حكم حذف التغريدة !

هذا موضوع لطيف إنقدح في ذهني بعد مشاهدات كثيرة عن بعض المغرِّدين المشاهير تُفيد بحذف تغريداتهم بعد تدوينها في بعض مواقع التواصل الإجتماعي .



والحذف والإثبات معروف قديماً عند العلماء لكنه على حسب مصلحة الشرع وجوداً وعدماً . ومن المسائل الأصولية التي تتعلَّق بهذا الموضوع المليح قول بعض الأصوليين : لا يجوز إحداث قول ثالث إذا اختلف الصحابة في مسألة على رأيين .



الكتابة والتدوين بمنزلة الإقرار والشهادة في كثيرٍ من اعتباراتها ، وهي توثيق خطِّي كتابي لما يعتقده الكاتب أو يشرع في تحريره .
المقصود بحذف التغريدة : حذف إقرار الكاتب أو المحرِّر لحقيقة معينة قام بتحريرها ثم نقضها من تلقاء نفسه .



السبب الرئيس لحذف المغرِّدين لتغريداتهم أو بعضها هو غموض الهدف وقِلة المعلومات والخوف من الأذى المعنوي أو البدني .
سًهيل بن عمرو في بيعة الرضوان أمر علياً رضي الله عنه بمسح وحذف عبارة ” محمد رسول الله ” واستبدالها بعبارة ” محمد بن عبد الله ” في القصة المشهورة ، لإعتقاده بصدق مذهبه ودعوة قومه .



في الفقه الإسلامي يحرم على المغرِّد أو الكاتب أن يُحرِّر شيئاً للناس وهو في حَنق أو يُعاني من حيرة أو تردُّد في اتخاذ قرار ، أو لا يملك الشجاعة الأدبية للتعبير عن رأيه وتحمُّل مسؤوليته .
ومصطلح الإقرار الكاذب تناوله الإمام ابن تيمية ( ت: 728هـ) رحمه الله تعالى بشيءٍ من الإسهاب في فتاويه ،وبيَّن أنه لا يعتدُّ به ويحرم كتابته أو تلقينه أو الشهادة به .


وما أشار إليه الإمام موجود في عصرنا للأسف الشديد وهو الإخبار بشيءٍ لا حقيقة له ، أو الشهادة بأمور لا تصح ويجب تكذيبها ، للقرائن والشواهد المانعة لها ، كالإقرار بالمنامات الكاذبة والحوادث المختلقة والقصص المكذوبة عن أحوال الناس أو الدُّول والحكومات وأهل العلم الصالحين والطالحين على حدِّ سواء .


بعض الكتابات أو التغريدات يترتب عليها حُقوق للناس في أعراضهم أو أموالهم أو حياتهم الشخصية ، وقد تكون سبباً في ملاسنات أو دعاوى طويلة في المحاكم ودوائر القضاء .
الترف في الكتابة أو التحرير بدون هدف واضح يُسبِّب عوائق صعبة للكاتب أو المغرِّد ، وربما أمراض وعقد نفسية يؤول إليها بقلمه ، وقد ينتهي إلى الطعن في الأديان وأنبياء الله وكتبه واليوم الآخر ، كما هو حال كثيرٍ ممن يكتب في مواقع التواصل .
ثبت عن كثيرٍ من الأئمة المتكلمين تراجعهم عن مذهبهم أو طريقتهم في مسائل العلم كالأئمة الجويني( ت: 478هـ) والغزالي( ت: 505هـ) والرازي ( ت: 60هـ) عفى الله تعالى عنهم .
ومن العلماء من صنَّف كتاباً ثم ندم على تصنيفه كوهب بن منبِّه رحمه الله تعالى ( ت: 114هـ ) ، فقد صنَّف في القدر كتاباً ثم ندم عليه ، لأن القدر سِّر الله في خلقه ، ويثقل فهمه على عوام الناس فضلاً عن خواصهم .
ولما حدثت الفِتن بين الصحابة رضي الله عنهم أجمعين وخاض فيها من خاض من الكبار والأعيان ، اعتزل بعضهم وندموا على أقوالهم وما كتبه البعض فيها من أحاديث وروايات توغر النفوس .
من الفقه في دين الله الثبات على المبدأ إن اعتقد صاحبه أنه على الحق ، وقد يؤجر على ذلك .


وقد ثبت أن أمَّ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ، كانت تغضب على ولدها ليغيِّر دينه ، فيقول لها : ” يا أُمَّاه : لو كانت لك مئة نفس فخرجت نفساً نفساً ما تركتُ ديني ، فكلي وإن شئتِ فلا تأكلي ” .


وفي قصة الحاكم العبيدي الفاطمي ( ت: 411هـ) عبرة لما أحضر الإمام النابلسي( ت: 363هـ ) رحمه الله تعالى وقال له :
إنك تقول لو : أن لي عشرة أسهم لرميتُ النصارى بتسعة أسهم والعبيديون بسهم ، قال لا لم أقل ذلك ، وإنما قلتُ :

لو أن عندي عشرة أسهم لرميتكم بتسعة ، والنصارى بسهم، فأمر بسلخ جلده عن لحمه ، ولما وصل قلبه طعنه بالسِّكين . وهذه القصة صححها الإمام الذهبي( ت: 748هـ) في تاريخه .
• مما تقدَّم يتبيَّن أن حذف التغريدة على أقسام :
الأول : حذف التغريدة بسبب التراجع عن فكرة لا يمكن الوثوق بها . وهذا جائز ومباح .



الثاني : حذف التغريدة بسبب ندم الكاتب على منهج دعى إليه أو فكرة لم تثبت في قلبه . وهذا واجب إن كان المقصد صحيحاً .
الثالث : حذف التغريدة بسبب حيرة ورؤية غير كاملة في النفس . وهذا يختلف حُكمه باختلاف الحيرة وحكمها في الشرع .
الرابع : حذف التغريدة بسبب الإفلاس في الدعوة إلى معتقد أو مذهب باطل . وهذا واجب وقد يكون من باب التوبة .
الخامس : حذف التغريدة بسبب إقرار باطلٍ وشهادة كاذبة . وهذا محرم وباب هلاك لصاحبه .



ومن أراد التوسع في الإقرار الذي يجوز الرجوع عنه والإقرار الذي لا يجوز الرجوع عنه ، فليطالع كتاب الفروق للقرافي(ت: 684هـ ) رحمه الله تعالى ففيه فوائد ماتعة عن هذه المسألة من الناحية الشرعية .


ومن المسائل المليحة هنا تراجع القاضي عن حُكمه إذا تناقض الشهود أو تراجعوا .
فقد روي أن رجلين شهدا عند الإمام عليِّ رضي الله عنه على آخر بالسرقة فَقطع يده، ثم عادا بعد ذلك برجلٍ غيره قائلين: إنما السارق هذا، كنا مخطئين، بعد أن قُطعت يده، فقال عليُّ رضي الله عنه: لا أصدقكما على هذا الآخر، وأضمِّنكما دية يد الأول، ولو أنِّي أعلمكما فعلتما ذلك عمداً، قطعت أيديكما، لا أُصدِّقكما على هذا الآخر ، وأنتما تضمنان دية اليد المقطوعة .



والمقصود أن حذف التغريدة يدل على علم المغرد أو صلاحه أو عكس بذلك بحسب الحال . وقد تقرَّر عند الأصوليين أن الإمام أحمد تتعدَّد رواياته في المسألة الواحدة إن لم يترجَّح له في أبواب العلم شي .
هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
1437/1/8هـ .