" يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب , حتى لا يدرى ما صيام , ولا صلاة , ولا نسك , ولا صدقة , وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة , فلا يبقى في الأرض منه آية , وتبقى طوائف من الناس , الشيخ الكبير والعجوز , يقولون : أدركنا آباءنا على هذه الكلمة , لا إله إلا الله , فنحن نقولها " , فقال له صلة : ما تغني عنهم لا إله إلا الله , وهم لا يدرون ما صلاة , ولا صيام , ولا نسك , ولا صدقة ؟ فأعرض عنه حذيفة , ثم ردها عليه ثلاثا , كل ذلك يعرض عنه حذيفة , ثم أقبل عليه في الثالثة , فقال : يا صلة تنجيهم من النار , ثلاثا ".

صحيح على شرط مسلم - أخرجه ابن ماجه (4049) , ونعيم بن حماد في "الفتن" (1663) , والبزار 2838-البحر الزخار , والحاكم 4/ 473 و545 , والبيهقي في "الشعب" (2028) : عن أبي معاوية، عن أبي مالك الأشجعي، عن ربعي،
عن حذيفة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكره
وقال الحاكم:
هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه " وأقره الذهبي .
وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة" 4/ 194 : " هذا إسناد صحيح رجاله ثقات رواه مسدد في مسنده عن أبي عوانة عن أبي مالك بإسناده ومتنه ورواه الحاكم في المستدرك من طريق أبي كريب عن أبي معاوية به وقال صحيح على شرط مسلم".

