[CENTER]موقف الشريعة من إثبات النسب بالبصمة الوراثية
أثبت المجمع الفقهي لرابطة العالم الإ»لامي الاستفادة من البصمة الوراثية في إثبات النسبيميل رأي أكثر الفقهاء والمعاصرين إلى أن البصمة ترقى إلى مرتبة القيافة، وتظل أدلة الفراش والبينة والإقرار سيد الأدلة في إثبات النسبعلي الأصم: أن البصمة الوراثية كما صرح بها أهل الطب لا يمكن أن تخلو من عيوب لأنها تحتاج إلى معايير للتأكد من صحتهامسألة إثبات النسب في الشريعة الإسلامية من المسائل المهمة التي تدخل ضمن المقاصد الكبرى التي جاءت الشريعة لرعايتها، ويؤكد العلماء أن إثبات النسب يشتمل حقوقا عدة، كما أنه يمثل عنوان البقاء للإنسان في هذه الحياة الذي يستمر معه فترة وجوده كلها، ومن هذا المنطلق جاءت أهمية البحث في إثبات النسب بالبصمة الوراثية التي تعد من الأمور المستجدة علميا وفقهيا، والبصمة الوراثية تعني نوعا من تعيين هوية الإنسان عن طريق تحليل جزء من نواة أي خلية من خلايا جسمه، وهي الصفات الوراثية التي تنتقل من الأصول إلى الفروع التي من شأنها تحديد شخصية كل فرد عن طريق التحليل، وقد تم بحث موضوع البصمة الوراثية في المجامع الفقهية بوصفها من النوازل الفقهية المعاصرة واختلفت آراء العلماء في تحديد النسب بالبصمة الوراثية من عدمه، وسنلخص هذه الآراء للوصول إلى القول الراجح من هذه المسألة.يقول الدكتور سفيان بن عمر بورقعة في دراسته الموسومة: بـ«النسب ومدى تأثير المستجدات العلمية في إثباته»: لا تخفى أهمية النسب ومنزلته في الفقه الإسلامي، ويكفي بيانا لذلك أن الشريعة عدته واحدا من الكليات الخمس التي قامت أحكامها على رعايتها وحفظها. ويقول أيضا: إن علاقة النسب في جوهرها علاقة إنسانية، تثبت للإنسان بمجرد كونه إنسانا، فتلتصق بشخصيته وتثبت له بمجرد أن يولد حيا؛ ولهذا فطر الإنسان على تعزيزه هذه العلاقة والعناية بها، والدفاع عنها،؛ ولذا فهي تعد مظهرا من أبرز مظاهر تكريم الله للإنسان، ونعمة من أجل نعمه عليه، قال تعالى: { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا } (الفرقان: 54). ويؤكد الدكتور سفيان أن إثبات النسب في الإسلام تجتمع فيه حقوق أربعة: حق لله، وحق للولد، وحق للأب، وحق للأم، ويؤكد الإمام ابن قيم الجوزية هذا قائلا: «إن إثبات النسب فيه حق لله، وحق للولد، وحق للأب، ويترتب عليه من أحكام الوصل بين العباد ما به قوام مصالحهم، فأثبته الشرع بأنواع الطرق التي لا يثبت بمثلها نتاج الحيوان. فحق الله فيه من جهة أنه أمر بدعوة الولد إلى أبيه الحقيقي، ومن ثم نهى عن التبني، وجعله قولا بغير الحق؛ لأنه قائم على غير الحقيقة والواقع، كما توعد عن كل فعل يكون من الرجل أو المرأة من شأنه تزييف النسب أو الدس فيه ما ليس منه، أو الإخراج منه ما هو من حقيقته وصلبه؛ ففي الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَن ادّعى إلى غير أبيه وهو يَعلم أنه غير أبيه، فالجنة عليه حرام».الأساس في ثبوت النسب ويشير الدكتور سفيان بن عمر إلى أن النسب يمثل عند البشر عنوان بقاء الإنسان في هذه الحياة وطريقه الوحيد للاستمرار فيها، لكن شاءت مشيئة الله سبحانه ألا يخلد أحد في هذه الدنيا، فجعل للإنسان عمرا قصيرا، وأمدا محددا فيها، وعوضه عن حرمانه الخلود وبقاء نسله من بعده، فغرس في فطرته سر هذا البقاء عبر التزاوج والتواصل بين الجنسين، ويضيف قائلا: وإذا كان النسب أساسه الاتصال الجنسي بين الرجل والمرأة، فإننا حينئذ نعد الولادة معرفة بذلك الاتصال أو علامة عليه، ولا يصح ربط سبب النسب بها أو اعتبارها مدخلا له كما ذكره الأستاذ محمد الأشقر - حفظه الله - حيث عبّر عن ذلك بقوله: «مدخل النسب الولادة»، فإن أراد بالمدخل المعرف والعلامة فصحيح، وإن كان المفهوم من مدخل النسب سببه، فالمدخل والباب والطريق تسمى أسبابا لغة كما سبق.قال السرخسي: «فإن الولادة لثبوت النسب شرط بمنزلة العلامة؛ فإن بها يظهر ويُعرف ما كان موجودا في الرحم قبل الولادة»، ونقل عن أبي حنيفة قوله: «الولادة بمنزلة المعرف».ثم إن الولادة أمر يخص المرأة دون الرجل، والمتعين في السبب أن يكون شاملا لهما لاشتراكهما في العلاقة، وهذا إنما يصح بناؤه على ما ذكرنا وليس الولادة.هذا وقد حدد الإسلام الإطار الشرعي الذي تتم فيه المخالطة بين الجنسين، ورسم الحدود الشرعية التي يسوغ للرجل والمرأة سلوكها إذا ما أرادا تلبية الحاجة الفطرية لديهما لإعفاف النفس وتحصيل النسل.التعريف الاصطلاحي للبصمة الوراثية ويشير الدكتور سفيان بن عمر عن أن البصمة الوراثية تعني كما جاء في تعريفات المتختصين بأنها: «تعيين هوية الإنسان عن طريق تحليل جزء أو أجزاء من حامض الدنا المتمركز في نواة أي خلية من خلايا جسمه»، وفي تعريف آخر «هي الصفات الوراثية التي تنتقل من الأصول إلى الفروع التي من شأنها تحديد شخصية كل فرد عن طريق تحليل جزء من حامض الدنا الذي تحتوي عليه خلايا جسده»، وقد عرفتها «ندوة الوراثة والهندسة الوراثية» برعاية المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بأنها: «البنية الجينية التفصيلية التي تدل على هوية كل فرد بعينه، وهي من الناحية العلمية وسيلة لا تكاد تخطئ في التحقق من الوالدية البيولوجية والتحقق من الشخصية ولا سيما في مجال الطب الشرعي». وقد أقر المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة عشر هذا التعريف، وأضاف: بأن البحوث والدراسات تفيد بأنها من الناحية العلمية وسيلة تمتاز بالدقة لتسهيل مهمة الطب الشرعي والتحقق من الشخصية ومعرفة الصفات الوراثية المميزة للشخص، ويمكن أخذها من أي خلية من الدم أو اللعاب أو المني أو البول أو غيره.إثبات النسب بالبصمةأما فيما يتعلق بإمكان الأخذ بالبصمة الوراثية في إثبات النسب يقول الدكتور سفيان: يمكننا الوقوف على جملة من أقوال الفقهاء المعاصرين في اعتبار البصمة الوراثية طريقا من طرق إثبات النسب - بوجه عام -، نكتفي بالإشارة إلى بعضها: يقول الأستاذ محمد سليمان الأشقر: «الذي يظهر لي، بل أكاد أجزم به، أنه طريق صحيحة شرعا لإثبات النسب، ويقول الأستاذ محمد المختار السلامي: «... لذا أجدني مطمئنا إلى اعتماد البصمة الوراثية فيما يثبت النسب أو ينفيه، وتكون النتيجة التي كشف عنها الاختبار أحق بالقبول». ويقول الدكتور عمر السبيل - رحمه الله - «... إنه يحسن الاستفادة من هذه الاكتشافات العلمية التي هيأها الله لعباده، وهداهم إليها، والاستعانة بها في تحقيق ما ترمي إليه هذه الشريعة المباركة من مقاصد على ضوء قاعدة الشرع الكبرى (في تحقيق المصالح ودرء المفاسد) ولا سيما وأن من أعظم سمات هذه الشريعة الخالدة ما تميزت به من سماحة ومرونة تحمل على الأخذ بكل ما يستجد مما يحقق المصالح ويدرأ المفاسد ولا يخالف الشرع... والأخذ بالبصمة الوراثية في مجال إثبات النسب... أمر ظاهر الصحة والجواز».
يتبع إن شاء الله