطبِقة على الواقع.

    ولعل ميدان السياسة هو من أوضحِ الأمثلة على صِدق ما نقول؛ فأنت تجدُ الاختلاف في وجهات النظر السياسية محتدمًا على أشُدِّه بين الناس، وتجدُ كلَّ طرف يُدلي بحُجَجه ويتكلَّم بثقة وقوة، ويشرَح موقفَه من الدول، والأحزاب، والرؤساء، والزعماء.. موافقًا أو مخالفًا، وكأنه وزيرُ خارجية لدولة كبرى، وفَّرت له المعلوماتِ الصحيحةَ أجهزةٌ مشهود لها بالكفاية والثِّقة، فإذا سألتَه عن مصادرِ معلوماته، وجَدتَ أنها تقديراتٌ نظريةٌ واستنتاجاتٌ عقلية بحتة، والجانبُ العمَلي فيها مستقًى بشكلٍ أبترَ من مصادرَ إعلاميةٍ لا يمكن الاطمئنانُ إلى صحتِها وصدقها إلا بشكلٍ جزئي.

    3- الاعتماد على مصادرَ غيرِ صحيحة:
    أشَرْنا في الفقرةِ السابقة إلى أن (الرأي أو الحُكْم الصحيح يعتمدُ على معلومات صحيحة)، وهذا أمرٌ بديهي، ولكن كم من الناس - الذين يوافِقونَ عليه - يعتمِدونه، أو يطبِّقونه في عالَم الواقع؟
    إن أكثرَ مصادر معلوماتنا ليست جديرةً بالاعتماد عليها: فنحن نكوِّنُ آراءً نؤمِنُ بها، ونتَّخذ مواقفَ نتعصَّب لها، إذا بحثنا عن مصدرِها، وجَدْناه صحيفة سيَّارة، أو مجلَّة غيرَ متخصصة، أو حديثًا إذاعيًّا سمعناه لا نعرف مَن أعدَّه، أو كتابًا لا نعرفُ عن مؤلفه شيئًا! بل نحن نبني بعضَ عقائدنا على أحاديثَ نبوية شريفة نظنها صحيحةً، وإذا بها بعد النظرِ والتمحيص، إما ضعيفة، وإما لا أصلَ لها[4]، مع أن التوجيهَ النبويَّ الأرشدَ يدعو إلى التثبيتِ في الرواية عن النبيِّ المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((من كذَب عليَّ متعمدًا فليتبوَّأْ مقعَدَه من النار))[5]، والتحذير القرآني الأحكمُ يُهيب بالمسلم ألا يتسرعَ في الرواية: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا ﴾ [الإسراء: 36].

    قال ابن الجوزي:[6] "قفا، يقفو الشيء: اتَّبع أثره، والمعنى: لا تقل: رأيتُ، ولم ترَ، ولا: سمعتُ، ولم تسمَعْ"، "ولِمَ عزمتَ على ما لم يحلَّ لك العزمُ عليه"[7].

    وقد اعتنى علماؤُنا القدامى رحمهم الله بالإسناد أيَّما عناية، حتى قالوا: "الإسنادُ من الدِّين، ولولا الإسنادُ لقال من شاء ما شاء"[8]، وتراهم يذكُرون أسانيدَهم فيما يَرْوُون، ليس في كتب الحديث والتاريخ فحسب، بل حتى في كتب الأدبِ والأخبارِ والأشعار.

    ويظن بعضُ الناس أن المرءَ إذا بدأ حديثه بألفاظ لا تفيد القطع، (مثل: سمعتُ من بعض الناس، أو قيل لي: أو: يزعُم بعضهم.. إلخ) فهو ناجٍ من المَلام، والواقع أن الأمرَ ليس كما يظنُّ؛ فقد أخرج الإمامُ أبو داود في سننه[9]، (في كتاب الأدب: باب في الرَّجُل يقول: زعموا) قولَ ابن مسعود رضي الله عنه: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((بئس مَطيَّةُ الرَّجُل زعَموا))[10]؛ أي: أسوأُ عادة للرجل أن يتَّخِذ لفظ (زعموا) مَرْكَبًا إلى مقاصده، فيُخبِر عن أمر تقليدًا من غير تثبُّتٍ، فيخطئ، ويجرب عليه الكذب، والمقصود أن الأخبارَ بخبرٍ مَبْناهُ على الشكِّ والتخمين دون الجزم واليقين قبيحٌ، بل ينبغي أن يكونَ لخبره سندٌ وثبوتٌ، ويكون على ثقةٍ من ذلك، لا مجرد حكاية على ظنٍّ وحسبان، وفي المَثَل: (زعَموا: مَطيَّةُ الكذِبِ).

