هذه الأسطر مقدِّمة بين يدي حادثة سقوط رافعة الحرم على مِئات زُوَّار بيت الله الحرام في يوم الجمعة 27 ذي القعدة 1436ه . رحمهم الله وتقبلهم في الصالحين .
مصطلح إدارة الأزمات مرقوم في سورة العصر ، وهو التواصي بالحق والتواصي بالصبر سواء بالقول أو العمل . وقد تقرر عند الأصوليين أنه لا تعارض بين سمعي وعقلي أبدا .
والأزمات والكوارث والفواجع قد تكون نعمة من الله أحياناً ، لمراجعة أخطاء النفس ومحاسبتها على تقصيرها .


• وهذه بعض أحكام هذه الفاجعة أسأل الله أن ينفع بها من وقف عليها :
1- لا يبقى في السماء مرتفع إلا وله أجل ينتهي بسقوطه . وهذه آية للظالمين والمعاندين . قال الله تعالى : ” ألم يروا إلى الطير مُسخراتٍ في جوِّ السماء ما يُمسكهن إلا الله، إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون” (النحل: 79 ) .
2-كل فاجعة لها ثلاثة عناصر : المفاجأة، والضرر، والتأثير الشامل، وهي تستوجب اليقين والإغاثة والصبر . وفي المرفوع : ” إنما الصبر عند الصدمة الأولى ” متفق عليه .
وقد نبَّه ابن القيم ( ت: 751هـ )رحمه الله تعالى أنه تجب على كل إنسان عبودية لله تعالى بحسب مرتبته ومنزلته
3-لا يجوز في مثل هذه الحادثة إسناد الفاجعة إلى الكوارث البيئية كالصواعق والأمطار، حتى لو كان وقت الفاجعة مصاحباً لحدثٍ كوني بأمر الله تعالى . فالحوادث مأمورة وليست عاملة بذاتها .قال الله تعالى : ” والله خلقكم وما تعملون ” (الصافات:96) .

4-إذا شككنا في حادثة هل هي جريمة أم جناية ، فيجب العمل بالقرائن والأدلة المادية وشهادة الشهود ، فالجناية كل فعل محظورٍ يتضمن ضرراً على النفس أو غيرها . والجريمة هي الذنب المقرون بحدٍّ أو تعزير . والجريمة أعمُّ من الجناية . فالجناية غالباً تتعلق بالأموال ، والجريمة تتعلق بالأبدان . ولا يخفى أن بينهما عموم وخصوص .
5- الفقهاء القدامى لم يعرفوا التعويض؛ لأنهم استعملوا لفظًا آخر للدلالة على التعويض، وهو (الضمان)، وتعريف التعويض : هو ما يجبر به المتسبِّب الضرر من عينٍ أوقيمة . والضمان يكون بعد التحقق من الدعوى ومسبِباتها . وقد أوجب الرسول صلى الله عليه وسلم غرامة المِثلين على من اعتدى على تمرٍ مُعلَّق بغير إذن صاحبه . أخرجه الترمذي بإسناد حسن .


6 – التأمين على مُعدِّات البناء سبب من أسباب ضعف الرقابة على خدمات الإنشاء . وقد أوجب الشرع الغُرم على من فرَّط في حفظ أرواح الناس وهو قادر على درء الخطر عنهم .
7 – العمل بالأسباب مطلب مهم لراحة الضمير والبعد عن ألم الحسرة والندامة . ومن عمل بالأسباب فقد توكَّل على الله وبرء من حوله وقوته .وفي المرفوع : ” هذه النار عدوٌ لكم فإذا نمتم فأطفئوها عنكم ” متفق عليه .
8- نظام الإنذار المبكِّر ضعيف في بُلداننا ، وهو عبارة عن موقع صغير للإشراف على صيانة المعدَّات والحدِّ من الأخطار والكوارث التي لا يُمكن تفاديها
9- كثير من مصائب الموت الجماعي التي يكون سببها المعدات أو البناء هو : إسناد تشغيل آلآت البناء لغير المتخصِّصين فيها مما يزيد من فاجعة عدد الوفيات . وهذه خيانة محرمة يجب التحذير منها .
10- ضمان الدولة لراحة ضيوف البلد الحرام هو التزام منها بالحماية من جهة، والتعويض من جهة أخرى. وهذه أمانة عظيمة لا يقدر عليها إلا من أعانه الله . وعند الفقهاء لا تجب الغرامة إلا بشروط ثلاثة : عقد ويد وإتلاف وحيلولة .

11- الظن لا يبُنى عليه حكم ، فلا يجوز إتهام جهة أو مؤسسة أو فرد بتهمة من غير بيِّنة راجحة . قال الله تعالى : ” إن الظن لا يغني من الحق شيئا ” ( يونس :36 ) . فكلمة الفصل للقضاء .
12- لا ضمان على الدولة في الأضرار التي تقع على رعاياها جراء الكوارث البيئية في الشريعة الإسلامية، ولا يعني ذلك انتفاء مسؤوليتها التي تفرضها الكارثة البيئية، فتلزمها الإغاثة، والإنقاذ، والإخلاء، والإيواء، وتقديم المساعدات والمعونات، والعلاج للمصابين، والقيام بواجب الرعاية للتخفيف من آثار الكارثة .
13- يمكن درء الفاجعة بإذن الله تعالى بهذا الأثر : ” اللهم إنِّي أستودعك ديني ونفسي وأهلي ومالي وولدي ” وهو صحيح ومجرب ، وله أصل في صحيح ابن حبان .
14- تصوير ضحايا الحوادث محرم لأنه انتهاك لحرمة الميِّت ، ولا يجوز إلا في حدود ضيِّقة للمختصين بالتشريح والتحقيق .
15- من الخطأ وصف من مات في الحرم بأنه شهيد ، فالشهادة للمعيَّن توقيفية . فالصحيح القول بأنه يرجى لهم الشهادة إذا كان حالهم مثل الهدم . فوصف الشهادة يختلف عن الحكم بها للمعيَّن . فلا يجوز الخلط بين الأمرين .

16- يتم تقدير التعويض لأسر الضحايا وقت الحكم في الدعوى ، وليس وقت حدوث الضرر. وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناقة البراء بن عازب بمثل هذا ، فعن حرام بن محيصة أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائطاً فأفسدت فيه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار، وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامنٌ على أهلها ” . رواه أحمد بإسناد صحيح .

17- هذه الحادثة عبرة للناس ، للإستعداد للموت لأنه قد يقطع بالمرء عن سبب الحياة وهو في غفلة . فالموت يأتي فجأة وبلا مقدِّمات . وفي الحديث : “موت الفجأة راحة للمؤمن وأخذة أسف للكافر” رواه أحمد بإسناد حسن .

18- الرافعات بأنواعها : البرجية والشوكية والهيدروليكية من الآلآت التي تتأكد حولها وجوب صيانة الأنفس والأموال . وقد تواترت الأدلة على وجوب حفظ الطريق .
19- يجب استشارة أهل البناء الثقات لمعرفة أسباب سقوط رافعة الحرم . وأهل الخبرة والدراية منهم يمكنهم الفصل في مسألة الجناية من عدمها في هذه الحادثة . وقد نصَّت القاعدة الشرعية على أن العادة محكَّمة . فيلزم العمل بها .
20- أماكن الزحام تتعَّلق بها أحكام فقهية تستدعي المراقبة والمتابعة والإحتياط ، لأن النفع والضرر فيها متعلِّق بالناس عامتهم وخاصتهم .
وقد يكون الإثم أعظم لتعلُّقه بأرواح الناس ودمائهم .

وفي المرفوع : ” مَنْ ظَلَمَ مِنْ الْأَرْضِ شَيْئًا طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ. أخرجه البخاري . وهذا نصٌ ظاهر لا يجوز العدول عن معناه كما هو مقرر عند الأصوليين .
هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
29/ 11/ 1436

ahmad-mosfer.com/1352