من المعلوم أن خطابات القرآن على ثلاثة أنواع : خطاب موجه إلى الرجال - خطاب موجه إلى النساء - خطاب موجه إليهما جميعا .
وإن كان الغالب هو الخطاب الموجه بصيغة المذكر .
وهذا هو الذي جاء بلفظ الذكور ، وإن كان المراد الجنسين معا ،كالآيات التي جاءت بلفظ : (يابني آدم) ، و (يا أيها الذين آمنوا) .
وكذلك التي جاءت بـ (واو) الجماعة كقوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً)
وهذا هو الموافق لأساليب اللغة العربية والبلاغة .
ومن المعلوم أيضا لدى كل ذي حس عربي وذوق فصيح أن أحكام القرآن – في الغالب – عامة للرجال والنساء ، فلو توجه الخطاب إلى الرجال ثم أعيد إلى النساء في كل آية ، لكان ذلك خلاف البلاغة والفصاحة .
فلا يصلح أن يقال : (يا أيها الذين آمنوا ويا أيتها اللاتي آمن ...) و (يابني آدم ويا بنات آدم...) . أو نحو ذلك .
فهذا تطويل وأسلوب ركيك لا يتكلم به فصيح فضلا عن القرآن الكريم ، وهو أفصح الكلام وأبلغه ، نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ( بلسان عربي مبين ) ، ( قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ) .
فلا شك أن مخاطبة الرجال والنساء بصيغة واحدة تعمهما جميعا هو الأبلغ والأفصح .
وقد اتفق العرب الذين نزل القرآن بلسانهم - على مخاطبة الرجال والنساء مجتمعين بصيغة المذكر لا المؤنث .
قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى في أضواء البيان ( 6 / 637 ) :
" وقد أجمع أهل اللسان العربي على تغليب الذكور على الإناث في الجموع ونحوها ، كما هو معلوم في محله ".اهـ
وإنما فعلت العرب ذلك ، لخفة المذكر عندهم على المؤنث ، وتقدمه عليه في لسانهم .
قال الإمام سيبويه رحمه الله في "الكتاب" ( 1 / 22 ) :
" واعلم أن المذكَّر أخفّ عليهم من المؤنّث لأنّ المذكر أوّل ، وهو أشدُّ تمكنا، وإنّما يخرج التأنيثُ من التذكير. ألا ترى أنّ " الشيء " يقع على كلَّ ما أخبر عنه من قبل أن يُعْلَم أذكرٌ هو أو أُنثى، والشيء ذكر" اهــ.
وقال ابن الأنباري رحمه الله في أسرار العربية ( ص 167 ) :
الباب الثالث والثلاثون: باب العدد
[علَّة دخول الهاء على العدد المذكّر]
إن قال قائل: لِمَ أدخلت الهاء من الثلاثة إلى العشرة في المذكر؛ نحو: "خمسة رجال" ولم تدخل في المؤنث؛ نحو: "خمس نسوة"؟ قيل: إنما فعلوا ذلك للفرق بينهما فإن قيل: فهلَّا عكسوا، وكان الفرق حاصلاً؟ قيل: لأربعة أوجه:
الوجه الأوَّل: أن الأصل في العدد أن يكون مؤنثًا، والأصل في المؤنث أن يكون بالهاء، والمذكر هو الأصل، فأخذ الأصل الهاء؛ فبقي المؤنث بغير هاء.
والوجه الثاني: أن المذكر أخف من المؤنث، فلما كان المذكر أخف من المؤنث، احتمل الزيادة، والمؤنث لَمّا كان أثقل، لم يحتمل الزيادة.
وقال ابن سيده رحمه الله في المخصص 5 / 195:
... والقول الثاني أنه فصل بين المؤنث والمذكر بالهاء ونزعها لتدل على تأنيث الواحد وتذكيره.
فإن قال قائل : فهلاَّ أَدْخَلُوا الهاء في المؤنث ونزعوها من المذكر ؟
فالجواب في ذلك : أن المذكر أخف في واحده من المؤنث فثُقِّلَ جمعُه بالهاء وخُفِّفَ جمعُ المؤنث ليعتدلا في الثِّقَلِ ..اهــ
فالحاصل : أن تغليب التذكير في الخطاب القرآني هو ما يناسب العرف اللغوي في اللغة العربية التي نزل بها القرآن ، كما أنّه يناسب أيضا تقدير الله الكوني والشرعي .