وذكر الشيخ الألباني رحمه الله تعالى شيئًا من فوائد هذا الحديث في "الصحيحة" 1/173 بقوله : " وفي هذا الحديث نبأ خطير، وهو أنه سوف يأتي يوم على الإسلام يمحى أثره، وعلى القرآن فيرفع فلا يبقى منه ولا آية واحدة، وذلك لا يكون قطعا إلا بعد
أن يسيطر الإسلام على الكرة الأرضية جميعها، وتكون كلمته فيها هي العليا.كما هو نص قول الله تبارك وتعالى (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله) ، وكما شرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك في أحاديث كثيرة سبق ذكر بعضها في المقال الأول من هذه المقالات (الأحاديث الصحيحة) .وما رفع القرآن الكريم في آخر الزمان إلا تمهيدا لإقامة الساعة على شرار الخلق الذين لا يعرفون شيئا من الإسلام البتة، حتى ولا توحيده!
وفي الحديث إشارة إلى عظمة القرآن، وأن وجوده بين المسلمين هو السبب لبقاء دينهم ورسوخ بنيانه وما ذلك إلا بتدارسه وتدبره وتفهمه ولذلك تعهد الله تبارك وتعالى بحفظه، إلى أن يأذن الله برفعه. فما أبعد ضلال بعض المقلدة الذين يذهبون إلى أن الدين محفوظ بالمذاهب الأربعة، وأنه لا ضير على المسلمين من ضياع قرآنهم لو فرض وقوع ذلك! ! هذا ما كان صرح لي به أحد كبار المفتين من الأعاجم وهو يتكلم العربية الفصحى بطلاقة وذلك لما جرى الحديث بيني وبينه حول الاجتهاد والتقليد. قال - ما يردده كثير من الناس -: إن الاجتهاد أغلق بابه منذ القرن الرابع! فقلت له: وماذا نفعل بهذه الحوادث الكثيرة التي تتطلب معرفة حكم الله فيها اليوم؟
قال: إن هذه الحوادث مهما كثرت فستجد الجواب عنها في كتب علمائنا إما عن عينها أو مثلها.
قلت: فقد اعترفت ببقاء باب الاجتهاد مفتوحا ولا بد!
قال: وكيف ذلك؟
قلت: لأنك اعترفت أن الجواب قد يكون عن مثلها، لا عن عينها وإذ الأمر كذلك، فلابد من النظر في كون الحادثه في هذا العصر، هي مثل التي أجابوا عنها، وحين ذلك فلا مناص من استعمال النظر والقياس وهو الدليل الرابع من أدلة الشرع،وهذا معناه الاجتهاد بعينه لمن هو له أهل! فكيف تقولون بسد بابه؟ ! ويذكرني هذا بحديث آخر جرى بيني وبين أحد المفتين شمال سورية، سألته: هل تصح الصلاة في الطائرة؟ قال: نعم. قلت: هل تقول ذلك تقليدا أم اجتهادا؟ قال: ماذا تعني؟ قلت: لا يخفى أن من أصولكم في الإفتاء، أنه لا يجوز الإفتاء باجتهاد، بل اعتمادا على نص من إمام، فهل هناك نص بصحة الصلاة في الطائرة؟ قال: لا، قلت: فكيف إذن خالفتم أصلكم هذا فأفتيتم دون نص؟ قال: قياسا.
قلت: ما هو المقيس عليه؟ قال: الصلاة في السفينة.
قلت: هذا حسن، ولكنك خالفت بذلك أصلا وفرعا، أما الأصل فما سبق ذكره،
وأما الفرع فقد ذكر الرافعي في شرحه أن المصلي لو صلى في أرجوحة غير معلقة بالسقف ولا مدعمة بالأرض فصلاته باطلة. قال: لا علم لي بهذا.
قلت: فراجع الرافعي إذن لتعلم أن (فوق كل ذي علم عليم) ، فلو أنك تعترف أنك من أهل القياس والاجتهاد وأنه يجوز لك ذلك ولو في حدود المذهب فقط، لكانت النتيجة أن الصلاة في الطائرة باطلة لأنها هي التي يتحقق فيها ما ذكره الرافعي من الفرضية الخيالية يومئذ. أما نحن فنرى أن الصلاة في الطائرة صحيحة لا شك في ذلك، ولئن كان السبب في صحة الصلاة في السفينة أنها مدعمة بالماء بينها وبين الأرض، فالطائرة أيضا مدعمة بالهواء بينها وبين الأرض. وهذا هو الذي بدا
لكم في أول الأمر حين بحثتم استقلالا، ولكنكم لما علمتم بذلك الفرع المذهبي صدكم عن القول بما أداكم إليه بحثكم! ؟
أعود إلى إتمام الحديث مع المفتي الأعجمي، قلت له: وإذا كان الأمر كما تقولون: إن المسلمين ليسوا بحاجة إلى مجتهدين لأن المفتي يجد الجواب عن عين المسألة أو مثلها، فهل يترتب ضرر ما لو فرض ذهاب القرآن؟ قال: هذا لا يقع، قلت: إنما أقول: لو فرض، قال: لا يترتب أي ضرر لو فرض وقوع ذلك!
قلت: فما قيمة امتنان الله عز وجل إذن على عباده بحفظ القرآن حين قال: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) ، إذا كان هذا الحفظ غير ضروري بعد الأئمة ؟ ! والحقيقة أن هذا الجواب الذي حصلنا عليه من المفتي بطريق المحاورة، هو جواب كل مقلد على وجه الأرض، وإنما الفرق أن بعضهم لا يجرؤ على التصريح به، وإن كان قلبه قد انطوى عليه. نعوذ بالله من الخذلان. فتأمل أيها القارىء اللبيب مبلغ ضرر ما نشكو منه، لقد جعلوا القرآن في حكم المرفوع، وهو لا يزال بين ظهرانينا والحمد لله،
فكيف يكون حالهم حين يسرى عليه في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية؟ !
فاللهم هداك.