    4- تدخُّل الهوى (أو العواطف) في الحُكم:
    "الهوى: ميلُ النفس إلى الشهوة، وقيل سُمِّي بذلك لأنه يَهوِي بصاحبِه في الدنيا في كلِّ داهية، وفي الآخرةِ إلى الهاوية..."[11]، وعُرِّف بأنه: "ميلان النَّفسِ إلى ما تستلذُّه الشهواتُ من غيرِ داعية الشَّرع"[12].

    وقد ذمَّ القرآنُ الكريم اتباعَ الهوى، وبيَّن أنه يُضلُّ صاحبَه عن الحقِّ والصواب، بل قد يدفَعُه إلى التكذيبِ بالحق استكبارًا وعنادًا، وربما حمَله على ارتكابِ جريمة القتل، وفيما يلي بضعُ آياتٍ كريمات لا تحتاجُ إلى تعليق:
    ﴿ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [ص: 26].

    ﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28].

    ﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ﴾ [الفرقان: 43].

    ﴿ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ﴾ [المؤمنون: 71].

    وقال تعالى مخاطبًا بني إسرائيلَ: ﴿ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ﴾ [البقرة: 87].

    ويسمِّي بعضُ المفكِّرين الغربيين الهوى بـ: (التحيُّز).

    ويعرِّفون التحيُّزاتِ بأنها: "طُرُق في التَّفكير، يقرِّرها سلفًا قوًى ودواعٍ انفعاليةٌ شديدة؛ كالتي يكون مصدرُها منافعَنا الذاتيةَ الخاصة، أو ارتبطاتِنا الاجتماعيةَ"[13].

    يقول جوزيف جاسترو[14]: "إن التَّفكيرَ الصحيح فنٌّ عسيرٌ على الكثيرين؛ لسببين على الخصوص: الأول: أن عقولاً كثيرة ليس لديها الكفاءةُ لهذه المهمة.. والثاني: هو تدخُّل الانفعالات والعواطف... فكثيرًا ما نقبَلُ، أو نصل إلى نتيجةٍ تحت تأثيرِ رغبة، أو أمَل، أو خوف.. وهذا هو الهوى...".

    "إن الهوى هو الحُكم على شيءٍ مقدَّمًا، وفي أثناء عملية الاستدلال يجعلُنا الهوى نتجاهل بعضَ الوقائع، ونُبالِغُ في تقدير بعضها الآخَر، ميلاً منا نحو نتيجةٍ معينة موضوعة في ذهنِنا منذ البداية"[15].

    "إن عراقيلَ التَّفكير ليست واضحةً كعراقيل الكلام، والمفكِّرُ نفسُه قد لا يفطن لوجود عراقيلَ في تفكيره، كما يجهل المصابُ بعمى الألوان حقيقةَ آفته، إلى أن يكتشفَ مع الزمن أن الناس مِن حوله يرَوْن الأشياءَ على خلاف ما يراها.

    "وليس من الضروري أن يكون الهوى فجًّا، غليظًا، واضحًا للعيان، بل قد يكو دقيقًا خفيًّا؛ فإن الأهواءَ على درجاتٍ متبايِنة، ويمكن أن تتسرَّبَ إلى التَّفكيرِ من مستويات كثيرة، ومعرفة خطرِ الأهواء نافعٌ في الاحتياط منها في خطواتِ تفكيرنا المنطقية".

    وقديمًا أشار الشاعرُ الحكيم إلى قريبٍ مِن هذا المعنى فقال:
    وعينُ الرِّضا عن كلِّ عيب كليلةٌ ولكنَّ عينَ السُّخطِ تُبدي المساويا


    المبالغة في التبسيط:
    يُروى عن إميرسون أنه قال: ما أشقُّ عملٍ في العالم؟ وأجاب: إنه التَّفكير! فلا غرابةَ إذًا أن يميلَ الناسُ - بدافع الكسل النَّفسي والعقلي - إلى تبسيطِ الأمور المعقَّدة، وتلخيص الكتب المطوَّلة، وحل المشكلات العويصة بجملةٍ سهلة الفهم، سهلة الحفظ!

    إن المريضَ بالبدانة يعلمُ أن عليه اتباعَ نظام غذائي صحيح ليشفى من مرَضِه، ولكن المختصَّ هو الذي يرسُمُ له ذلك النظام بالتفصيل، ويغيِّره بعد فترة معينة إذا اقتضى الأمرُ التغيير، ويراقبُ صحتَه في أثناء اتِّباعه لذلك النظام.

    يقول ثاولس:[16] "إن المسائلَ المعقَّدة حول الحقائق الواقعية لا يمكنُ إيفاؤُها حقَّها من القول في معظمِ الحالات، والإعرابُ عنها بكلماتٍ قليلة... وأكثر الناس لا يُعنَوْن بالتعقيدات، ولا يأخذونها في الحسبانِ، وإنما يشعُرون بأنهم واقِفون على القضية وقوفًا تامًّا، وأنهم ألَمُّوا بها إلمامًا تامًّا إذا هم استطاعوا أن يضَعوا مسألةً معقَّدة في قالب بسيط... من ذلك - مثلاً - نظرية أينشتاين في النِّسبية تحوَّلت إلى مجرَّد عبارة بسيطة: (كل شيءٍ نِسبي)! ولُخِّصت أيضًا على هذه الصورةِ نتائجُ الأبحاث العلمية المعقَّدة في التغذيةِ حول القيمة لمختلفِ أصناف الأكل بعبارات مثل: (الحليب مُغذٍّ)، و(الخسُّ غنيٌّ بالفيتامينات).

    "والحقيقةُ أن لأمثال هذه العباراتِ مزيةً علميةً كبيرةً، وهي أنها سهلةُ الحفظ، وسهلة الانتقال من شخصٍ إلى آخر؛ لذا فإن مِن السهل أن يتعزَّزَ الإيمانُ بها بقوة الإيحاء، فإن شاعت عبارة، وتُنوقِلت بين الناسِ أصبحت (شعارًا) له مفعولٌ في سلوك عددٍ كبير من الناس، وفي توجيه هذا السلوك وجهة معينة، وليس استعمالُ الشعار وسيلةً للتأثير في سلوكِ الناس شيئًا منافيًا للحِكمة بحُكم الضرورة؛ فالزعيمُ الحاذق مهما كانت عملياته الفكرية معقَّدةً يحتاجُ في الإعراب عن مذهبِه إلى صيغٍ مبسَّطة؛ لتكون مقبولةً على نطاق واسعٍ.. ولكن الخطر يكمُنُ في أن تصبحَ هذه الصيغُ المبسَّطة قواعدَ تحكُم التَّفكير.

    "إن التَّفكير المبسط له بعضُ النَّفع في النواحي العملية، إلا أنه في واقع الأمرِ قد يكون عَقبةً في سبيل التَّفكيرِ المستقيم؛ فإذا كان الغرضُ الذي نرمي إليه هو الحقيقةَ، وليس الكسل أو المصلحة الخاصة، فالواجبُ علينا ألا نسمَحَ به؛ لِما له من سلبياتٍ كبيرة في المدى البعيد"؛ لأنه لن يحلَّ المشكلات القائمة، بل يزيدُ الواقعَ سوءًا، والمشكلاتِ تعقيدًا.

    6- الخَلْط بين التقدير والتقديس:
    احترامُ الكُبَراء والعلماء والفضلاء وتقديرُهم أمرٌ منسجِم مع الفطرة السَّليمة، ودَعَتْ إليه الشريعةُ الحكيمة؛ فقد جاء عن رسولِ الله صلى الله عليه ونسلم أنه قال: ((إن مِن إجلال الله: إكرامَ ذي الشَّيبةِ المُسلم، وحاملِ القرآن غيرِ الغالي فيه، ولا الجافي عنه، وإكرامَ ذي السُّلطانِ المقسِط))[17]، وقال: ((ليس منا مَن لم يرحَمْ صغيرَنا، ويعرِفْ شرَفَ كبيرنا))[18]، لكنَّ الاحترام والتقدير شيء، والمبالغة في الاحترام إلى درجة التَّقديس شيءٌ آخر.

    ويحسُن بنا ونحن نتحدَّث عن التقدير والتقديس أن ننتبهَ إلى الأمورِ المهمة التالية:
    1- الحق ليس حِكرًا على أحد؛ فكل إنسان يخطئُ ويُصيب، والمعصوم هو النبيُّ صلى الله عليه وسلم.

    2- العالِم الكبير قد تحدُث منه زلَّة كبيرة، يُعتذَر له عنها، ولا تقدَحُ في سائر فضائله.

    3- قد يكون الرجل متفوِّقًا في عِلم دون علمٍ، فيكون لرأيه وكلامه وزنٌ فيما برَع فيه، لا فيما سوى ذلك، وكم من إمامٍ في الحديث لا باع له في الفِقه، وكم من إمام في العلوم العقليَّة بضاعتُه في الحديثِ مُزْجاة.

    4- قد يتَّصف العالِم بخُلُق دون خُلُق؛ فالكمال في الرجالِ - حاشا الأنبياء - غيرُ موجود، وتختلف حظوظُ العلماء - قلةً وكثرةً - من فضائل: كالذكاء الحادِّ، والحِكمة العميقة، والتقوى، وسَعة الأُفق، والذاكرة القوية، وحُسْنُ الخُلُق... وكم من عالم مخلصٍ تقيٍّ نقيٍّ لا يُكتَب حديثه لقلةِ ضبطه!

    قال الجاحظ[19]: "ولكل أحدٍ نصيب من النقص، ومقدارٌ من الذنوب، وإنما يتفاضل الناسُ بكثرة المحاسن وقلة المساوئ؛ فأما الاشتمال على جميعِ المحاسِن، والسلامة من جميع المساوئ: دقيقِها وجليلِها، وظاهرها وخفيِّها، فهذا لا يُعرَفُ".

    5- قد يُدرِك الطالبُ الصغير أمرًا يخفى على العالِم الكبير، وهذا لا يعني أنه أعلمُ منه.

    6- مخالفةُ الصغير للكبير في بعض الرأي لا تعني عدمَ الاحترام، ومخالفةُ العالِم لمن هو أعلمُ منه لا تعني الانتقاصَ من منزلته، أو رفعَ النَّفسِ إلى مستواه، وما أكثرَ مخالفةَ أصحاب أبي حنيفة لإمامِهم في الرأي، وظلَّ هو الإمامَ، وظلُّوا هم الأصحابَ.

    7- الحق لا يُعرف بالرجال، لكن الرجالَ يُعرَفون بالحق، فلا أحد أجلُّ مِن أن يخطئَ، ولا أحدَ أصغرُ من أن ينصحَ ويصوِّبَ.

    8- الأدب مطلوبٌ دائمًا، وعلى كل حال.

    7- عدم التفرقة بين النص وتفسير النص:
    لا شكَّ أن نصوص الكتابِ الكريم مقدَّسة؛ لأنها كلامُ الله سبحانه وتعالى، وتتلوها في المرتبة الأحاديثُ الصحيحة؛ لأنها كلامُ الرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطقُ عن الهوى، لكنَّ بعض الناس يُعطُون فهمَهم للنص، أو فهمَ العالِم الذي يحبُّونه، والإمام الذي يتبعونه مرتبةَ النصِّ نفسها، ويعُدُّون مَن خالف فهمَهم مخالفًا للنص! ولا يخفى ما في هذا الأمرِ مِن البُعد عن الحق والصواب؛ ولهذا السبب ضلَّل أقوامٌ أقوامًا، وفسَّق أناسٌ أناسًا، بل زعَم بعض الناس أنهم وحدهم هم أهلُ التوحيد الخالص!

    إن أكثَرَ نصوص الكتاب والسنَّة ظنيَّةُ الدلالة؛ أي: تحتمل أكثرَ من معنًى واحد، والبشر متفاوتون في عقولِهم، وعلومهم، وقوة فهمِهم واستنباطهم؛ لذلك كان الاختلافُ بينهم في فَهْمِ تلك النصوص أمرًا طبيعيًّا، وشتان بين من يقول: إن هذه الآية خطأ، وإن هذا الحديثَ باطل، وبين من يقول: إن فَهْمَ فلانٍ لهذه الآية أو ذاك الحديث خطأٌ، وأنا أرى رأيًا آخر، أو أرجِّح فهمًا آخر.

    وهؤلاء هم الصحابة الكرام - مَعدِنُ اللغة العربية، وفهمُهم حجة فيها - اختلفوا في فهمِ كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وهو سيِّدُ الفصحاء والبلغاء.

    روى البخاريُّ ومسلم رحمهما الله في صحيحهما، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا رجَع من الأحزاب قال: ((لا يُصلِّينَّ أحدٌ العصر إلا في بني قريظة))، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلِّي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يُرِدْ ذلك منَّا، فذُكِر للنبيِّ صلى الله عليه وسلم فلم يُعنِّفْ أحدًا منهم.

    فالنصُّ إذًا شيء، وتفسير النص، أو فهمه شيء آخر.

    ومن المستحسن في نهاية هذه الفقرة إيرادُ الخبر الطريف التالي:
    "اتفق أربعةُ فنانين ألمان على أن يرسُموا في وقت واحد لوحةً للطبيعة في (تيفولي) قرب روما، كان الأربعة أصدقاء حميمين، تربَّوْا في بيئة واحدة، ودرَسوا في مؤسَّسة تعليمية واحدة، وخلفيَّتُهم الثقافية واحدة، وتعاهَدوا على رسم المنظر الطبيعي بدقة وإخلاص وتجرُّد وموضوعية.. فماذا كانت النتيجة؟ أربع لوحات مختلفة اختلافًا شديدًا! ما دعا (جان باتيست كورو) إلى القول: إنها الطبيعةُ من خلال نفسيَّات الرسَّامين الأربعة!"[20].

    8- أخطاء المقارنة:
    في المقارنة بين أمرين (أو شخصين، أو جماعتين، أو حِزبين، أو بلدين، أو نظامين...) يضعُ بعض الناس حسناتِ هذا أمام عيوب ذاك، ويحكُمون لأحدهما على الآخر، والصواب أن نضعَ حَسناتِ الطرفين في كفَّتين متقابلتين، ونوازنَ بينهما، ثم نفعل بالعيوب مثل ذلك، آخذين في الحسبان أن الحسناتِ تتفاوتُ فيما بينها في الأهمية، وكذلك العيوب؛ فالحفاظ على سنَّة التطيُّب - مثلاً - ليس كالحفاظِ على سنَّة التهجد في الفضل، وإغلاظ القول للأخِ الأصغر ليس كإغلاظِه لأحدِ الوالدينِ!

    9- تناقض الموازين (أو الكَيْل بمكيالين):
    المراد بتناقض الموازين أن يستعملَ الإنسانُ ميزانينِ مختلفين لوزن حالتين متشابهتين، أو استعمال ميزانٍ واحد في الحُكم على قضيَّتين مختلفتين، ويحصلُ هذا أحيانًا في الأمورِ الفقهية الخلافية دون أن يفطنَ مرتكبُ هذا الخطأ إلى ما يقعُ فيه من التناقض، فنجدُ الشخص - مثلاً - يستشهِد على صحةِ الرأي الشرعي الذي يحمِلُه بقول الإمام الذي يتبع مذهبَه، أو العالم الذي يميل إليه، في الوقت الذي لا يرضى منك أن تستدلَّ بقول الإمامِ الذي تتبع مذهبَه، أو العالم الذي تميل إليه، ويقول لك: أريدُ الدليلَ من الكتاب أو السنَّة، ونسِي أنه أتى بدليله من فَهْمِ العلماء، لا من الكتاب والسنَّة!

    وتناقض الموازين، أو (الكَيْل بمكيالين) هو نوعٌ من أنواع الظُّلم للحقيقة، (وهو ظُلم معنوي)، عند الحديث عن التَّفكير وعيوبه، وقد يكون (ظلمًا ماديًّا) على مستوى الأفراد، أو الجماعات، أو الأحزاب، أو الشعوب، أو الدول... فيمارس كلُّ واحد من هؤلاء نوعًا من الظلمِ يختلف باختلاف دواعيه، وأسبابِه، وموضوعِه.

    وقد أشار القرآنُ الكريم إشارة رائعة إلى هذا النوعِ من أنواع الظلم بقوله: ﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِين َ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ [المطففين: 1 - 5]!

    إذ بدَأَتْ سورة (المطففين) بإعلان الحربِ من الله عليهم، والمطفِّفون هم الذين يبخَسون حقوق الناس في الكَيْل والوزن عن الواجب لهم من الوفاء، جمع: مُطفِّف؛ من الطَّفيف، وهو التافهُ القليل؛ لأن ما يبخَسُه المطفِّفُ شيءٌ نزر حقير، وهو وعيدٌ شديد لمن يأخُذُ لنفسه وافيًا، ويعطي لغيره ناقصًا، قليلاً كان أو كثيرًا، وأنا أرى الشَّبَهَ شديدًا بين (التطفيف المادي) و(التطفيف المعنوي)، بل قد يكون الثاني أخطَرَ بكثير!

    10- الخطأ في استعمال اللُّغَة:
    "قال عثمانُ المهري: أتانا كتابُ عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه ونحن بأذربيجان يأمُرُنا بأشياء، ويذكُرُ فيها: تعلَّموا العربية؛ فإنها تُثبتُ العقلَ، وتزيدُ في المروءةِ"[21].

    وقال زوج ابنة الإمام الشافعيِّ رحمه الله: "أقام الشافعيُّ علم العربية وأيام الناس عشرين سنة، فقُلْنا له في هذا، فقال ما أردتُ بهذا إلا استعانةً للفقه"[22]؛ أي: ظل عشرين سنة يتبحَّر في اللغة وعلومها ليفهَمَ القرآنَ والسنَّة حقَّ الفهم، وهو الذي يقول: "أصحابُ العربية جنُّ الإنسِ، يُبصِرون ما لا يُبصِر غيرُهم"[23]، وكان علماءُ الدِّين يقولون: "من تكلَّم في الفقهِ بغير لغةٍ تكلَّم بلسانٍ قصير"، وفي هذا كفايةٌ لإثبات أهميةِ اللغة في الفهمِ والتَّفكيرِ.

    يقول وليم شانر في كتابه: الطريق إلى التَّفكير المنطقي، تحت عنوان: الدقَّة في استعمال اللُّغة[24]:
    "التَّفكير المنطقي نوعٌ من المحادَثة التي نقومُ بها مع أنفسنا، إننا نسألُ أنفسنا، ونبحثُ عن إجابات لأسئلتِنا، ثم نقارن كلَّ إجابة بالأخرى، ولكي نقومَ بهذه المحاولة نجدُ أنفسَنا مضطرين إلى استخدامِ الألفاظ، ودون هذه الألفاظ لا نستطيعُ أن نفكِّرَ تفكيرًا منطقيًّا، إن الألفاظَ لَبِناتُ التَّفكيرِ المنطقي، وإذا شئنا أن نفكرَ تفكيرًا صائبًا، فإن من الواجب أن نفهَمَ ما يتعلقُ بمادة البناء التي نستخدمُها".

    ويقول جوزيف جاسترو[25]: "إن جزءًا كبيرًا من تفكيرِنا يجري في ألفاظ؛ فالكلامُ والكتابة يبلوران الألفاظَ وينظِّمانها، والحجةُ القانونية أو العِلمية، ومخاطبة الناس جميعًا - أفرادًا وجماهير - تقومُ على صياغةِ الأفكار في قوالبِ الألفاظ؛ فالتدرُّبُ إذًا على الاستعمالِ الصحيح للُّغة، وتوسيع دائرة المفردات هو أحدُ أنواع التدرُّبِ على التَّفكير.

    "والألفاظ أيضًا قد تُعرقِل التَّفكيرَ وتؤذيه إذا استُخدمَتْ بشكلٍ عائم غائم، من غيرِ أن يكونَ وراءها رصيدٌ من أفكارٍ صحيحة واضحة، وما أكثرَ أخطاءَ التَّفكير الناجمة عن خِداع الألفاظ.

    "إن معرفتَكَ كيف تقولُ ما تفكِّر فيه - بشكل سديد - مبدأٌ من أهمِّ مبادئ (الصِّحة المنطقية)؛ إذ الفكرُ ينضَجُ عن طريق التعبير؛ لأنك حين تكون بصددِ الكتابة أو الكلام تتعلَّمُ كيف تفكِّرُ تفكيرًا سديدًا لتُحسِن التعبير، كما تتعلَّمُ كيف تفكر تفكيرًا سديدًا وأنت تعملُ لتُحسِن التنفيذ...".

    ومِن الأخطاء الخطيرة التي يقعُ فيها بعضُ الناس، وتكثُرُ عند الشُّعراء والأدباء، أنهم يجعَلون المعانيَ تابعةً للألفاظ، فيسترسلون مع التعابيرِ والمفردات، بشكل يهدِّدُ المعنى، ومن ثمَّ يهدِّدُ التَّفكير.

    قال الإمام عبدُالقاهر الجُرْجانيُّ[26] رحمه الله: "ومِن هنا رأيتُ العلماءَ يذمُّون مَن يحملُهُ تطلُّبُ السَّجعِ والتجنيس على أن يَضِيمَ لهما المعنى؛ وعليه فهو تفسير خطأ، والصواب أن يقول: أي: يظلِمَه ويبخَسَه، ويُدخِلَ الخَلَلَ عليه من أجلِهما، وعلى أن يتعسَّفَ في الاستعارةِ بسببهما..".

    --------------------------------------------------------------------------------
    [1] الطريق إلى التفكير المنطقي، وليم شانر: 49.
    [2] التفكير الواضح، هاي روتشليس: 123.
    [3] القرآن وعلم النفس: 150 بتصرف.
    [4] كثيرٌ من الناس يروون قولَ القائل: "سؤر المؤمِن شفاء" على أنه حديثٌ نبويٌّ شريف، والواقع أنه كلام مردود، وليس بحديث؛ انظر: كشف الخفا - إسماعيل بن محمد العجلوني: 1/555.
    [5] حديث متواتر، رواه البخاري ومسلم وغيرهما، قال ابن الجوزي: رواه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ثمانيةٌ وتسعون صحابيًّا، منهم العشَرةُ المبشَّرون بالجنَّة، ولا يُعرَف ذلك في غيره؛ انظر: كشف الخفا - العجلوني: 2/361.
    [6] زاد المسير: 5/34.
    [7] الكشاف، الزمخشري: 2/667.
    [8] قول الإمام عبدالله بن المبارك رحمه الله؛ انظر: كتاب: الإسناد من الدين، عبدالفتاح أبو غدة (الطبعة الأولى): 16-17، والإسناد: حكايةُ طريقِ متن الحديث؛ أي: الرِّجال الذين روَوْا نصَّ الحديث.
    [9] انظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود: 13/214، وفيض القدير شرح الجامع الصغير، محمد عبدالرؤوف المناوي: 3/280.
    [10] جاء في المعجم الوسيط: زعم: ظنَّ، وأكثر ما يُستعمَل الزعمُ فيما كان باطلاً أو فيه ارتياب، وزعم: قال، وكذَب، ووعَد.
    [11] انظر: المفردات للراغب الأصفهاني: 545.
    [12] انظر: التعريفات، للشريف الجرجاني: 278.
    [13] التفكير المستقيم والتفكير الأعوج، روبرت هـ. ثاولس: 183.
    [14] التفكير السديد: 115، 120، 129 بتصرف.
    [15] يعبِّر ثاولس (187) عن هذه الفكرة بقوله: "إننا نكونُ تحت تأثير الهوى والتحيُّز ميَّالين إلى تصديقِ ما نرغب في تصديقِه، أو نحتاجه أن يكون صحيحًا، وإلى إنكارِ ما نرغبُ في إنكارِه، أو ما نحتاجه أن يكونَ باطلاً".
    [16] في كتابه: التفكير المستقيم والتفكير الأعوج، تحت عنوان: التبسيط المسرِف في التفسير: 203-214 بتصرف.
    [17] رواه أبو داودَ، رقم 4843، وحسَّنه النووي، والعراقيُّ، وابن حجر.
    [18] رواه أبو داود رقم (4943)، والترمذي رقم 1921، وقال: حسَن صحيح، كما رواه الإمام أحمدُ والحاكم وصحَّحه، ووافَقه الذهبي.
    [19] رسائل الجاحظ: 1/36.
    [20] انظر كتاب: إنسانية الإنسان، رينيه دوبو، ترجمة د/ نبيل الطويل: 154.
    [21] صبح الأعشى، المقالة الأولى، تحت عنوان: المعرفة بالنحو وبيان وجهِ احتياج الكاتب إليه.
    [22] الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي: 2/41.
    [23] آداب الشافعي ومناقبه، الرازي: 150.
    [24] ص22 بتصرف.
    [25] التفكير السديد: 256، 257 بتصرف.
    [26] دلائل الإعجاز: 401.

    رابط الموضوع: http://www.alukah.net/social/0/69608/#ixzz2AzokeWGn
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •