سُورَةُ مَرْيَمَ مَكِّيَّةٌ وَآيَاتُهَا ثَمَانٍ وِتِسْعُونَ
{كهيعص}[مريم: 1]
{كهيعص}[مريم: 1] الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا نَظِيرُ الْقَوْلِ فِي «الم»[البقرة: 1]، وَسَائِرِ فَوَاتِحِ سُوَرِ الْقُرْآنِ، الَّتِي افْتُتِحَتْ أَوَائِلُهَا بِحُرُوفِ الْمُعْجَمِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى قَبْلُ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.
{ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا}[مريم: 2]
{ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا}[مريم: 2] هَذَا ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا
{إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا}[مريم: 3]
{إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا}[مريم: 3] حِينَ دَعَا رَبَّهُ، وَسَأَلَهُ بِنِدَاءٍ خَفِيٍّ، يَعْنِي: وَهُوَ مُسْتَسِرٌّ بِدُعَائِهِ وَمَسْأَلَتِهِ إِيَّاهُ مَا سَأَلَ، كَرَاهَتَهُ مِنْهُ لِلرِّيَاءِ..
{قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا}[مريم: 4]
{قَالَ} فَكَانَ نِدَاؤُهُ الْخَفِيُّ الَّذِي نَادَى بِهِ رَبَّهُ أَنْ قَالَ..
{رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} ضَعُفَ وَرَقَّ مِنَ الْكِبَرِ..
{وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا}[مريم: 4] وَلَمْ أَشْقَ يَا رَبِّ بِدُعَائِكَ، لِأَنَّكَ لَمْ تُخَيِّبْ دُعَائِي قَبْلُ إِذْ كُنْتُ أَدْعُوكَ فِي حَاجَتِي إِلَيْكَ، بَلْ كُنْتَ تُجِيبَ وَتَقْضِي حَاجَتِي قِبَلَكَ.
{وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا}[مريم: 5]
{وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ} وَإِنِّي خِفْتُ بَنِي عَمِّي وَعَصَبَتِي..
{مِنْ وَرَائِي} مِنْ بَعْدِي أَنْ يَرِثُونِي..
{وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا} وَكَانَتْ زَوْجَتِي لَا تَلِدُ..
{فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا}[مريم: 5] فَارْزُقْنِي مِنْ عِنْدَكَ وَلَدًا وَارِثًا وَمُعِينًا.
{يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}[مريم: 6]

{يَرِثُنِي} مِنْ بَعْدِ وَفَاتِي مَالِيَ..
{وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} النُّبُوَّةَ، وَذَلِكَ أَنَّ زَكَرِيَّا كَانَ مِنْ وَلَدِ يَعْقُوبَ..
{وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}[مريم: 6] وَاجْعَلْ يَا رَبِّ الْوَلِيَّ الَّذِي تَهَبُهُ لِي مَرْضِيًّا، تَرْضَاهُ أَنْتَ وَيَرْضَاهُ عِبَادُكَ دِينًا وَخُلُقًا وَخَلْقًا.
{يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا}[مريم: 7]
{يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِهِبَتِنَا لَكَ غُلَامًا اسْمُهُ يَحْيَى.. كَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ: إِنَّمَا سَمَّاهُ اللَّهُ يَحْيَى لِإِحْيَائِهِ إِيَّاهُ بِالْإِيمَانِ..
{لَمْ نَجْعَلْ لَهُ} لَمْ نَجْعَلْ لِلْغُلَامِ الَّذِي نَهَبُ لَكَ الَّذِي اسْمُهُ يَحْيَى..
{مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا}[مريم: 7] مِنْ قَبْلِهِ أَحَدًا مُسَمًّى بِاسْمِهِ.
{قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا}[مريم: 8]
{قَالَ} زَكَرِيَّا لَمَّا بَشَّرَهُ اللَّهُ بِيَحْيَى..
{رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ} وَمِنْ أَيِّ وَجْهٍ يَكُونُ لِي ذَلِكَ..
{وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا} وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ لَا تَحْبَلُ..
{وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا}[مريم: 8] وَقَدْ ضَعُفْتُ مِنَ الْكِبَرِ عَنْ مُبَاضَعَةِ النِّسَاءِ، أَبِأَنْ تُقَوِّيَنِي عَلَى مَا ضَعُفْتُ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ، وَتَجْعَلَ زَوْجَتِي وَلُودًا -فَإِنَّكَ الْقَادِرُ عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى مَا تَشَاءُ- أَمْ بِأَنْ أَنْكِحَ زَوْجَةً غَيْرَ زَوْجَتِي الْعَاقِرِ؟ يَسْتَثْبِتُ رَبَّهُ الْخَبَرَ، عَنِ الْوَجْهِ الَّذِي يَكُونُ مِنْ قِبَلِهِ لَهُ الْوَلَدُ الَّذِي بَشَّرَهُ اللَّهُ بِهِ، لَا إِنْكَارًا مِنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقِيقَةَ كَوْنِ مَا وَعَدَهُ اللَّهُ مِنَ الْوَلَدِ، وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ إِنْكَارًا لِأَنْ يَرْزُقَهُ الْوَلَدُ الَّذِي بَشَّرَهُ بِهِ، وَهُوَ الْمُبْتَدِئُ مَسْأَلَةَ رَبِّهِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: «فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ»[مريم: 6]، بَعْدَ قَوْلِهِ «إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا» [مريم: 4].. وقوله «وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا» يَعْنِي: وَقَدْ عَتَوْتُ مِنَ الْكِبَرِ فَصِرْتُ نَحِلَ الْعِظَامِ يَابِسَهَا، يُقَالُ مِنْهُ لِلْعُودِ الْيَابِسِ: عُودٌ عَاتٍ وَعَاسٍ، وَقَدْ عَتَا يَعْتُو عِتِيًّا وَعُتُوًّا، وَعَسَى يَعْسُو عِسِيًّا وَعُسُوًّا، وَكُلُّ مُتَنَاهٍ إِلَى غَايَتِهِ فِي كِبَرٍ أَوْ فَسَادٍ، أَوْ كُفْرٍ، فَهُوَ عَاتٍ وَعَاسِ.
{قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا}[مريم: 9]
{قَالَ} اللَّهُ لِزَكَرِيَّا مُجِيبًا لَهُ..
{كَذَلِكَ} هَكَذَا الْأَمْرُ، كَمَا تَقُولُ مِنْ أَنَّ امْرَأَتَكَ عَاقِرٌ، وَإِنَّكَ قَدْ بَلَغْتَ مِنَ الْكِبَرِ الْعِتِيَّ..
{قَالَ رَبُّكَ} وَلَكِنَّ رَبَّكَ يَقُولُ..
{هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} خَلْقُ مَا بَشَّرْتُكَ بِهِ مِنَ الْغُلَامِ الَّذِي ذَكَرْتُ لَكَ أَنَّ اسْمَهُ يَحْيَى عَلَيَّ هَيِّنٌ..
{وَقَدْ خَلَقْتُكَ} وَلَيْسَ خَلْقُ مَا وَعَدْتُكَ أَنْ أَهَبَهُ لَكَ -مِنَ الْغُلَامِ الَّذِي ذَكَرْتُ لَكَ أَمْرَهُ- مِنْكَ مَعَ كِبَرِ سِنِّكَ وَعُقْمِ زَوْجَتِكَ، بِأَعْجَبَ مِنْ خَلْقِكَ، فَإِنِّي قَدْ خَلَقْتُكَ، فَأَنْشَأْتُكَ بَشَرًا سَوِيًّا..
{مِنْ قَبْلُ} مِنْ قَبْلِ خَلْقِي مَا بَشَّرْتُكَ بِأَنِّي وَاهِبُهُ لَكَ مِنَ الْوَلَدِ..
{وَلَمْ تَكُ شَيْئًا}[مريم: 9] فَكَذَلِكَ أَخْلُقُ لَكَ الْوَلَدَ الَّذِي بَشَّرْتُكَ بِهِ مِنْ زَوْجَتِكَ الْعَاقِرِ، مَعَ عِتِيِّكَ وَوَهَنِ عِظَامِكَ، وَاشْتِعَالِ شَيْبِ رَأْسِكَ.
{قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا}[مريم: 10]
{قَالَ} زَكَرِيَّا..
{رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} يَا رَبِّ اجْعَلْ لِي عِلْمًا وَدَلِيلًا عَلَى مَا بَشَّرَتْنِي بِهِ مَلَائِكَتُكَ مِنْ هَذَا الْغُلَامِ عَنْ أَمْرِكَ وَرِسَالَتِكَ، لِيَطْمَئِنَّ إِلَى ذَلِكَ قَلْبِي.
{قَالَ} اللَّهُ..
{آيَتُكَ} عَلَامَتُكَ لِذَلِكَ، وَدَلِيلُكَ عَلَيْهِ..
{أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ} أَنْ لَا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ..
{سَوِيًّا}[مريم: 10] وَأَنْتَ سَوِيُّ صَحِيحٌ، لَا عِلَّةَ بِكَ مِنْ خَرَسٍ وَلَا مَرَضٍ يَمْنَعُكَ مِنَ الْكَلَامِ.. وَقَالَ آخَرُونَ: السَّوِيُّ مِنْ صِفَةِ الْأَيَّامِ، قَالُوا: وَمَعْنَى الْكَلَامِ: قَالَ: آيَتُكَ أَلَا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ مُتَتَابِعَاتٍ.