((حكم تارك الصلاة)):

هذا وفي الحديث فائدة فقهية هامة، وهي أن شهادة أن لا إله إلا الله تنجي قائلها من الخلود في النار يوم القيامة ولو كان لا يقوم بشيء من أركان الإسلام الخمسة الأخرى كالصلاة وغيرها، ومن المعلوم أن العلماء اختلفوا في حكم تارك الصلاة خاصة، مع إيمانه بمشروعيتها، فالجمهور على أنه لا يكفر بذلك، بل يفسق وذهب أحمد إلى أنه يكفر وأنه يقتل ردة، لا حدا، وقد صح عن الصحابة أنهم كانوا لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة. رواه الترمذي والحاكم،وأنا أرى أن الصواب رأي الجمهور، وأن ما ورد عن الصحابة ليس نصا على أنهم كانوا يريدون بـ (الكفر) هنا الكفر الذي يخلد صاحبه في النار ولا يحتمل أن يغفره الله له، كيف ذلك وهذا حذيفة بن اليمان - وهو من كبار أولئك الصحابة -
يرد على صلة بن زفر وهو يكاد يفهم الأمر على نحو فهم أحمد له، فيقول: ما تغني عنهم لا إله إلا الله، وهم لا يدرون ما صلاة.... " فيجيبه حذيفة بعد إعراضه عنه: " يا صلة تنجيهم من النار. ثلاثا ".
فهذا نص من حذيفة رضي الله عنه على أن تارك الصلاة، ومثلها بقية الأركان ليس بكافر، بل هو مسلم ناج من الخلود في النار يوم القيامة. فاحفظ هذا فإنه قد لا تجده في غير هذا المكان.
وفي الحديث المرفوع ما يشهد له، ولعلنا نذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى. ثم وقفت على " الفتاوى الحديثية " (84 / 2) للحافظ السخاوي، فرأيته يقول بعد أن ساق بعض الأحاديث الواردة في تكفير تارك الصلاة وهي مشهورة معروفة: " ولكن كل هذا إنما يحمل على ظاهره في حق تاركها جاحدا لوجودها مع كونه ممن نشأ بين المسلمين، لأنه يكون حينئذ كافرا مرتدا بإجماع المسلمين، فإن رجع إلى الإسلام قبل منه، وإلا قتل. وأما من تركها بلا عذر، بل تكاسلا مع اعتقاد وجوبها، فالصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور أنه لا يكفر، وأنه - على الصحيح أيضا - بعد إخراج الصلاة الواحدة عن وقتها الضروري، كأن يترك الظهر مثلا حتى تغرب الشمس أو المغرب حتى يطلع الفجر - يستتاب كما يستتاب المرتد، ثم يقتل إن لم يتب، ويغسل ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين، مع إجراء سائر أحكام المسلمين عليه. ويؤول إطلاق الكفر عليه لكونه شارك الكافر في بعض أحكامه. وهو وجوب العمل، جمعا بين هذه النصوص وبين ما صح أيضا عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: خمس صلوات كتبهن الله - فذكر الحديث. وفيه: " إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له " وقال أيضا: " من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة " إلى غير ذلك. ولهذا لم يزل المسلمون يرثون تارك الصلاة
ويورثونه ولو كان كافرا لم يغفر له، ولم يرث ولم يورث ".
وقد ذكر نحو هذا الشيخ سليمان بن الشيخ عبد الله في " حاشيته على المقنع "، (1 / 95 - 96) وختم البحث بقوله: " ولأن ذلك إجماع المسلمين، فإننا لا نعلم في عصر من الأعصار أحدا من تاركي الصلاة، ترك تغسيله والصلاة عليه، ولا منع ميراث موروثه مع كثرة تاركي الصلاة، ولو كفر لثبتت هذه الأحكام. وأما الأحاديث المتقدمة، فهي على وجه التغليظ والتشبيه بالكفار لا على الحقيقة، كقوله عليه الصلاة والسلام: " سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر "، وقوله " من حلف بغير الله فقد أشرك "
وغير ذلك. قال الموفق: وهذا أصوب القولين ".
أقول: نقلت هذا النص من " الحاشية " المذكورة، ليعلم بعض متعصبة الحنابلة، أن الذي ذهبت إليه، ليس رأيا لنا تفردنا به دون أهل العلم، بل هو مذهب جمهورهم، والمحققين من علماء الحنابلة أنفسهم، كالموفق هذا، وهو ابن قدامة المقدسي، وغيره، ففي ذلك حجة كافية على أولئك المتعصبة، تحملهم إن شاء الله تعالى، على ترك غلوائهم، والاعتدال في حكمهم.
بيد أن هنا دقيقة، قل من رأيته تنبه لها، أو نبه عليها، فوجب الكشف عنها وبيانها.
فأقول: إن التارك للصلاة كسلا إنما يصح الحكم بإسلامه، ما دام لا يوجد هناك ما يكشف عن مكنون قلبه، أو يدل عليه، ومات على ذلك، قبل أن يستتاب كما هو الواقع في هذا الزمان، أما لو خير بين القتل والتوبة بالرجوع إلى المحافظة على الصلاة، فاختار القتل عليها، فقتل، فهو في هذه الحالة يموت كافرا، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا تجري عليه أحكامهم، خلافا لما سبق عن السخاوي لأنه لا يعقل - لو كان غير جاحد لها في قلبه - أن يختار القتل عليها، هذا أمر مستحيل، معروف بالضرورة من طبيعة الإنسان، لا يحتاج إثباته إلى برهان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في " مجموعة الفتاوى " (2 / 48) : " ومتى امتنع الرجل من الصلاة حتى يقتل، لم يكن في الباطن مقرا بوجوبها ولا ملتزما بفعلها، وهذا كافر باتفاق المسلمين، كما استفاضت الآثار عن الصحابة بكفر هذا، ودلت عليه النصوص الصحيحة.... فمن كان مصرا على تركها حتى يموت، لا يسجد لله سجدة قط، فهذا لا يكون قط مسلما مقرا بوجوبها، فإن اعتقاد الوجوب واعتقاد أن تاركها يستحق القتل، هذا داع تام إلى فعلها، والداعي مع القدرة
يوجب وجود المقدور، فإذا كان قادرا ولم يفعل قط، علم أن الداعي في حقه لم يوجد ".

قلت : هذا الحديث فيه دليل على أن الإنسان يُعذر بالجهل , فهؤلاء الذين ذُكروا في هذا الحديث يجهلون أركان الإسلام العملية فإن قوله ( لا يدرون ما صلاة , ولا صيام , ولا نسك , ولا صدقة ) دليل على اندراسها حتى نسيها الناس ولم يبقَ من أركان

الإسلام سوى لا إله إلا الله فهم يقولونها لأنهم أدركوا آبائهم يقولونها فهم يقولونها ولا يعرفون غير هذه الكلمة الطيبة , ولم يقل الراوي أنهم لا يصلون ولا يصومون الخ , بل قال ( لا يدرون ما صلاة , ولا صيام , ولا نسك , ولا صدقة ) , وفي الحقيقة أن هذا الحديث لا دليل فيه على عدم كفر تارك الصلاة كسلا , وإنما هذا يُؤخذ من أحاديث أخرى غير هذا , وقد نص الفقهاء على أن جاحد وجوب الصلاة، إذا كان جاهلا، وكان في أرض بادية، وبعيد، ما يعرف عن الإسلام، لا يعرف وجوب الصلاة، أنه لا يكفر بذلك، بل يعذر بجهله، إذا كان مثله يجهل، بخلاف من ينكر وجوب الصلاة، وهو بين الناس، وبين المسلمين، هذا لا عذر له، ولا يمكن أن يقال: إنه جاحد، فهؤلاء جهال، عذرهم الجهل، فلا يصلح الحديث للإحتجاج به على عدم كفر تارك الصلاة والله أعلم .

وكتبه
أبو سامي العبدان
حسن التمام
الحادي عشر من شهر الله المحرم عام 1437 من هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم