تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 43

الموضوع: التعليق على منظومة ابن أبي العز في السيرة النبوية

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي التعليق على منظومة ابن أبي العز في السيرة النبوية

    قوله:
    الحمدُ للهِ القديم الباري *** ثم صلاتُه على المختارِ
    "الحمد": هو: الثناءُ بالقول على المحمودِ بصفاته اللازمة والمتعدِّية[1].
    وبين الحمدِ والشكر خصوص وعموم؛ فالحمد أعمُّ من الشُّكر من جهة أسبابه؛ لأنه يشمل الأسبابَ اللازمة والمتعدية؛ فيشمل الأسباب اللازمة، كما قال - تعالى -: ﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ ﴾ [الإسراء: 111].
    وقال - تعالى -: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ﴾ [فاطر: 1].
    وقال - تعالى -: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ [سبأ: 1].
    ويشمل الأسبابَ المتعدية؛ كما قال - تعالى -: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ﴾ [الأنعام: 1].
    وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إن اللهَ لَيرضى عن العبدِ أن يأكل الأكلةَ فيحمَدَه عليها، أو يشرَب الشَّربةَ فيحمَدَه عليها))[2].
    وأما الشُّكر، فلا يكون إلا للأسبابِ المتعدية فقط، تقول: شكرتُه لكرَمِه وفضله، ولا تقول: شكرتُه لقوَّتِه وفروسيته.
    والحمدُ أخصُّ من الشكرِ من جهة آلاته؛ لأن الحمدَ لا يكون إلا بالقول، وأما الشكرُ، فيكونُ بالقلب والقول والفعل[3].
    و(الألف) و(اللام) في قوله: (الحمد) للاستغراقِ؛ فتكون مستغرقةً لجميع أنواع الحمد؛ فالله - سبحانه وتعالى - هو الذي له الحمدُ كلُّه، وله الحمدُ المطلق، وأما المخلوق، فلا يُحمَد إلا حمدًا خاصًّا، فتقول: أحمَدُ فلانًا على كذا وكذا، ولا تقول: لفلانٍ الحمدُ.
    و(اللام) في قوله: (لله) هي لامُ الاستحقاقِ؛ أي: هو - سبحانه - المستحقُّ للحمد المطلَق، لا أحد سواه.
    و"القديم": هو المتقدِّم على غيره[4].
    وهو ليس من أسماء الله تعالى، وإنما يُطلَق من باب الإخبار، والمراد به: الأوَّلُ الذي ليس قبله شيءٌ.
    قال صاحب النظم - رحمه الله - في "شرح الطحاوية":
    "وأما إدخالُ القديم في أسماء الله تعالى، فهو مشهورٌ عند أكثرِ أهل الكلام، وقد أنكَر ذلك كثيرٌ من السَّلَف والخلَف، منهم ابن حزمٍ.
    ولا ريب أنه إذا كان مستعمَلاً في نفس التقدم، فإن ما تقدَّم على الحوادث كلِّها فهو أحقُّ بالتقدُّم من غيره، لكن أسماء الله - تعالى - هي الأسماءُ الحسنى التي تدلُّ على خصوص ما يمدح به، والتقدُّم في اللغة مطلَقٌ لا يختص بالتقدم على الحوادث كلها، فلا يكونُ من الأسماء الحسنى، وجاء الشَّرع باسمه الأول، وهو أحسَنُ من القديم؛ لأنه يُشعِر بأن ما بعده آيلٌ إليه وتابعٌ له، بخلاف القديم، والله - تعالى - له الأسماءُ الحسنى لا الحسنة"[5].
    و"الباري": من أسماء الله الحسنى، ودليله قوله - تعالى -: ﴿ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ﴾ [الحشر: 24].
    ومعناه: الموجِدُ من عدمٍ على غيرِ مثال سابق.
    قوله: "ثم صلاتُه على المختار": قال البخاريُّ - رحمه الله -: "قال أبو العاليةِ: صلاةُ الله: ثناؤُه عليه عند الملائكة"[6].
    وأما من قال: إن الصلاةَ من الله على النبيِّ بمعنى الرَّحمة أو البركة، فمُتعقَّبٌ بأن الله غايَر بين الصلاةِ والرحمة في قوله: ﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ﴾ [البقرة: 157].
    وكذلك فَهِمَ الصحابةُ المغايرةَ من قوله - تعالى -: ﴿ صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا ﴾ [الأحزاب: 56]، حتى سألوا عن كيفية الصلاةِ، مع تقدُّم ذِكر الرحمة والبركة في تعليم السلام؛ حيث جاء بلفظ: "السلامُ عليك أيها النبيُّ ورحمة الله وبركاته"، وأقرَّهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فلو كانت الصلاةُ بمعنى الرحمة أو البركة، لقال لهم: قد علِمْتُم ذلك في السلام[7].
    وقال ابنُ حجَر - رحمه الله -:
    "وأَولى الأقوال: ما تقدَّم عن أبي العالية أن معنى صلاة الله على نبيه: ثناؤُه عليه وتعظيمُه، وصلاة الملائكة وغيرهم عليه: طلبُ ذلك له من الله تعالى"[8].
    قال أيضًا:
    "وما تقدَّم عن أبي العالية أظهَرُ؛ فإنه يحصُل به استعمال لفظ الصلاة بالنسبة إلى الله، وإلى ملائكته، وإلى المؤمِنينَ المأمورين بذلك بمعنًى واحدٍ[9]، ويؤيِّده أنه لا خلاف في جواز الترحُّم على غيرِ الأنبياء، واختلف في جواز الصلاة على غيرِ الأنبياء، ولو كان معنى قولنا: "اللهم صلِّ على محمدٍ": اللهم ارحَمْ محمدًا، أو ترحَّمْ على محمدٍ، لجاز لغير الأنبياء"[10].
    قوله: "المختار": لأن الله - تعالى - اختاره - صلى الله عليه وسلم - واصطفاه من بينِ سائر الخلق نبيًّا ورسولاً وخاتَمًا للنبيين.
    قوله:
    وبعدُ هاكَ سيرةَ الرسولِ *** منظومةً موجزةَ الفصولِ
    هاك؛ أي: خُذْ منظومةً مختصرة في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم.
    قوله:
    مولدُه في عاشرِ الفضيلِ *** ربيع الأوَّلِ عام الفيلِ
    لكنَّما المشهورُ ثاني عَشْرِهْ *** في يومِ الاثنينِ طلوع فَجْرِهْ
    ووافَق العِشرينَ من نَيْسانَا *** .............
    تكلَّم صاحبُ النَّظم - رحمه الله - في هذه الأبياتِ عن تاريخِ مولِدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهناك شِبه اتفاق بين المؤرخين على عام مولدِه - صلى الله عليه وسلم - وأنه - صلى الله عليه وسلم - وُلِد عامَ الفيل.
    قال ابنُ القيِّم - رحمه الله -:
    "لا خلافَ أنه وُلِد - صلى الله عليه وسلم - بجوفِ مكَّة، وأن مولدَه كان عامَ الفيل"[11].
    وقال ابنُ كثير - رحمه الله -:
    "قال ابنُ إسحاق: وكان مولدُه - عليه الصلاة والسلام - عامَ الفيل[12]، وهذا هو المشهورُ عن الجمهورِ؛ قال إبراهيمُ بن المنذرِ الحزاميُّ: وهو الذي لا يشُكُّ فيه أحدٌ من علمائِنا أنه - عليه الصلاة والسلام - وُلِد عامَ الفيل"[13].
    وقد ورَد ما يدلُّ على ذلك؛ فعنِ ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - قال:
    "وُلِد النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عامَ الفيل"[14].
    وعن قيسِ بن مخرمةَ - رضي الله عنه - قال: "وُلِدت أنا ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عامَ الفيل؛ فنحن لِدَانِ، وُلِدْنا مولدًا واحدًا"[15].
    وكان ذلك موافقًا يوم الاثنين؛ فعن أبي قتادة الأنصاريِّ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن صوم يوم الاثنينِ، فقال: ((ذاك يومٌ وُلِدْتُ فيه، ويومٌ بُعِثْتُ أو أُنزِل عليَّ فيه))[16].
    واختلف في تاريخ يوم ولادته - صلى الله عليه وسلم - فقيل: يوم العاشر من ربيع الأول، وقيل: في الثاني عشر منه، كما ذكَر الناظم، وقيل: في يوم الثامن منه، وغير ذلك.
    قال ابن كثير - رحمه الله - في يوم ولادته:
    "ثم الجمهورُ على أن ذلك كان في شهر ربيعٍ الأول، فقيل: لليلتين خَلَتا منه؛ قاله ابن عبدالبر في "الاستيعاب"، ورواه الواقديُّ عن أبي معشرٍ نجيح بن عبدالرحمن المدني، وقيل: لِثمانٍ خلَوْن منه؛ حكاه الحميدي عن ابن حزمٍ، ورواه مالكٌ وعقيلٌ ويونس بن يزيد وغيرُهم عن الزهري عن محمد بن جُبير بن مطعِمٍ، ونقل ابنُ عبدالبر عن أصحابِ التاريخ أنهم صحَّحوه، وقطَع به الحافظ الكبير محمد بن موسى الخوارزمي، ورجَّحه الحافظ أبو الخطاب ابن دحية في كتابه: "التنوير في مولد البشير النذير".
    وقيل: لعشرٍ خلَوْن منه؛ نقله ابن دحية في كتابه، ورواه ابن عساكر عن أبي جعفرٍ الباقر، ورواه مجالدٌ عن الشعبي كما مر.
    وقيل: لثنتي عشرة خلَت منه؛ نص عليه ابنُ إسحاق، ورواه ابن أبي شيبة في "مصنَّفه"، عن عفان عن سعيد بن مينا عن جابرٍ وابن عباسٍ أنهما قالا: "وُلِد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفيل، يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيعٍ الأول، وفيه بُعِث، وفيه عُرِج به إلى السماء، وفيه هاجَر، وفيه مات"، وهذا هو المشهور عند الجمهور، والله أعلم.
    وقيل: لسبعَ عشْرة خلت منه؛ كما نقَله ابن دحية عن بعض الشيعة.
    وقيل: لثمانٍ بقين منه؛ نقله ابن دحية من خط الوزير أبي رافعٍ ابن الحافظ أبي محمد بن حزمٍ عن أبيه، والصحيح عن ابن حزمٍ: الأول؛ أنه لثمانٍ مضَيْن منه؛ كما نقله عنه الحميدي، وهو أثبَتُ.
    والقول الثاني: أنه وُلِد في رمضان؛ نقله ابن عبدالبر عن الزُّبير بن بكَّارٍ، وهو قولٌ غريبٌ جدًّا، وكان مستنده أنه - عليه الصلاة والسلام - أوحي إليه في رمضانَ بلا خلافٍ، وذلك على رأس أربعين سنةً من عمره، فيكون مولدُه في رمضان، وهذا فيه نظرٌ، والله أعلم"[17]؛ ا.هـ.
    قال الألباني - رحمه الله -:
    "وأما تاريخُ يوم الولادة، فقد ذُكِر فيه وفي شهرِه أقوالٌ، ذكَرها ابن كثير في الأصل، وكلها معلَّقة - بدون أسانيدَ - يمكن النظرُ فيها، ووزنُها بميزان علم مصطلح الحديث، إلا قول من قال: إنه في الثامن من ربيعٍ الأول؛ فإنه رواه مالك وغيرُه بالسند الصحيح عن محمد بن جُبير بن مطعِم، وهو تابعي جليل، ولعله لذلك صحَّح هذا القولَ أصحابُ التاريخ واعتمدوه، وقطَع به الحافظ الكبير محمد بن موسى الخوارزمي، ورجَّحه أبو الخطاب بن دحية، والجمهور على أنه في الثاني عشر منه، والله أعلم"[18]؛ ا.هـ.
    ووافَق ذلك التاريخُ العشرين من نيسان من الشهور الشمسية.
    قال السهيلي - رحمه الله -:
    "وأهل الحساب يقولون: وافَق مولدُه من الشهور الشمسية نَيْسان، فكانت لعشرين مضت منه"؛ ا.هـ.
    ونَيْسان هو الشهر الرابع من الشهور الشمسية، وهو شهر أبريل.
    قوله:
    .............. *** وقبْلَه حَيْنُ أبيه حانا
    أي: قبل ولادة النبي - صلى الله عليه وسلم - حان حَيْنُ أبيه؛ أي: أجلُه.
    وقد اختُلِف في وقت وفاة عبدِالله والدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقيل: توفِّي عبدالله وقد مضى من عُمُر النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمانية وعشرون شهرًا، وقيل: سبعة شهور، وقيل: توفِّي عبدالله والنبي - صلى الله عليه وسلم - حَمْلٌ في بطن أمه، وهو الذي رجَّحه الناظم رحمه الله، وهو الصوابُ.
    قال محمد بن سعدٍ - رحمه الله - بعد ما ذكَر هذا الاختلاف في يوم ولادته - صلى الله عليه وسلم -:
    "والأولُ أثبَتُ أنه توفِّي ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حملٌ"[19].
    وهو ما رجَّحه محمد بن عمر الواقدي أيضًا[20].
    وقال ابن إسحاق - رحمه الله -:
    "ثم لم يلبَثْ عبدالله بن عبدالمطلب، أبو رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ هلَك، وأمُّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حاملٌ به"[21].
    وقال ابن القيم - رحمه الله -:
    "واختُلِف في وفاة أبيه عبدالله، هل توفِّي ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حملٌ، أو توفِّي بعد ولادته؟ على قولين: أصحُّهما: أنه توفِّي ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حملٌ"[22]؛ ا.هـ.
    _____________________
    [1] تفسير ابن كثير (1/ 128).
    [2] صحيح: أخرجه مسلم (2734).
    [3] انظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (4/378- 380)، ومختصر تفسير ابن كثير، أحمد شاكر (1/59، 58).
    [4] شرح الطحاوية لابن أبي العز (78).
    [5] السابق.
    [6] صحيح البخاري مع فتح الباري (8/ 392).
    [7] انظر: فتح الباري (11/ 160).
    [8] السابق.
    [9] أي: بمعنى الثناءِ من الله، وطلب الثناء من الملائكة والمؤمنين.
    [10] السابق (11/ 161).
    [11] زاد المعاد (1/ 74).
    [12] انظر سيرة ابن هشام (1/ 158).
    [13] البداية والنهاية (3/ 377) ط. هجر.
    [14] أخرجه الحاكم في "المستدرك" (4180)، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وابن سعد في "الطبقات" (1/101)، والضياء في المختارة (348)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (3152).
    [15] أخرجه أحمد في المسند (17891)، والحاكم في المستدرك (4183)، وأبو نُعَيم في الدلائل (85)، والبيهقي في الدلائل (1/ 76)، وصحَّحه الألباني في الصحيحة (3152).
    وسمِّي بعام الفيل؛ لوقوع حادثة الفيل المشهورة فيه، والتي قاد فيها أبرهةُ الأشرم ابن الصباح الحبشي، نائب النجاشي على اليمن، بفِيلِه العظيم جيشَه العرمرم لهدمِ الكعبة المشرفة بيت الله الحرام، ولكن هيهاتَ هيهات، فما قوة أبرهة بفِيلِه العظيم وجيشه العرمرم الكبير بجوارِ قوَّة العلي القدير، إلا كقشَّة ضعيفة تتقاذفها أمواجٌ عظيمة، بل هي أضعفُ.
    فالله - تعالى - هو الذي خلَقهم، وهو الذي أعطاهم هذه القوةَ؛ فهم لا يُعجِزونه، فما أن وصَل أبرهة إلى وادي محسِّر بين مزدلفة ومِنًى حتى برَك الفيل وعجَز عن الحركة إلا لوجهة أخرى غيرِ وجهة الكعبة، وهنالك أرسَل عليهم ربُّ البيت طيرًا أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فجعَلهم كعصف مأكول.
    وحكى اللهُ - تعالى - ما نزَل بهم من عذابٍ في كتابه العزيز، فقال: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ﴾ [الفيل: 1 - 5].
    وقال نُفَيل بنُ حبيب حين نزل بهم العذاب:
    أين المفرُّ والإله الطالب
    والأشرمُ المغلوبُ غير الغالب
    وقد ذكَر القصةَ كاملة الإمامُ الطبري في تفسير سورة الفيل.
    [16] صحيح: أخرجه مسلم (1162).
    [17] البداية والنهاية (3/ 374- 376).
    [18] صحيح السيرة النبوية (13).
    [19] الطبقات الكبرى (1/ 10) ط. صادر.
    [20] انظر: السابق.
    [21] سيرة ابن هشام (1/ 146).
    [22] زاد المعاد (1/ 75).


    رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/64375/#ixzz3lXTzqjWL
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي

    قوله:
    وبعدَ عامَيْنِ غدا فطيمَا *** جاءت به مُرضِعُه سَلِيمَا
    حَليمةٌ لِأُمِّه وعادَتْ *** به لِأُمِّه كما أرادَتْ

    فبعدَ شهرينِ انشقاقُ بطنهِ *** وقيل بعدَ أربعٍ مِن سِنِّهِ
    يتكلَّم الناظم - رحمه الله - في هذه الأبياتِ عن قصة رضاع النبي - صلى الله عليه وسلم - عند حَليمةَ السعدية، ثم عودتِها به إلى أمه بعد فِطامه، وإرادتها العودة به لَمَّا رأت من البركات التي حلَّت عليهم بوجود النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بينهم، وموافقة أمِّه على ذلك، ثم حادثة شقِّ صدره الشريف - صلى الله عليه وسلم - وهو عند حليمةَ في بني ساعدةَ.
    ولنترُكْ حليمةَ - رضي الله عنها - تحكي لنا تفاصيلَ القصة كاملة:
    فعن حليمة - رضي الله عنها - قالت: خرَجْتُ في نسوةٍ من بني سعد بن بكرٍ نلتمس الرُّضعاءَ بمكة على أتانٍ[1] لي قمراء[2] قد أذمَّتْ[3]، فزاحمت بالرَّكب، قالت: وخرجنا في سنةٍ شهباء[4] لم تُبقِ شيئًا، ومعي زوجي الحارث بن عبدالعزى، قالت: ومعنا شارفٌ لنا، واللهِ إنْ تبِضُّ علينا بقطرةٍ من لبنٍ، ومعي صبي لي إن ننامُ ليلتنا من بكائه؛ ما في ثدييَّ ما يُغنيه، وما في شارفنا من لبنٍ نغذوه، فلما قدِمنا مكةَ لم تبقَ منا امرأةٌ إلا عُرِض عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتأباه، وإنما كنا نرجو كرامةَ الرَّضاعة من والد المولود، وكان يتيمًا، وكنا نقول: يتيم ما عسى أن تصنَع أمُّه به؟ حتى لم يبقَ من صواحبي امرأةٌ إلا أخذَتْ صبيًّا غيري، فكرهتُ أن أرجعَ ولم آخذ شيئًا وقد أخَذ صواحبي، فقلتُ لزوجي: والله لأرجعَنَّ إلى ذلك اليتيمِ فلآخذَنَّه، فأتيتُه، فأخذتُه ورجعت إلى رَحلي، فقال زوجي: قد أخذتيه؟ فقلتُ: نعم والله، وذاك أني لم أجِدْ غيره، فقال: قد أصبتِ، فعسى الله أن يجعلَ فيه خيرًا، قالت: فوالله ما هو إلا أن جعلتُه في حجري، قالت: فأقبل عليه ثديي بما شاء من اللبَن، قالت: فشرب حتى روي وشرب أخوه - تعني ابنَها - حتى روي، وقام زوجي إلى شارفنا من الليل فإذا بها حافلٌ[5]، فحلَب لنا ما شئنا، فشرب حتى روي، قالت: وشربتُ حتى رويت، فبِتْنا ليلتنا تلك بخيرٍ، شباعًا رِواءً، وقد نام صبيانُنا، قالت: يقول أبوه - تعني زوجَها -: والله يا حليمةُ، ما أراكِ إلا قد أصبتِ نسمةً مباركةً، قد نام صبينا وروي، قالت: ثم خرجنا، فوالله لخرجتْ أتاني أمام الركب قد قطعتهن[6]، حتى ما يبلغونها، حتى إنهم لَيقولون: ويحكِ يا بنت الحارث، كُفِّي علينا، أليست هذه بأتانِك التي خرجتِ عليها؟ فأقول: بلى والله، حتى قدِمنا منازلنا من حاضر بني سعد بن بكرٍ، فقدِمنا على أجدب أرض الله، فوالذي نفسُ حليمة بيده، إنْ كانوا لَيسرحون أغنامهم إذا أصبحوا، ويسرح راعي غنمي، فترُوح غنمي بطانًا لُبَّنًا حُفَّلاً[7]، وتروح أغنامهم جياعًا هالكةً، ما بها من لبنٍ، قالت: فنشرَب ما شئنا من لبنٍ، وما من الحاضر أحدٌ يحلب قطرةً، ولا يجدها، يقولون لرعاتهم: ويلكم، ألا تسرَحون حيث يسرح راعي حليمة؟ فيسرَحون في الشِّعب الذي يسرح فيه راعينا، فترُوح أغنامهم جياعًا ما لها من لبنٍ، وتروح غنمي لُبَّنًا حُفَّلاً، قالت: وكان - صلى الله عليه وسلم - يشِبُّ في اليوم شبابَ الصبي في الشهر، ويشِبُّ في الشهر شباب الصبي في سنةٍ، فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلامًا جَفْرًا[8]، قالت: فقدِمنا على أمه، فقلنا لها، وقال لها أبوه: ردوا علينا ابني، فلنرجِعْ به؛ فإنا نخشى عليه وباءَ مكة، قالت: ونحن أضنُّ بشأنه؛ لِما رأينا من برَكته، قالت: فلم نزَلْ بها حتى قالت: ارجعا به، فرجعنا به، فمكث عندنا شهرين، قالت: فبينا هو يلعَب وأخوه يومًا خلف البيوت يرعَيانِ بَهْمًا لنا، إذ جاءنا أخوه يشتَدُّ، فقال لي ولأبيه: أدرِكا أخي القرشي، قد جاءه رجُلانِ فأضجَعاه، فشقا بطنه، فخرَجْنا نحوه نشتَدُّ، فانتهينا إليه وهو قائمٌ منتقعٌ لونُه، فاعتنقه أبوه واعتنقتُه، ثم قلنا: ما لك أي بُني؟! قال: ((أتاني رجُلان عليهما ثيابٌ بِيضٌ فأضجَعاني، ثم شقَّا بطني، فوالله ما أدري ما صنعا))، قالت: فاحتمَلْناه فرجَعنا به، قالت: يقول أبوه: والله يا حليمةُ ما أرى هذا الغلامَ إلا قد أصيب، فانطلقي فلنرُدَّه إلى أهله قبل أن يظهر به ما نتخوَّف عليه، قالت: فرجَعنا به إليها، فقالت: ما ردَّكما به وقد كنتما حريصينِ عليه؟ قالت: فقلت: لا والله، إلا أنَّا كفلناه وأدَّينا الحق الذي يجب علينا فيه، ثم تخوفتُ الأحداث عليه، فقلنا: يكونُ في أهله، قالت: فقالت آمنة: واللهِ ما ذاك بكما، فأخبِراني خبرَكما وخبرَه، فوالله ما زالت بنا حتى أخبرناها خبره، قالت: فتخوفتما عليه؟ كلا والله، إن لابني هذا شأنًا، ألا أخبِرُكما عنه، إني حمَلتُ به، فلم أحمَل حملاً قط كان أخفَّ ولا أعظم بركةً منه، ثم رأيتُ نورًا كأنه شهابٌ خرج مني حين وضعتُه أضاءت لي أعناق الإبلِ ببُصرى، ثم وضعتُه فما وقع كما يقع الصبيان، وقع واضعًا يده بالأرض، رافعًا رأسه إلى السماء، دعاه والحقَا بشأنكما"[9].
    وعن عُتبة بن عبدٍ السُّلمي - رضي الله عنه - أن رجلاً سأَل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كيف كان أول شأنك يا رسول الله؟ قال: ((كانت حاضنتي من بني سعدِ بن بكرٍ، فانطلقتُ أنا وابنٌ لها في بَهْمٍ لنا، ولم نأخُذْ معنا زادًا، فقلت: يا أخي، اذهب فأتنا بزادٍ من عند أمنا، فانطلَق أخي، وكنتُ عند البَهم، فأقبل طيرانِ أبيضان كأنهما نَسران، فقال أحدُهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: نعم، فأقبلا يبتدراني، فأخَذاني فبطحاني للقفاء، فشقَّا بطني، ثم استخرجا قلبي، فشقاه، فأخرَجا منه علقتينِ سوداوين، فقال أحدُهما لصاحبه: حُصْهُ - يعني خِطْهُ - واختتم عليه بخاتم النبوة، فقال أحدُهما لصاحبه: اجعَلْه في كفةٍ واجعل ألفًا من أمته في كفةٍ، فإذا أنا أنظر إلى الألف فوقي أُشفِق أن يخروا عليَّ، فقالا: لو أن أمته وزنت به، لمال بهم، ثم انطلقا وتركاني وفرِقت فرَقًا شديدًا، ثم انطلقتُ إلى أمي فأخبرتُها بالذي رأيت، فأشفقت أن يكون قد التبس بي، فقالت: أُعيذُك بالله، فرحلت بعيرًا لها فجعلتني على الرَّحل، وركِبَت خلفي حتى بلغنا أمي، فقالت: أديتُ أمانتي وذمتي، وحدثتَها بالذي لقيت، فلم يرُعْها ذلك، فقالت: إني رأيت خرج مني نورٌ أضاءت منه قصور الشام))[10].
    وعن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه جبريلُ وهو يلعَب مع الغلمان، فأخَذه فصرعه، فشقَّ عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقةً، فقال: هذا حظُّ الشيطان منك، ثم غسَله في طَسْتٍ من ذهبٍ بماء زمزم، ثم لَأَمَه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمانُ يسعَون إلى أمه - يعني ظِئرَه - فقالوا: إن محمدًا قد قُتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون، قال أنسٌ: وقد كنتُ أرى أثر ذلك المِخيط في صدره[11].
    _________________________
    [1] الأتان: أنثى الحمار.
    [2] قمراء: بيضاء.
    [3] أذمت: أبطأت وحبست.
    [4] شهباء: أي: مجدبة لا خضرة فيها ولا مطر.
    [5] حافل: أي: ممتلئة الضَّرع لبنًا.
    [6] قطعتهن: سبقتهن.
    [7] لُبَّنًا حُفَّلاً: أي: ممتلئة الضَّرع لبنًا.
    [8] جَفْر: قوي شديد.
    [9] أخرجه أبو يعلى (7163)، وابن حبان (6335)، وابن هشام (1/ 162) عن ابن إسحاق، والآجري في الشريعة (964)، وفي سنده جهمُ بن أبي جهم مولى الحارث بن حاطب القرشي: مجهول الحال، قال أبو حاتم: روى عنه: محمد بن إسحاق، وعبدالله العُمَري، وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء ط. التوفيقية (1/ 42): إسناده جيد.
    [10] أخرجه أحمد (17648)، والحاكم (4230)، وقال: "هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط مسلمٍ ولم يخرجاه"، وصحَّحه الألباني في الصحيحة (1545)، وتحقيق فقه السيرة (64)، وصحيح السيرة (160- 180).
    [11] صحيح: أخرجه مسلم (162).


    رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/64640/#ixzz3lechT9hB
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي

    قوله:
    وبعدَ سِتٍّ معَ شهرٍ جائِي ** وفاةُ أُمِّه على الأبواءِ
    قال ابنُ إسحاق - رحمه الله -:
    "توفِّيت آمنةُ ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- ابنُ ستِّ سنين بالأبواء، بين مكة والمدينة، كانت قد قدِمت به على أخوالِه من بني عدي بن النجار، تُزِيره إياهم، فماتت وهي راجعةٌ به إلى مكَّة"[1].
    وقال ابن القيم - رحمه الله -:
    "ولا خلاف أن أمه ماتت بين مكَّة والمدينة بالأبواءِ مُنصرَفَها من المدينة من زيارة أخواله، ولم يستكمِلْ إذ ذاك سبع سنين"[2].
    قوله:
    وجَدُّه للأبِ عبدِالمُطَّلِبْ *** بعدَ ثمانٍ مات مِن غيرِ كذِبْ
    وقد كفَل النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- بعد وفاة أمه جدُّه عبدالمطلب، فظلَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- في حضانته ما يقرُب من عامين، ثم توفِّي عبدالمطلب وعُمُر النبي -صلى الله عليه وسلم- ثماني سنين.
    قال ابن إسحاق - رحمه الله -:
    "فلما بلغ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- ثماني سنين، هلَك عبدُالمطلب بن هاشمٍ، وذلك بعد الفيل بثماني سنين"[3].
    قوله:
    ثم أبو طالبٍ العمُّ كفَلْ ** خِدمتَه، ثم إلى الشَّامِ رحَلْ
    وذاكَ بعدَ عامِ اثنَيْ عشَرْ *** وكان مِن أمرِ بَحِيرا ما اشتَهَرْ
    وبعد وفاة عبدالمطلب كفَل النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- عمه أبو طالب.
    قال ابن إسحاق - رحمه الله -:
    "فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد عبدالمطلب مع عمِّه أبي طالبٍ، وكان عبدالمطلب - فيما يزعُمون - يوصي به عمَّه أبا طالبٍ؛ وذلك لأن عبدَالله أبا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبا طالبٍ أخوانِ لأبٍ وأم، أمُّهما: فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزومٍ"[4]؛ اهـ.
    ولما بلَغ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- اثني عشر عامًا، سافَر مع عمه أبي طالب إلى الشام، فكانت قصتُه مع بَحيرا الراهب.
    عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: خرج أبو طالبٍ إلى الشام وخرج معه النبي -صلى الله عليه وسلم- في أشياخٍ من قريشٍ، فلما أشرَفوا على الراهب هبطوا فحلُّوا رحالهم، فخرج إليهم الراهبُ وكانوا قبل ذلك يمرُّون به فلا يخرج إليهم ولا يلتفت، قال: فهم يحلون رحالهم، فجعل يتخللهم الراهب حتى جاء فأخَذ بيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: هذا سيِّدُ العالمين، هذا رسولُ رب العالمين، يبعثه الله رحمةً للعالمين، فقال له أشياخٌ من قريشٍ: ما عِلمك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجرٌ ولا حجرٌ إلا خرَّ ساجدًا، ولا يسجدانِ إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتَم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة، ثم رجَع فصنع لهم طعامًا، فلما أتاهم به وكان هو في رعية الإبل، قال: أرسِلوا إليه، فأقبل وعليه غمامةٌ تُظله، فلما دنا من القوم وجَدهم قد سبقوه إلى فَيْء الشجرة، فلما جلس مال فيءُ الشجرة عليه، فقال: انظُروا إلى فيء الشجرة مال عليه، قال: فبينما هو قائمٌ عليهم وهو يناشدهم أن لا يذهَبوا به إلى الروم؛ فإن الرومَ إن رأَوْه عرَفوه بالصفةِ فيقتلونه، فالتفت فإذا بسبعةٍ قد أقبلوا من الرُّوم، فاستقبَلهم، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جئنا، إن هذا النبي خارجٌ في هذا الشهر، فلم يبق طريقٌ إلا بُعث إليه بأناسٍ، وإنا قد أُخبِرنا خبَرَه، فبُعِثنا إلى طريقك هذا، فقال: هل خلفكم أحدٌ هو خيرٌ منكم؟ قالوا: إنما أُخبِرنا خبرَه بطريقك هذا، قال: أفرأيتم أمرًا أراد الله أن يقضيه، هل يستطيع أحدٌ من الناس ردَّه؟ قالوا: لا، قال: فبايَعوه وأقاموا معه، قال: أنشدكم بالله أيكم وليُّه؟ قالوا: أبو طالبٍ، فلم يزَلْ يُناشده حتى ردَّه أبو طالبٍ، وبعث معه أبو بكرٍ بلالاً، وزوَّده الراهب من الكعك والزيت"[5].
    وذكر ابنُ عساكر أن بَحيرا كان يسكن قريةً يقال لها: "الكفر"، بينها وبين بُصْرَى ستة أميالٍ، وهي التي يقال لها: دير بحيرا، قال: ويُقال: إنه كان يسكُنُ قريةً يقال لها: "منفعة" بالبلقاء، وراء زيرا، والله أعلم[6].
    ______________________________ _
    [1] سيرة ابن هشام (1/ 168).
    [2] زاد المعاد (1/ 75).
    [3] سيرة ابن هشام (1/ 169).
    [4] سيرة ابن هشام (1/ 179).
    [5] أخرجه الترمذي (3620)، وقال: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وابن أبي شيبة (36541)، والحاكم (4229) وصححه، وقال الحافظ في "الفتح" (8/587): إسناده قوي، وقال في "الإصابة": رجاله ثقات، وذِكر أبي بكر وبلال فيه غيرُ محفوظ؛ قال الألباني في "ضعيف الترمذي" (745): صحيح، لكن ذِكر بلال فيه منكَر كما قيل.
    [6] ذكره ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 298).


    رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/64945/#ixzz3ljsXNxOL
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    16,352

    افتراضي

    واصل، بارك الله فيك يا أبا يوسف.
    وأمتثل قول ربي: {فَسَتَذْكُرُون ما أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي

    وفيكم بارك الله أبا البراء.
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي

    قوله:
    وسار نحوَ الشَّامِ أشرَفُ الورى *** في عامِ خمسةٍ وعِشرينَ اذكُرَا
    لِأُمِّنا خديجةٍ مُتَّجِرَا *** وعاد فيه رابحًا مُستبشِرَا
    فكان فيه عَقْدُه عليها *** وبعدَه إفضاؤُه إليها

    ولَمَّا بلَغ النبي - صلى الله عليه وسلم - الخامسة والعشرين من عمره، تزوَّج خديجة - رضي الله عنها - وقد ذكَر ابن إسحاق - رحمه الله - في مَغازيه تفاصيلَ قصة الزواج، فقال - رحمه الله -:
    "وكانت خديجةُ بنت خويلدٍ امرأةً تاجرةً، ذات شرفٍ ومالٍ، تستأجر الرجال في مالها، وتُضارِبُهم إياه بشيءٍ تجعل لهم منه، وكانت قريشٌ قومًا تجارًا، فلما بلَغها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بلَغها من صِدق حديثه، وعِظَم أمانته، وكرَم أخلاقه، بعثت إليه، فعرَضت عليه أن يخرج في مالها تاجرًا إلى الشام، وتُعطيه أفضلَ ما كانت تعطي غيره من التجار، مع غلامٍ لها يقال له: ميسرة، فقبِله منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخرَج في مالها ذلك، ومعه غلامها ميسرة، حتى قدِم الشام، فنزل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في ظل شجرةٍ، قريبٍ من صومعة راهبٍ من الرهبان، فاطلع الراهبُ إلى ميسرة، فقال: من هذا الرجل الذي نزَل تحت هذه الشجرة؟ فقال له ميسرة: هذا رجلٌ من قريشٍ مِن أهل الحرَم، فقال له الراهب: ما نزَل تحت هذه الشجرة قط إلا نبيٌّ، ثم باع رسولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - سلعته التي خرج بها، فاشترى ما أراد أن يشتري، ثم أقبل قافلاً إلى مكة ومعه ميسرة، فكان ميسرة - فيما يزعمون - إذا كانت الهاجرةُ واشتَدَّ الحرُّ يرى ملَكينِ يُظلانه من الشمس وهو يسير على بعيره، فلما قدِم مكة على خديجة بمالها، باعت ما جاء به، فأضعَفَ[1] أو قريبًا.
    وحدثها ميسرةُ عن قول الراهب، وعما كان يرى من إظلال الملكين إياه.
    وكانت خديجةُ امرأةً حازمةً شريفةً لبيبةً، مع ما أراد الله بها من كرامته، فلما أخبَرها ميسرةُ عما أخبرها به، بعَثَت إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقالت له فيما يزعمون: يا بن عم، إني قد رغبتُ فيك؛ لقرابتِكَ مني، وشرفِك في قومك، وَسِطَتِكَ فيهم[2]، وأمانتك عندهم، وحُسن خُلقك، وصِدق حديثك، ثم عرَضَتْ عليه نفسها، وكانت خديجةُ يومئذٍ أوسطَ قريشٍ نسبًا، وأعظمهم شرفًا، وأكثرهم مالاً، وكل قومها قد كان حريصًا على ذلك منها لو يقدِر على ذلك.
    فلما قالت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكَر ذلك لأعمامه، فخرَج معهعمه حمزة بن عبدالمطلب - رضي الله عنه - حتى دخَل على خُوَيلد بن أسدٍ، فخطَبها إليه، فتزوَّجها"[3]؛ اهـ.
    وقال الواقدي: إن عمَّ خديجة عمرو بن أسدٍ هو الذي زوَّجها رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فإن أباها مات يوم الفِجار، قال: وهذا المُجمَع عليه عند أصحابِنا، ليس بينهم فيه اختلافٌ[4].
    قال ابن هشام - رحمه الله -:
    "وأصدَقها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عشرينَ بكرةً[5]، وكانت أول امرأةٍ تزوَّجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يتزوَّجْ عليها غيرَها حتى ماتت - رضي الله عنها"[6]"؛ اهـ.
    وذكر الواقدي أن عُمُرَ خديجة - رضي الله عنها - حين تزوجها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - كان أربعين عامًا[7].
    وأما ابن إسحاق، فذكَر أن عمرها - رضي الله عنها - حينها كان ثمانية وعشرين عامًا[8].
    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ
    [1] أي: ربِح الضِّعفين.
    [2] الوسيط: الحسيب في قومه.
    [3] أخرجه ابن إسحاق في مغازيه (59- 61) بدون إسنادٍ، ورواه عنه ابنُ هشام؛ سيرة ابن هشام (1/ 188- 190)، والبيهقي في الدلائل (2/ 66)، وأخرَجه ابن سعد في الطبقات بسندٍ متصل إلى نفيسة بنت أمية، أخت يعلى أبن أمية، ولها صحبة، ولكن في الإسناد: محمد بن عمر الواقدي، وهو متروكُ الحديث، وإن كان إمامًا في المغازي، وعميرة بنت عبيدالله بن كعب بن مالك، وهي مجهولةٌ، ليس لها ترجمة، ولكن قد يؤدي مجموع الطريقين أن للقصةِ أصلاً، والله أعلم.
    [4] الطبقات (8/ 16)، ط. صادر.
    [5] البَكْر: هو الفتيُّ من الإبل، والأنثى: بكرة؛ لسان العرب (4/ 79).
    [6] سيرة ابن هشام (1/ 190)، عن ابن إسحاق بدون إسناد.
    [7] الطبقات (8/ 16).
    [8] مستدرك الحاكم (3/ 182)، من كلام ابن إسحاق بدون إسناد.
    قال الدكتور أكرم ضياء العمري - رحمه الله -: وقد أنجبت خديجةُ من رسول الله ذكَرَيْنِ وأربعَ إناث؛ مما يرجِّح روايةَ ابن إسحاق؛ فالغالب أن المرأةَ تبلُغ سن اليأس من الإنجاب قبل الخمسين؛ السيرة النبوية الصحيحة (1/ 113).

    رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/65236/#ixzz3m9o2LgwG
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي

    قوله:
    فوُلْدُه منها خَلا إبراهِيمْ *** فالأوَّلُ القاسمُ حاز التَّكريمْ
    وزينبٌ، رُقيَّةٌ، وفاطِمَهْ *** وأمُّ كُلثومٍ لهنَّ خاتِمَهْ
    والطَّيِّبُ، الطَّاهرُ، عبدُاللهِ *** وقِيلَ: كلُّ اسمٍ لِفردٍ زاهي
    أنجَبت خديجة - رضي الله عنها - للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - جميعَ أولاده عدا إبراهيم؛ فهو من ماريةَ القِبطية - رضي الله عنها - ولدته ماريةُ في ذي الحجة سنة ثمانٍ من الهجرة، ومات سنةَ عَشْرٍ، يوم الثلاثاء لعشرٍ خلَوْن من شهرِ ربيع الأول[1].
    عن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((وُلِد لي الليلةَ غلامٌ، فسمَّيْتُه باسم أبي إبراهيمَ))، ثم دفَعه إلى أم سيفٍ، امرأةِ قَيْنٍ[2] يقال له: أبو سيفٍ، فانطلق يأتيه واتبعته، فانتهينا إلى أبي سيفٍ وهو ينفخ بكِيره، قد امتلأ البيت دخانًا، فأسرعتُ المشيَ بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا أبا سيفٍ، أمسِكْ، جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمسَك، فدعا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالصبيِّ، فضمَّه إليه، وقال ما شاء الله أن يقولَ، فقال أنسٌ: لقد رأيتُه وهو يكيدُ بنفسه بين يدَيْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدمعت عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((تدمَع العينُ، ويحزَنُ القلب، ولا نقول إلا ما يَرضَى ربُّنا، والله يا إبراهيمُ إنا بك لَمحزونون))[3]".
    وأما بقية أولاده - صلى الله عليه وسلم - فمن خديجةَ رضي الله عنها.
    وهم على الترتيب:
    * القاسم:
    وبه كان يكنى - صلى الله عليه وسلم.
    عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تسمَّوْا باسمي، ولا تكنَّوْا بكنيتي؛ فإني أنا أبو القاسمِ، أقسِمُ بينكم))[4].
    وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أنا أبو القاسمِ، اللهُ يُعطي، وأنا أقسم))[5].
    قال ابنُ القيِّم - رحمه الله -:
    "أولهم القاسم، وبه كان يكنى، مات طفلاً، وقيل: عاش إلى أن ركِب الدابة وسار على النَّجيبة"[6]؛ اهـ.
    وقد مات قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم.
    • زينب - رضي الله عنها -:
    وهي أكبرُ بناته - صلى الله عليه وسلم - وقيل: هي أسنُّ من القاسم[7].
    قال ابن حجَر - رحمه الله -:
    "هي أكبرُ بناته، وأولُ من تزوَّج منهن، وُلِدت قبل البعثة بمدة؛ قيل: إنها عَشْر سنين، واختلف: هل القاسم قبلها أو بعدها؟ وتزوَّجها ابن خالتها أبو العاصِ بن الربيع، وأمه: هالةُ بنت خويلد[8]".
    وولَدت زينبُ لأبي العاص عليًّا وأمامة[9]، فتوفِّي عليٌّ وهو صغيرٌ، وبقِيَت أمامةُ، فتزوَّجها علي بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه - بعد موتِ فاطمة[10].
    وتوفِّيت زينبُ - رضي الله عنها - في أول سنة ثمانٍ من الهجرة[11].
    عن أم عطيةَ - رضي الله عنها - قالت: لما ماتت زينبُ بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اغسِلْنها وترًا: ثلاثًا، أو خمسًا، واجعَلْن في الخامسة كافورًا، أو شيئًا من كافورٍ، فإذا غسلتنَّها، فأعلِمْنني))، قالت: فأعلمناه، فأعطانا حِقْوه وقال: ((أشعِرْنها إياه))[12].
    • رقيَّة - رضي الله عنها -:
    كان تزوَّجها عُتبة بن أبي لهب بن عبدالمطلب قبل الهجرة، ثم طُلِّقت منه قبل أن يبنيَ بها، وتزوَّجها عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وهاجرت معه إلى أرض الحبشة الهجرتين جميعًا، وتوفِّيت - رضي الله عنها - في السنة الثانية من الهجرة قبل عودة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من بدرٍ.
    عن أبي أمامة بن سهلٍ - رضي الله عنه - قال: لَمَّا فرَغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بدرٍ، بعَث بَشِيرين إلى أهل المدينة؛ بعَث زيد بن حارثة إلى أهل السافلة، وبعَث عبدالله بن رَوَاحة إلى أهل العاليةِ، يبشِّرونهم بفتح الله على نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - فوافَق زيد بن حارثة ابنه أسامة حين سوَّى الترابَ على رقيَّةَ بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم[13].
    • فاطمة - رضي الله عنها -:
    ولدتها خديجةُ - رضي الله عنها - وقريشٌ تبني البيتَ، وذلك قبل البِعثة بخَمس سنين[14].
    تزوَّجت علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وأمَهرها درعًا حُطَمية.
    عن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - أن عليًّا، قال: تزوجتُ فاطمة - رضي الله عنها - فقلت: يا رسولَ الله، ابنِ بي، قال: ((أعطِها شيئًا))، قلتُ: ما عندي من شيءٍ، قال: ((فأين دِرعُك الحُطَمية[15]؟))، قلت: هي عندي، قال: ((فأعطِها إياه))[16].
    وتوفِّيت - رضي الله عنها - بعد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بستة أشهرٍ، ليلة الثلاثاء لثلاثٍ خلَوْنَ من شهر رمضان سنة إحدى عشْرة، وهي ابنة تسعٍ وعشرين سنةً أو نحوها[17].
    عن عائشة - رضي الله عنها - أن فاطمة - رضي الله عنها - عاشت بعد رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ستةَ أشهُرٍ[18].
    وعن عائشةَ - رضي الله عنها - أيضًا، قالت: اجتمع نساءُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يغادِرْ منهن امرأةً، فجاءت فاطمةُ تمشي كأن مِشيتَها مِشيةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((مرحبًا بابنتي))، فأجلَسها عن يمينِه أو عن شِماله، ثم إنه أسَرَّ إليها حديثًا، فبكت فاطمةُ، ثم إنه سارَّها فضحِكت أيضًا، فقلتُ لها: ما يبكيك؟ فقالت: ما كنتُ لأفشيَ سرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: ما رأيتُ كاليوم فرحًا أقرب من حزنٍ، فقلت لها حين بكت: أخصَّكِ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بحديثِه دوننا، ثم تبكين؟ وسألتها عما قال، فقالت: ما كنتُ لأفشيَ سرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا قُبِض سألتُها فقالت: إنه كان حدَّثني أن جبريلَ كان يعارِضُه بالقرآن كل عامٍ مرةً، وإنه عارَضه به في العام مرتين، ولا أراني إلا قد حضَر أجلي، وإنكِ أولُ أهلي لحوقًا بي، ونِعم السلفُ أنا لك، فبكيتُ لذلك، ثم إنه سارَّني، فقال: ((ألا ترضَينَ أن تكوني سيدةَ نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة))، فضحِكْتُ لذلك[19].
    • أم كلثوم - رضي الله عنها -:
    أصغرُ بنات النبيِّ - صلى الله عليه وسلم.
    تزوَّجها عُتيبة بن أبي لهب بن عبدالمطلب قبل الهجرة، ثم فارَقها ولم يكن دخَل بها، فلم تزل بمكةَ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأسلَمت حين أسلَمت أمُّها، وبايَعت رسولَ الله مع أخواتها حين بايعه النساء، وهاجرت إلى المدينة حين هاجر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وخرجت مع عيالِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة فلم تزَلْ بها، فلما توفِّيت رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوَّجها عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وكانت بِكرًا، وذلك في شهر ربيعٍ الأول سنة ثلاثٍ من الهجرة، وأُدخِلت عليه في هذه السنة في جمادى الآخرة، فلم تزَل عنده إلى أن ماتت، ولم تلِد له شيئًا، وماتت في شعبان سنة تسعٍ من الهجرة[20].
    • عبدالله:
    وُلد عبدالله في الإسلام، فسُمِّي الطيب والطاهر، ومات بمكة[21].
    وقيل: عبدالله والطيب والطاهر، ثلاثة أبناء، والصواب أن الطيِّب والطاهر لقبان لعبدالله[22].
    قوله:
    والكلُّ في حياتِه ذاقوا الحِمَامْ *** وبعدَه فاطمةٌ بنصفِ عامْ
    أي: مات جميعُ أبنائه - صلى الله عليه وسلم - في حياته، عدا فاطمة - رضي الله عنها - فقد ماتت بعده - صلى الله عليه وسلم - بستة أشهر؛ كما تقدم شرح ذلك.
    و"الحِمَام": جاء في "النهاية في غريب الحديث"[23]:
    "الحِمام: الموت، وقيل: هو قدر الموت وقضاؤُه، من قولهم: حم كذا؛ أي: قُدِّر، ومنه شعر ابن رواحة في غزوة مؤتة:
    هذا حِمامُ الموت قد صَلِيتِ
    أي: قضاؤُه"؛ اهـ.
    ومنه قولُ أحدهم لَمَّا قُتل عثمان:
    تمنَّى لقاءَ الله أول ليلة
    وآخرها لاقى حِمَام المقادر[24]
    ______________________________ ___
    [1] الإصابة في تمييز الصحابة (1/ 318).
    [2] القَيْن: الحدَّاد.
    [3] متفق عليه: أخرجه البخاري (1303)، ومسلم (2315).
    [4] صحيح: أخرجه مسلم (2133).
    [5] أخرجه ابن حبان (5817)، والحاكم (4187)، وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وحسَّنه الألباني؛ صحيح الجامع (1447)، والصحيحة (1628).
    [6] زاد المعاد (1/ 100).
    و(النَّجيبة) بالتَّحريك، هي القشرة، والمقصود: القشرة الأرضية؛ (نهاية).
    [7] السابق.
    [8] الإصابة (8/ 151).
    [9] وهي التي كان يحمِلُها النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاته؛ ففي الصحيحين عن أبي قتادة - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلِّي وهو حاملٌ أمامةَ بنت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأبي العاص بن الربيع، فإذا قام حمَلها، وإذا سجَد وضَعها"؛ البخاري (516)، ومسلم (543).
    [10] الطبقات الكبرى (8/ 31).
    [11] الطبقات (8/ 34).
    [12] متفق عليه: أخرجه البخاري (1253)، ومسلم (939).
    [13] أخرجه الحاكم (4959)، وقال: على شرط مسلم ولم يخرجاه، والبيهقي في الدلائل (3/ 187).
    [14] الطبقات الكبرى (8/ 19).
    [15] الحُطَمية: هي التي تحطم السيوف؛ أي: تكسِرها، وقيل: هي العريضةُ الثقيلة، وقيل: هي منسوبةٌ إلى بطنٍ من عبدالقيس يقال لهم: حطمة بن محاربٍ، كانوا يعمَلون الدروع، وهذا أشبهُ الأقوال.
    [16] أخرجه النسائي (3375)، وفي الكبرى (5541)، وأحمد (603)، وابن حبان (6945)، والضياء في المختارة (610)، وصحح إسنادَه الألبانيُّ في صحيح أبي داود (6/ 350).
    [17] الطبقات الكبرى (8/28).
    [18] متفق عليه: أخرجه البخاري (3093)، ومسلم (1759).
    [19] متفق عليه: أخرجه البخاري (3624)، ومسلم (2450).
    [20] الطبقات الكبرى (8/ 37، 38).
    [21] الطبقات (1/ 133).
    [22] انظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب (1819).
    [23] (1/ 446).
    [24] النهاية (4/ 367).

    رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/65563/#ixzz3n1zTf5Ux
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي

    قوله:
    وبعدَ خمسٍ وثلاثينَ حضَرْ *** بُنيانَ بيتِ اللهِ لَمَّا أنْ دَثَرْ
    وحكَّموه ورضُوا بما حَكَمْ *** في وَضْعِ ذاك الحَجَرِ الأسودِ ثَمْ
    ولما بلَغ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الخامسة والثلاثين[1]، أرادت قريشٌ تجديد بناء الكعبة، بعدما تهدَّمت بسبب عوامل الطبيعة من أمطار وسيول وغيرها، ثم اختلفوا - بعد بنائه - فيمن يضَع الحجَر الأسود مكانه، فحكَّموا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فحكَم بينهم.
    عن علي - رضي الله عنه - قال: لما انهدم البيتُ بعد جُرهمٍ[2]، فبَنَتْه قريشٌ، فلما أرادوا وضْعَ الحجَر تشاجروا من يضعه، فاتفقوا على أن يضعه أولُ من يدخل من هذا الباب، فدخل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من باب بني شيبةَ، فأمر بثوبٍ فوُضِع، فأخَذ الحجر فوضعه في وسطه، وأمَر من كل فخذٍ أن يأخذوا بطائفةٍ من الثوب فيرفعوه، وأخذه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فوضَعه[3].
    وعن السائب بن عبدالله - رضي الله عنه - أنه كان فيمن يبني الكعبة في الجاهلية، قال: ولي حجَرٌ أنا نحتُّه بيدي أعبدُه من دون الله - تبارك وتعالى - فأجيء باللبَن الخاثر الذي أنفسه على نفسي، فأصبُّه عليه، فيجيء الكلبُ فيلحَسه، ثم يشغر فيبول، فبنَيْنا حتى بلَغنا موضع الحجَر، وما يرى الحجرَ أحدٌ، فإذا هو وسط حجارتنا مثل رأس الرجل يكاد يتراءى منه وجهُ الرجل، فقال بطنٌ من قريشٍ: نحن نضعه، وقال آخرون: نحن نضعه، فقالوا: اجعلوا بينكم حكَمًا، قالوا: أول رجلٍ يطلُع من الفج، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: أتاكم الأمين، فقالوا له، فوضَعه في ثوبٍ، ثم دعا بطونهم فأخَذوا بنواحيه معه، فوضعه هو - صلى الله عليه وسلم[4].
    وعن جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان ينقُل معهم الحجارة للكعبة وعليه إزاره، فقال له العباسُ عمه: يا بن أخي، لو حللتَ إزارك فجعلته على منكبيك دون الحجارة، قال: فحلَّه فجعَله على منكبيه، فسقط مغشيًّا عليه، فما رئي بعد ذلك عريانًا - صلى الله عليه وسلم[5].
    قوله:
    وبعد عام أربعين أُرسلا *** في يوم الاثنين يقينًا فانقلا
    في رمضان أو ربيع الأولِ *** وسورةُ اقرأ أول المنزلِ

    لما بلَغ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الأربعين من عمره، أنعَم الله - تعالى- عليه بنور النبوة والإيمان؛ ليبدد به ظلماتِ الكفر والطغيان.
    عن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - قال: بُعِث رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لأربعين سنةً[6].
    وعن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس بالطويل البائن، ولا بالقصيرِ، ولا بالأبيض الأمهق، وليس بالآدَمِ، وليس بالجَعْدِ القطط، ولا بالسبط، بعَثه الله على رأس أربعين سنةً[7].
    وكان ذلك موافقًا يوم الاثنين.
    عن أبي قتادة الأنصاري - رضي الله عنه - أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن صوم يوم الاثنين، قال: ((ذاك يومٌ وُلِدْتُ فيه، ويومٌ بُعِثت - أو أُنزل عليَّ - فيه[8])).
    وأما الشهر الذي بُعث فيه - صلى الله عليه وسلم - فقيل: بُعث في ربيع الأول، وقيل: في رمضان، وهو ما ذهَب إليه ابن إسحاق - رحمه الله[9].
    وهو المشهور عند الجمهور.
    قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -:
    "والمشهور أنه بُعث - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضانَ؛ كما نص على ذلك عبيدُ بن عميرٍ، ومحمد بن إسحاق، وغيرهما، قال ابن إسحاق مستدلاًّ على ذلك بما قال الله -تعالى-: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ ﴾ [البقرة: 185].
    فقيل: في ثاني عَشرِه، وروى الواقدي بسنده عن أبي جعفرٍ الباقر أنه قال: كان ابتداءُ الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين، لسبع عشرة ليلةً خلت من رمضان، وقيل: في الرابع والعشرين منه.
    روى الإمام أحمد[10] عن واثلةَ بن الأسقع - رضي الله عنه - أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أُنزِلت صُحف إبراهيم - عليه السلام - في أول ليلةٍ من رمضان، وأنزلت التوراةُ لِسِتٍّ مضَيْنَ من رمضان، والإنجيل لثلاثَ عَشْرة خلت من رمضان، وأُنزِل الفرقان لأربعٍ وعشرين خلت من رمضان))[11]؛ اهـ.
    وقال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -:
    "والمشهور عند الجمهور أنه وُلِد - صلى الله عليه وسلم - في شهر ربيعٍ الأول، وأنه بُعث في شهر رمضان[12]"؛ اهـ.
    ولقد مهَّد الله - تعالى - لبعثة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - بإرهاصاتٍ وعلامات منذ ولادته، منها ما هو حِسي بأحداث حدثت له - صلى الله عليه وسلم - كالذي رأته أمُّه حين ولادته، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا دعوة أبي إبراهيمَ، وبشرى عيسى، ورأتْ أمِّي حين حملت بي أنه خرج منها نورٌ أضاءت له بُصرَى من أرض الشام))[13].
    وكالحجَر الذي كان يسلِّم عليه - صلى الله عليه وسلم.
    عن جابر بن سمُرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إني لأعرفُ حجَرًا بمكة كان يسلِّم عليَّ قبل أن أُبعَث، إني لأعرفُه الآن))[14].
    ومن هذه العلاماتِ والإرهاصات أيضًا ما حدَث له - صلى الله عليه وسلم - في قصة رَضاعه عند حليمة السعدية، وقصته - صلى الله عليه وسلم - مع بَحيرا الراهب، وقد تقدم ذكرهما.
    ومن هذه العلامات ما هو معنوي ظهَر في أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - كتركِه الكذب، وتركه شُربَ الخمر، خلافًا لعادة الرجال في ذلك الوقت، وعدم سجوده - صلى الله عليه وسلم - لصنم، وغير ذلك من صفات الشهامة والرجولة، حتى قالت له خديجة - رضي الله عنها -: فوالله، إنك لتصِلُ الرحم، وتصدُق الحديث، وتحمِل الكَلَّ، وتَكسِب المعدومَ، وتَقرِي الضيف، وتُعين على نوائب الحق[15].
    فلما بلغ - صلى الله عليه وسلم - الثامنة والثلاثين من عمره، ترادفت عليه علاماتُ النبوة، وتحدَّث بها الرهبان والكهان.
    من ذلك: ما رواه البخاري عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: ما سمِعْت عمر لشيءٍ قط يقول: إني لأظنه كذا، إلا كان كما يظن، بينما عمر جالسٌ إذ مر به رجلٌ جميلٌ، فقال: لقد أخطأ ظني، أو إن هذا على دينِه في الجاهلية، أو لقد كان كاهنهم؛ عليَّ الرَّجل، فدُعي له، فقال له ذلك، فقال: ما رأيتُ كاليوم استُقبِل به رجلٌ مسلمٌ، قال: فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني، قال: كنت كاهنَهم في الجاهلية، قال: فما أعجَبُ ما جاءتْك به جِنِّيَّتُك؟ قال: بينما أنا يومًا في السوق، جاءتني أعرف فيها الفزع، فقالت: ألم ترَ الجنَّ وإبلاسَها، ويأسَها من بعد إنكاسها، ولحوقها بالقلاص وأحلاسها؟[16]، قال عمر: صدَق؛ بينما أنا نائمٌ عند آلهتهم إذ جاء رجلٌ بعِجلٍ فذبحه، فصرَخ به صارخٌ، لم أسمَع صارخًا قط أشدَّ صوتًا منه، يقول: يا جليح، أمرٌ نجيح[17]، رجلٌ فصيح، يقول: لا إله إلا الله، فوثب القوم، قلت: لا أبرَح حتى أعلم ما وراء هذا، ثم نادى: يا جليح، أمرٌ نجيح، رجلٌ فصيح، يقول: لا إله إلا الله، فقُمْت، فما نشبنا[18] أن قيل: هذا نَبي[19].
    ومن ذلك: أن مُنِعت الجنُّ من استراق السَّمع[20].
    وحينها قالت الجن: ﴿ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا ﴾ [الجن: 8، 9].
    ومن ذلك: ما ورَد عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - أن أول خبرٍ كان بالمدينة بمبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - أن امرأةً من أهل المدينة كان لها تابعٌ من الجن، فجاء في صورة طائرٍ أبيض، فوقَع على حائطٍ لهم، فقالت له: ألا تنزِلُ إلينا فتحدثنا ونحدثك، وتخبرنا ونخبرك؟ قال لها: إنه قد بُعث نبي بمكة حرَّم الزنا، ومنَع منا القرار[21].
    وعن سلمة بن سلامة بن وَقَشٍ - وكان من أصحاب بدرٍ - قال: كان لنا جارٌ من يهودَ في بني عبدالأشهل، قال: فخرج علينا يومًا من بيته قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بيسيرٍ، فوقَف على مجلس بني عبدالأشهل، قال سلمة: وأنا يومئذٍ أحدَث مَن فيه سنًّا، عليَّ بردةٌ، مضطجعًا فيها بفِناء أهلي، فذكر البعث والقيامة والحساب، والميزان، والجنة والنار، فقال ذلك لقومٍ أهل شركٍ، أصحاب أوثانٍ، لا يرون أن بعثًا كائنٌ بعد الموت، فقالوا له: ويحك يا فلانُ، ترى هذا كائنًا؟ أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دارٍ فيها جنةٌ ونارٌ، يُجزَون فيها بأعمالهم؟ قال: نعم، والذي يحلف به، يود أن له بحظه مِن تلك النار أعظمَ تنُّورٍ فيالدنيا، يحمونه ثم يُدخِلونه إياه فيُطبق به عليه، وأن ينجوَ من تلك النار غدًا، قالوا له: ويحك، وما آية ذلك؟ قال: نَبي يُبعَث من نحوِ هذه البلاد، وأشار بيده نحو مكة واليمن، قالوا: ومتى نراه؟ قال: فنظَر إليَّ وأنا من أحدِثهم سنًّا، فقال: إن يستنفِدْ هذا الغلام عمره يُدرِكْه، قال سلمة: فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعَث الله - تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهو حي بين أظهُرِنا، فآمنا به، وكفَر به بغيًا وحسدًا، فقلنا: ويلك يا فلان، ألست بالذي قلتَ لنا فيه ما قلت؟ قال: بلى، ولكن ليس به[22].
    وروى ابنُ إسحاق، عن عاصم بن عمرَ بن قتادة، عن رجالٍ من قومه، قالوا: إن مما دعانا إلى الإسلام، مع رحمة الله - تعالى - وهُداه لنا: لما كنا نسمَع من رجال يهود، وكنا أهل شركٍ أصحاب أوثانٍ، وكانوا أهل كتابٍ، عندهم علمٌ ليس لنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرورٌ، فإذا نِلنا منهم بعضَ ما يكرهون، قالوا لنا: إنه قد تقارَب زمانُ نبيٍّ يُبعَث الآن، نقتلكم معه قتل عادٍ وإرمَ، فكنا كثيرًا ما نسمع ذلك منهم، فلمَّا بعث الله رسولَه - صلى الله عليه وسلم - أجبناه، حين دعانا إلى الله - تعالى - وعرفنا ما كانوا يتوعَّدوننا به، فبادرناهم إليه، فآمنا به، وكفَروا به، ففينا وفيهم نزل هؤلاء الآيات من البقرة: ﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 89] [23].
    وروى ابنُ إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن شيخٍ من بني قريظةَ قال لي: هل تدري عمَّ كان إسلامُ ثعلبة بن سعية وأسيد بن سعية وأسد بن عبيدٍ، نفرٍ من بني هدلٍ، إخوةِ بني قريظة، كانوا معهم في جاهليتهم، ثم كانوا سادتَهم في الإسلام؟ قال: قلت: لا والله، قال: فإن رجلاً من يهودَ من أهل الشام، يُقال له: ابنُ الهَيْبان، قدِم علينا قبيل الإسلام بسنين، فحلَّ بين أظهرنا، لا والله ما رأينا رجلاً قط لا يصلي الخمس أفضلَ منه، فأقام عندنا، فكنَّا إذا قحط عنا المطرُ، قلنا له: اخرج يا بن الهيبان فاستسقِ لنا، فيقول: لا والله حتى تُقدِّموا بين يدي مخرَجِكم صدقةً، فنقول له: كم؟ فيقول: صاعًا من تمرٍ، أو مُدَّين من شعيرٍ، قال: فنخرجها ثم يخرج بنا إلى ظاهر حرَّتنا فيستسقي الله لنا، فوالله ما يبرح مجلسه حتى يمر السحاب ونسقى، قد فعل ذلك غير مرةٍ ولا مرتين ولا ثلاثٍ، قال: ثم حضرته الوفاة عندنا، فلما عرَف أنه ميتٌ، قال: يا معشر يهود، ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟ قال: قلنا: إنك أعلَم، قال: فإني إنما قدمت هذهالبلدة أتوكَّف[24] خروج نبيٍّ قد أظل[25] زمانه، وهذه البلدة مهاجَرُه، فكنت أرجو أن يبعث فأتبعه، وقد أظلكم زمانه، فلا تسبقن إليه يا معشر يهود، فإنه يبعث بسفك الدماء، وسبي الذراري والنساء ممن خالفه، فلا يمنعكم ذلك منه.
    فلما بُعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحاصر بني قريظة، قال هؤلاء الفتية - وكانوا شبابًا أحداثًا -: يا بني قريظة، والله إنه للنبي الذي كان عهد إليكم فيه ابن الهيبان، قالوا: ليس به، قالوا: بلى والله، إنه لهو بصفته، فنزلوا وأسلموا، وأحرزوا دماءهم وأموالهم وأهليهم[26].
    ومن ذلك ما رواه عبدالله بن عباسٍ - رضي الله عنهما - قال: حدثني سلمان الفارسي حديثه مِن فِيه، قال: كنت رجلاً فارسيًّا من أهل أصبهان من أهل قريةٍ منها يقال لها: جي، وكان أبي دِهقان قريته[27]، وكنتُ أَحبَّ خلق الله إليه، فلم يزل به حبه إياي حتى حبسني في بيته كما تُحبَس الجارية، واجتهدت في المجوسية حتى كنت قَطِنَ النارِ الذي يوقدها[28] لا يتركها تخبو ساعةً، قال: وكانت لأبي ضيعةٌ عظيمةٌ، قال: فشغل في بنيانٍ له يومًا، فقال لي: يا بُني، إني قد شغلت في بنيانٍ هذا اليوم عن ضيعتي، فاذهب فاطلعها، وأمَرني فيها ببعض ما يريد، فخرجت أريد ضَيعته، فمررت بكنيسةٍ من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدري ما أمر الناس؛ لحبس أبي إياي في بيته، فلما مررتُ بهم، وسمعت أصواتهم، دخلت عليهم أنظر ما يصنعون، قال: فلما رأيتهم أعجبني صلاتهم، ورغبتُ في أمرهم، وقلت: هذا والله خيرٌ من الدين الذي نحن عليه، فوالله ما تركتهم حتى غربت الشمس، وتركت ضيعة أبي ولم آتها، فقلت لهم: أين أصْلُ هذا الدين؟قالوا: بالشام، قال: ثم رجعت إلى أبي، وقد بعث في طلبي وشغلتُه عن عمله كله، قال: فلما جئته، قال: أي بني، أين كنت؟ ألم أكن عهدت إليك ما عهدت؟ قال: قلت: يا أبت، مررت بناسٍ يصلون في كنيسةٍ لهم فأعجبني ما رأيت من دينهم، فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس، قال: أيْ بُنيَّ، ليس في ذلك الدين خيرٌ، دينك ودين آبائك خيرٌ منه، قال: قلت: كلا والله إنه لخيرٌ من ديننا، قال: فخافني، فجعل في رجلي قيدًا، ثم حبسني في بيته، قال: وبعثتُ إلى النصارى فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركبٌ من الشام تجارٌ من النصارى فأخبروني بهم، قال: فقدم عليهم ركبٌ من الشام تجارٌ من النصارى، قال: فأخبروني بهم، قال: فقلت لهم: إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة إلى بلادهم فآذنوني بهم، قال: فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم أخبروني بهم، فألقيتُ الحديد من رِجلي، ثم خرجت معهم حتى قدمتُ الشام، فلما قدمتُها، قلت: من أفضلُ أهل هذا الدين؟ قالوا: الأسقف في الكنيسة، قال: فجئتُه، فقلت: إني قد رغبتُ في هذا الدين، وأحببتُ أن أكون معك أخدُمُك في كنيستك، وأتعلَّم منك وأصلي معك، قال: فادخُل، فدخلت معه، قال: فكان رجل سَوءٍ يأمرهم بالصدقة ويرغِّبهم فيها، فإذا جمعوا إليه منها أشياء، اكتنزه لنفسه، ولم يعطِه المساكين، حتى جمع سبع قلالٍ من ذهبٍ وورِقٍ، قال: وأبغضته بغضًا شديدًا لِما رأيته يصنع، ثم مات، فاجتمعَتْ إليه النصارى ليدفنوه، فقلت لهم: إن هذا كان رجل سَوءٍ؛ يأمركم بالصدقة ويرغِّبكم فيها، فإذا جئتموه بها، اكتنزها لنفسه ولم يعطِ المساكين منها شيئًا، قالوا: وما علمك بذلك؟ قال: قلتُ: أنا أدلكم على كنزه، قالوا: فدُلَّنا عليه، قال: فأريتُهم موضعه، قال: فاستخرجوا منه سبع قلالٍ مملوءة ذهبًا وورِقًا، قال: فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبدًا فصلبوه، ثم رجموه بالحجارة، ثم جاؤوا برجلٍ آخر، فجعلوه بمكانه، قال: يقول سلمان: فما رأيت رجلاً لا يصلي الخمس، أرى أنه أفضل منه، وأزهد في الدنيا، ولا أرغب في الآخرة، ولا أدأب ليلاً ونهارًا منه، قال: فأحببته حبًّا لم أحبه من قبله، فأقمت معه زمانًا، ثم حضرته الوفاة، فقلتُ له: يا فلان، إني كنتُ معك وأحببتك حبًّا لم أحبه من قبلك، وقد حضرك ما ترى من أمر الله، فإلى من توصي بي، وما تأمرني؟ قال: أي بني، والله ما أعلم أحدًا اليوم على ما كنت عليه، لقد هلك الناس وبدَّلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه، إلا رجلاً بالموصل، وهو فلانٌ؛ فهو على ما كنتُ عليه، فالحَقْ به، قال: فلما مات وغُيِّب، لحقت بصاحب الموصل، فقلت له: يا فلان، إن فلانًا أوصاني عند موته أن ألحق بك، وأخبرني أنك على أمره، قال: فقال لي: أقِمْ عندي، فأقمت عنده، فوجدتُه خيرَ رجلٍ على أمر صاحبه، فلم يلبث أن مات، فلما حضرته الوفاة، قلت له: يا فلان، إن فلانًا أوصى بي إليك، وأمرني باللحوق بك، وقد حضرك من الله - عز وجل - ما ترى، فإلى من توصي بي، وما تأمرني؟ قال: أي بني، والله ما أعلم رجلاً على مثل ما كنا عليه إلا بنَصِيبِينَ، وهو فلانٌ، فالحَقْ به، قال: فلما مات وغُيِّب، لحقت بصاحب نَصِيبينَ، فجئته فأخبرته خبري، وما أمرني به صاحبي، قال: فأقِم عندي، فأقمت عنده، فوجدتُه على أمر صاحبيه، فأقمت مع خير رجلٍ، فوالله ما لبث أن نزل به الموت، فلما حُضر، قلت له: يا فلان، إن فلانًا كان أوصى بي إلى فلانٍ، ثم أوصى بي فلانٌ إليك، فإلى من توصي بي، وما تأمرني؟ قال: أي بني، والله ما نعلم أحدًا بقي على أمرنا، آمرك أن تأتيه إلا رجلاً بعمُّورية، فإنه على مثل ما نحن عليه، فإن أحببت فأتِه، قال: فإنه على أمرنا، قال: فلما مات وغُيِّب، لحقتُ بصاحب عمُّورية، وأخبرته خبري، فقال: أقِم عندي، فأقمت مع رجلٍ على هدي أصحابه وأمرِهم، قال: واكتسبت حتى كان لي بقراتٌ وغنيمةٌ، قال:ثم نزل به أمر الله، فلما حُضر، قلت له: يا فلان، إني كنت مع فلانٍ، فأوصى بي فلانٌ إلى فلانٍ، وأوصى بي فلانٌ إلى فلانٍ، ثم أوصى بي فلانٌ إليك، فإلى من توصي بي، وما تأمرني؟ قال: أي بني، والله ما أعلَمُه أصبح على ما كنا عليه أحدٌ من الناس آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك زمان نبي هو مبعوثٌ بدين إبراهيم يخرُج بأرض العرب، مهاجرًا إلى أرضٍ بين حرَّتين بينهما نخلٌ، به علاماتٌ لا تخفى؛ يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتَمُ النبوة، فإن استطعتَ أن تلحق بتلك البلاد فافعل، قال: ثم مات وغُيِّب، فمكثتُ بعمُّورية ما شاء الله أن أمكث، ثم مر بي نفرٌ من كلبٍ تجارًا، فقلت لهم: تحمِلوني إلى أرض العرب، وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه؟ قالوا: نعم، فأعطيتموها وحملوني، حتى إذا قدموا بي وادي القرى ظلَموني فباعوني من رجلٍ من يهودَ عبدًا، فكنت عنده، ورأيت النخل، ورجوت أن يكون البلد الذي وصَف لي صاحبي، فبينما أنا عنده، قدم عليه ابنُ عم له من المدينة من بني قريظة، فابتاعني منه، فاحتملني إلى المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتُها فعرفتها بصفة صاحبي، فأقمتُ بها، وبعَث الله رسولَه، فأقام بمكة ما أقام لا أسمع له بذكرٍ مع ما أنا فيه من شغل الرِّق، ثم هاجر إلى المدينة[29].
    وعن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيلٍ: أن زيد بن عمرو بن نفيلٍ، وورقة بن نوفلٍ، خرجا يلتمسان الدين، حتى انتهيا إلى راهبٍ بالموصل، فقال لزيد بن عمرٍو: من أين أقبلتَ يا صاحب البعير؟ قال: من بيت إبراهيم عليه السلام، قال: وما تلتمس؟
    قال: ألتمس الدِّين، قال: ارجع؛ فإنه يوشك أن يظهَر الذي تطلُب في أرضك.
    فأما ورقةُ بن نوفلٍ، فتنصَّر، وأما زيدٌ، فعرض على النصرانية فلم توافِقْه، فرجع وهو يقول:
    لبَّيكَ حقًّا حقَّا ** تعبُّدًا ورِقَّا
    البرَّ أبغي لا الخَالْ ** وهل مُهجِّرٌ كمن قَالْ
    آمنتُ بما آمَن به إبراهيم.
    وهو يقول:
    أنفي لك عانٍ راغِمْ ** مهما تُجشِّمني فإني جاشِمْ
    ثم يخِرُّ فيسجُد[30].
    وقبيل مبعثه - صلى الله عليه وسلم - كان وحيُه منامًا، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مِثل فلَق الصبح[31].
    ثم حُبِّب إليه الخَلوة، فكان يخلو في غار حراء شهر رمضان يتعبَّد فيه[32].
    ثم بعد ذلك نزَل الوحي من السماء، من عند رب العزة على الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم.
    فكيف كان نزولُ الوحي عليه - صلى الله عليه وسلم - لأول مرة؟ وأين كان هذا؟ وما الذي حدث له - صلى الله عليه وسلم - حينها؟ وكيف كان موقفُ مَن حوله منه - صلى الله عليه وسلم - حين أخبرهم بذلك؟
    هذا ما سنعرفه من خلال الحديثِ الصحيح المرويِّ في "الصحيحين" عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: أول ما بُدِئ به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحيِ الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مِثل فلَق الصبح، ثم حُبِّب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراءٍ فيتحنَّثُ فيه - وهو التعبد - اللياليَ ذواتِ العدد، قبل أن ينزِعَ إلى أهله، ويتزوَّد لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزوَّد لمثلها، حتى جاءه الحقُّ وهو في غار حراءٍ، فجاءه الملَك فقال: اقرأ، قال: ((ما أنا بقارئٍ))، قال: ((فأخَذني فغطَّني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسَلني، فقال: اقرأ، قلتُ: ما أنا بقارئٍ، فأخَذني فغطني الثانيةَ حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرَأ، فقلتُ: ما أنا بقارئٍ، فأخَذني فغطني الثالثة، ثم أرسَلني، فقال: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴾ [العلق: 1 - 3]))، فرجَع بها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يرجُف فؤاده، فدخَل على خديجةَ بنت خويلدٍ - رضي الله عنها - فقال: ((زمِّلوني زمِّلوني))، فزمَّلوه حتى ذهب عنه الرَّوع، فقال لخديجة وأخبَرها الخبر: ((لقد خشيتُ على نفسي))، فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك اللهُ أبدًا؛ إنك لتصِلُ الرَّحم، وتحمل الكَلَّ، وتَكسِب المعدوم، وتَقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق، فانطلقتْ به خديجةُ حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبدالعزى ابنَ عم خديجة، وكان امرأً تنصَّر في الجاهلية، وكان يكتُب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتُب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمِي، فقالت له خديجة: يا بن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا بنَ أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خبر ما رأى، فقال له ورقةُ: هذا الناموس الذي نزَّل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعًا، ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أوَمُخرِجيَّ هم؟!))، قال: نعم، لم يأتِ رجلٌ قط بمثل ما جئتَ به إلا عُودِي، وإن يدرِكْني يومك أنصُرْك نصرًا مؤزرًا.
    ثم لم ينشَب ورقةُ أن توفي، وفتَر الوحي[33].
    فترة الوحي:
    ثم فتَر الوحي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فترة[34]؛ كما هو مذكور في الحديث المتقدم، وعن جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - أنه سمِع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ثم فتَر عنِّي الوحي فترةً))[35].
    ولم تُذكَر مدة فتور الوحي بالتحديد، إلا ما ورد عند ابن سعد في "الطبقات"[36] - بسند غير صحيح - أنها كانت أيامًا، وما ورد من مرسل الشعبي: أنها كانت سنتين ونصفًا[37]، ولا يصح أيضًا.
    وأما ما ذُكر في بعض طرق حديث عائشة السابق عن محاولة النبي - صلى الله عليه وسلم - التردي من شواهق الجبال حزنًا على غياب الوحي عنه[38]، فهو من مراسيل الزهري، وليس موصولاً؛ كما قرَّر ذلك ابنُ حجر رحمه الله[39]، ومراسيل الزُّهري معروفةٌ بشدة ضعفها.
    عودة الوحي:
    ثم حدث النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عودة الوحي مرة أخرى، عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - أنه سمِع رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يحدِّث عن فترة الوحي؛ قال: ((فبينا أنا أمشي سمعتُ صوتًا من السماء، فرفعتُ بصري قِبَل السماء، فإذا الملَك الذي جاءني بحراء قاعدٌ على كرسي بين السماء والأرض، فجُئِثْتُ[40] منه حتى هويت إلى الأرض، فجئتُ أهلي، فقلت: زمِّلوني، زمِّلوني، فزمَّلوني؛ فأنزَل الله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ ﴾ [المدثر: 1، 2]، إلى قوله: ﴿ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ﴾ [المدثر: 5]- قال أبو سلَمةَ: والرجز: الأوثان - ثم حمِي الوحي وتتابع))[41].
    ____________________________
    [1] كما ذكر ذلك ابن هشام عن ابن إسحاق؛ سيرة ابن هشام (1/ 192).
    [2] حيث انهدم البيت من عوامل الطبيعة والزمن، فبَنَتْه قبيلة جُرْهم، ثم انهدم بعدها، فبَنَتْه قريش.
    [3] أخرجه الطيالسي (9208)، وابن أبي شيبة في المصنف (29084)، والبيهقي في الكبرى (9208)، وفي الدلائل (2/ 56)، وحسنه الألباني في صحيح السيرة (45).
    [4] أخرجه أحمد (15504)، وصححه الألباني في صحيح السيرة (45).
    [5] متفق عليه: أخرجه البخاري (364)، ومسلم (340).
    [6] متفق عليه: أخرجه البخاري (3902)، ومسلم (2351)، واللفظ للبخاري.
    [7] متفق عليه: أخرجه البخاري (3548)، ومسلم (2347).
    [8] صحيح: أخرجه مسلم (1162).
    [9] مغازي ابن إسحاق (130)، وسيرة ابن هشام (1/ 239).
    [10] في المسند (16984)، وأخرجه أيضًا البيهقي في الكبرى (18649)، والطبراني في المعجم الكبير (185).
    [11] البداية والنهاية (4/ 15، 16).
    [12] فتح الباري (6/ 570).
    وما ذهب إليه الحافظان ابنُ كثير وابن حجَر من أن هذا هو قول الجمهور، خلاف ما ذكره ابن القيم - رحمه الله - في زاد المعاد (1/ 76)؛ حيث قال: واختُلف في شهر المبعث؛ فقيل: لثمانٍ مضين من ربيعٍ الأول سنة إحدى وأربعين من عام الفيل، هذا قول الأكثرين، وقيل: بل كان ذلك في رمضان.
    [13] أخرجه أحمد (22261)، والطيالسي (1236)، والحاكم (4174)، وصححه الألباني في الصحيحة (1546)، وصحيح الجامع (3451).
    [14] صحيح: أخرجه مسلم (2277).
    [15] متفق عليه: سيأتي تخريجه.
    [16] تقول: أبلَس الرجل إذا سكت ذليلاً أو مغلوبًا، ويأسها من بعد إنكاسها: اليأس ضد الرجاء، والإنكاس: الانقلاب، ومعناه: أنها يَئِست من استراق السمع بعد أن كانت قد ألِفَتْه فانقلبت عن الاستراق مُذْ يَئِست من السمع.
    والقِلاص بكسر القاف وبالمهملة: جمع قُلُص بضمتين، وهو جمع قَلوص: وهي الفَتِيَّة من النِّياق.
    والأحلاس: جمع حِلْس بكسر فسكون، وهو كساءُ جِلد يوضع على ظهر البعير.
    [17] الجليح معناه: الوقح المكافح بالعداوة؛ قال ابن حجَر: ووقَع في معظم الروايات التي أشرت إليها: يا آل ذريح، وهم بطن مشهور في العرب.
    أمر نجيح؛ أي: صواب؛ لسان (2/ 612).
    [18] نشِبنا: لبِثنا.
    [19] صحيح: أخرجه البخاري (3866)، والرَّجل هو: سواد بن قارب؛ كما صرح به في بعض طُرق الحديث؛ مستدرك الحاكم (6558).
    [20] صحيح البخاري (4921).
    [21] أخرجه أحمد (14835)، وأبو نعيم في الدلائل (56)، والبيهقي في الدلائل (2/ 261)، وحسنه الألباني في صحيح السيرة (83).
    [22] أخرجه أحمد (15841)، والحاكم (5764)، وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وابن هشام في السيرة (1/ 212)، ثلاثتهم من طريق ابن إسحاق، وصححه الألباني في صحيح السيرة (59).
    [23] أخرجه ابن إسحاق في المغازي (84)، وعنه ابن هشام في السيرة (1/ 211)، وصححه الألباني في صحيح السيرة (57).
    [24] أتوكَّف: أنتظر.
    [25] أظلَّ: اقترب.
    [26] أخرجه ابن هشام في السيرة (1/ 213)، عن ابن إسحاق، وصححه الألباني في صحيح السيرة (61).
    [27] الدهقان: بكسر الدال وضمها: رئيس القرية؛ نهاية.
    [28] قَطن النار: أي: خازنها وخادمها، أراد أنه كان ملازمًا لها لا يفارقها، من قطن في المكان إذا لزمه، ويروى بفتح الطاء جمع قاطن؛ نهاية.
    [29] أخرجه ابن إسحاق في المغازي (87- 90)، وعنه: أحمد (23737)، وابن هشام في السيرة (1/ 214- 218)، عن ابن إسحاق، وصححه الألباني؛ صحيح السيرة (70).
    [30] أخرجه الطيالسي (231)، والبيهقي في الدلائل (2/ 124).
    وقوله: البر أبغي لا الخال: أي: أبغي البرَّ لا الكِبر؛ فالخَال: الكِبْر؛ من الخيلاء، جاء في النهاية (2/ 94): يقال هو ذو خالٍ؛ أي: ذو كِبرٍ.
    وقوله: وهل مُهجِّر كمن قال: الهجير والهاجرة: اشتدادُ الحرِّ نصف النهار؛ أي: هل من سار في الهاجرة كمن أقام في القائلة؟ نهاية (5/ 246).
    وقوله: إني لك عانٍ: أي: لك أسيرٌ خاضع متذلل؛ جاء في معجم العين (2/ 258): والعاني: الخاضع المتذلِّل، قال الله - عز وجل -: ﴿ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ﴾ [طه: 111]، وهي تعنو عنوًّا، وجئت إليك عانيًا؛ أي: خاضعًا كالأسيرِ المرتَهن بذنوبه، والعَنوة: القهر؛ أخذها عَنوةً؛ أي: قهرًا بالسيف، والعاني: مأخوذٌ من العنوة؛ أي: الذلة.
    وجاء في النهاية (3/ 314): العاني: الأسير، وكل من ذلَّ واستكان وخضع، فقد عنا يعنو، وهو عانٍ، والمرأة عانيةٌ، وجمعها: عوانٍ.
    ومنه الحديث: ((اتقوا اللهَ في النساء؛ فإنهن عوانٍ عندكم))؛ أي: أُسَراء، أو كالأُسَراء.
    وقوله: مهما تُجشِّمني فإني جاشم: أي: مهما كلَّفْتني؛ يقال: جشمت الأمر - بالكسر - وتجشمته: إذا تكلفته، وجشَّمته غيري - بالتشديد - وأجشمته: إذا كلَّفته إياه؛ نهاية (1/ 274).
    [31] سيأتي معنا في الحديث المذكور.
    [32] سيأتي معنا في حديث خديجة - رضي الله عنها - مع ورقة بن نوفل.
    [33] متفق عليه: أخرجه البخاري (3)، ومسلم (160).
    [34] قال ابن حجَر - رحمه الله -: وفتور الوحي عبارةٌ عن تأخره مدةً من الزمان، وكان ذلك ليذهب ما كان - صلى الله عليه وسلم - وجَده من الرَّوع، وليحصل له التشوف إلى العود؛ فتح الباري (1/ 27).
    [35] متفق عليه: سيأتي.
    [36] (1/ 196).
    [37] ذكره ابن حجر في الفتح (1/ 27)، وعزاه إلى تاريخ أحمد بن حنبل.
    [38] صحيح البخاري (6982).
    [39] فتح الباري (12/ 359).
    [40] يقال: جُئِث الرجل؛ إذا فزِع؛ نهاية (1/ 232).
    [41] متفق عليه: أخرجه البخاري (4926)، ومسلم (161).

    رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/65833/#ixzz3nVxOCvwC
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Oct 2010
    المشاركات
    10,732

    افتراضي

    جزاك الله خيرا يا شيخ محمد
    لا إله إلا الله
    اللهم اغفر لي وارحمني ووالديّ وأهلي والمؤمنين والمؤمنات وآتنا الفردوس الأعلى

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي

    وجزاكم مثله يا دكتور رضا.
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي

    قوله:
    ثم الوضوءَ والصَّلاةَ علَّمَهْ *** جبريلُ؛ وَهْي ركعتانِ مُحكَمَهْ
    عن أسامةَ بن زيدٍ، عن أبيه - رضي الله عنهما - أن جبريلَ - عليه السلام - نزَل على النبي -صلى الله عليه وسلم- في أول ما أوحي إليه، فعلَّمه الوضوء والصلاة، فلما فرغ أخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- بيده ماءً فنضح به فرجه[1].
    وفُرضت الصلاة - أول ما فرضت - ركعتينِ.
    عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: فرض الله الصلاة حين فرضها، ركعتين ركعتين، في الحضَر والسفر، فأُقرَّت صلاة السفر، وزِيد في صلاة الحضر[2].
    قوله:
    ثمَّ مضَتْ عشرونَ يومًا كامِلَهْ *** فرَمَتِ الجِنَّ نجومٌ هائِلَهْ
    أي: بعد عشرين يومًا[3] من مبعثِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- مُنِعت الجنُّ من استراق السمع؛ حيث مُلِئت السماء بالحرَس والشُّهب.
    عن عبدالله بن عباسٍ - رضي الله عنهما - قال: انطلَق النبي -صلى الله عليه وسلم- في طائفةٍ من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظٍ[4]، وقد حِيل بين الشياطين وبين خبَر السماء، وأُرسِلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطينُ إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأُرسِلَت علينا الشهب، قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيءٌ حدث، فاضرِبوا مشارقَ الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فانصرَف أولئك الذين توجَّهوا نحو تهامةَ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو بنخلةَ عامدين إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمِعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك حين رجَعوا إلى قومهم، وقالوا: يا قومنا: ﴿ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ﴾ [الجن: 1، 2]، فأنزَل اللهُ على نبيه -صلى الله عليه وسلم-: ﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ ﴾ [الجن: 1]، وإنما أوحي إليه قولُ الجن[5].
    قوله:
    ثم دعا في أربعِ الأعوامِ *** بالأمرِ جهرةً إلى الإسلامِ
    ظل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يدعو إلى الله -تعالى- سرًّا ثلاث سنوات؛ حرصًا على سلامة الدعوة.
    قال أبو نعيم - رحمه الله -:
    "وكان -صلى الله عليه وسلم- فيما قاله عروةُ بن الزبير، وابن شهابٍ ومحمد بن إسحاق، ثلاث سنين لا يظهر الدعوة إلا للمختصين به؛ منهم: خديجة، وأبو بكرٍ، وعلي، وزيدٌ، وغيرهم - رضي الله عنهم - ثم أعلن الدعوةَ وصدَع بها"[6]؛ اهـ.
    وكان نزول آية الشعراء: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214]، إيذانًا له -صلى الله عليه وسلم- بالجَهر بالدعوة المباركة، وانتهاء المرحلة السِّرية.
    عن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - قال: لما نزلت: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214]، صعِد النبي -صلى الله عليه وسلم- على الصفا، فجعل ينادي: ((يا بني فِهرٍ، يا بني عدي)) - لبطون قريشٍ - حتى اجتمَعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرُجَ أرسل رسولاً؛ لينظر ما هو، فجاء أبو لهبٍ وقريشٌ، فقال: ((أرأيتكم لو أخبرتُكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تُغِير عليكم، أكنتم مُصَدِّقيَّ؟))، قالوا: نعم، ما جرَّبنا عليك إلا صدقًا، قال: ((فإني نذيرٌ لكم بين يدي عذابٍ شديدٍ))، فقال أبو لهبٍ: تبًّا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتَنا؟ فنزلت: ﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ﴾ [المسد: 1، 2][7].
    قوله:
    وأربعٌ مِن النِّسا، واثنا عَشَرْ *** من الرِّجالِ الصَّحبِ كلٌّ قد هجَرْ
    إلى بلادِ الحُبْشِ في خامسِ عامْ *** وفيه عادوا، ثم عادوا لا مَلامْ
    ثلاثةٌ هم وثمانونَ رجُلْ *** ومعهم جماعةٌ حتَّى كمُلْ
    وهنَّ عَشْرٌ وثمانٍ..... *** .............

    فلمَّا جهَر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بالدعوة، وصدَع بالحق، تعرَّض هو وأصحابه - رضوان الله عليهم - للإيذاءِ الشديد، والتعذيب من قريش، حتى وصَل الأمرُ إلى القتل، والاعتداءِ على الأرواح والأموال.
    عن عبدالله بن مسعودٍ، قال: "أولُ من أظهر إسلامه سبعةٌ: رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكرٍ، وعمارٌ، وأمُّه سميَّة، وصهيبٌ، وبلالٌ، والمقداد، فأما رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فمنَعه الله بعمِّه أبي طالبٍ، وأما أبو بكرٍ، فمنَعه الله بقومه، وأما سائرُهم فأخَذهم المشرِكونَ، فألبَسوهم أدراع الحديد، وصهَروهم في الشمس، فما منهم إنسانٌ إلا وقد واتاهم على ما أرادوا، إلا بلالٌ؛ فإنه هانت عليه نفسُه في الله، وهان على قومه، فأعطَوه الوِلدان، وأخذوا يطوفون به شعاب مكة، وهو يقول: أحدٌ أحد"[8].
    وكان أميةُ بن خلفٍ يُخرج بلالاً إذا حميت الظهيرة، فيطرَحه على ظهره في رمضاءِ[9] مكة، ثم يأمُر بالصخرة العظيمة فتُوضَع على صدره، ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفُرَ بمحمدٍ وتعبُدَ اللات والعزى، فيقول وهو في ذلك البلاء: أحدٌ أحد[10].
    وعُذِّب عمار، وأبوه ياسر، وأمه سمية، حتى قتلت سميَّةُ أم عمارٍ، طعنها أبو جهلٍ بحربةٍ في قُبُلِها فماتت[11].
    وعن خبَّابِ بن الأرت - رضي الله عنه - قال: كنتُ قَيْنًا[12] في الجاهلية، وكان لي على العاص بن وائلٍ دراهم، فأتيتُه أتقاضاه، فقال: لا أقضيك حتى تكفُرَ بمحمدٍ، فقلت: لا، والله لا أكفُرُ بمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم- حتى يُميتَك الله، ثم يبعثك، قال: فدَعْني حتى أموت، ثم أبعث فأوتى مالاً وولدًا، ثم أقضيك فنزلت: ﴿ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا ﴾ [مريم: 77]، إلى قوله: ﴿ وَيَأْتِينَا فَرْدًا ﴾ [مريم: 80][13].
    ولم يسلَمِ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- من الإيذاء، كما تقدم؛ فعن عبدالله بن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: بينما رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يُصلِّي عند البيت، وأبو جهلٍ وأصحابٌ له جلوسٌ، وقد نُحِرت جزورٌ بالأمس، فقال أبو جهلٍ: أيكم يقوم إلى سلا جَزور بني فلانٍ، فيأخذه فيضعه في كتفي محمدٍ إذا سجَد؟ فانبعث أشقى القوم[14]، فأخَذه، فلما سجَد النبي -صلى الله عليه وسلم- وضَعه بين كتفيه، قال: فاستضحكوا، وجعل بعضهم يميل على بعضٍ وأنا قائمٌ أنظُر، لو كانت لي منعةٌ طرحته عن ظهرِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والنبي -صلى الله عليه وسلم- ساجدٌ ما يرفَعُ رأسَه حتى انطلق إنسانٌ فأخبَر فاطمة، فجاءت - وهي جويريةٌ[15] - فطرَحتْه عنه، ثم أقبلت عليهم تشتمهم، فلما قضى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- صلاته، رفع صوته، ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا دعا ثلاثًا، وإذا سأل سأل ثلاثًا، ثم قال: ((اللهم، عليك بقريشٍ)) ثلاث مراتٍ، فلما سمِعوا صوته ذهَب عنهم الضحك، وخافوا دعوته، ثم قال: ((اللهم عليك بأبي جهل بن هشامٍ، وعتبة بن ربيعة، وشَيبة بن ربيعة، والوليد بن عقبة، وأمية بن خلفٍ، وعقبة بن أبي معيطٍ)) - وذكَر السابع ولم أحفَظْه - فوالذي بعَث محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بالحق، لقد رأيتُ الذين سمَّى صَرْعى يوم بدرٍ، ثم سُحبوا إلى القليب - قليبِ بدرٍ - قال أبو إسحاق: الوليدُ بن عقبة غلَطٌ في هذا الحديث[16].
    وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال أبو جهلٍ: هل يعفِّرُ محمدٌ وجهَه بين أظهُرِكم؟ قال: فقيل: نعم، فقال: واللاتِ والعزى لئن رأيتُه يفعل ذلك لأطأنَّ على رقبته، أو لأُعفِّرَن وجهه في التراب، قال: فأتى رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي - زعَم - لِيطَأَ على رقبتِه، قال: فما فجِئهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتَّقي بيديه، قال: فقيل له: ما لك؟ فقال: إن بيني وبينه لَخندقًا من نارٍ وهولاً وأجنحةً، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا))، قال: فأنزَل الله عز وجل - لا ندري في حديث أبي هريرة، أو شيءٌ بلغه -: ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى * أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ﴾ [العلق: 6 - 13]- يعني أبا جهلٍ - ﴿ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى * كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ * كَلَّا لَا تُطِعْهُ ﴾ [العلق: 14 - 19]، زاد عبيدالله في حديثه قال: وأمَره بما أمَره به، وزاد ابن عبدالأعلى: ﴿ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ ﴾ [العلق: 17] يعني قومَه[17]
    فلما كان الأمر كذلك، أمَر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بالهجرة إلى الحبشة؛ عن أم سلَمة - رضي الله عنها - قالت: لما ضاقت علينا مكةُ، وأوذي أصحابُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفُتنوا، ورأَوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يستطيع دَفْعَ ذلك عنهم، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في منَعةٍ من قومه ومن عمه، لا يصل إليه شيءٌ مما يكرَه مما ينال أصحابه، فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن بأرض الحبشة ملِكًا لا يُظلَمُ أحدٌ عنده، فالحقوا ببلاده، حتى يجعل الله لكم فرَجًا ومخرجًا مما أنتم فيه))، فخرجنا إليها أرسالاً حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دارٍ وإلى خير جارٍ...[18].
    قال ابن إسحاق - رحمه الله -:
    "وكان أول من خرج من المسلمين:
    1- عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية - رضي الله عنه.
    2- ومعه امرأته رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
    3- وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبدشمسٍ.
    4- ومعه امرأته سهلةُ بنت سهيل بن عمرٍو، وولَدت له بأرض الحبشة محمد بن أبي حذيفة.
    5- والزبير بن العوام بن خويلد بن أسدٍ.
    6- ومصعب بن عمير بن هاشم بن عبدمناف بن عبدالدار.
    7- وعبدالرحمن بن عوف بن عبدعوف بن عبدبن الحارث بن زهرة.
    8- وأبو سلمة بن عبدالأسد بن هلال بن عبدالله بن عمر بن مخزومٍ.
    9- ومعه امرأته أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبدالله بن عُمَر بن مخزومٍ.
    10- وعثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمحٍ.
    11- وعامر بن ربيعة.
    12- ومعه امرأته ليلى بنت أبي حثمة بن حذافة.
    13- وأبو سبرة بن أبي رُهم بن عبدالعزى بن أبي قيس بن عبدودِّ بن نصر بن مالك بن حسل بن عامرٍ.
    ويقال: بل، أبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر ابن مالك بن حسل بن عامر.
    1- وسهيل بن بيضاء، وهو: سهيل بن وهب بن ربيعة بن هلالٍ.
    2- وجعفر بن أبي طالبٍ.
    3- ومعه امرأته: أسماء بنت عُمَيسٍ[19]".
    فهؤلاء أحد عشر رجلاً وخمس نسوة، وهو خلاف ما ذكره الناظم - رحمه الله -: أنهم اثنا عشر رجلاً وأربع نسوة، والله أعلم.
    قال ابنُ هشامٍ - رحمه الله -: وكان عليهم عثمانُ بن مظعونٍ، فيما ذكر لي بعض أهل العلم[20].
    ثم حدَث - بعد ذلك - أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قرأ سورة النجم، فسجَد بها، فسجد المشركون، فما بقي أحدٌ من القوم إلا سجد، فأخذ رجلٌ من القوم كفًّا من حصًى أو ترابٍ فرفعه إلى وجهه، وقال: يكفيني هذا، قال عبدالله بن مسعودٍ: فلقد رأيتُه بعدُ قُتل كافرًا[21].
    فبلَغ هذا الخبر أصحابَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالحبشة، ولكن بلَغهم بصورة أخرى؛ حيث بلَغهم أن كفار قريش قد أسلموا عن بكرة أبيهم، ودخلوا في دين الله - تعالى.
    قال ابن إسحاق - رحمه الله -: "وبلغ أصحابَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذين خرَجوا إلى أرض الحبشة، إسلامُ أهل مكة، فأقبلوا لما بلغهم من ذلك، حتى إذا دنَوا من مكة، بلغهم أن ما كانوا تحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلاً، فلم يدخُلْ منهم أحدٌ إلا بجوارٍ أو مستخفيًا"[22].
    الهجرة الثانية إلى الحبشة:
    واستعد المسلمون للهجرة مرة ثانية، وعلى نطاق أوسع، ولكن كانت هذه المرة أشقَّ من سابقتها؛ فقد تيقَّظت لها قريش، وقرروا إحباطها؛ بيد أن المسلمين كانوا أسرعَ، ويسَّر الله -تعالى- لهم السفر، فانحازوا إلى نجاشيِّ الحبشة قبل أن يُدرِكوا[23].
    وكانوا في هذه المرة نحوًا من ثمانين رجلاً.
    عن عبدالله بن مسعودٍ، قال: بعثنا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إلى النجاشي، ونحن نحوٌ من ثمانين رجلاً، فيهم عبدالله بن مسعودٍ، وجعفرٌ، وعبدالله بن عرفطة، وعثمان بن مظعونٍ، وأبو موسى، فأتَوا النجاشي...[24].
    قريش ترسل إلى النجاشي ليردَّ عليهم المهاجرين:
    عزَّ على المشركين أن يجد المهاجرون مأمنًا لأنفسهم ودِينهم، فاختاروا رجُلين جَلْدين لَبِيبَيْن، وهما: عمرو بن العاص، وعبدالله بن أبي ربيعة - قبل أن يُسلِما - وأرسلوا معهما الهدايا المستطرفة للنجاشي ولبطارقته.
    ولنترك أم المؤمنين أم سلمة - رضي الله عنها - تحكي لنا تفاصيلَ ما دار هناك بأرض الحبشة، وما دار بين النجاشي ورسولَيْ قريش؛ حيث كانت شاهدةَ عيان - رضي الله عنها وأرضاها.
    عن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: لما نزلنا أرض الحبشة، جاورنا بها خيرَ جارٍ، النجاشيَّ، أمِنَّا على ديننا، وعبَدْنا الله لا نؤذَى، ولا نسمع شيئًا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشًا، ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجُلين جَلْدين[25]، وأن يُهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها إليه الأُدُم[26]، فجمعوا له أُدُمًا كثيرًا، ولم يتركوا من بطارقته بِطريقًا إلا أهدَوا له هديةً، ثم بعثوا بذلك مع عبدالله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي، وعمرو بن العاص بن وائلٍ السهمي، وأمروهما أمرهم، وقالوا لهما: ادفعوا إلى كل بِطريقٍ[27] هديته، قبل أن تكلموا النجاشي فيهم، ثم قدَّموا للنجاشي هداياه، ثم سَلُوه أن يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم، قالت: فخرجا فقدما على النجاشي، ونحن عنده بخير دارٍ، وعند خير جارٍ، فلم يبقَ من بطارقته بطريقٌ إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلِّما النجاشي، ثم قالا لكل بطريقٍ منهم: إنه قد صبأ إلى بلد الملك منا غلمانٌ سفهاء، فارَقوا دين قومهم ولم يدخُلوا في دينكم، وجاءوا بدينٍ مبتدَعٍ لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملِك فيهم أشرافَ قومهم لنردَّهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم، فتُشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم، فقالوا لهما: نعم، ثم إنهما قرَّبا هداياهم إلى النجاشي فقبِلها منهما، ثم كلَّماه، فقالا له: أيها الملك، إنه قد صبأ إلى بلدك منا غلمانٌ سفهاء، فارَقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدينٍ مبتدعٍ لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعَثْنا إليك فيهم أشرافَ قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم، لتردَّهم إليهم؛ فهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.
    قالت: ولم يكن شيءٌ أبغضَ إلى عبدالله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص من أن يسمَع النجاشيُّ كلامهم، فقالت بطارقتُه حوله: صدَقوا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلِمْهم إليهما، فليرُدَّاهم إلى بلادهم وقومهم، قالت: فغضِب النجاشي، ثم قال: لا ها الله، ايم الله[28] إذًا لا أُسلِمهم إليهما، ولا أكاد، قومًا جاوَروني، ونزلوا بلادي، واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم: ماذا يقول هذان في أمرهم! فإن كانوا كما يقولانِ، أسلمتُهم إليهما ورددتُهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتُهم منهما، وأحسنتُ جوارهم ما جاوروني.
    قالت: ثم أرسَل إلى أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فدعاهم، فلما جاءهم رسولُه اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعضٍ: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علِمْنا، وما أمَرنا به نبينا -صلى الله عليه وسلم- كائنٌ في ذلك ما هو كائنٌ، فلما جاؤوه، وقد دعا النجاشي أساقفتَه، فنشَروا مصاحفهم حوله، سألهم فقال: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخُلوا في ديني ولا في دين أحدٍ من هذه الأمم؟ قالت: فكان الذي كلَّمه جعفر بن أبي طالبٍ، فقال له: أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهليةٍ نعبُد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطَع الأرحام، ونُسيء الجوار، يأكل القويُّ منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعَث الله إلينا رسولاً منَّا، نعرِف نسَبَه، وصِدقه، وأمانته، وعفافَه، فدعانا إلى الله لنوحِّدَه، ونعبُدَه، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمَرنا بصِدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحُسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذفِ المحصَنة، وأمَرنا أن نعبُد الله وحده لا نشركُ به شيئًا، وأمَرنا بالصلاة، والزكاة، والصيام، قال: فعدَّد عليه أمور الإسلام، فصدَّقناه وآمنَّا به، واتَّبعناه على ما جاء به، فعبَدْنا الله وحده، فلم نشرك به شيئًا، وحرَّمنا ما حرَّم علينا، وأحللنا ما أحلَّ لنا، فعدا علينا قومُنا، فعذَّبونا وفتنونا عن ديننا ليردُّونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحلَّ ما كنا نستحلُّ من الخبائث، فلما قهَرونا وظلمونا، وشقُّوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغِبْنا في جوارك، ورجونا ألا نُظلَمَ عندك أيها الملك، قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيءٍ؟ قالت: فقال له جعفرٌ: نَعم، فقال له النجاشي: فاقرَأْه علي، فقرأ عليه صدرًا من ﴿ كهيعص ﴾ [مريم: 1]، قالت: فبكى - والله - النجاشي حتى أخضَلَ لحيته، وبكت أساقفتُه[29] حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمِعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشي: إن هذا - والله - والذي جاء به موسى ليخرُجُ من مشكاةٍ واحدةٍ، انطلِقا فوالله لا أُسلِمُهم إليكم أبدًا، ولا أكاد، قالت أم سلمة: فلما خرجا من عنده، قال عمرو بن العاص: والله لأنبئنَّهم غدًا عيبَهم عندهم، ثم أستأصل به خضراءهم، قالت: فقال له عبدُالله بن أبي ربيعة - وكان أتقى الرجلين فينا -: لا تفعل؛ فإن لهم أرحامًا، وإن كانوا قد خالفونا، قال: والله لأخبرنَّه أنهم يزعُمون أن عيسى ابن مريم عبدٌ، قالت: ثم غدا عليه الغد، فقال له: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيمًا، فأرسِلْ إليهم فاسألهم عما يقولون فيه، قالت: فأرسَل إليهم يسألُهم عنه، قالت: ولم ينزل بنا مثله، فاجتمع القوم، فقال بعضهم لبعضٍ: ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله فيه ما قال الله، وما جاء به نبينا كائنًا في ذلك ما هو كائنٌ، فلما دخَلوا عليه، قال لهم: ما تقولون في عيسى ابن مريم؟ فقال له جعفر بن أبي طالبٍ: نقول فيه الذي جاء به نبينا: هو عبدُ الله ورسوله، ورُوحه وكلمتُه ألقاها إلى مريم العذراء البتول[30]، قالت: فضرب النجاشيُّ يده إلى الأرض، فأخَذ منها عودًا، ثم قال: ما عدا عيسى ابن مريم ما قلتَ هذا العود، فتناخرت بطارقتُه[31] حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله، اذهبوا، فأنتم سُيُومٌ بأرضي - والسُّيُوم: الآمنون - من سبَّكم غرِم، ثم من سبَّكم غرم، فما أحب أن لي دَبْرًا ذهبًا، وأني آذيت رجلاً منكم - والدَّبْر بلسان الحبشة: الجَبل - ردوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لنا بها، فوالله ما أخَذ الله مني الرِّشوة حين رد علي مُلكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيَّ، فأطيعَهم فيه
    قالت: فخرجا من عنده مقبوحينِ، مردودًا عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دارٍ مع خير جارٍ، قالت: فوالله إنا على ذلك إذ نزل به - يعني من ينازعه في ملكه - قال: فوالله ما علمنا حزنًا قط كان أشدَّ من حزنٍ حزناه عند ذلك؛ تخوفًا أن يظهَر ذلك على النجاشي، فيأتي رجلٌ لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرِفُ منه، قالت: وسار النجاشيُّ وبينهما عَرض النيل، قالت: فقال أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من رجلٌ يخرُج حتى يحضُر وقعة القوم ثم يأتينا بالخبر؟ قالت: فقال الزبير بن العوام: أنا، قالت: وكان من أحدثِ القوم سنًّا، قالت: فنفَخوا له قربةً، فجعلها في صدره ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم، ثم انطلَق حتى حضَرهم، قالت: ودعَوْنا الله للنجاشي بالظهور على عدوه، والتمكين له في بلاده، واستوسَقَ عليه أمرُ الحبشة، فكنا عنده في خير منزلٍ، حتى قدِمْنا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو بمكةَ[32].
    ______________________________ _______
    [1]أخرجه ابن ماجه (462)، وأحمد (17480)، وابن أبي شيبة (661)، والحاكم (4958)، والبيهقي في الكبير (756)، قال أبو حاتم في العلل (104): هذا حديثٌ كذِب باطل، وصححه الألباني في الصحيحة (841) بشواهده.
    [2]متفق عليه: أخرجه البخاري (350)، ومسلم (685).
    [3]ذكر ذلك ابن الجوزي في صفة الصفوة (1/ 36)، وتلقيح فهوم أهل الأثر، (1/ 19).
    [4] قال ابن حجر رحمه الله، فتح (8/ 671، 672): سوق عكاظٍ: بضم المهملة وتخفيف الكاف، وآخره ظاءٌ معجمةٌ، بالصرف وعدمه، قال اللحياني: الصرف لأهل الحجاز، وعدمه: لغة تميمٍ، وهو موسمٌ معروفٌ للعرب، بل كان من أعظم مواسمهم، وهو نخلٌ في وادٍ بين مكة والطائف، وهو إلى الطائف أقربُ، بينهما عشرة أميالٍ، وهو وراء قرن المنازل بمرحلةٍ من طريق صنعاء اليمن، وقال البَكري: أول ما أحدثت قبل الفيل بخمس عشرة سنةً، ولم تزَل سوقًا إلى سنة تسعٍ وعشرين ومائةٍ، فخرج الخوارج الحرورية فنهبوها فتركت إلى الآن، وكانوا يقيمون به جميع شوالٍ يتبايعون، ويتفاخرون، وتنشد الشعراء ما تجدَّد لهم، وقد كثُر ذلك في أشعارهم؛ كقول حسان:
    سأنشُر إن حَيِيتُ لكم كلامًا
    ينشَرُ في المجامعِ مِن عُكَاظ
    [5]متفق عليه: أخرجه البخاري (773)، ومسلم (449).
    [6]دلائل النبوة (1/ 265)، وذكره عن محمد بن إسحاق: ابن هشام في سيرته (1/ 262)، والبيهقي في الدلائل (2/ 180)، وقال: قلت: وقد روى شريكٌ القاضي عن المنهال بن عمرٍو عن عباد بن عبدالله الأسدي عن عليٍّ في إطعامه إياهم بقريبٍ من هذا المعنى مختصرًا.
    [7]متفق عليه: أخرجه البخاري (4770)، ومسلم (208).
    [8] أخرجه أحمد (2332)، وابن ماجه (150)، والحاكم (5238)، وقال: صحيح الإسناد، ووافَقه الذهبي، وحسَّنه الألباني في صحيح السيرة (121).
    ويرِدُ على هذا الحديث إشكالان:
    الأول: في قول ابن مسعود: فأما رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-- فمنَعه الله بعمه.
    وظاهر هذا أن ابنَ مسعود ينفي تعرُّض النبي -صلى الله عليه وسلم- للإيذاء، وهذا ليس مرادَ ابن مسعود - رضي الله عنه- بلا شك، وإلا فقد أوذي النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- كما ثبَت ذلك في الأحاديث التي رواها ابن مسعود نفسه، إذًا فمراد ابن مسعود أن النبي -صلى الله عليه وسلم-- لم يُحبَس ولم يُسجَن كبقية المستضعفين؛ وذلك لحماية عمِّه له، والله أعلم.
    والثاني: قول ابن مسعود: فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلالٌ.
    فظاهر هذا أن الصحابةَ - رضوان الله عليهم - قد رجَعوا عن دين الإسلام إلى الكفر مرة أخرى، وهذا أيضًا ليس مراد ابن مسعود بلا شك؛ لأن هؤلاء الصحابةَ الذين ذكَرهم لم يرتدَّ منهم أحد، بل ظلوا - رضوان الله عليهم- أعمدةً للإسلام، وحماةً له حتى وفاتهم رضوان الله عليهم، إذًا فمراد ابن مسعود - رضي الله عنه- أنه ما منهم من أحد إلا وقد أخَذ برخصة الله -تعالى- مع ثبوتِ الإيمان في قلبه.
    [9] رمضاء: الرَّمل الحار من الشمس.
    [10] أخرجه ابن هشام في السيرة (1/ 381)، وأبو نُعيم في حلية الأولياء (1/ 148).
    [11]ذكره البيهقي في الدلائل (2/ 282)، عن مجاهد مرسلاً.
    [12] قَيْنًا: بفتح القاف وسكون الياء، وأصل القَيْن: الحداد، ثم صار كلُّ صائغ عند العرب قَيْنًا، وقال الزجاج: القين الذي يُصلِح الأسنَّة؛ فتح.
    [13]صحيح: أخرجه البخاري، وأحمدُ (21076)، والنسائي في الكبرى (11260).
    [14]هو: عقبة بن أبي مُعَيط، كما ثبَت في بعض الروايات.
    [15]أي: صغيرة.
    [16]متفق عليه: أخرجه البخاري (3854)، ومسلم (1794)، وهذا سياق مسلِم، والسابع الذي لم يُحفَظ هو عمارة بن الوليد، وقَع تسميتُه في بعض الروايات.
    [17]صحيح: أخرجه مسلم (2797).
    [18]سيأتي تخريجه.
    [19]سيرة ابن هشام (1/ 322، 323)، مختصرًا.
    [20]السابق.
    [21]صحيح: أخرجه البخاري (1070).
    [22]سيرة ابن هشام (1/ 364).
    [23]انظر: الرحيق المختوم (99).
    [24]أخرجه أحمد (4400)، والطيالسي (344)، والبيهقي في الكبير، (3919)، وفي الدلائل (2/ 297)، وقال أحمد شاكر: إسناده حسن، وصححه الألباني في صحيح السيرة 164، 166.
    [25]الجَلد: القوي الشديد، من الجليد، وهو ما يسقط من الندى من السماء إلى الأرض، فيجمد عليها؛ انظر: جمهرة اللغة (1/ 449)، والمقصود هنا: قوتهما في الحجَّة والجدال.
    [26]الأُدُم: الجلد المدبوغ؛ معجم لغة الفقهاء (52).
    [27]البطريق: هو الحاذق بالحرب وأمورها بلغة الروم، وهو ذو منصب وتقدُّم عندهم؛ النهاية في غريب الحديث (1/ 135).
    [28]لا ها الله: أي: لا والله؛ أبدلت الهاء من الواو؛ النهاية (5/ 237).
    ايم الله: بهمزة وصل مفتوحة؛ كالتي والذي، جاء في لسان العرب (13/ 463): كانوا يحلِفون باليمين، يقولون: يمين الله لا أفعل، ثم تجمع اليمين أيمنًا، ثم يحلفون بأيمن الله، فيقولون: وأيمن الله لأفعلن كذا، وأيمن الله لا أفعل كذا، وأيمنك يا رب، إذا خاطَب ربه، قال: هذا هو الأصل في أيمن الله، ثم كثُر في كلامهم وخف على ألسنتهم حتى حذفوا النون، كما حذفوا من لم يكن، فقالوا: لم يكُ، وكذلك قالوا: ايم الله؛ قال الجوهري: وإلى هذا ذهَب ابن كيسان، وابن درستويه، فقالا: ألف أيمنٍ ألف قطعٍ، وهو جمع يمينٍ، وإنما خففت همزتُها وطُرحت في الوصل؛ لكثرة استعمالهم لها.
    قال الجوهري: سميت اليمين بذلك؛ لأنهم كانوا إذا تحالفوا ضرَب كل امرئٍ منهم يمينَه على يمين صاحبه.
    [29]أساقفته: جمع: أسقف، وهو العالِم الرئيس من علماء النصارى، وهو اسمٌ سرياني؛ لسان العرب (9/ 156).
    [30]التبتل: الانقطاعُ عن النساء، وترك النكاح، وامرأةٌ بتول: منقطعةٌ عن الرِّجال لا شهوةَ لها فيهم؛ نهاية.
    [31]فتناخرت بطارقتُه: أي: تكلمت، وكأنه كلامٌ مع غضبٍ ونفور؛ نهاية.
    [32]أخرجه أحمد (1740)، وابن خزيمة في صحيحه (2260)، وابن هشام في السيرة (1/ 334- 338)، عن ابن إسحاق مسندًا، والبيهقي في الكبير (18426)، وفي الدلائل (2/ 301)، وأبو نعيم في الدلائل، (194)، وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح، وصححه الشيخ الألباني في صحيح السيرة (170-178).
    رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/66480/#ixzz3p1YyEDDS
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي

    . . . . . . . ثُمَّ قَدْ أسلَم في السَّادسِ حمزةُ الأسَدْ

    ثم في العام السادس من بِعثة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أسلَم أسَدُ الله حمزة بن عبدالمطلب - رضي الله عنه.


    وقد ذكَر قصة إسلامه - رضي الله عنه - ابنُ إسحاق - رحمه الله - فقال:
    "مرَّ أبو جهلٍ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند الصفا، فآذاه وشتَمه، ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه، والتضعيف لأمره، فلم يكلِّمه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ومولاةٌ لعبدالله بن جدعان في مسكنٍ لها تسمع ذلك، ثم انصرَف عنه، فعمَد إلى نادٍ من قريشٍ عند الكعبة، فجلس معهم، فلم يلبث حمزةُ بن عبدالمطلب - رضي الله عنه - أن أقبل متوشحًا قوسه، راجعًا من قنصٍ له - وكان صاحب قنصٍ يرميه ويخرج له - وكان إذا رجَع من قنصه لم يصِلْ إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، وكان إذا فعَل ذلك لم يمرَّ على نادٍ من قريشٍ إلا وقف وسلَّم وتحدَّث معهم، وكان أعز فتًى في قريشٍ، وأشد شكيمةً، فلما مر بالمولاة، وقد رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بيته، قالت له: يا أبا عمارة، لو رأيتَ ما لقي ابنُ أخيك محمدٌ آنفًا من أبي الحكم بن هشامٍ، وجَده هاهنا جالسًا فآذاه وسبَّه، وبلغ منه ما يكرَه، ثم انصرف عنه ولم يكلِّمه محمدٌ - صلى الله عليه وسلم.


    فاحتمل حمزة الغضبُ؛ لِما أراد الله به من كرامته، فخرج يسعى ولم يقِفْ على أحدٍ، معدًّا لأبي جهلٍ إذا لقيه أن يوقعَ به، فلما دخل المسجد نظر إليه جالسًا في القوم، فأقبَل نحوه، حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضرَبه بها، فشجه شجةً منكرةً، ثم قال: أتشتُمه وأنا على دينِه أقول ما يقول؟ فرُدَّ ذلك عليَّ إن استطعتَ.


    فقامت رجالٌ من بني مخزومٍ إلى حمزةَ لينصروا أبا جهلٍ، فقال أبو جهلٍ: دعوا أبا عمارة؛ فإني والله قد سبَبْتُ ابن أخيه سبًّا قبيحًا.


    وتم حمزة - رضي الله عنه - على إسلامه، وعلى ما تابع عليه رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - من قوله.


    فلما أسلَم حمزةُ عرَفت قريشٌ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد عز وامتنع، وأن حمزة سيمنَعُه، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه"[1].


    قوله:
    وبعدَ تِسْعٍ من سِنِي رِسَالَتِهْ ماتَ أبو طالبٍ ذو كفَالَتِهْ وبعدَه خديجةٌ تُوفِّيَتْ مِن بعدِ أيَّامٍ ثلاثةٍ مضَتْ


    ثم توفي أبو طالب، وخديجة - رضي الله عنها - وذلك في العام العاشر من بِعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولذلك قال الناظم: "وبعدَ تسعٍ مِن سِنِي رسالتِهْ"؛ أي: بعد تسعِ سنين سوى السنةِ التي بُعث فيها - صلى الله عليه وسلم.


    قال ابن إسحاق: ثم إن خديجةَ بنت خويلدٍ وأبا طالبٍ ماتا في عامٍ واحدٍ، فتتابعت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المصائبُ بهلاك خديجة وأبي طالبٍ، وكانت خديجةُ وزيرة صدقٍ على الإسلام، وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يسكُنُ إليها، وكان هلاكهما بعد عشر سنين مضين من مبعثِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل مُهاجَرِه - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة بثلاث سنين[2].


    وذكَر ابن قتيبة أن خديجة توفِّيت بعد أبي طالبٍ بثلاثة أيامٍ[3].

    قوله:
    وبعدَ خمسينَ ورُبْعٍ أسلَما جِنُّ نَصِيبينَ، وعادوا فاعلَما

    أي: بعد مولده - صلى الله عليه وسلم - بخمسين عامًا، وربع عام - أي: وثلاثة أشهر - جاء جنُّ نصيبينَ[4] إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسلَموا، ثم عادوا إلى قومِهم منذِرين.


    قال ابن الجوزيِّ - رحمها الله -:
    "فلما أتت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسونَ سنة وثلاثة أشهر قدِم عليه جِنُّ نَصيبينَ فأسلَموا"[5]؛ اهـ.


    وكان ذلك بعد عودةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من الطائف.


    قال ابن إسحاق:
    "ثم إن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - انصرَف من الطائف راجعًا إلى مكة حين يئِس من خيرِ ثقيفٍ، حتى إذا كان بنخلةَ قام من جوف الليل يصلِّي، فمر به النفرُ من الجن الذين ذكَرهم الله - تبارك وتعالى - وهم - فيما ذُكِر لي - سبعةُ نفرٍ من جنِّ أهل نَصيبِينَ، فاستمَعوا له، فلما فرَغ من صلاته ولَّوا إلى قومهم منذرين، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا، فقص اللهُ خبرهم عليه - صلى الله عليه وسلم - قال الله - عز وجل -: ﴿ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ﴾ [الأحقاف: 29]، إلى قوله - تعالى -: ﴿ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الأحقاف: 31]، وقال - تبارك وتعالى -: ﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ ﴾ [الجن: 1]، إلى آخرِ القصة من خبرهم في هذه السورة"[6]؛ اهـ.


    وفي "صحيح البخاري" عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أنه كان يحمِل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إداوةً لوضوئه وحاجته، فبينما هو يتبعه بها، فقال: ((من هذا؟)) فقال: أنا أبو هريرة، فقال: ((ابغني أحجارًا أستنفض بها، ولا تأتِني بعَظْمٍ ولا برَوْثةٍ))، فأتيته بأحجارٍ أحملها في طرَف ثوبي، حتى وضعتُها إلى جنبه، ثم انصرفتُ حتى إذا فرَغ مشيتُ، فقلت: ما بال العَظْم والرَّوثة؟ قال: ((هما من طعام الجنِّ، وإنه أتاني وفدُ جنِّ نَصيبِينَ، ونِعم الجنُّ، فسألوني الزاد، فدعوتُ الله لهم ألا يمرُّوا بعظمٍ، ولا برَوثةٍ إلا وجدوا عليها طعامًا))[7].


    قوله:
    ثم على سَوْدةَ أمضى عَقْدَهْ في رمضانَ . . . . . . .

    ثم تزوَّج النبي - صلى الله عليه وسلم - بسودةَ بنتِ زمعةَ - رضي الله عنها - في السَّنة العاشرة من البِعثة، بعد وفاةِ خديجة - رضي الله عنها.


    عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: لما توفِّيت خديجةُ، قالت خولة بنت حكيم بن أمية بن الأوقص، امرأة عثمان بن مظعونٍ وذلك بمكة: أيْ رسول الله، ألا تزوَّج؟ فقال: ((ومن؟))، فقالت: إن شئتَ بِكرًا، وإن شئتَ ثيبًا، قال: ((فمن البِكْر؟))، قالت: ابنةُ أحب خلق الله إليك: عائشة بنت أبي بكرٍ، قال: ((ومن الثيِّب؟))، قالت: سودة بنت زمعة بن قيسٍ، قد آمنتْ بك واتَّبعَتْك على ما أنتَ عليه، قال: ((فاذهبي فاذكُريهما عليَّ))، فجاءت، فدخلت بيت أبي بكرٍ، فوجدت أم رومان أم عائشة، فقالت: أيْ أمَّ رومان؟ ماذا أدخل اللهُ عليكم من الخير والبركة! قالت: وما ذاكِ؟ قالت: أرسلني رسولُ الله أخطُب عليه عائشةَ، قالت: وددتُ! انتظري أبا بكرٍ، فإنه آتٍ، فجاء أبو بكرٍ، قالت: يا أبا بكرٍ، ماذا أدخل اللهُ عليك من الخيرَ والبركة! أرسلني رسولُ الله أخطُب عليه عائشة، قال: وهل تصلح له، إنما هي ابنة أخيه! فرجعتْ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت له ذلك، فقال: ارجعي إليه، فقولي له: أنت أخي في الإسلام، وأنا أخوك، وابنتك تصلُح لي؟ فأتت أبا بكرٍ فذكرتْ ذلك له، فقال: انتظريني حتى أرجع، فقالت أم رومان: إن المطعِم بن عدي كان ذكَرها على ابنه، ولا والله ما وعد شيئًا قط فأخلَف، فدخل أبو بكرٍ على مُطعمٍ، وعنده امرأته أم ابنه الذي كان ذكَرها عليه، فقالت العجوز: يا ابن أبي قحافةَ، لعلنا إن زوَّجنا ابننا ابنتك أن تصبئه وتُدخلَه في دينك الذي أنت عليه! فأقبَل على زوجها المطعِم، فقال: ما تقول هذه؟ فقال: إنها تقول ذاك، قال: فخرج أبو بكرٍ، وقد أذهَب الله العِدَة التي كانت في نفسه من عِدَته التي وعدها إياه، وقال لخولة: ادعي لي رسول الله، فدعته فجاء فأنكَحه، وهي يومئذٍ ابنةُ ست سنين.


    قالت: ثم خرجتُ فدخلت على سودةَ فقلت: أيْ سودةُ، ماذا أدخل اللهُ عليك من الخير والبركة! قالت: وما ذاك؟ قالت: أرسَلني رسولُ الله يخطبك عليه، قالت: فقالت: وددت! ادخلي على أبي فاذكُري له ذلك، قالت: وهو شيخٌ كبيرٌ قد تخلَّف عن الحج، فدخلت عليه، فحييتُه بتحية أهل الجاهلية، ثم قلت: إن محمد بن عبد الله بن عبدالمطلب أرسَلني أخطُب عليه سودة، قال: كفءٌ كريمٌ، فماذا تقولُ صاحبته؟ قالت: تحبُّ ذلك، قال: ادعيها إليَّ، فدعيت له، فقال: أي سودة، زعمتْ هذه أن محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب أرسَل يخطُبُكِ وهو كفءٌ كريمٌ، أفتحبين أن أزوِّجكَه؟ قالت: نعم، قال: فادعيه لي، فدعته، فجاء فزوَّجه، فجاء أخوها من الحج، عبدُ بن زمعة، فجعل يحثي في رأسه التراب، فقال بعد أن أسلم: إني لسفيهٌ يوم أحثي في رأسي التراب؛ أن تزوَّج رسولُ الله سودةَ بنت زمعة![8].


    قوله:
    . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ثمَّ كانَ بَعْدَهْ عقدُ ابنةِ الصِّدِّيقِ في شوَّالِ . . . . . . . . . . . . . . . . . .


    ثم عقد النبي - صلى الله عليه وسلم - على عائشة - رضي الله عنها - في شوال من السنة العاشرة من البعثة.


    عن عروة بن الزبير، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: تزوَّجني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شوالٍ، وبنى بي في شوالٍ، فأي نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أحظى عنده مني؟ قال: وكانت عائشة تستحب أن تدخلَ نساءها في شوالٍ[9].


    وكان عُمُر عائشة - رضي الله عنها - حين عقد عليها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ستَّ سنين.


    عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: تزوجني النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا بنتُ ست سنين، وبنى بي وأنا بنتُ تِسعِ سنين[10].


    وفي رواية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوَّجها وهي بنت سبع سنين[11].


    قال النووي - رحمه الله -:
    "وأما قولها في روايةٍ: تزوَّجني وأنا بنت سبعٍ، وفي أكثر الروايات: بنتُ ستٍّ، فالجمع بينهما أنه كان لها ست وكسرٌ؛ ففي روايةٍ اقتصرت على السنين، وفي روايةٍ عدت السنةَ التي دخلت فيها، والله أعلم"[12]؛ اهـ.


    وكان زواج النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من عائشة - رضي الله عنها - بوحي من الله - تعالى.


    عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لها: ((أُريتُك في المنام مرتين، أرى أنك في سَرَقَةٍ من حريرٍ، ويقول: هذه امرأتُك، فأكشِفُ عنها، فإذا هي أنت، فأقول: إن يكُ هذا من عند الله يُمضِهِ))[13].


    ولم يتزوَّجِ النبي - صلى الله عليه وسلم - بِكرًا غير عائشة - رضي الله عنها.


    عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قلتُ: يا رسول الله، أرأيتَ لو نزلتَ واديًا، وفيه شجرةٌ قد أُكِل منها، ووجدتَ شجرًا لم يؤكَلْ منها، في أيها كنت ترتع بعيرَك؟ قال: ((في الذي لم يرتع منها))، تعني أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لم يتزوَّجْ بِكرًا غيرها[14].


    قوله:
    . . . . . . . . . . . . . . . . . . وبعدَ خمسينَ وعامٍ تَالِ أُسْرِي به، والصَّلواتُ فُرِضَتْ خَمسًا بخمسينَ كمَا قَدْ حُفِظَتْ


    وفي السنة الثانية عشرة من بِعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبل الهجرة بعام واحد[15]، عندما كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الحادية والخمسين من عمره، أُسرِيَ به - صلى الله عليه وسلم - من المسجدِ الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عُرِج به - صلى الله عليه وسلم - إلى سِدرةِ المنتهى، وفُرِضت عليه الصلواتُ خمسين صلاة، فراجَع النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ربَّه؛ كما نصحه بذلك موسى عليه السلام، فجعَلها الله - عز وجل - خمسَ صلواتٍ بأجر خمسين صلاة.


    وإليك تفاصيلَ هذه الرحلة المبارَكة الثابتة بالكتاب والسنة.


    قال - تعالى -: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1]، ﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَه ُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ﴾ [النجم: 1 - 18].


    وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((بينما أنا عند البيت[16] في الحِجر مضطجعًا[17] بين النائم واليقظان[18] إذ أتاني آتٍ، فشقَّ[19] من النحر إلى مراقِّ البطن[20]، فاستخرج قلبي[21]، ثم غسَله بماء زمزم، ثم جاء بطَستٍ من ذهب ممتلئ حكمةً وإيمانًا، فأفرَغه في صدري، ثم أطبَقه[22]، ثم أُتِيت بدابةٍ أبيض، يقال له: البراق، فوق الحمار ودون البغل، يقع خَطوُه عند أقصى طَرْفِه[23]، فاستصعب عليه، فقال له جبريل: أبمحمدٍ تفعل هذا؟ فما ركِبك أحدٌ أكرم على الله منه، قال: فارفَضَّ عرَقًا[24]، فركبتُه حتى أتيت بيتَ المقدس، قال: فربطتُه بالحلقة التي يربط بها الأنبياء، قال: ثم دخلتُ المسجد[25] فصليتُ بالنبيين والمرسلين إمامًا[26]، ثم خرجت فجاءني جبريل - عليه السلام -بإناءٍ من خمرٍ وإناءٍ من لبنٍ، فاخترت اللَّبَن، فقال جبريل - عليه السلام -: اخترتَ الفطرة[27]، ثم أخَذ بيدي فعرَج بي إلى السماء الدنيا، فلما جئتُ إلى السماء الدنيا، قال جبريلُ لخازن السماء: افتَح، قال: من هذا؟ قال: جبريلُ، قال: هل معك أحدٌ؟ قال: نَعم معي محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - فقال: أُرسِل إليه؟ قال: نعم، فلمَّا فتَح، علَوْنا السماء الدنيا، فإذا رجلٌ قاعدٌ على يمينه أَسْودِةٌ، وعلى يسارِه أسودةٌ، إذا نظَر قِبَل يمينه ضحِك، وإذا نظَر قِبَل يساره بكى، فقال: مرحبًا بالنبيِّ الصالح، والابن الصالح، قلتُ لجبريل: من هذا؟ قال: هذا آدَمُ، وهذه الأسودةُ عن يمينه وشِماله نسَمُ بنيه، فأهلُ اليمين منهم أهلُ الجنَّة، والأسودةُ التي عن شِماله أهلُ النار، فإذا نظَر عن يمينه ضحِك، وإذا نظَر قِبَل شِماله بكى[28]، ثم صعِد بي حتى أتى السماءَ الثانية فاستفتَح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمدٌ، قيل: وقد أُرسِل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به؛ فنِعْم المجيءُ جاء، ففتح، فلمَّا خلصت إذا يحيى وعيسى، وهما ابنا الخالة، قال: هذا يحيى وعيسى فسلِّم عليهما، فسلَّمتُ، فردَّا، ثم قالا: مرحبًا بالأخ الصالح، والنبي الصالح، ثم صعِد بي إلى السماء الثالثة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمدٌ، قيل: وقد أُرسِل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به؛ فنِعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت إذا يوسف، قال: هذا يوسفُ فسلِّم عليه، فسلَّمت عليه، فردَّ، ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح، والنبي الصالح، ثم صعِد بي حتى أتى السماء الرابعة، فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمدٌ، قيل: أوَقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به؛ فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت إلى إدريس قال: هذا إدريس فسلِّم عليه، فسلمتُ عليه، فردَّ، ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح، والنبي الصالح، ثم صعِد بي حتى أتى السماء الخامسة، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمدٌ، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به؛ فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت فإذا هارون، قال: هذا هارون فسلِّم عليه، فسلَّمتُ عليه، فردَّ، ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح، والنبي الصالح، ثم صعِد بي حتى أتى السماء السادسة، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: من معك؟ قال: محمدٌ، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قال: مرحبًا به؛ فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا موسى، قال: هذا موسى فسلِّم عليه، فسلَّمتُ عليه، فردَّ، ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح، والنبي الصالح، فلما تجاوزت بكى، قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلامًا بُعث بعدي، يدخل الجنةَ من أمته أكثرُ ممن يدخلها من أمتي، ثم صعِد بي إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمدٌ، قيل: وقد بُعث إليه؟ قال: نعم، قال: مرحبًا به؛ فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا إبراهيم، قال: هذا أبوك فسلِّم عليه قال: فسلَّمتُ عليه، فرد السلام، قال: مرحبًا بالابن الصالح، والنبي الصالح، ثم رُفِعت إلى سدرة المنتهى، فإذا نبقها مِثلُ قلال هجر، وإذا ورَقها مثل آذان الفيلة، قال: هذه سدرةُ المنتهى، وإذا أربعة أنهارٍ، نهران باطنان، ونهران ظاهران، فقلت: ما هذانِ يا جبريل؟ قال: أما الباطنانِ فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات، ثم رُفع لي البيت المعمور، ثم أُتِيت بإناءٍ من خمرٍ، وإناءٍ من لبنٍ، وإناءٍ من عسلٍ، فأخذت اللبن، فقال: هي الفطرة التي أنت عليها وأمتُك، ثم فُرضت عليَّ الصلوات خمسين صلاةً كل يومٍ، فرجعت فمررت على موسى، فقال: بمَ أمرت؟ قال: أُمرتُ بخمسين صلاةً كل يومٍ، قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاةً كل يومٍ، وإني والله قد جرَّبْت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعتُ فوضع عني عشرًا، فرجعتُ إلى موسى فقال مِثلَه، فرجعت فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأُمِرت بعشر صلواتٍ كل يومٍ، فرجعت فقال مثله، فرجعت فأُمرتُ بخمس صلواتٍ كل يومٍ، فرجعت إلى موسى فقال: بمَ أمرت؟ قلت: أُمرتُ بخمس صلواتٍ كل يومٍ، قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلواتٍ كل يومٍ، وإني قد جربت الناس قبلك، وعالجتُ بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجِعْ إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، قال: سألتُ ربي حتى استحييت، ولكني أرضى وأُسلِّمُ، قال: فلما جاوزتُ نادى منادٍ: أمضيتُ فريضتي، وخفَّفْتُ عن عبادي))[29].


    فلما رجَع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصبح بمكة، يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((فظِعْتُ بأمري[30] وعرفت أن الناس مكذبي))، فقعد - بأبي هو وأمي ونفسي، صلى الله عليه وسلم - معتزلاً حزينًا، فمر عدو الله أبو جهلٍ، فجاء حتى جلس إليه، فقال له كالمستهزئ: هل كان من شيءٍ؟! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نعم))، قال: ما هو؟ قال: ((إنه أُسرِي بي الليلة))، قال: إلى أين؟ قال: ((إلى بيت المقدس)).


    قال: ثم أصبحتَ بين ظهرانَيْنَا؟! قال: ((نعم)).


    قال: فلم يرَ أنه يكذبه، مخافة أن يجحدَه الحديث إذا دعا قومه إليه، قال: أرأيتَ إن دعوتُ قومَك، تحدِّثهم ما حدثتني؟! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نعم)).


    فقال: هيا معشر بني كعب بن لؤي، حتى قال: فانتفضَتْ إليه المجالس، وجاؤوا حتى جلسوا إليهما.


    قال: حدِّثْ قومك بما حدثتني.
    فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إني أُسرِي بي الليلة)).


    قالوا: إلى أين؟ قال: ((إلى بيتِ المقدِسِ)).
    قالوا: ثم أصبحتَ بين ظهرانَيْنا؟ قال: ((نعم)).


    قال: فمِن بين مصفقٍ، ومن بين واضعٍ يده على رأسه متعجبًا للكذب؛ زعم!
    قالوا: وهل تستطيعُ أن تنعَتَ لنا المسجد؟ وفي القوم من قد سافر إلى ذلك البلد ورأى المسجد.


    فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فذهبت أنعت، فما زلتُ أنعَتُ حتى التبس عليَّ بعضُ النعت، قال: فجيء بالمسجد وأنا أنظر، حتى وضع دون دار عقالٍ - أو عقيلٍ - فنعتُّه وأنا أنظر إليه)).


    قال: ((وكان مع هذا نعتٌ لم أحفظه)).
    قال: فقال القوم: أما النعتُ، فوالله لقد أصاب[31].

    --------------------------------------------------------------------------------
    [1] المغازي لابن إسحاق (171)، وعنه ابن هشام في السيرة (1/ 291، 292).
    [2] انظر: مغازي ابن إسحاق (243)، وعيون الأثر، (1/ 151).
    [3] عيون الأثر (234).
    [4] نَصيبِين: بفتح النون وكسر الصاد المهمَلة على صيغة الجمع.
    وتقع نصيبين في أقصى شمال الجزيرة الفُراتية على الحدود بين تركية وسورية والحدود، تحوزُها - اليوم - إلى تركية، تُجاور مدينة القامشلي السورية، ليس بينهما غير الحد، نصيبين شماله، والقامشلي جنوبه، ويمرُّ فيهما أحدُ فروع نهر الخابور؛ معجم المعالم الجغرافية في السيرة (319).
    [5] صفوة الصفوة (1/ 44).
    [6] سيرة ابن هشام (1/ 421، 422).
    [7] أخرجه البخاري (3860).
    [8] أخرجه أحمد (25769)، مرسلاً عن أبي سلمة ويحيى بن عبدالرحمن بن حاطب، ووصله الطبري في "التاريخ" (3/162)، والبيهقي في "الدلائل" (2/411، 412)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (3060، 3061)، والطبراني في "الكبير" (23/57)، فرووه عن يحيى بن عبدالرحمن عن عائشة، قال الذهبي في "السير" 1/182: إسناده حسن.
    [9] صحيح: أخرجه مسلم (1423).
    [10] متفق عليه: أخرجه البخاري (3894)، ومسلم (1422).
    [11] مسلم (1422).
    [12] شرح مسلم (9/ 207).
    [13] متفق عليه: أخرجه البخاري (3895)، ومسلم (2438).
    [14] صحيح: أخرجه البخاري (5077).
    [15] انظر: الطبقات الكبرى (1/ 213).
    [16] البخاري (3207).
    [17] البخاري (3887).
    [18] البخاري (3207).
    [19] البخاري (3887).
    [20] البخاري (3207)، أي إلى ما رقَّ من الجلد، وهو ما يكون أسفلَ البطن.
    [21] مسلم (164).
    [22] البخاري (349).
    [23] مسلم (164).
    [24] أحمد 3/164، الترمذي (3131)، وقال: حسن غريب، وصحَّح إسناده الألباني في "صحيح الترمذي".
    [25] مسلم (162).
    [26] انظر: "الإسراء والمعراج" للألباني (14).
    [27] مسلم (162).
    [28] البخاري (349).
    [29] صحيح: أخرجه البخاري (3887)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: المعراج.
    [30] أي: اشتَدَّ علَيَّ وهِبْتُه؛ (نهاية).
    [31] صحيح الإسناد: أخرجه أحمد 1/309، الطبراني (12782)، وحسَّنه الحافظ في "الفتح" 7/199، وقال الألباني في "الإسراء والمعراج" (82): سنده صحيح.

    رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/66766/#ixzz2B0BFTsR8
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي

    قوله:
    والبيعةُ الأُولى معَ اثنَيْ عَشَرْ مِنْ أهلِ طَيْبةَ كما قَدْ ذُكِرْ

    فلما كان موسمُ الحج من العام الثاني عشَر من البِعثة، أقبَل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفدٌ من الأنصار، قوامه: اثنا عشَر رجلاً:
    عشرة من الخزرج، وهم:
    1- أسعد بن زرارة.
    2- عوف بن الحارث بن رفاعة ابن عفراء.
    3- رافع بن مالك بن العجلان.
    4- قطبة بن عامر بن حديدة.
    5- عقبة بن عامر بن نابي.
    6- معاذ بن الحارث بن عفراء.
    7- ذكوان بن عبدقيس.
    8- عبادة بن الصامت.
    9- يزيد بن ثعلبة.
    10- العباس بن عبادة بن نضلة بن مالك بن العجلان.


    واثنان من الأوس، وهم:
    11- أبو الهيثم بن التيهان، واسمه: مالك[1].
    12- عويم بن ساعدة[2].


    فبايع هذا الوفدُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بيعةَ العَقَبة الأولى.


    يقول عبادةُ بن الصامت - رضي الله عنه - وكان ممن شهِد البيعة: "إني لمن النقباء الذين بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: بايعناه على ألَّا نشركَ بالله شيئًا، ولا نزني، ولا نسرق، ولا نقتل النفسَ التي حرَّم الله إلا بالحق، ولا ننتهب، ولا نعصي؛ فالجنة إن فعلنا ذلك، فإن غشينا من ذلك شيئًا، كان قضاءُ ذلك إلى الله"[3].


    وفي رواية قال عبادة - رضي الله عنه -: إن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((تعالَوْا بايعوني على ألَّا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتُلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتانٍ تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروفٍ، فمَن وفَى منكم فأجرُه على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا، فعوقب به في الدنيا، فهو له كفارةٌ، ومَن أصاب مِن ذلك شيئًا فستره الله، فأمره إلى الله؛ إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه))، قال: فبايعتُه على ذلك[4].


    أول سفير في الإسلام:
    فانطلق القوم - بعد ذلك - عائدين إلى المدينة المنورة، فأرسل معهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مصعب بن عمير - رضي الله عنه - وأمَره أن يقرئَهم القرآن، ويعلِّمَهم الإسلام، ويفقههم في الدين، فكان مصعبٌ يسمى في المدينة بالمقرئ.


    وكان منزله على أسعد بن زرارة، وكان يصلي بهم؛ وذلك أن الأوس والخزرج كرِه بعضُهم أن يؤُمَّه بعضٌ[5].


    أول جمعة بالمدينة المنورة، وإمامها:
    قام سفيرُ الإسلام مصعب بن عمير بمهمته على أكمل وجه؛ فدعا إلى دين الله - تعالى - وأقرأ الناس، وعلَّمهم، وفقَّههم في الدين، وانتشر الإسلام بالمدينة، فأقيمت أول جمعة في الإسلام بالمدينة المنورة، وأمَّ المسلمين فيها أسعدُ بن زرارة - رضي الله عنه[6].


    عن عبدالرحمن بن كعب بن مالكٍ - وكان قائدَ أبيه بعدما ذهب بصره - عن أبيه كعب بن مالكٍ أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحَّم لأسعد بن زرارة، فقلت له: إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد بن زرارة؟ قال: لأنه أول من جمَّع بنا في هزم النبيت[7] من حرَّة بني بياضة[8]، في نقيعٍ[9] يقال له: نقيع الخضمات[10]، قلت: كم أنتم يومئذٍ؟ قال: أربعون[11].


    قوله:
    وبعدَ ثِنْتينِ وخَمسينَ أتى سبعونَ في المَوسِمِ هذا ثَبَتَا مِن طَيْبَةٍ، فبايَعوا . . . . . . . . . . . . . . . . . . .


    وفي العام التالي للبيعة الأولى وافى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سبعون رجلاً من الأنصار، فبايعوه بيعة العقبة الثانية.


    يقول جابر بن عبدالله - وكان ممن شهد هذه البيعة -:
    "مكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم بعكاظٍ، ومجنة، وفي المواسم بمنًى، يقول: من يؤويني؟ من ينصرني حتى أبلغ رسالةَ ربي وله الجنة؟ حتى إن الرجل ليخرُج من اليمن أو من مصرَ، فيأتيه قومه فيقولون: احذر غلام قريشٍ، لا يفتنك، ويمشي بين رحالهم وهم يشيرون إليه بالأصابع، حتى بعثنا اللهُ إليه من يثرب، فآويناه وصدقناه، فيخرج الرجلُ منا، فيؤمن به، ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيُسلِمون بإسلامه، حتى لم يبقَ دارٌ من دور الأنصار إلا وفيها رهطٌ من المسلمين يُظهِرون الإسلام، ثم ائتمروا جميعًا، فقلنا: حتى متى نترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُطرَد في جبال مكة ويخاف؟ فرحَل إليه منا سبعون رجلاً حتى قدموا عليه في الموسم، فواعَدْناه شِعب العقبة، فاجتمعنا عليه من رجلٍ ورجلين حتى توافينا، فقلنا: يا رسول الله، علامَ نبايعك؟ قال: ((تبايعوني على السمع والطاعة، في النشاط والكسل، والنفقة في العُسر واليُسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافون في الله لومة لائمٍ، وعلى أن تنصروني، فتمنعوني إذا قدمتُ عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة))، فقمنا إليه، وأخَذ بيده أسعدُ بن زرارة، وهو من أصغرهم - وفي رواية البيهقي: وهو أصغر السبعين إلا أنا - فقال: رويدًا يا أهل يثرب، فإنَّا لم نضرِبْ أكباد الإبل إلا ونحن نعلَمُ أنه رسول الله، وأن إخراجَه اليوم مفارقةُ العرب كافةً، وقتلُ خياركم، وأن تعَضَّكم السيوف، فإما أنتم قومٌ تصبرون على ذلك وأجركم على الله، وإما أنتم قومٌ تخافون من أنفسكم خيفة، فبيِّنوا ذلك؛ فهو عذرٌ لكم عند الله، قالوا: أمِطْ عنا يا أسعد، فوالله لا ندَعُ هذه البيعة أبدًا، ولا نسلبها أبدًا، قال: فقمنا إليه فبايعناه، وأخذ علينا وشرط، ويعطينا على ذلك الجنة[12].


    وعن كعب بن مالك - رضي الله عنه - قال: خرجنا في الحجَّةِ التي بايعنا فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعقبة مع مشركي قومِنا، ومعنا البراءُ بن مَعرورٍ كبيرُنا وسيِّدنا، حتى إذا كنا بظاهر البيداء قال: يا هؤلاء، تعلمون إني قد رأيتُ رأيًا، والله ما أدري توافقوني عليه أم لا؟! فقلنا: وما هو يا أبا بشر؟ قال: إني قد أردت أن أصلي إلى هذه البنية ولا أجعلها مني بظهرٍ، فقلنا: لا والله لا تفعل، والله ما بلَغنا أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يصلي إلا إلى الشام، قال: فإني والله لمُصلٍّ إليها، فكان إذا حضرتِ الصلاة توجَّه إلى الكعبة وتوجهنا إلى الشام، حتى قدمنا مكة، فقال لي البراء: يا ابنَ أخي، انطلق إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أسأله عما صنعت، فلقد وجدتُ في نفسي بخلافكم إياي، قال: فخرجنا نسأل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلقِيَنا رجلٌ بالأبطح، فقلنا: هل تدلنا على محمد؟ قال: وهل تعرفانه إن رأيتماه؟ قلنا: لا والله، قال: فهل تعرفان العباس؟ فقلنا: نعم، وقد كنا نعرفه، كان يختلف إلينا بالتجارة، فقال: إذا دخلتما المسجد فانظروا العباس، قال: فهو الرجلُ الذي معه، قال: فدخلنا المسجد، فإذا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - والعباس ناحية المسجد جالسين، فسلَّمنا، ثم جلسنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هل تعرف هذين الرَّجُلينِ يا أبا الفضل؟)) قال: نعم، هذا البراء بن معرورٍ سيد قومه، وهذا كعب بن مالكٍ، فوالله ما أنسى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الشاعر؟)) قال: نعم، قال له البراء: يا رسول الله إني قد رأيت في سفري هذا رأيًا، وقد أحببت أن أسألَك عنه قال: ((وما ذاك؟)) قال: رأيت ألا أجعل هذه البنية مني بظهرٍ فصليت إليها، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قد كنت على قِبلةٍ لو صبرت عليها))، فرجع إلى قِبلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصلى معنا إلى الشام، ثم واعدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العقبة، أوسط أيام التشريق، ونحن سبعون رجلاً للبيعة، ومعنا عبدالله بن عمرو بن حرامٍ والد جابرٍ، وإنه لعلى شِرْكه، فأخذناه وقلنا: يا أبا جابرٍ، والله إنا لنرغب بك أن تموت على ما أنت عليه فتكون لهذه النار غدًا حطبًا، وإن الله قد بعَث رسولاً يأمر بتوحيده وعبادته، وقد أسلم رجال من قومك، وقد واعدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للبيعة، فأسلَم وطهَّر ثيابه، وحضرها معنا فكان نقيبًا، فلما كانت الليلة التي وعَدْنا فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنًى أول الليل مع قومنا، فلما استثقل الناس من النوم تسللنا من فرشنا تسلُّل القَطا، حتى اجتمعنا بالعقبة، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعمه العباس، ليس معه غيره، أحَبَّ أن يحضر أمر ابن أخيه، فكان أول متكلمٍ، فقال: يا معشر الخزرج، إن محمدًا منا حيث قد علمتم، وهو في منعةٍ من قومه وبلاده، قد منعناه ممن هو على مثل رأينا منه، وقد أبى إلا الانقطاع إليكم، وإلى ما دعوتموه إليه، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما وعدتموه، فأنتم وما تحملتم، وإن كنتم تخشون من أنفسكم خذلانًا، فاتركوه في قومه، فإنه في منعة من عشيرته وقومه، فقلنا: قد سمعنا ما قلت، تكلَّم يا رسول الله، فتكلم ودعا إلى الله، وتلا القرآن، ورغَّب في الإسلام، فأجبناه بالإيمان والتصديق له، وقلنا له: خُذْ لربك ولنفسك، فقال: ((إني أبايعكم على أن تمنعوني مما منعتم منه أبناءكم ونساءكم))، فأجابه البراء بن معرورٍ فقال: نعم والذي بعثك بالحق نمنعنك مما نمنع منه أُزُرَنا، فبايِعْنا يا رسول الله، فنحن أهل الحروب وأهل الحَلقة، ورثناها كابرًا عن كابرٍ، فعرض في الحديث أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالاً، وإنَّا لقاطعوها، فهل عسيت إنِ اللهُ أظهرك أن ترجع إلى قومك وتدَعَنا؟ فقال: ((بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أسالم من سالمتم، وأحارب من حاربتم))، فقال له البراء بن معرور: ابسط يدَك يا رسول الله نبايعك.


    فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبًا))، فأخرجوهم له، فكان نقيب بني النجار: أسعد بن زرارة، ونقيب بني سلِمة: البراء بن معرور، وعبدالله بن عمرو بن حرام، ونقيب بني ساعدة: سعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو، ونقيب بني زريق: رافع بن مالك، ونقيب بني الحارث بن الخزرج: عبدالله بن رواحة، وسعد بن الربيع، ونقيب بني عوف بن الخزرج: عبادة بن الصامت - وبعضهم جعل بدل عبادة بن الصامت خارجة بن زيد- ونقيب بني عمرو بن عوف: سعد بن خيثمة، ونقيب بني عبدالأشهل - وهم من الأوس -: أسيد بن حضير، وأبو الهيثم بن التيهان، قال: فأخذ البراء بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضرب عليها، وكان أول من بايع، وتتابع الناس فبايعوا، فصرخ الشيطان على العقبة بأنفذ صوت سمعتُه قط، فقال: يا أهل الجباجب[13]، هل لكم في مُذَمَّمٍ والصباة معه قد اجتمعوا على حربكم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هذا أزبُّ العقبة، هذا ابن أزيب، أما والله لأفرغن لك، ارفضُّوا إلى رحالكم)).


    فقال العباس بن عبادة أخو بني سالم: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق، لئن شئتَ لنُميلنَّ على أهل منًى غدًا بأسيافنا، فقال: ((إنا لم نؤمَرْ بذلك))، فرُحْنا إلى رحالنا فاضطجعنا، فلما أصبحنا، أقبلت جِلَّةٌ من قريشٍ فيهم الحارث بن هشام، فتى شاب وعليه نعلان له جديدتان، فقالوا: يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبِنا لتستخرجوه من بين أظهُرِنا، وإنه والله ما من العرب أحدٌ أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينه منكم، فانبعث مَن هناك مِن قومنا من المشركين يحلفون لهم بالله، ما كان من هذا شيءٌ، وما فعلناه، فلما تثوَّر القوم لينطلقوا قلت كلمةً كأني أُشركهم في الكلام: يا أبا جابرٍ - يريد عبدالله بن عمرو - أنت سيدٌ من سادتنا وكهل من كهولنا، لا تستطيع أن تتخذ مثل نعلي هذا الفتى من قريشٍ، فسمعها الحارث، فرمى بهما إليَّ، وقال: والله لتلبسنَّهما، فقال أبو جابرٍ: مهلاً، أحفَظْتَ لَعَمْرُ اللهِ الرجلَ - يقول: أخجلته - اردُدْ عليه نعليه، فقلت: لا والله لا أردهما، فَأْلٌ صالِحٌ، إني لأرجو أن أسلبَه[14].


    قوله:
    . . . . . ثمَّ هَجَرْ مكَّةَ يومَ اثنينِ مِن شَهْرِ صَفَرْ فجاء طَيْبةَ الرِّضا يَقِينَا إذ كمَّلَ الثَّلاثَ والخَمسينا في يومِ الاثنَيْنِ، ودام فيها عَشْرَ سِنِينَ كمَلَتْ نَحْكِيها

    رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - دار الهجرة في رؤية منامية أراها الله إياه، فكان ذلك وحيًا من الله، وإيذانًا له - صلى الله عليه وسلم - بأن يأمرَ أصحابه بالهجرة لبدء مرحلة جديدة من الجهاد والدعوة في سبيل الله، عسى أن تكون أفضل من سابقتها.


    عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((قد أُريتُ دار هجرتكم، رأيت سبخةً ذات نخلٍ بين لابتين)) - وهما الحرَّتان - فهاجر مَن هاجر قِبل المدينة، ورجع عامةُ مَن كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهَّز أبو بكرٍ قِبل المدينة، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((على رسلك؛ فإني أرجو أن يؤذَنَ لي)) فقال أبو بكرٍ: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: ((نعم))، فحبَس أبو بكرٍ نفسه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورَق السَّمُر - وهو الخبط - أربعة أشهرٍ[15].


    وعن أبي موسى - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((رأيتُ في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرضٍ بها نخلٌ، فذهب وَهْلي إلى أنها اليمامةُ أو هَجَرُ، فإذا هي المدينة يثرِبُ))[16].


    بداية الرحلة إلى المدينة:
    بدأ الصحابة - رضوان الله عليهم - في الاستعداد والخروج إلى المدينة المنورة؛ حيث علموا أن ذِكر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الرؤيا لهم، إِذْنٌ منه - صلى الله عليه وسلم - بالخروج[17]، فخرجوا.


    فكان أول من خرج مصعب بن عميرٍ، وابن أم مكتومٍ، وبلالٌ، وسعد، وعمار بن ياسرٍ،ثم خرج عمر بن الخطاب في عشرين من أصحابِ النبي - صلى الله عليه وسلم[18].


    وكان من أوائل المهاجرين أيضًا أبو سلَمة - رضي الله عنه - وكان لخروجه قصة عجيبة تحكيها السيدة أم سلمة - رضي الله عنها - حيث تقول:
    لما أجمع أبو سلَمة الخروج إلى المدينة، رحَل لي بعيره ثم حملني عليه، وحمل معي ابني سلَمة بن أبي سلمة في حجري، ثم خرج بي يقودُ بي بعيره، فلما رأته رجال بني المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزومٍ قاموا إليه، فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيتَ صاحبتك هذه؟ علامَ نتركُك تسير بها في البلاد؟ قالت: فنزَعوا خِطام البعير من يده، فأخذوني منه، قالت: وغضِب عند ذلك بنو عبدالأسد، رهط أبي سلَمة، فقالوا: لا والله، لا نترُك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا.


    قالت: فتجاذبوا بُنَيَّ سلَمةُ بينهم حتى خلَعوا يده، وانطلق به بنو عبدالأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة، قالت: ففرق بيني وبين زوجي وبين ابني، قالت: فكنت أخرُج كل غداةٍ فأجلس بالأبطح، فما أزال أبكي حتى أمسي، سنةً أو قريبًا منها، حتى مر بي رجلٌ من بني عمي - أحد بني المغيرة - فرأى ما بي فرحمني، فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون هذه المسكينة، فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها! قالت: فقالوا لي: الحقي بزوجك إن شئتِ، قالت: وردَّ بنو عبدالأسد إليَّ عند ذلك ابني، قالت: فارتحلت بعيري ثم أخذت ابني فوضعتُه في حجري، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة، قالت: وما معي أحدٌ من خلق الله، قالت: فقلت: أتبلَّغ بمن لقيت حتى أقدَمَ على زوجي، حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمانَ بن طلحة بن أبي طلحة، أخا بني عبدالدار، فقال لي: إلى أين يا بنت أبي أمية؟ قالت: فقلت: أريد زوجي بالمدينة، قال: أوما معك أحدٌ؟ قالت: فقلت: لا والله، إلا الله وبُني هذا، قال: والله ما لكِ من مَتركٍ، فأخذ بخطام البعير، فانطلق معي يهوى بي، فوالله ما صحبت رجلاً من العرب قط، أرى أنه كان أكرم منه؛ كان إذا بلغ المنزل أناخ بي، ثم استأخر عني، حتى إذا نزلتُ استأخر ببعيري، فحط عنه، ثم قيده في الشجرة، ثم تنحى عني إلى شجرةٍ، فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح، قام إلى بعيري فقدمه فرحله، ثم استأخر عني، وقال: اركبي، فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى فأخَذ بخطامه، فقاده، حتى ينزل بي، فلم يزَلْ يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوفٍ بقباءٍ، قال: زوجُك في هذه القرية - وكان أبو سلمة بها نازلاً - فادخليها على بركة الله، ثم انصرف راجعًا إلى مكة.


    فكانت تقول: والله ما أعلم أهل بيتٍ في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة، وما رأيت صاحبًا قط كان أكرَمَ من عثمان بن طلحة[19].


    وتأخر النبي - صلى الله عليه وسلم - وحبَس معه أبا بكر - كما تقدم - وعليًّا أيضًا ليؤدي الودائع التي كانت عنده للناس، وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضَعه عنده؛ لِما يعلَم من صدقه وأمانته - صلى الله عليه وسلم[20].


    ثم استعدَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - للهجرة ومعه الصِّدِّيق أبو بكر - رضي الله عنه.


    وتعُود بداية هذه الرحلة المباركة عندما كان أبو بكر جالسًا في بيته وقت الظهيرة، فقال له قائلٌ: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متقنعًا في ساعةٍ لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكرٍ: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمرٌ، قالت عائشة: فجاء رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فاستأذن، فأذِن له، فدخَل فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكرٍ: ((أخرِجْ مَن عندك))، فقال أبو بكرٍ: إنما هم أهلُك بأبي أنت يا رسول الله؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فإني قد أُذِن لي في الخروج))، فقال أبو بكرٍ: الصحابة بأبي أنت يا رسول الله؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نعم))، قال أبو بكرٍ: فخُذْ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتيَّ هاتين، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بالثمن))، قالت عائشة: فجهزناهما أحَثَّ الجهاز، وصنعنا لهما سُفرةً في جرابٍ، فقطعت أسماء بنت أبي بكرٍ قطعةً من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فبذلك سُمِّيت ذات النطاقين، قالت: ثم لحق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكرٍ بغارٍ في جبل ثورٍ، فكمنا فيه ثلاث ليالٍ يبيت عندهما عبدالله بن أبي بكرٍ وهو غلامٌ شاب ثقفٌ لقنٌ، فيدلج من عندهما بسحرٍ فيصبح مع قريشٍ بمكة كبائتٍ، فلا يسمع أمرًا يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامرُ بن فهيرة مولى أبي بكرٍ منحةً[21] من غنمٍ، فيريحها عليهما حين تذهب ساعةٌ من العشاء، فيبيتان في رسلٍ، وهو لبن منحتهما ورضيفهما[22] حتى ينعِق[23] بها عامر بن فهيرة بغلَسٍ، يفعل ذلك في كل ليلةٍ من تلك الليالي الثلاث[24].


    وفي تلك الأثناء تفطن المشركون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر قد خرَجا، فأخذوا يبحثون عنهما في كل مكان حتى وصلوا إلى الغار وهما فيه، ثم قربوا منه بشدة، حتى إن أبا بكر - رضي الله عنه - سمع صريرَ أقدامهم حول الغار، فرفع رأسه فإذا هو بأقدام القوم، فقال: يا رسول الله، لو أن بعضَهم طأطأ بصره رآنا، قال: ((اسكت يا أبا بكرٍ، اثنان الله ثالثهما))[25].


    ثم استأجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكرٍ رجلاً من بني الديل، وهو من بني عبد بن عدي[26] هاديا خريتًا - والخريت الماهر بالهداية - قد غمس حلفًا في آل العاص بن وائلٍ السهمي، وهو على دين كفار قريشٍ، فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثورٍ بعد ثلاث ليالٍ براحلتيهما صبح ثلاثٍ[27].


    ثم انتظروا حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق لا يمر فيه أحدٌ[28].


    فانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل، فأخذ بهم طريق السواحل[29].


    يقول أبو بكر - رضي الله عنه -:
    فأسرينا ليلتنا كلها حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق فلا يمر فيه أحدٌ، حتى رفعت لنا صخرةٌ طويلةٌ لها ظل لم تأتِ عليه الشمس بعدُ، فنزلنا عندها فأتيت الصخرة، فسوَّيت بيدي مكانًا ينام فيه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في ظلها، ثم بسطتُ عليه فروةً، ثم قلت: نَمْ يا رسول الله! وأنا أنفض لك ما حولك، فنام، وخرجت أنفض ما حوله فإذا أنا براعي غنمٍ مقبلٍ بغنمه إلى الصخرة يريد منها الذي أردنا، فلقيته، فقلت: لمن أنت يا غلام؟ فقال: لرجلٍ من أهل المدينة، قلت: أفي غنمك لبنٌ؟ قال: نعم، قلت: أفتحلب لي؟ قال: نعم، فأخذ شاةً، فقلت له: انفض الضرع من الشعر والتراب والقذى، فحلب لي في قعبٍ معه كثبةً من لبنٍ، قال: ومعي إداوةٌ أرتوي فيها للنبي - صلى الله عليه وسلم - ليشرَبَ منها ويتوضأ، قال: فأتيت النبيَّ وكرهتُ أن أوقظه من نومه، فوافقتُه استيقظ، فصببت على اللبن من الماء حتى برد أسفله، فقلت: يا رسول الله، اشرَبْ من هذا اللبن، فشرِب حتى رضيت، ثم قال: ((ألم يأنِ للرحيل؟))، قلت: بلى، قال: فارتحلنا بعدما زالت الشمس، واتبَعَنا سراقة بن مالكٍ، قال: ونحن في جلدٍ من الأرض[30]، فقلت: يا رسول الله، أُتِينا، فقال: ((لا تحزن؛ إن الله معنا))، فدعا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فارتطمت - ساخت - فرَسُه إلى بطنها، فقال: إني قد علمتُ أنكما قد دعوتما علي، فادعُوَا لي، فالله لكما أن أردَّ عنكما الطلب، فدعا الله، فنجا[31].


    فلما نجا سراقة قصَّ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبار قريش، وأنهم جعلوا فيه الدية، وأخبرهم أخبارَ ما يريد الناس منهم، ثم عرَض على النبي - صلى الله عليه وسلم - الزاد والمتاع، يقول سراقة: فلم يرزُأاني، ولم يسألاني، إلا أن قال: أخفِ عنا، فسألتُه أن يكتبَ لي كتاب أمنٍ، فأمَر عامر بن فهيرة، فكتب في رقعةٍ من أديمٍ[32].


    ثم وفى سراقة بما وعد به رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حيث وعده أن يرد عنهما الطلب، فكان لا يلقى أحدًا إلا قال: قد كفيتُكم ما ها هنا، فلا يلقى أحدًا إلا رده[33].


    وكان من شأن سراقة - رضي الله عنه - أنه كان جالسًا في مجلسٍ من مجالس قومه بني مدلجٍ يقول سراقة: فأقبل رجلٌ منهم حتى قام علينا ونحن جلوسٌ فقال: يا سراقة، إني قد رأيت آنفًا أسودةً بالساحل، أراها محمدًا وأصحابه، قال سراقة: فعرفتُ أنهم هم، فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانًا وفلانًا، انطلقوا بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعةً، ثم قمت فدخلتُ فأمرت جاريتي أن تخرُج بفرسي وهي من وراء أكمةٍ، فتحبسها علي، وأخذتُ رمحي، فخرجت به من ظهر البيت فحططت بزجه[34] الأرض، وخفضت عاليه[35] حتى أتيت فرسي فركبتها، فرفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم، فعثَرَتْ بي فرسي، فخرَرْتُ عنها، فقُمت، فأهويت يدي إلى كنانتي، فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها: أضرُّهم أم لا، فخرج الذي أكرَه، فركبت فرسي، وعصيت الأزلام تقرب بي، حتى إذا سمعت قراءةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يلتفت وأبو بكرٍ يكثر الالتفات، ساخت يدا فرَسي في الأرض حتى بلغتا الرُّكبتينِ، فخررت عنها، ثم زجَرْتُها، فنهضت، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمةً إذا لأثر يديها عثانٌ[36] ساطعٌ في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام، فخرَج الذي أكره، فناديتهم بالأمان، فوقفوا، فركبتُ فرسي حتى جئتُهم، ووقع في نفسي حين لقيتُ ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم[37].


    ثم ذكَر سراقة - رضي الله عنه - الحوار الذي دار بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم.


    ثم مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلقي في الطريق الزبيرَ في ركبٍ من المسلمين كانوا تجارًا قافلين من الشام، فكسا الزُّبيرُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر ثيابَ بياض.


    ومر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكرٍ - رضي الله عنه - ومولى أبي بكرٍ عامر بن فهيرة، ودليلهما الليثي عبدالله بن أريقطٍ على خيمتي أم معبدٍ الخزاعية، وكانت امرأةً برزةً[38] جلدةً[39] تحتبي بفناء الخيمة[40]، ثم تسقي وتُطعِم، فسألوها لحمًا وتمرًا ليشتروا منها، فلم يصيبوا عندها شيئًا من ذلك، وكان القوم مرملين[41] مُسنِتين[42]، فنظَر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى شاةٍ في كسر الخيمة[43]، فقال: ((ما هذه الشاة يا أم معبدٍ؟)) قالت: شاةٌ خلفها الجهد[44] عن الغنم، قال: ((هل بها من لبنٍ؟)) قالت: هي أجهَدُ من ذلك، قال: ((أتأذنين لي أن أحلبَها؟))، قالت: بأبي أنت وأمي، إن رأيتَ بها حلبًا، فاحلُبْها.


    فدعا بها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فمسح بيده ضَرعها، وسمى الله - تعالى - ودعا لها في شاتها، فتفاجت[45] عليه ودرَّت، فاجترت[46]، فدعا بإناءٍ يربض الرَّهط[47]، فحلب فيه ثجًّا[48] حتى علاه البهاء[49]، ثم سقاها حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، وشرب آخرهم حتى أراضوا[50]، ثم حلب فيه الثانية على هدةٍ[51] حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها، ثم بايعها، وارتحلوا عنها، فقل ما لبثت حتى جاءها زوجها أبو معبدٍ، يسوقُ أعنزًا عجافًا[52] يتساوكن هزالاً[53]، مخهن قليلٌ[54]، فلما رأى أبو معبدٍ اللبن أعجبه، قال: من أين لك هذا يا أم معبدٍ والشاء عازبٌ حائلٌ[55]، ولا حلوب في البيت؟ قالت: لا والله، إلا أنه مر بنا رجلٌ مباركٌ، من حاله كذا وكذا، قال: صِفِيه لي يا أم معبدٍ.


    قالت: رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة[56]، أبلَج الوجه[57]، حسَن الخلق، لم تَعِبه ثجلةٌ[58]، ولم تزريه[59] صعلةٌ[60]، وسيمٌ[61] قسيمٌ[62]، في عينيه دعجٌ[63]، وفي أشفاره[64] وطفٌ[65]، وفي صوته صهلٌ[66]، وفي عنقه سطعٌ[67]، وفي لحيته كثاثةٌ[68]، أزجُّ[69] أقرن[70]، إن صمَت فعليه الوقار[71]، وإن تكلَّم سما وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاه من بعيدٍ، وأحسنه وأجمله من قريبٍ، حُلو المنطق[72]؛ فصلٌ لا نزرٌ ولا هذرٌ[73]، كأن منطقه خرزات نظمٍ يتحدرن، ربعةٌ[74]، لا تشنؤه من طولٍ[75]، ولا تقتحمه عينٌ من قِصَرٍ[76]، غصنٌ بين غصنين[77]؛ فهو أنضرُ[78] الثلاثة منظرًا، وأحسنهم قدرًا، له رفقاء يحفون به[79]؛ إن قال سمِعوا لقولِه، وإن أمَر تبادروا[80] إلى أمرِه.


    محفودٌ[81] محشودٌ[82] لا عابسٌ[83] ولا مفندٌ[84].


    قال أبو معبدٍ: هذا والله صاحبُ قريشٍ الذي ذُكر لنا من أمره ما ذكر، ولقد هممت أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدتُ إلى ذلك سبيلاً.


    وأصبح صوتٌ بمكة عاليًا، يسمعون الصوتَ ولا يدرون مَن صاحبه، وهو يقول:
    جزى اللهُ ربُّ الناس خيرَ جزائه رفيقينِ حلَّا خيمتَيْ أمِّ معبدِ هما نزلاها بالهُدى واهتدت به فقد فاز مَن أمسى رفيقَ محمَّدِ فيا لقصيٍّ ما زوى اللهُ عنكمُ به من فعالٍ لا تجارَى وسؤددِ ليهنِ أبا بكرٍ سعادةُ جدِّه بصحبتِه مَن يُسعِد اللهُ يسعَدِ ليَهنِ بني كعبٍ مقامُ فتاتِهم ومقعدُها للمؤمنين بمرصدِ سلوا أختَكم عن شاتها وإنائها فإنكم إن تسأَلوا الشاةَ تشهدِ دعاها بشاةٍ حائلٍ فتحلبت عليه صريحًا ضرة الشاة مزبدِ فغادره رهنًا لديها لحالبٍ يرددها في مصدرٍ بعد موردِ[

    رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/67095/#ixzz2B6CCJrUz
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي

    ثم مضى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هو وأبو بكر - رضي الله عنه - فالتفت أبو بكرٍ فإذا هو بفارسٍ قد لحقهم، فقال: يا رسول الله، هذا فارسٌ قد لحِق بنا، فالتفت نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((اللهم اصرَعْه))، فصرَعه الفرس، ثم قامت تحمحم[86]، فقال: يا نبيَّ الله، مُرْني بما شئت، قال: ((فقف مكانَك، لا تتركنَّ أحدًا يلحق بنا)) قال: فكان أول النهار جاهدًا على نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وكان آخرَ النهار مَسلَحةً له[87].


    وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قد أشرَف على المدينة وهو مردفٌ أبا بكرٍ، وأبو بكرٍ شيخٌ يُعرَف، ونبي الله - صلى الله عليه وسلم - شابٌّ لا يعرف[88]، قال: فيلقى الرجل أبا بكرٍ، فيقول: يا أبا بكرٍ، من هذا الرجلُ الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجلُ يهديني السبيل، قال: فيحسَب الحاسب أنه إنما يعني الطريق، وإنما يعني سبيلَ الخير[89].


    وسمِع المسلمون بالمدينة مخرَج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة، فكانوا يَغْدون كل غداةٍ إلى الحرة، فينتظرونه حتى يردَّهم حرُّ الظهيرة، فانقلبوا يومًا بعدما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجلٌ من يهود على أُطُمٍ من آطامهم[90] لأمرٍ ينظر إليه، فبصر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مبيَّضينَ[91] يزول بهم السَّرابُ[92]، فلم يملكِ اليهوديُّ أن قال بأعلى صوته: يا معاشر العرب، هذا جَدُّكم الذي تنتظرون[93]، فثار المسلِمون إلى السلاحِ، فتلقَّوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بظهر الحرَّة[94].


    قوله:
    أكمَلَ في الأُولى صلاةَ الحضَرِ مِن بعدِ ما جمَّع، فاسمَعْ خَبَري

    عن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - قالت: فرَض اللهُ الصلاة حين فرضها، ركعتين ركعتين، في الحضر والسفر، فأُقرَّت صلاة السفر، وزِيدَ في صلاة الحضَر[95].


    قال ابن جريرٍ - رحمه الله -:
    "وفي هذه السنة - يعني السنةَ الأولى من الهجرة - زِيدَ في صلاة الحضر - فيما قيل - ركعتانِ، وكانت صلاة الحضر والسفر ركعتينِ، وذلك بعد مَقدَم النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ بشهرٍ من ربيعٍ الآخر لمضي ثنتي عشرةَ ليلةً منه.


    زعم الواقدي أنه لا خلافَ بين أهل الحجاز فيه[96]".


    وفي هذه السنةِ - الأولى من الهجرة - صلَّى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أولَ جُمعة له بالمدينة؛ حيث أدركته الصلاةُ في بني سالم بن عوف[97].

    --------------------------------------------------------------------------------
    [1] التيهان: يخفف ويثقل، كقوله: ميت وميت؛ "سيرة ابن هشام" 2/24.
    [2] ذكر ابن اسحاق أسماء أصحاب بيعة العقبة الأولى والثانية؛ "سيرة ابن هشام" 2/22، 24، قال: حدثني عاصم بن عمرو بن قتادة، عن أشياخ من قومه.
    قلت: وعاصم تابعي، قال ابن حجر: ثقة، عالم بالمغازي؛ (تقريب)، وقال الذهبي: صدوق علاَّمة بالمغازي؛ (كاشف).
    [3] متفق عليه: أخرجه البخاري (3893)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: وفود الأنصار إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة وبيعة العقبة، ومسلم (1709)، كتاب: الحدود، باب: الحدود كفَّارات لأهلها.
    [4] متفق عليه: أخرجه البخاري (3892)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: وفود الأنصار إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة وبيعة العقبة، ومسلم (1709)، كتاب: الحدود، باب: الحدود كفارة لأهلها.
    [5] "سيرة ابن هشام" 2/24 بتصرف.
    قال بعض أهل السير: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل مع مصعب ابن عمير: ابن أم مكتوم، وممن قال بذلك العلامة ابن سيد الناس - رحمه الله - حيث قال في "عيون الأثر" 1/265: فلما انصرفوا - أي: أصحابُ البيعة - بعَث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معهم ابن أم مكتوم ومصعب بن عمير يعلِّمان مَن أسلم منهم القرآن؛ اهـ.
    قلت: الصواب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرسل إلا مصعب بن عمير فقط؛ كما نص على ذلك أكثرُ أهل السير.
    وأظن أن الوهم دخَل على من قال بذلك مما رواه البخاري في "صحيحه" (3924، 3925) عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: أول من قدم علينا مصعبُ بن عمير وابن أم مكتوم، وكانوا يُقرئون الناس... الحديث.
    قلت: الصحيح أن هذا الحديثَ إنما يتحدث فيه البراءُ - رضي الله عنه - عن الهجرة لا عن البيعة، ولا عن من أرسله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أصحاب البيعة.
    ومما يدل على ذلك:
    1- أنه لم يرد في الحديث قط ذكر البيعة، إنما ورد ذكر الهجرة صريحًا في إحدى روايات الحديث؛ كما ذكَر ذلك ابن حجر في "فتح الباري" 7/306؛ حيث قال: في رواية عن شعبة عند الحاكم في "الإكليل" عن عبدالله بن رجاء في روايته: (من المهاجرين)؛ اهـ.
    2- ما ذُكِر في الرواية نفسها؛ حيث قال البراء - رضي الله عنه -: ثم قدِم علينا عمار بن ياسر وبلال وسعد، ثم قدم عمرُ بن الخطاب في عشرين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قدم النبي - صلى الله عليه وسلم -... الحديث؛ فهذا يوضح أنه يتكلم في شأن الهجرة.
    وقد فهِم ذلك الإمام البخاري - رحمه الله - فبوَّب على الحديث: باب: مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه المدينة.
    فيُعلَم مما سبق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل مصعبًا وحده، ثم إن مصعبًا رجَع إلى مكة قبل البيعة الثانية - كما ذكر ذلك أهل السير - ثم هاجَر إلى المدينة مرة أخرى، لما أذِن لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالهجرة، وكان أول المهاجرين إلى المدينة - كما دل عليه حديث البراء - رضي الله عنه - السابق، ثم استأنف مصعب نشاطه السابق في إقراء الناس وتعليمهم، وتبعه ابن أم مكتوم، وكان يساعده في مهمته، والله أعلم.
    [6] روي أن الذي أمَّ المسلمين في هذه الجمعة مصعب بن عمير، وهو ضعيف.
    قال ابن كثير - رحمه الله -: وقد روى الدارقطنيُّ عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى مصعب بن عمير يأمره بإقامة الجمعة، وفي إسناده غرابة، والله أعلم؛ "البداية والنهاية" 3/163.
    [7] الهزم: المنخفض من الأرض، والنبيت: موضع.
    [8] حَرَّة: بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء: هي الأرض ذات الحجارة السُّود.
    [9] هو المنخفض من الأرض يستنقع فيه الماء.
    [10] نقيع الخضمات: موضع بنواحي المدينة.
    [11] حسن: أخرجه أبو داود (1069)، كتاب: الصلاة، باب: الجمعة في القرى، وابن ماجه (1082)، كتاب: الصلاة، باب: فرض الجمعة.
    والمعنى أنه جمَّع في قرية يقال لها: هزم النبيت، هي كانت في حرة بني بياضة في المكان الذي يجتمع فيه الماء، واسم ذلك المكان: نقيع الخضمات، وتلك القرية هي على ميل من المدينة؛ "عون المعبود" 2/425.
    [12] صحيح: أخرجه أحمد 3/32، 339- 340، الحاكم 2/624، 625، وصحَّحه وأقرَّه الذهبي.
    [13] الجباجب: جمع جبجب - بالضم - وهو المستوي من الأرض، وهي ها هنا أسماء منازل بمنًى؛ (نهاية).
    [14] صحيح: أخرجه ابن هشام في "السيرة" 2/27، 33، أحمد 3/46، 462، ابن جرير الطبري في "تاريخه" 2/90، 93، وقال الألباني في تحقيق "فقه السيرة" (177): هذا سند صحيح.
    [15] صحيح: أخرجه البخاري (3905)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، وأحمد 6/198.
    [16] صحيح: أخرجه مسلم (2272)، كتاب: الرؤيا، باب: رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم.
    [17] ولذلك تقول السيدة عائشة - رضي الله عنها - في الحديث لما قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أريت دار هجرتكم...))، تقول: فهاجَر من هاجر قِبَل المدينة.
    [18] صحيح: أخرجه البخاري (3924، 3925)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: مقدَم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة.
    [19]أخرجه ابن هشام في السيرة (1/ 469، 470)، بسند متصل من طريق ابن إسحاق، عن أم سلمة رضي الله عنها، وهو إسناد حسن.
    [20] السابق.
    [21] تطلق على الشاة، أو الناقة، وأصلها: الهبة.
    [22] رضيف: على وزن: رغيف؛ أي: اللَّبَن المرضوف، وهو الذي وُضِعت فيه الحجارة المحمَّاة بالشمس أو النار؛ لينعقدَ وتزول رخاوته.
    [23] ينعِق: أي: يصيح بغنمه كي تنزجِرَ وتسير.
    [24] صحيح: أخرجه البخاري (3905)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، وأحمد 6/198.
    لقنٌ ثقف: أي حسن الاستماع لِما يقال، سريع الفهم، الدُّلجة: السير أول الليل، المنيحة: الناقة، رسل: اللَّبَن الطري.
    [25] متفق عليه: أخرجه البخاري (3922)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، مسلم (2381)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر.
    [26] هو عبدالله بن أريقط.
    [27] صحيح: أخرجه البخاري (3905)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، أحمد 6/198.
    [28] متفق عليه: أخرجه البخاري (3917)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، مسلم (2009)، كتاب: الزهد، باب: في حديث الهجرة، ويقال له: حديث الرحل.
    [29] صحيح: أخرجه البخاري (3905)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، أحمد 6/198.
    [30] أرض جلدة: أي أرض صُلبة؛ (النهاية).
    [31] متفق عليه: أخرجه البخاري (3917)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، مسلم (2009)، كتاب: الزهد والرقائق، باب: في حديث الهجرة، ويقال له: حديث الرحل.
    [32] صحيح: أخرجه البخاري (3906)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة.
    [33] متفق عليه؛ انظر: التخريج قبل السابق.
    [34] الزج: الحديدة التي في أسفل الرمح.
    [35] أي: خفَض أعلى الرمح، وإنما فعل ذلك؛ لئلا يظهَرَ بريقُ الرمح، فيتبعه أحد فيشاركه في الجعالة؛ وقد صرح بذلك كما في رواية الحسن عند ابن أبي شيبة: وجعلت أجرُّ الرمح مخافة أن يشرَكَني أهل الماء فيه.
    [36] دخان.
    [37] صحيح: أخرجه البخاري (3906)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة.
    [38] يقال: امرأةٌ برزة: إذا كانت كهلة لا تحتجب احتجاب الشواب، وهي مع ذلك عفيفةٌ عاقلةٌ تجلس للناس وتحدثهم؛ من البروز، وهو الظهور والخروج؛ النهاية (1/ 117).
    [39] الجَلد: القوة والصبر؛ النهاية (1/ 284)، والجيم واللام والدال أصلٌ واحدٌ، وهو يدل على قوةٍ وصلابةٍ؛ فالجلد معروفٌ، وهو أقوى وأصلب مما تحته من اللحم؛ معجم مقاييس اللغة (1/ 471).
    [40] تحتبي: من الاحتباء، والاحتباء: هو أن يضمَّ الإنسانُ رجليه إلى بطنه بثوب يجمعهما به مع ظهره، ويشُده عليها، وقد يكون الاحتباء باليدين عوض الثوب..؛ النهاية في غريب الحديث (1/ 336)، ولسان العرب (14/ 161).
    [41] قال أبو عبيدٍ: المرمل الذي نفِد زاده، ومنه حديث أبي هريرة: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزاة فأرملنا وأنفضنا، قال: وأصلُه من الرَّمْل، كأنهم لصقوا بالرمل؛ كما قيل للفقير: الترب، ورجلٌ أرمل، وامرأةٌ أرملة: محتاجةٌ؛ لسان العرب (11/ 296).
    [42] مسنتين: أي: مجدبين، أصابتهم السَّنة، وهي: القَحْط والجدب، وأَسْنَت، فهو مسنتٌ إذا أجدب؛ النهاية في غريب الحديث (2/ 407)، ولسان العرب (2/ 47).
    [43] في كسر الخيمة: أي: جانبها؛ ولكل بيتٍ كسران: عن يمينٍ وشمالٍ، وتُفتح الكاف وتُكسَر، ومنه قيل: فلانٌ مكاسري؛ أي: جاري؛ النهاية في غريب الحديث (4/ 172)، ولسان العرب (5/ 141).
    [44] الجهد: بالضم: الوسع والطاقة، وبالفتح: المشقة، وقيل: المبالغة والغاية، وقيل: هما لغتان في الوسع والطاقة، فأما في المشقة والغاية فالفتح لا غير، ويريد به في حديث أم معبد: الهُزال؛ النهاية (1/ 320).
    [45] التفاج: المبالغة في تفريج ما بين الرجلين، وهو من الفج: الطريق؛ النهاية في غريب الحديث (3/ 412)، ولسان العرب (2/ 339).
    [46] الجرة: ما يُخرجه البعير من بطنه ليمضغه ثم يبلعه، يقال: اجتر البعير يجترُّ؛ النهاية في غريب الحديث (1/ 259)، ولسان العرب (4/ 130).
    [47] فدعا بإناءٍ يربض الرهط: أي: يرويهم ويثقلهم حتى يناموا ويمتدوا على الأرض، من ربض في المكان يربض؛ إذا لصق به وأقام ملازمًا له، يقال: أربضت الشمس: إذا اشتد حرُّها حتى تربض الوحش في كناسها؛ أي: تجعلها تربض فيه؛ النهاية (2/ 184).
    [48] ثجًّا: أي لبنًا سائلاً كثيرًا، والثج: السيلان، ومطرٌ مثج وثجاجٌ وثجيجٌ، وماءٌ ثجوجٌ وثجاجٌ: مصبوبٌ، وفي التنزيل: ﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا ﴾ [النبأ: 14]؛ لسان العرب (2/ 221).
    [49] البهاء: المنظر الحسن الرائع المالئ للعين، والبهي: الشيء ذو البهاء، مما يملأ العينَ روعُه وحسنه، والمراد: بهاء اللبن، وهو وبيص رغوته؛ النهاية في غريب الحديث (1/ 169)، ولسان العرب (14/ 99).
    [50] راضوا: أي: شربوا حتى رووا، من أراض الوادي إذا استنقع فيه الماء؛ النهاية في غريب الحديث (1/ 39)، ولسان العرب (7/ 114).
    [51] الهدة: صوتٌ شديد تسمَعُه من سقوط حائط أو ناحية جبل؛ المخصص لابن سِيده (2/ 9).
    وقال ابن الأعرابي: الهد: الرجل الكريم الجوَاد القوي؛ تاج العروس (9/ 336)، فعلى المعنى الأول: يكون شدة الصوت، كناية عن كثرة اللبن وغزارته؛ حتى إنه ليُحدِثُ صوتًا شديدًا أثناء حلبه.
    والمعنى الثاني ظاهر.
    [52] عجافًا: جمع عجفاء، وهي المهزولة من الغنم وغيرها؛ النهاية في غريب الحديث (3/ 186).
    [53] يتساوكن هزالاً: مادة: (سوك): السين والواو والكاف أصلٌ واحدٌ يدل على حركةٍ واضطراب، ويقال: تساوكت الإبل: إذا اضطربت أعناقُها من الهزال، أراد أنها تتمايلُ من ضعفها؛ معجم مقاييس اللغة (3/ 117، 118)، والنهاية في غريب الحديث (2/ 425)، وقال النووي: السِّواك: بكسر السين، وهو استعمال عُودٍ أو نحوه في الأسنان لإزالة الوسخ، وهو من: ساك إذا دلَك، وقيل: من التساوك، وهو التمايل؛ تحرير ألفاظ التنبيه (33).
    [54] مخهن قليلٌ: الميم والخاء كلمةٌ تدل على خالص كل شيءٍ، منه مخ العظم، معروفٌ، وأمخت الشاة: كثر مخها. معجم مقاسسي اللغة (5/ 269). والمقصود: قلة مخهن لضعفهن، وعدم الطعام.
    [55] عازبٌ: أي: بعيدة المرعى، لا تأوي إلى المنزل في الليل، وحائلٌ: هي التي لم تحمل، والجمع: حيال وحولٌ وحولٌ وحوللٌ؛ النهاية (3/ 227)، ولسان العرب (11/ 189).
    [56] الوضاءة: الحسن، والنظافة، والبهجة؛ تاج العروس (1/ 489).
    [57] أبلج الوجه: أي: مشرق الوجه مسفره، ومنه: تبلج الصبح وانبلج، فأما الأبلج فهو الذي قد وضح ما بين حاجبيه فلم يقترنا، والاسم: البَلَج، بالتحريك، لم ترده أم معبدٍ؛ لأنها قد وصفته في حديثها بالقرن، ومنه الحديث: ((ليلة القدر بلجة))؛ أي: مشرقة، والبلجة - بالضم والفتح -: ضوء الصبح؛ النهاية في غريب الحديث (1/ 151)، وقال البغوي: أبلج الوجه، تريد مُشرِقَ الوجه مضيئه، يقال: تبلج الصبح، وانبلج: إذا أسفر، ولم تُرِدْ بلج الحاجب، ألا ترى أنها تصفه بالقرن؛ شرح السنة (13/ 266).
    [58] الثجلة: عِظَم البطن، وانتفاخها، وضخامتها، وسعتها، ويروى: نحلةٌ بالنون والحاء؛ أي: نحول ودقة؛ انظر: تهذيب اللغة (6/ 106و 11/ 16)، والنهاية في غريب الحديث (1/ 208)، ولسان العرب (11/ 82).
    [59] ولم تزريه: يقال: زريت عليه وزرى عليه، بالفتح، زريًا، وزرايةً ومزريةً، ومزراةً، وزريانًا: عابه وعاتبه؛ لسان العرب (14/ 356).
    [60] الصعلة: هي صِغر الرأس، وهي أيضًا: الدقة، والنحول، والخفَّة في البدن، وقيل: الصعل: الدِّقة في العنق والبدن كله؛ النهاية في غريب الحديث (3/ 32)، ولسان العرب (11/ 379).
    [61] الوسيم: الوضيء الثابت الحسن؛ كأنه قد وسم، وفلانٌ وسيمٌ؛ أي: حَسَن الوجه والسيما؛ النهاية في غريب الحديث (5/ 185)، ولسان العرب (12/ 637).
    [62] قسيمٌ: القسامة: الحسن، ورجلٌ مقسم الوجه؛ أي: جميلٌ كله، كأن كل موضعٍ منه أخَذ قسمًا من الجمال؛ النهاية في غريب الحديث (4/ 36)، ولسان العرب (12/ 482).
    [63] الدَّعَج: شدة سواد العين، وشدة بياضه، رجلٌ أدعج، وامرأةٌ دعجاء، وعينٌ دعجاء، ويقال: الدعج: شدة سواد سواد العين، وشدة بياض بياضها؛ معجم العين (1/ 220)، والنهاية في غريب الحديث (2/ 119)، ولسان العرب (2/ 271).
    [64] الأشفار: منبَت شعر الأجفان؛ لسان العرب (1/ 781).
    [65] الوطف: الواو والطاء والفاء: أصلٌ صحيحٌ يدل على طول شيءٍ ورخاوته؛ أى: فى شعر أجفانه طولٌ، ويروى: "وفي أشفاره غطفٌ"، وهو أن يطول شعر الأجفان ثم ينعطف، ويروى: "وفي أشفاره عطفٌ": بالعين المهملة؛ أي: طولٌ، كأنه طال وانعطف، فالمعنى واحد في الروايات الثلاث؛ انظر: معجم مقاييس اللغة (6/ 120)، والنهاية في غريب الحديث (5/ 240، و3/ 257و 3/373).
    [66] في صوته صهلٌ: أي: قوة وصلابة، من صهيل الخيل، وهو صوتها، ويروى صحلٌ: بالحاء والتحريك: كالبُحة، وألا يكون حاد الصوت؛ النهاية في غريب الحديث (3/ 13و 3/ 63).
    [67] السطع: كل شيءٍ انتشر أو ارتفع من برقٍ، أو غبارٍ، أو نور، أو ريحٍ، سطع يسطع سطعًا وسطوعًا، ويقال للصبح إذا طلع ضوؤه في السماء: قد سطع يسطع سطوعًا، أول ما ينشق مستطيلاً، فقولها: في عنقه سطعٌ: أي: ارتفاعٌ وطولٌ؛ النهاية في غريب الحديث (2/ 365)، ولسان العرب (8/ 154).
    [68] كثاثةٌ: الكاف والثاء أصلٌ صحيحٌ يدل على تجمعٍ، والكثاثة في اللحية: أن تكون غير رقيقة ولا طويلةٍ، ولكن فيها كثافة، أرادت كثرة أصولها وشعرها، وأنها ليست بدقيقةٍ، ولا طويلةٍ، وفيها كثافة؛ معجم مقاييس اللغة (/ 125)، والنهاية في غريب الحديث (4/ 152)، ولسان العرب (2/ 179).
    [69] أزج: الزجج: تقوُّس في الحاجب مع طول في طرفه وامتداد؛ النهاية في غريب الحديث (2/ 296)،
    [70] أقرن: أي: مقرون الحاجبين؛ القَرَن - بالتحريك - التقاء الحاجبين؛ النهاية في غريب الحديث (4/ 54).
    وعند الطبراني في الكبير (414)، والآجري في الشريعة (1022)، والبيهقي في الشُّعب (1362)، عن هند بن أبي هالة التميمي - في وصف النبي صلى الله عليه وسلم -: أزج الحواجب، سوابغ في غير قَرَنٍ.
    قال ابن قتيبة في غريب الحديث (1/ 491): سوابغ في غير قرنٍ، والقرن: أن يطول الحاجبانِ حتى يلتقيَ طرَفاهما، وهذا خلافُ ما وصفته به أم معبدٍ؛ لأنها قالت في وصفه: أزجُّ أقرَنُ، ولا أراه إلا كما ذكَر ابن أبي هالة.
    وقال الأصمعي: كانت العرب تكرَه القَرَن، وتستحب البَلَج، والبلج: أن ينقطعَ الحاجبان، فيكون ما بينهما نقيًّا؛ اهـ.
    وقال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث (4/ 54): وفي صفته - عليه الصلاة والسلام - "سوابغ في غير قَرَن": القَرَن - بالتحريك - التقاء الحاجبين، وهذا خلاف ما روَتْ أمُّ معبد، فإنها قالت في صفته: "أزَجُّ أقرن": أي: مقرون الحاجبين، والأول الصحيح في صفته؛ اهـ.
    [71] الوقار: الحِلْم والرزانة؛ النهاية في غريب الحديث (5/ 213)، وتاج العروس (14/ 376).
    [72] المنطق: من النطق، وهو الكلام.
    [73] فصلٌ لا نزرٌ ولا هذرٌ: فصلٌ: أي: يفصِلُ بَيْنَ كلامِه، وكلامه بَيِّنٌ ظاهرٌ.
    والنزر: القليل.
    والهذر: الكلام الذي لا يعبأ به، هذر كلامه هذرًا: كثر في الخطأ والباطل، والهذر: الكثير الرديء، وقيل: هو سَقَط الكلام، هذر الرجل في منطقِه يهذر ويهذر هَذْرًا، بالسكون، وتهذارًا؛ وهو بناءٌ يدل على التكثير، والاسم: الهذَر، بالتحريك، وهو الهذيان، وأهذر الرجل في كلامه: أكثر، ورجلٌ هذريانٌ: إذا كان غثَّ الكلام كثيرَه.
    وهي تعني: أن كلامه ليس بقليلٍ فيدل على عي، وعدم إفصاحٍ، ولا كثيرٍ فاسدٍ؛ النهاية في غريب الحديث (3/ 451، و5/ 40، 5/ 256)، ولسان العرب (5/ 259، و5/ 203).
    [74] ربعةٌ: ومربوع الخلق؛ أي: ليس بطويل ولا قصير. معجم العين (2/ 133).
    [75] لا تشنؤه من طولٍ: أي: لا تبغضه؛ الشناءة: البغض؛ يقال: شنئت الرجل؛ أي: أبغضته؛ ومنه قوله تعالى: ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا ﴾ [المائدة: 8]؛ أي: بغض قوم، وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾ [الكوثر: 3]؛ أي: إن مبغضك. انظر: النهاية في غريب الحديث (2/ 503)، وتاج العروس (1/ 288)، ولسان العرب (1/ 101).
    [76] ولا تقتحمه عينٌ من قصرٍ: أي: لا تحتقره، ولا تزدريه؛ يقال: اقتحمت فلانًا عيني؛ إذا احتقرته واستصغرته. غريب الحديث لابن قتيبة (1/ 474).
    [77]غصنٌ بين غصنين: تشبه النبي - صلى الله عليه وسلم - في جماله بغصن الشجرة الجميل بين غصنين؛ وهما: أبو بكر، وعامر بن فهيرة.
    [78]النضرة: الحسن، والرونق، والبريق. لسان العرب (5/ 212).
    [79]يحفون به: حف القوم بسيدهم، يحفون حفا: إذا أطافوا به وعكفوا؛ ومنه قول الله عز وجل: ﴿ وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الزمر: 75] تهذيب اللغة (4/ 5).
    [80] تبادروا: بدر إلى الشيء: عجل إليه واستبق. لسان العرب (4/ 48).
    [81] محفودٌ: المحفود: الذي يخدمه أصحابه ويعظمونه ويسرعون في طاعته؛ يقال حفدت وأحفدت، فأنا حافد ومحفودٌ؛ ومنه دعاء القنوت: "وإليك نسعى ونحفد" أي: نسرع في العمل والخدمة. النهاية في غريب الحديث (1/ 406).
    [82] محشودٌ: الحشد: الجماعة؛ واحتشد القوم لفلانٍ: تجمعوا له وتأهبوا. النهاية في غريب الحديث (1/ 388).
    [83] لا عابسٌ: من عبس يعبس عبسًا وعبس: قطب ما بين عينيه؛ والعابس: الكريه الملقى. النهاية في غريب الحديث (3/ 171)، ولسان العرب (6/ 128).
    [84] ولا مفندٌ: الفند: الخرف، وإنكار العقل من الهرم أو المرض؛ ويقال: أفند الرجل فهو مفندٌ إذا ضعف عقله؛ ومنه قوله تعالى: ﴿ وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ ﴾ [يوسف: 94]؛ أي: لولا أن تتهموني بالخرف. شرح السنة للبغوي (13/ 268)، ولسان العرب (3/ 338).
    [85] أخرجه الطبراني في الكبير (3605)، والآجري في الشريعة (1020)، والبغوي في شرح السنة (3704)، والحاكم في المستدرك (4274)، وغيرهم، وقال الحاكم: هذا حديثٌ صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، وصحَّحه الذهبي، وحسَّنه الألباني في تخريج فقه السيرة (179).
    [86] الحُمَحمة: صوت الفرس دون الصهيل؛ (نهاية).
    [87] صحيح: أخرجه البخاري (3911)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، وقيل: هذا الفارس هو سراقة بن مالك، فالقصة واحدة، والله أعلم.
    [88] أي من حيث الشيب؛ فالشيبُ كان قد دخل على أبي بكر - رضي الله عنه - دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم، وهو الأكبر سنًّا - يظهَرُ كأنه شابٌّ.
    [89] الحديث السابق.
    [90] الأطم: الحصن.
    [91] أي عليهم الثيابُ البيض.
    [92] قيل: معناه ظهرت حركتُهم للعين؛ "فتح الباري".
    [93] جَدُّكم: بفتح الجيم؛ أي حظُّكم، وصاحبُ دولتكم الذي تتوقَّعونه؛ (فتح).
    [94] صحيح: أخرجه البخاري (3906)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة.
    [95] متفق عليه: أخرجه البخاري (350)، ومسلم (685).
    [96] تاريخ الطبري (2/ 400).
    [97] سيرة ابن هشام (1/ 494).

    رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/67095/#ixzz2B6CQNh1k
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي

    قوله:
    ثمَّ بنى المسجِدَ في قُبَاءِ ♦♦♦ ومسجِدَ المدينةِ الغرَّاءِ

    تقدَّم أن المسلمين لقُوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بظهرِ الحرَّة.


    قال ابن شهابٍ: فأخبرني عروةُ بن الزبير:
    فتلقَّوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بظهر الحرَّةِ، فعدَل بهم ذاتَ اليمين، حتى نزَل بهم في بني عمرو بن عوفٍ، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيعٍ الأول، فقام أبو بكرٍ للناس، وجلَس رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - صامتًا، فطفِق مَن جاء مِن الأنصار - ممن لم يرَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يُحيِّي أبا بكرٍ، حتى أصابت الشمسُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فأقبَل أبو بكرٍ حتى ظلَّل عليه بردائه، فعرَف الناسُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك، فلبِث رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في بني عمرِو بن عوفٍ بضع عشرة ليلةً، وأسَّس المسجد الذي أُسِّس على التقوى، وصلى فيه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ركِب راحلته، فسار يمشي معه الناس حتى برَكت عند مسجد الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، وهو يصلي فيه يومئذٍ رجالٌ من المسلمين، وكان مربدًا للتمر، لسهيلٍ وسهلٍ، غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حين برَكت به راحلتُه: ((هذا إن شاء الله المنزل))، ثم دعا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الغلامينِ فساومهما بالمربد ليتخذَه مسجدًا، فقالا: لا، بل نهَبُه لك يا رسول الله، فأبى رسولُ الله أن يقبَله منهما هبةً حتى ابتاعه منهما، ثم بناه مسجدًا، وطفِق رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ينقُل معهم اللَّبِنَ في بنيانِه ويقول وهو ينقُل اللَّبِن:
    هذا الحِمالُ لا حِمالَ خيبَرْ
    هذا أبَرُّ ربَّنا وأطهَرْ

    ويقول:
    اللهم إن الأجرَ أجرُ الآخِرَهْ
    فارحِمِ الأنصارَ والمُهاجِرَهْ[1]

    وعن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - قال: قدِم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ فنزل أعلى المدينة، في حيٍّ يقال لهم: بنو عمرو بن عوفٍ، فأقام النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فيهم أربع عشرة ليلةً، ثم أرسل إلى بني النَّجَّار، فجاؤوا متقلِّدي السيوف، كأني أنظرُ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على راحلته، وأبو بكرٍ ردفه، وملأُ بني النَّجَّار حوله حتى ألقى بفِناء أبي أيُّوبَ، وكان يحب أن يصليَ حيث أدركته الصلاةُ، ويصلي في مرابض الغَنَم، وأنه أمَر ببناء المسجد، فأرسل إلى ملأٍ من بني النَّجار فقال: ((يا بني النَّجار، ثامِنوني بحائطكم هذا))، قالوا: لا والله لا نطلب ثمنَه إلا إلى الله، فقال أنسٌ: فكان فيه ما أقول لكم؛ قبورُ المشركين، وفيه خربٌ، وفيه نخلٌ، فأمَر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقبورِ المشركين فنُبِشَت، ثم بالخرب فسُوِّيت، وبالنخل فقُطِع، فصفُّوا النخل قِبلةَ المسجدِ، وجعلوا عِضَادتيه الحجارة، وجعلوا ينقُلون الصخر وهم يرتجزون، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - معهم، وهو يقول:
    اللهم لا خيرَ إلا خيرُ الآخِرَهْ
    فاغفِرْ للأنصارِ والمُهاجِرَهْ[2]

    قوله:
    ثم بنى مِن حولِه مساكِنَهْ
    . . . . . . . . . . . . . . . .
    أي: بنى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حول مسجدِه مساكنَ وحُجُراتِ أزواجه - رضي الله عنهن.


    قوله:
    . . . . . . . . . . . . . . .
    ثمَّ أتى مِن بعدُ في هذي السَّنَهْ
    أقلُّ مِن نصفِ الَّذينَ سافروا
    إلى بلادِ الحُبْشِ حينَ هاجَروا

    وفي السَّنةِ الأولى من الهجرة عاد جماعةٌ من مُهاجري الحبشة إلى المدينة.


    قال ابن سيد الناس - رحمه الله -:
    "فأقام المهاجرون بأرضِ الحبشة عند النَّجاشيِّ في أحسن جوارٍ، فلما سمِعوا بمُهاجَرِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة رجَع منهم ثلاثةٌ وثلاثون رجلاً، ومن النساء ثماني نسوةٍ، فمات منهم رجُلانِ بمكة، وحُبِس بمكةَ سبعةُ نفرٍ، وشهد بدرًا منهم أربعةٌ وعشرون رجلاً[3]"؛ اهـ.


    قوله:
    وفيه آخى أشرَفُ الأخيارِ
    بَيْنَ المُهاجِرينَ والأنصارِ

    وفي السَّنةِ الأولى - أيضًا - آخى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بين المُهاجرين والأنصار.


    قال ابنُ القيِّمِ - رحمه الله -:
    "ثم آخى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصارِ في دار أنس بن مالكٍ، وكانوا تسعينَ رجلاً، نِصفهم من المهاجرين، ونصفهم من الأنصار، آخى بينهم على المواساةِ، يتوارثون بعد الموتِ دون ذوي الأرحام إلى حين وقعةِ بدرٍ، فلمَّا أنزَل الله - عز وجل -: ﴿ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ﴾ [الأحزاب: 6]، ردَّ التوارثَ إلى الرَّحِمِ دون عقد الأخوة[4]"؛ اهـ.


    وعن أنسِ بن مالكٍ - رضي الله عنه - قال: حالَف النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بين الأنصارِ وقريشٍ في داري التي بالمدينة[5].


    وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قالت الأنصارُ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: اقسم بيننا وبين إخواننا النَّخيل، قال: ((لا))، فقالوا: تكفونا المؤونة ونشرككم في الثمرةِ، قالوا: سمعنا وأطعنا[6].


    وعن أنسِ بن مالكٍ - رضي الله عنه - أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - آخى بين أبي عبيدةَ بن الجراح، وبين أبي طلحة[7].


    وعن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - قال: آخى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بين الزبير بن العوام وعبدالله بن مسعودٍ[8].


    قال ابن إسحاق - رحمه الله -:
    وكان أبو بكرٍ الصِّديق وخارجةُ بن زيدٍ أخوين، وعمر بن الخطاب وعِتبان بن مالكٍ أخوين، وأبو عُبيدة بن الجرَّاح وسعد بن معاذٍ أخوين، وعبدالرحمن بن عوفٍ وسعد بن الربيع أخوين، وعثمان بن عفَّان وأوس بن ثابت بن المنذر أخوين، وطلحة بن عُبيدالله وكعب بن مالكٍ أخوين، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيلٍ وأُبَيُّ بن كعبٍ أخوين، ومُصعَب بن عميرٍ وأبو أيوب خالد بن زيدٍ أخوين، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وعبَّاد بن بِشرٍ أخوين، وعمارُ بن ياسرٍ وحذيفة بن اليمانِ أخوين، ويقال: ثابت بن قيس بن الشَّمَّاس، خطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعمار بن ياسرٍ أخوين، وأبو ذرٍّ جندُبُ بن جنادة والمنذر بن عمرٍو أخوين، وحاطبُ بن أبي بلتعةَ وعويم بن ساعدةَ أخوين، وسلمانُ الفارسي وأبو الدرداء عويمرُ بن ثعلبةَ أخوين، وبلالٌ مولى أبي بكرٍ - رضي الله عنهما - مؤذِّنُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو رويحة عبدالله بن عبدالرَّحمن الخثعميُّ أخوينِ.


    فهؤلاء من سُمِّي لنا، ممن كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - آخى بينهم من أصحابه[9]"؛ اهـ.


    عن إبراهيمَ بن عبدالرحمن بن عوفٍ، قال: لما قدِموا المدينة آخى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بين عبدالرحمن بن عوفٍ وسعدِ بن الربيع، قال لعبدالرحمن: إني أكثَرُ الأنصار مالاً، فأقسم مالي نصفينِ، ولي امرأتانِ، فانظُرْ أعجَبَهما إليك فسمِّها لي، أُطلِّقها، فإذا انقضت عدتُها فتزوجها، قال: بارَك اللهُ لك في أهلك ومالك، أين سوقُكم؟ فدلُّوه على سوق بني قينقاع، فما انقلب إلا ومعه فضلٌ من أقطٍ وسمنٍ، ثم تابع الغدو، ثم جاء يومًا وبه أثرُ صُفرةٍ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((مَهْيَم[10]))، قال: تزوجتُ، قال: ((كم سُقْتَ إليها؟)). قال: نواةً من ذهبٍ - أو وزن نواةٍ من ذهبٍ[11].


    فهذا موقفٌ عظيمٌ من الصحابيِّ الجليل سعدِ بن الربيع، يبيِّنُ حجم العلاقة التي كانت بين الأنصار وإخوانِهم الذين هاجروا إليهم، وإلى أيِّ مدًى بلغت درجةُ المحبَّة والتآخي بينهم.


    وقد وصَف اللهُ - سبحانه وتعالى - تلك المحبَّةَ وذلك الإيثار في كتابِه العزيز، فقال - تعالى -: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9].


    قوله:
    ثم بَنَى بابنةِ خَيْرِ صَحْبِهِ
    . . . . . . . . . . . . . . . . .

    قال ابنُ جريرٍ الطبريُّ - رحمه الله -:
    "وفيها - أي في السنةِ الأولى - بنى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بعائشةَ بعد مَقدَمِه المدينة بثمانية أشهرٍ[12]"؛ اهـ.


    عن عائشةَ - رضي الله عنها - قالت: تزوَّجني النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأنا بنتُ ستِّ سنين، فقدِمْنا المدينة فنزَلْنا في بني الحارثِ بن خزرجٍ، فوُعِكْتُ فتمرَّق شعري، فوفَى جُمَيمةً فأتتني أمي أمُّ رومان، وإني لفي أرجوحةٍ، ومعي صواحبُ لي، فصرخَتْ بي فأتيتُها، لا أدري ما تريدُ بي، فأخذَتْ بيدي حتى أوقفتني على باب الدارِ، وإني لأنهج حتى سكَن بعضُ نفَسي، ثم أخذَتْ شيئًا من ماءٍ فمسَحَت به وجهي ورأسي، ثم أدخلتني الدار، فإذا نسوةٌ من الأنصارِ في البيت، فقُلْنَ: على الخيرِ والبركة، وعلى خير طائرٍ، فأسلمَتْني إليهن، فأصلَحْنَ من شأني، فلم يرَعُني إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحًى، فأسلمَتْني إليه، وأنا يومَئذٍ بنتُ تِسع سنين[13].


    قوله:
    . . . . . . . . . . . . . . . .
    وشرَع الأذانَ، فاقتدِي بِهِ

    وفي السَّنةِ الأولى من الهجرة شرع الأذان[14].


    عن عبدالله بن زيدٍ - رضي الله عنه - قال: لما أمَر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناقوس يعمل؛ ليضرب به للناس لجمعِ الصلاة، طاف بي وأنا نائمٌ رجلٌ يحمل ناقوسًا في يده، فقلت: يا عبد الله، أتبيع الناقوسَ؟ قال: وما تصنع به؟ فقلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلُّك على ما هو خيرٌ من ذلك؟ فقلت له: بلى، قال: فقال: تقول: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حيَّ على الصلاة، حي على الصلاة، حيَّ على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، قال: ثم استأخر عني غيرَ بعيدٍ، ثم قال: وتقول إذا أقمتَ الصلاة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حيَّ على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، فلما أصبحتُ، أتيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرتُه، بما رأيتُ فقال: ((إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقُمْ مع بلالٍ فألقِ عليه ما رأيت، فليؤذن به، فإنه أندى صوتًا منك))، فقمتُ مع بلالٍ، فجعلت ألقيه عليه، ويؤذِّن به، قال: فسمع ذلك عمرُ بن الخطاب، وهو في بيته فخرج يجرُّ رداءه، ويقول: والذي بعثك بالحق يا رسول الله، لقد رأيتُ مثل ما رأى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فلله الحمد))[15].


    قوله:
    وغزوةُ الأبواءِ بعدُ في صَفَرْ
    . . . . . . . . . . . . . ..

    وفي شهر صفر من العام الثاني من هجرةِ الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - غزا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - غزوةَ الأبواء، وهي أول غزوةٍ يغزوها بنفسِه الشريفةِ - صلى الله عليه وسلم.


    قال ابن إسحاق - رحمه الله -:
    ثم خرج غازيًا في صفرٍ على رأس اثني عشر شهرًا من مقدَمِه المدينة.


    قال ابن هشامٍ:
    واستعمَل على المدينة سعدَ بن عُبادة.


    قال ابن إسحاق:
    حتى بلغ وَدَّان[16]، وهي غزوة الأبواء[17]، يريد قريشًا، وبني ضمرة بن بكر بن عبدمناة بن كنانة، فوادعته فيها بنو ضمرة، وكان الذي وادعه منهم عليهم مخشي بن عمرٍو الضمري، وكان سيدَهم في زمانه ذلك.


    ثم رجَع رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينةِ، ولم يَلْقَ كيدًا، فأقام بها بقيةَ صفرٍ، وصدرًا من شهر ربيعٍ الأول[18].


    قوله:
    . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
    هذا، وفي الثَّانيةِ الغَزْوُ اشتَهَرْ

    أي: في السنةِ الثانية من الهجرة كثُرت غزواتُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بعدما وادَع اليهودَ في المدينة، واستقرَّت له الأمور.


    قوله:
    إلى بُواطَ ثُمَّ بَدْرٍ . . . . .
    . . . . . . . . . . . . . .

    وفي ربيع الأول من السنةِ الثانية كانت غزوة بُواط[19].


    قال ابن إسحاق:
    ثم غزا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في شهر ربيعٍ الأول يريد قريشًا.


    قال ابن هشامٍ:
    واستعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعونٍ.


    قال ابن إسحاق:
    حتى بلغ بواط، من ناحية رضوى[20]، ثم رجَع إلى المدينة ولم يَلْقَ كيدًا[21].


    وفي ربيع الأول - أيضًا - من هذه السنة غزا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - غزوةَ بدر الأولى.


    قال ابن سعدٍ:
    "ثم غزوة رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لطلب كرز بن جابرٍ الفِهري في شهر ربيع الأول، على رأس ثلاثةَ عشَرَ شهرًا من مُهاجَرِه، وحمل لواءَه عليُّ بن أبي طالب, وكان لواءً أبيض, واستخلف على المدينةِ زيدَ بن حارثة, وكان كرز بن جابر قد أغار على سرحِ المدينة فاستاقه, وكان يرعى بالجماء - والسرح: ما رعوا من نَعَمِهم, والجماء: جبلٌ ناحية العقيق إلى الجرف, بينه وبين المدينة ثلاثةُ أميال, فطلبه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بلغ واديًا يقال له: سَفوان[22] من ناحية بدر, وفاته كرز بن جابر, فلم يلحقه, فرجَع رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة"[23]؛ اهـ.


    قوله:
    . . . . . . . . . ووجَبْ
    تحوُّلُ القِبْلةِ في نِصفِ رَجَبْ

    وفي شهر رجب من العام الثاني - أيضًا - جاء الأمرُ الإلهي بتحويل القِبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام.


    عن البراء بن عازبٍ - رضي الله عنه - أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - صلَّى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا، أو سبعة عشر شهرًا، وكان يُعجِبُه أن تكون قِبلته قِبَل البيت، وأنه صلى - أو صلاها - صلاة العصر وصلى معه قومٌ, فخرج رجلٌ ممن كان صلَّى معه، فمَرَّ على أهل المسجد وهم راكعون، قال: أشهد باللهِ لقد صليتُ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قِبَل مكَّةَ، فداروا كما هم قِبَل البيت، وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحوَّلَ قِبَل البيت رجالٌ قُتِلوا، لم نَدْرِ ما نقول فيهم، فأنزَل الله: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 143][24].


    عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: بَيْنا الناس يصلُّون الصبح في مسجد قباءٍ، إذ جاء جاءٍ فقال: أنزَل اللهُ على النبي - صلى الله عليه وسلم - قرآنًا أن يستقبِلَ الكعبة, فاستقبلوها، فتوجَّهوا إلى الكعبة[25].


    قوله:
    مِن بعدِ ذا العُشَيْرُ يا إخواني
    . . . . . . . . . . . . . . . .

    أي: كانت غزوةُ بدرٍ الأولى بعد غزوة ذي العشيرة؛ حيث كانت غزوة العشيرة قبل بدرٍ الأولى بأيام قلائل لا تبلُغ العَشر[26].


    قال ابن هشامٍ:
    ثم غزا قريشًا، فاستعمل على المدينة أبا سلمةَ بن عبدالأسد.


    قال ابن إسحاق:
    فسار حتى نزل العشيرة[27] من بطن ينبع[28], فأقام بها جمادى الأولى ولياليَ من جمادى الآخرة، وادَع فيها بني مدلجٍ وحلفاءَهم من بني ضمرة، ثم رجَع إلى المدينة، ولم يَلْقَ كيدًا[29].


    قوله:
    . . . . . . . . . . . . . . . .
    وفَرْضُ شهرِ الصَّومِ في شَعبانِ

    قال ابنُ جريرٍ الطبريُّ - رحمه الله -:
    وفي هذه السنةِ - الثانية - فُرِض صيام شهر رمضان, وقد قيل: إنه فُرِض في شعبان منها[30].


    [1] صحيح البخاري (5/ 60)، عن عروة بن الزبير مرسَلاً.
    [2] متفق عليه: أخرجه البخاري (428)، ومسلم (524).
    [3] عيون الأثر (1/ 139).
    [4] زاد المعاد (3/ 56، 57).
    [5] صحيح: أخرجه البخاري (7340).
    [6] صحيح: أخرجه البخاري (2325).
    [7] صحيح: أخرجه مسلم (2528).
    [8] صحيح: أخرجه الحاكم (5372)، وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، والطبراني في الكبير (12816)، والأوسط (5223).
    [9] سيرة ابن هشام (1/ 505 - 507)، مختصرًا.
    [10] أي: ما حالُكَ وشأنُك؟
    [11] صحيح: أخرجه البخاري (3780).
    [12] تاريخ الطبري (2/ 398).
    [13] متفق عليه: أخرجه البخاري (3894)، ومسلم (1422).
    وقولها: (فوُعِكْتُ)؛ أي: أصابني الوعك وهو الحمى، (فتمرَّق) تقطَّع، وفي رواية: فتمزَّق: أي انتتف، (فوفَى) كثُر، (جُمَيمة)؛ مصغَّر الجُمَّة، وهي: ما سقَط على المنكبين من شَعر الرَّأس.
    [14] السيرة النبوية لابن كثير (2/ 334).
    [15] أخرجه أبو داود (499)، والترمذي (189)، وقال: حسنٌ صحيحٌ، وابن ماجه (706)، وأحمد (16477، 16478)، وقال الألباني في صحيح أبي داود) (2/ 407): قلت: إسنادُه حسَن صحيح، وقال النوويُّ: إسناده صحيح، وقال البخاريُّ وابن خزيمة: حديثٌ صحيح، وقال الترمذيُّ: حسَن صحيح، وقال محمد بن يحيى الذُّهْلي: ليس في أخبار عبدالله بن زيد في قصَّةِ الأذان أصحُّ من هذا؛ اهـ.
    [16] وَدَّان: بالفتح؛ كأنه فعلان من الود، وهو المحبة؛ ثلاثة مواضع: أحدها بين مكة والمدينة، قرية جامعة من نواحي الفرع، بينها وبين الأبواء نحوٌ من ثمانيةِ أميال قريبة من الجحفة، وهي لضمرة وغِفار وكنانة؛ معجم البلدان لياقوت (5/ 365).
    وقال في معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية (333):
    وَدَّان: كأنه مثنى ود، قلت: اندثرت ودان من زمنٍ بعيدٍ، وتوهم بعض الباحثين أنها (مستورة) اليوم، وليس كذلك، وموضع ودان شرق مستورة إلى الجنوب، في نعف حرة الأبواء إذا أكنعت في مكانٍ يلتقي فيه سيل تلعة حَمَامَة بوادي الأبواء، وذلك النعف يسمى (العُصْعُص)، والمسافة بينها وبين مستورة قريبًا من اثني عشر كيلاً، وأهلها - اليوم - بنو محمدٍ من بني عمرٍو من حربٍ.
    [17] الأبواء: بالفتح ثم السكون، وواو وألف ممدودة، والأبواء: قرية من أعمال الفرع من المدينة، بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثةٌ وعشرون ميلاً، وقيل: الأبواء: جبلٌ على يمين آرة، ويمين الطريق للمصعد إلى مكة من المدينة؛ معجم البلدان (1/ 79).
    [18] سيرة ابن هشام (1/ 590، 591).
    [19] بواط: بضم أوله، وقيل: بفتحه، والأول أشهر، وهي من الجُحفة قريبٌ؛ انظر: معجم البلدان (1/ 503)، ومغازي الواقدي (1/ 2).
    [20] رَضْوى: بفتح الراء وسكون المعجمة مقصورٌ: جبلٌ مشهورٌ عظيم بينبع؛ فتح الباري (7/ 280).
    [21] سيرة ابن هشام (1/ 598).
    [22] سَفوان: وادٍ بناحية بدر، وجاء في معجم البلدان (3/ 225): سَفَوان: بفتح أوله وثانيه، وآخره نون، كأنه فعلان من سفت الريح التراب, وأصله الياء، إلا أنهم هكذا تكلموا به، وجاء في معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية (158): سَفْوان بفتح السين المهملة وسكون الفاء، على صيغة التثنية.
    [23] الطبقات الكبرى (2/ 6).
    [24] متفق عليه: أخرجه البخاري (4486)، ومسلم (525).
    [25] متفق عليه: أخرجه البخاري (4488)، ومسلم (526).
    [26] سيرة ابن هشام (1/ 601).
    [27] العُشيرة: بلفظ تصغير عشرة، يضاف إليه "ذو" ، فيقال: "ذو العشيرة"، وذو العشيرة: كانت قريةً عامرة بأسفل ينبع النخل، ثم صارت محطةً للحاج المصري هناك، وهي أول قرى ينبع النخل مما يلي الساحل، وبها مسجد يقولون: إنه مسجدُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
    وقد اندرس هذا الموضعُ، ويقع بقرب "عين البركة" التي لا تزال معروفة، وكانت إحدى عيونِ هذا الموضع؛ المعالم الأثيرة في السنَّة والسيرة (192).
    [28] جاء في معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية (340، 341): ينبع: مثناةٌ تحتيةٌ ونونٌ وموحدةٌ، وآخره عينٌ مهملةٌ: قلت: إذا ذكر هذا الاسم في السيرة أو أي كتابٍ من كتبِ المتقدمين فلا ينصرفُ إلا على وادي ينبع النخل، وهو وادٍ فحلٌ كثير العيون والقُرى والنخيل، التي أُخِذ اسمُه منها، يتعلق رأسه عند بواط على قرابة (70) كيلاً من المدينة غربًا، ثم ينحدر بين سلسلتين من الجبالِ عظيمتين، فتكثُر روافدُه منهما، وهذا هو سرُّ وفرةِ مياهه وتفجُّر عيونه، والسلسلتان هما: جبل الأشعر في الجنوب، ويسمَّى اليوم "الفقرة" تسيل منه أوديةٌ عظامٌ في ينبع، من أهمها: "نخلى" وعباثر، وجبال رضوى من الشمال، ومنها أوديةٌ أيضًا، من أهمها: ضأسٌ وغيره؛ اهـ.
    [29] سيرة ابن هشام (1/ 599)، مختصرًا.
    [30] تاريخ الطبري (2/ 417).




    رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/72332/#ixzz3qtpb7IvX
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

  16. #16
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي

    قوله:
    والغزوةُ الكُبرى الَّتي ببَدْرِ
    في الصَّومِ في سابعِ عَشْرِ الشَّهرِ

    وفي السابع عشر من شهر رمضان من العام الثاني من هجرة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كانت غزوةُ بدرٍ الكبرى.

    وإليك تفاصيل هذه الغزوة:
    سمع رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بأن أبا سفيان بن حرب مقبلٌ من الشام في عيرٍ لقريش عظيمة، فيها أموال لقريش، وتجارة من تجاراتهم، وفيها ثلاثون رجلاً من قريش أو أربعون، منهم: مخرمة بن نوفل، وعمرو بن العاص[1].

    فندب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين إليهم، وقال: ((هذه عِيرُ قريش فيها أموالهم، فاخرُجوا إليها لعل الله يُنفلُكموها، فانتدب الناس، فخف بعضُهم وثقُل بعضهم؛ وذلك أنهم لم يظنوا أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يلقى حربًا.

    وكان أبو سفيانَ - حين دنا من الحجاز - يتحسس الأخبارَ، ويسأل مَن لقي مِن الركبان، تخوفًا على أمر الناس، حتى أصاب خبرًا من بعض الناسِ أن محمدًا قد استنفر أصحابَه لك ولعِيرِك، فحذِر عند ذلك، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاريَّ فبعثه إلى مكة، وأمره أن يأتي قريشًا فيستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدًا قد عرَض لنا في أصحابه، فخرج ضمضم بن عمرو سريعًا إلى مكة[2].

    وقد رأت عاتكةُ بنت عبدالملطب قبْل قدوم ضمضم بثلاث ليال رؤيا أفزعتها، فبعثت إلى أخيها العباس بن عبدالمطلب فقالت له: يا أخي، واللهِ لقد رأيتُ الليلة رؤيا، لقد أفظعَتْني وتخوَّفْتُ أن يدخل على قومِك منها شر ومصيبة، فاكتُمْ عني ما أحدِّثُك به، فقال لها: وما رأيت؟ قال: رأيت راكبًا أقبل على بعير له، حتى وقف بالأبطح، ثم صرخ بأعلى صوته: ألا انفروا يا آل غدر[3] لمصارعكم في ثلاث، فأرى الناسَ اجتمعوا إليه، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه، فبينما هم حوله مَثَل به[4] بعيره على ظهر الكعبة، ثم صرخ بمثلها: ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث، ثم مَثَل به بعيره على رأس أبي قُبَيس[5]، فصرخ بمثلها، ثم أخذ صخرة فأرسلها، فأقبلت تهوي، حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضَّت[6] فما بقي بيتٌ من بيوت مكة ولا دارٌ إلا دخلتها منها فلقة، قال العباس: والله إن هذه لرؤيا! وأنتِ فاكتميها، ولا تذكُريها لأحد.

    ثم خرج العباسُ فلقي الوليدَ بن عتبةَ بن ربيعة - وكان له صديقًا - فذكرها له واستكتمه إياها، فذكرها الوليد لأبيه عتبة، ففشا الحديثُ بمكة، حتى حدَّثت به قريشٌ في أنديتها.

    قال العباس: فغدوتُ لأطوف بالبيت، وأبو جهل بن هشام في رهطٍ من قريش قُعود يتحدثون برؤيا عاتكة، فلما رآني أبو جهل قال: يا أبا الفضل، إذا فرَغْتَ من طوافك فأقبِلْ إلينا، فلما فرغتُ أقبلتُ حتى جلست معهم، فقال لي أبو جهل: يا بني عب المطلب متى حدَثَت فيكم هذه النبيَّة؟ قال: قلتُ: وما ذاك؟ قال: تلك الرؤيا التي رأت عاتكةُ، قال: فقلت: وما رأت؟ قال: يا بني عبدالمطلب، أما رضيتم أن يتنبأ رجالُكم حتى يتنبَّأ نساؤكم! قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال: انفروا في ثلاث، فسنتربص بكم هذه الثلاث، فإن يكُ حقًّا ما تقول فسيكون، وإن تمضِ الثلاثُ ولم يكن من ذلك شيءٌ نكتبْ عليكم كتابًا أنكم أكذَبُ أهلِ بيتٍ في العرب.

    قال العباس: فوالله ما كان مني إليه كبيرٌ، إلا أني جحدتُ ذلك، وأنكرتُ أن تكون رأت شيئًا، قال: ثم تفرَّقْنا، فلما أمسيتُ لم تبقَ امرأةٌ من بني عبدالمطلب إلا أتتني، فقالت: أقررتم لهذا الفاسقِ الخبيث أن يقَعَ في رجالكم، ثم قد تناول النساءَ وأنت تسمَعُ، ثم لم تكن عندك غيرةٌ لشيء مما سمعتَ! قال: قلت: قد واللهِ فعلتُ، ما كان مني إليه كبير، وايم اللهِ لأتعرَّضن له، فإن عاد لأكفينكُنَّه.

    قال: فغدوتُ في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة، وأنا حديدٌ مُغضَبٌ، أرى أني قد فاتني منه أمرٌ أُحِبُّ أن أدركَه منه، قال: فدخلتُ المسجد فرأيتُه، فوالله إني لأمشي نحوه أتعرَّضُه ليعودَ لبعض ما قال فأقَع به، وكان رجلاً خفيفًا، حديد الوجه، حديد اللسان، حديد النَّظر، قال: إذ خرج نحو باب المسجد يشتد، فقلتُ في نفسي: ما له - لعنه الله - أكُلُّ هذا فَرَقٌ مني أن أشاتِمَه؟! قال: وإذا هو قد سمِع ما لم أسمَعْ، صوت ضمضم بن عمرو الغفاري، وهو يصرُخ ببطن الوادي واقفًا على بعيره، قد جدع بعيره[7] وحوَّل رحله، وشق قميصه، وهو يقول: يا معشرَ قريش، اللطيمة اللطيمة[8]، أموالكم مع أبي سفيان قد عرَض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوثَ الغوثَ.

    قال: فشغَلني عنه وشغَله عني ما جاء من الأمر، فتجهَّز الناس سراعًا، قالوا: أيظُن محمد وأصحابه أن تكونَ كعيرِ ابن الحضرمي؟! كلا والله ليعلمَنَّ غير ذلك، فكانوا بين رجلين، إما خارج، وإما باعث رجلاً، وأوعبت قريش، فلم يتخلَّفْ من أشرافِها أحد إلا أن أبا لهب بن عبدالمطَّلب قد تخلَّف وبعَث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة، وكان قد لاط[9] له بأربعة آلاف درهم كانت له عليه، أفلس بها، فاستأجره بها، على أن يجزئ عنه[10].

    وكان أمية بن خلف أيضًا أراد أن يتخلَّف عن الخروج، وله في ذلك قصة يحكيها سعد بن معاذٍ - رضي الله عنه - حيث كان صديقًا لأميةَ بن خلفٍ، وكان أميةُ إذا مر بالمدينة نزَل على سعد بن معاذ، وكان سعدٌ إذا مرَّ بمكة نزل على أميةَ، فلما قدم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، انطلق سعدٌ معتمرًا فنزَل على أميةَ بمكة، فقال لأمية: انظُر لي ساعة خلوةٍ، لعلي أن أطوفَ بالبيت، فخرج به قريبًا من نصف النهارِ، فلقيهما أبو جهلٍ فقال: يا أبا صفوانَ، مَن هذا معك؟ فقال: سعدٌ، فقال له أبو جهلٍ: ألا أراك تطوف بمكةَ آمنًا وقد أَوَيْتُم الصُّباةَ، وزعمتم أنكم تنصُرونهم وتعينونهم، أما واللهِ لولا أنك مع أبي صفوانَ ما رجَعْتَ إلى أهلك سالِمًا، فقال له سعدٌ ورفَع صوته عليه: أما والله لئن منَعْتَني هذا لأمنعنك ما هو أشدُّ عليك منه، طريقك على المدينة، فقال له أميةُ: لا ترفَعْ صوتَك يا سعدُ على أبي الحكم سيِّدِ أهل الوادي، فقال سعدٌ: دعنا عنك يا أميةُ، فوالله لقد سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنهم قاتلوك))، قال: بمكة؟ قال: لا أدري، ففزع لذلك أميةُ فزَعًا شديدًا، فلما رجَع أمية إلى أهله قال: يا أم صفوان، ألم ترَيْ ما قال لي سعدٌ؟ قالت: وما قال لك؟ قال: زعَم أن محمدًا أخبَرهم أنهم قاتلي، فقلت له: بمكة؟ قال: لا أدري، فقال أمية: والله لا أخرُج من مكة، فلما كان يومُ بدرٍ، استنفر أبو جهلٍ الناسَ، قال: أدرِكوا عيرَكم، فكره أميةُ أن يخرجَ، فأتاه أبو جهلٍ، فقال: يا أبا صفوان، إنك متى ما يراك الناسُ قد تخلَّفْتَ وأنت سيِّدُ أهل الوادي، تخلَّفوا معك، فلم يزَلْ به أبو جهلٍ حتى قال: أما إذ غلَبْتَني، فوالله لأشترينَّ أجودَ بعيرٍ بمكة، ثم قال أمية: يا أم صفوان، جهِّزيني، فقالت له: يا أبا صفوان، وقد نسيتَ ما قال لك أخوك اليثربي؟ قال: لا، ما أريدُ أن أجوز معهم إلا قريبًا، فلما خرج أميةُ، أخَذ لا ينزل منزلاً إلا عقَل بعيره، فلم يزَلْ بذلك حتى قتَله الله - تعالى - ببدرٍ[11].

    فتأهبت قريشٌ للخروج بجيشٍ قوامه نحو ألف مقاتل بما معهم من جمال وخيول وعتاد وعُدَّة، للدفاع عن عيرها وأموالها، كما أخَذوا معهم نساءهم وأبناءهم وأموالهم، وكانت العربُ تفعَل ذلك لتحفيزِ جنودها على القتال؛ فإن الرجلَ إذا ما خارت قوتُه ووهنَتْ عزيمتُه وأراد أن يفِرَّ من ساحة المعركة، تذكَّر ما خلفه من نساء وأبناء وأموال، فكان ذلك حافزًا له على القتال بقوةٍ وبأس، وعدم الفرار من أرض المعركة.

    وفي المقابل تأهَّب جيشُ المسلمين للخروج سريعًا للحاق بقافلة أبي سفيان، فإن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان قد أرسَل بسيسة عينًا ينظُر ما صنعَتْ عِيرُ أبي سفيان[12]، فلما جاء بسيسة إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأخبره بأن القافلةَ قد قربت، حرَص النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على الخروجِ بسرعة حتى لا تفوتَه القافلة، حتى إنه من شدَّةِ حرصه - صلى الله عليه وسلم - على ذلك لم ينتظِرْ مَن كانت ظهرانهم[13]في عوالي المدينة، فجعَلوا يستأذنونه أن يُحضِروا ظهرانهم فقال: ((لا، إلا مَن كان ظهرُه حاضرًا))[14].

    فخرج النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في جيشٍ تعداده بضعة عشر وثلاث مائةٍ مقاتل[15]، منهم من الأنصار نيف وأربعون ومائتان، ومن المهاجرين نيف وستون[16]، ليس معهم إلا فرسٌ واحدٌ للمقداد بن عمرو[17]، وسبعون بعيرًا[18] يعتقب كلُّ ثلاثةٍ بعيرًا[19]، فكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وعليٌّ وأبو لبابة يعتقبون بعيرًا، فلما كانت عُقْبَةُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -[20] قالا: نحن نمشي عنك يا رسول الله، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أنتما بأقوى مني، ولا أنا بأغنى عن الأجرِ منكما))[21].

    وفي أثناء السير، ولما بلغ الجيشُ الرَّوحاء - وهي على أربعين ميلاً من المدينة - ردَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أبا لبابةَ أميرًا على المدينة، وكان قد ترَك ابنَ أم مكتوم ليصليَ بالناس[22].

    أما أبو سفيان فقد تمكن في خضمِّ ذلك من أن يفرَّ بقافلته، فأخذ بها طريقَ الساحل، وهو غيرُ طريقهم المعتاد، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته بفرار القافلة، وبأن قريشًا خرجت بجيشٍ كبير لمحاربة المسلمين.

    فحينها استشار النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه في الأمر، فبعضُهم كره القتال، وفي ذلك يقول الله - تعالى -: ﴿ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ﴾ [الأنفال: 5، 6]، والحق الذي تبيَّن هو أن الله - تعالى - قد وعدهم إحدى الطائفتين، إما أَخْذ القافلة وغنيمتها، وإما القتال، فلما فرت القافلةُ، كان الحقُّ الذي تبين هو القتال، فكرِه بعضُ المسلمين ذلك؛ يقول - تعالى-: ﴿ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْن ِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ﴾ [الأنفال: 7، 8].

    وكان هؤلاء يرون أن القتالَ لا فائدةَ منه؛ لأن القافلة نجَتْ، فلا غنيمة تُفيد المسلمين، ولأن المسلمين غيرُ مستعدِّين للحرب كما استعدت قريش، ولكن الله - تعالى - قد بيَّن الحكمة من القتال في الآيتين السابقتين من سورة الأنفال.

    فلما عرَض النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الأمرَ، قام أبو بكر الصديقُ فقال وأحسن، ثم قام عمرُ بن الخطاب فقال وأحسَن، ثم قام المقدادُ بن عمرو فقال: يا رسولَ الله، امضِ لِما أراك اللهُ، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ﴿ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [المائدة: 24]، ولكنِ اذهب أنت وربُّك فقاتلا، إنَّا معكما مُقاتِلون، فوالذي بعثك بالحق لو سِرتَ بنا إلى بَرك الغُماد[23]، لجالَدْنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيرًا ودعا له به.

    ثم قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أشيروا عليَّ أيها الناس))، وإنما يريد الأنصارَ؛ وذلك أنهم عددُ الناس[24]، وأنهم حين بايعوه بالعَقبة قالوا: يا رسولَ الله، إنا برآءُ من ذلك حتى تصلَ إلى ديارنا، فإذا وصلتَ إلينا، فأنت في ذمَّتنا، نمنعك مما نمنع منه نساءَنا وأبناءنا، فكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يتخوَّفُ ألا تكون الأنصارُ ترى عليها نصرَه إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوِّه، وأن ليس عليهم أن يسيرَ بهم إلى عدوٍّ من بلادهم، فلما قال ذلك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قال له سعدُ بن معاذ: والله لكأنَّك تريدنا يا رسول الله، قال: ((أجَلْ))، قال: فقد آمنَّا بك وصدَّقناك، وشهِدنا أن ما جئتَ به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودَنا ومواثيقنا، على السمعِ والطاعة، فامضِ يا رسولَ الله لِما أردتَ، فنحن معك، فوالذي بعَثك بالحق لو استعرَضْتَ بنا هذا البحر فخُضْتَه لخُضناه معك، ما تخلَّف منا رجلٌ واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لَصُبرٌ في الحرب، صُدقٌ في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقَرُّ به عينك، فسِرْ بنا على بركةِ الله، فسُرَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بقول سعدٍ، ونشطه ذلك، ثم قال: ((سيروا وأبشروا؛ فإن الله - تعالى - قد وعَدني إحدى الطائفتين، والله لكأنِّي الآن أنظُرُ إلى مصارعِ القوم))[25].

    وكان لواءُ المسلمين في هذه المعركة مع مُصعَب بن عمير - رضي الله عنه - وكان أبيضَ، وكان أمام رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - رايتانِ سَوْداوان، إحداهما مع عليِّ بن أبي طالب، يُقال لها: العقاب، والأخرى مع بعض الأنصار[26].

    فسار النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مستعينًا بالله - تعالى - على هؤلاء المُجرِمين الذين خرَجوا من ديارهم بطَرًا ورِئاءَ الناس ليصدُّوا عن سبيل الله.

    وفي الطريق وتحديدًا وهم بحرَّة الوبرة[27] أدركه رجلٌ قد كان يُذكَر منه جرأةٌ ونجدةٌ، ففرِح أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رأوه، فلمَّا أدرَكه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: جئتُ لأتبعَك وأصيب معك، قال له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تؤمنُ بالله ورسوله))، قال: لا، قال: ((فارجِعْ فلن أستعينَ بمُشركٍ))، ثم مضى حتى إذا كان بالشجرةِ أدرَكه الرجلُ، فقال للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كما قال أولَ مرةٍ، فقال له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كما قال أولَ مرةٍ، قال: ((فارجِعْ فلن أستعينَ بمُشركٍ))، ثم رجَع الرجل مرة أخرى وهم بالبيداءِ، فقال له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كما قال أولَ مرةٍ: ((تؤمِنُ بالله ورسوله))، قال الرجل: نعم، فقال له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فانطلِقْ))[28].

    وفي الطريق أيضًا ردَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - البراءَ بنَ عازب وابن عُمَر لصِغَرهما[29].

    وعلى الجانبِ الآخر، فإن كفارَ قُريشٍ كادوا أن يرجِعوا بلا قتالٍ؛ حيث تذكَّروا الذي كان بينهم وبين بني بكرٍ من خصومة، وخافوا أن يأتوهم من خلفِهم، فيُعينوا عليهم جيش المسلمين، وبينما هم على ذلك إذ جاءهم إبليسُ في صورةِ سراقةَ بن مالك - وكان من أشرافِ بني كنانة - فقال لهم: أنا لكم جارٌ مِن أن تأتيَكم كنانةُ من خلفكم بشيء تكرَهونه، فخرَجوا[30].

    وفي ذلك يقول الله - تعالى-: ﴿ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال: 48].

    حيث فرَّ الشيطانُ من ساحة المعركة عندما رأى الملائكةَ تتنزل لنصرة المؤمنين، كما سيأتي إن شاء الله.

    وأيضًا أشار عُتبةُ بن ربيعة عليهم بالرجوع؛ لئلا تكثُرَ التِّرات بين الطرفين وبينهم أرحامٌ وقرابات، ولكن أصرَّ أبو جهل على القتال، وغلب رأيه أخيرًا[31].

    ثم وصل الفريقانِ إلى بدر التي تبعُد عن المدينة بنحو 160 كيلو مترًا، وكان جيش المسلمين أسبَقَ إلى هناك، فلما أمسى القومُ، بعَث النبي - صلى الله عليه وسلم - عليَّ بن أبي طالب، والزبير بن العوَّام، وسعد بن أبي وقاص، في نفرٍ من أصحابه إلى ماء بدرٍ يلتمسون الخبر له عليه، فأصابوا راوية[32] لقريش فيها أسلم غلام بني الحجاج، وعريض أبو يسارٍ غلام بني العاص بن سعيد، فأتَوْا بهما فسألوهما، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قائمٌ يُصلِّي، فقالا نحن سقاةُ قريش، بعثونا نسقيهم من الماء، فكرِه القوم خبرَهما ورجَوا أن يكونا لأبي سفيان، فضرَبوهما، فلمَّا أذلقوهما[33] قالا: نحن لأبي سفيانَ، فترَكوهما، وركَع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسجَد سجدتيه، ثم سلَّم، وقال: ((إذا صدقاكم ضرَبْتُموهما، وإذا كذَباكم تركتموهما، صدقا واللهِ، إنهما لقريشٍ، أخبِراني عن قريش؟))، قالا: هم واللهِ وراء هذا الكثيبِ الذي ترى بالعُدْوةِ القصوى، فقال لهما رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كم القوم؟)) قالا: كثيرٌ، قال: ((ما عِدَّتُهم؟)) قالا: لا ندري، قال: ((كم ينحَرون كل يوم؟)) قالا: يومًا تسعًا، ويومًا عَشرًا، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((القومُ فيما بين التسعِمائة والألف))، ثم قال لهما: ((فمَن فيهم من أشراف قريشٍ؟)) قالا: عتبةُ بن ربيعة، وشيبةُ بن ربيعة، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، ونَوفل بن خويلد، والحارث بن عامر بن نوفل، وطُعَيمة بن عديِّ بن نوفل، والنَّضر بن الحارث، وزمعةُ بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، وأميَّةُ بن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجَّاج، وسُهيل بن عمرو، وعمرو بن عبدِودٍّ، فأقبل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على الناسِ فقال: ((هذه مكةُ قد ألقت إليكم أفلاذَ كبِدِها))[34]، ثم قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((هذا مصرَعُ فلانٍ)) - ويضَعُ يده على الأرضِ ها هنا ها هنا - فما ماط[35] أحدُهم عن موضعِ يدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[36]، فبات المسلمون تلك الليلةَ بالعُدْوةِ الدنيا؛ أي القريبة من المدينة، وبات المُشرِكون بالعُدْوة القصوى؛ أي البعيدة عن المدينةِ من ناحية مكَّةَ، وقد ذكر القرآنُ الكريم هذا الموقف في قوله - تعالى-: ﴿ إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ ﴾ [الأنفال: 42]؛ أي العِيرُ الذي فيه أبو سُفيانَ ﴿ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ﴾ [الأنفال: 42]؛ أي مما يلي ساحلَ البحر، ﴿ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنفال: 42]، ليصيرَ الأمر ظاهرًا، والحجة قاطعة، والبراهين ساطعة، ولا يبقى لأحدٍ حجةٌ ولا شبهة، فحينئذ يهلِك مَن هلك؛ أي: يستمرُّ في الكفر مَن استمر فيه على بصيرةٍ من أمره: أنَّه مُبطِل؛ لقيام الحجَّة عليه، ويحيا مَن حيَّ؛ أي: يؤمِن من آمن عن بينة؛ أي: عن حُجَّةٍ وبصيرة، ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنفال: 42]؛ أي: لدعائِكم وتضرُّعكم واستغاثتكم به، عليمٌ بكم، وأنكم تستحقُّون النصرَ على أعدائكم الكفرةِ المُعاندين[37].

    وكان الوادي الذي نزَل به المسلمون لينًا سهلاً لا تثبُت فيه أقدامُ الخيول، والوادي الذي نزَل به المشركون صُلبًا تتحرَّك فيه الخيل بسهولة، فأنعَم الله - تعالى - على المُسلِمين بأن أرسَل عليهم من السماء ماءً ليثبِّتَ به أقدامهم، وفي ذلك يقول الله - تعالى -: ﴿ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ﴾ [الأنفال: 11]، تطهير الظاهر من الحدَث الأصغر أو الأكبر، ﴿ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ ﴾ [الأنفال: 11] من وسوسةٍ أو خاطر سيئ، وهو تطهيرُ الباطن، ﴿ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ ﴾ [الأنفال: 11] بالصبرِ والإقدام على مجالدة الأعداء، ﴿ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ ﴾ [الأنفال: 11]؛ حيث تصلَّبت الأرضُ وتوطأت، فثبتت به أقدامُ المسلمين في مواجهة عدوهم[38].

    ثم أنزل الله - تعالى - على المؤمنين النُّعاسَ أمانًا لهم، وراحةً مِن عَناء السفر، حتى إذا ما بدأت المعركةُ كانوا في ذروةِ النشاط والاستعداد.

    أما النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فلم يَنَمْ، بل ظل في عريشه الذي بناه له الصحابةُ بمشورة سعدِ بن معاذٍ - رضي الله عنه - حيث قال: يا نبيَّ الله، ألا نَبني لك عريشًا تكونُ فيه ونُعِد عندك ركائبَك؟ ثم نَلقى عدوَّنا، فإن أعزَّنا الله وأظهَرَنا على عدونا، كان ذلك ما أحبَبْنا، وإن كانت الأخرى، جلَسْتَ على ركائبك، فلحقتَ بمن وراءَنا من قومنا، فقد تخلَّف عنك أقوامٌ يا نبيَّ الله ما نحن بأشدَّ لك حبًّا منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربًا ما تخلَّفوا عنك، يمنعك اللهُ بهم، ينصحونك ويجاهدون معك، فأثنى عليه الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - خيرًا، ودعا له بخير، ثم بُني لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عريش، فكان فيه[39].

    فظلَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك العريشِ يدعو ربَّه، ويستغيث به، ويستنصِرُه.

    عن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما -: قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في قبةٍ له: ((اللهم إني أنشُدُك عهدَك ووعدك، اللهم إن شِئْتَ لم تُعبَدْ بعد اليوم))، فأخذ أبو بكرٍ بيده، فقال: حَسْبُك يا رسولَ الله، فقد ألححتَ على ربك، وهو في الدرع، فخرَج وهو يقول: ﴿ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ﴾ [القمر: 45، 46][40].

    وعن عُمرَ بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: لما كان يومُ بدرٍ، نظَر رسولُ الله إلى المشركين وهم ألفٌ، وأصحابه ثلاثمائةٍ وتسعة عشر رجلاً، فاستقبَل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - القِبلة، ثم مدَّ يديه فجعَل يهتف بربه: ((اللهم أنجِزْ لي ما وعَدْتَني، اللهم آتِ ما وعدَتْنَي، اللهم إن تهلِكْ هذه العصابةُ من أهل الإسلامِ لا تُعبَدْ في الأرض))، فما زال يهتِفُ بربِّه مادًّا يديه، مُستقبِل القِبلة حتى سقط رداؤه عن مَنكِبَيه، فأتاه أبو بكرٍ، فأخَذ رداءه فألقاه على مَنكِبَيه، ثم التزمه مِن ورائه، وقال: يا نبيَّ الله، كفاك مناشدتك ربَّكَ؛ فإنه سيُنجز لك ما وعَدك، فأنزَل الله - تعالى -: ﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ ﴾ [الأنفال: 9][41].

    وظل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على تلك الحالةِ ليلة السابع عشر من شهر رمضان حتى أصبَح.

    عن عليٍّ - رضي الله عنه - قال: ولقد رأيتُنا وما فينا إلا نائمٌ، إلا رسولَ الله تحت شجرةٍ يُصلِّي ويبكي حتى أصبح[42]، وعن علي - رضي الله عنه - أيضًا قال: أصابنا من الليل طشٌّ[43] من مطرٍ، فانطلَقْنا تحت الشجر والحجف[44] نستظلُّ تحتها من المطر، وبات رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو ربَّه - تعالى - ويقول: ((اللهم إنك إن تُهلِكْ هذه الفئةَ لا تُعبَدْ))، قال: فلما أن طلَع الفجر نادى: الصلاة عباد الله، فجاء الناسُ من تحت الشجر والحجف، فصلَّى بنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وحرَّض على القتال، ثم قال: ((إن جمعَ قريشٍ تحت هذه الضلع الحمراء من الجبل))، فلما دنا القومُ منا وصاففناهم إذا رجلٌ منهم على جملٍ له أحمرَ يسيرُ في القوم، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا عليُّ، نادِ لي حمزة)) - وكان أقربَهم من المشركين - مَن صاحبُ الجملِ الأحمر، وماذا يقولُ لهم؟ فجاء حمزة فقال: هو عتبةُ بن ربيعة، وهو ينهى عن القتالِ، ويقول لهم: يا قوم، إني أرى قومًا مستميتين، لا تصِلونَ إليهم وفيكم خيرٌ، يا قومِ، اعصبوها اليومَ برأسي وقولوا: جبُن عُتبةُ بن ربيعة، وقد علِمْتُم أني لَسْتُ بأجبنِكم، فسمِع ذلك أبو جهلٍ فقال: أنت تقولُ هذا، واللهِ لو غيرُك يقولُ هذا، لأعضَضْتُه، قد ملأتْ رئتُك جوفَك رعبًا، فقال عُتبة: إيَّاي تُعيِّر يا مُصفِّرَ استِه[45]؟ ستعلم اليوم أينا الجبان، قال: فبرز عتبةُ وأخوه شيبةُ وابنه الوليد حميةً، فقالوا: مَن يُبارز؟ فخرج فتيةٌ من الأنصارِ ستةٌ، فقال عتبةُ: لا نريد هؤلاء، ولكن يُبارِزُنا من بني عمنا من بني عبدالمطَّلب، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قُمْ يا عليُّ، وقُمْ يا حمزةُ، وقُمْ يا عبيدةُ بنَ الحارث بن عبدالمطلب))، فقتَل الله - تعالى - عتبةَ وشيبة ابني ربيعةَ، والوليدَ بن عتبة، وجُرِح عُبيدةُ - رضي الله عنه[46].

    حيث أقبل حمزةُ إلى عتبة، وأقبل عليٌّ إلى شيبةَ، واختلف بين عبيدة والوليد ضربتان، فأثخن[47] كل واحدٍ منهما صاحبَه، ثم مال عليٌّ وحمزةُ على الوليد فقتلاه، واحتملا عُبيدةَ[48].

    وفيهم نزلت: ﴿ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ﴾ [الحج: 19][49]، فمات عُبيدةُ - رضي الله عنه - بالصَّفراءِ[50] مُنصَرَفه من بدرٍ، فدُفِن هنالك[51].

    وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قد منَع الجيشَ من التقدم أو الالتحام مع المشركين، إلا أن يكون النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هو المتقدِّمَ أولاً، فقال لهم: ((لا يقدمن أحدٌ منكم إلى شيءٍ حتى أكونَ أنا دونَه))[52].

    ونصح النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - جندَه، وأمرهم، فقال لهم: ((إذا أكثبوكم[53] فارموهم، واستبقوا نبلكم))[54]؛ أي: أبقوا على نبلِكم ولا تستعملوه حتى يقتربوا منكم؛ حفاظًا على السهامِ، وحتى لا تنفَد من غير فائدة، فأمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ألا يضربوا إلا من قريب، حتى تصيبَ القوم، فلما أقبل المشركون ودنَوْا من جيش المسلمين، أخَذ النبي - صلى الله عليه وسلم - ترابًا من الأرض، ثم رماه في وجوه المشركين، فما وقع منها شيء إلا في عين رجلٍ منهم[55].

    وفي ذلك يقول الله - تعالى-: ﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾ [الأنفال: 17].
    ثم أمرهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالهجوم، فقال لهم: ((قوموا إلى جنةٍ عرضها السمواتُ والأرض))، فقال عميرُ بن الحُمام الأنصاري: يا رسول الله، جنةٌ عرضُها السموات والأرض؟! قال: ((نعم))، قال: بخٍ بخٍ[56]، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما يحمِلُك على قولك: بخٍ بخٍ؟))، قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاءةَ أن أكون من أهلها، قال: ((فإنك من أهلها))، فأخرج - عمير بن الحُمام - تمراتٍ من قرنه[57]، فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييتُ حتى آكلَ تمراتي هذه، إنها لحياةٌ طويلةٌ، فرمى بما كان معه من التمرِ، ثم قاتَل حتى قُتِل[58].

    والتحم الجيشانِ التحامًا شديدًا، وحمي الوطيسُ، وظهرت بطولاتُ الصحابة - رضي الله عنهم - يتقدَّمُهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فهو أشجعُ الشجعان، حتى إن عليًّا - رضي الله عنه - يقول: لقد رأيتُنا يوم بدرٍ ونحن نلوذُ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أقرَبُنا إلى العدو، وكان من أشدِّ الناس يومئذٍ بأسًا[59].

    ونزلت الملائكةُ في ميدان المعركةِ بقيادة الأمينِ جبريلَ - عليه السلامُ.

    قال ابنُ إسحاقَ:
    خفق النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - خفقة في العريش ثم انتبه فقال: ((أبشر يا أبا بكر، أتاك نصرُ الله؛ فهذا جبريلُ آخِذٌ بعِنان فرسِه يقوده على ثناياه النقع))[60].

    وعن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال يوم بدرٍ: ((هذا جبريل آخذٌ برأس فرسه عليه أداةُ الحرب))[61].

    وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أيضًا قال: بينما رجلٌ من المسلمين يومئذٍ يشتدُّ في أثَرِ رجلٍ من المشركين أمامه، إذ سمع ضربةً بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدِمْ حيزوم، فنظر إلى المشركِ أمامه فخرَّ مستلقيًا، فنظر إليه فإذا هو قد خُطِم أنفه، وشُقَّ وجهُه كضربة السوط فاخضرَّ ذلك أجمع، فجاء الأنصاريُّ، فحدَّث بذلك رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((صدَقْتَ، ذلك من مَدَد السماء الثالثة))[62].

    وأسَر رجلٌ من المسلمين العباسَ بن عبدالمطلب، فقال العباس: يا رسول الله، إن هذا والله ما أسَرني، لقد أسَرني رجلٌ أجلح[63] من أحسنِ الناس وجهًا على فرسٍ أبلَقَ ما أراه في القوم، فقال الأنصاريُّ: أنا أسَرْتُه يا رسول الله، فقال: ((اسكت؛ فقد أيَّدك الله - تعالى- بملَكٍ كريمٍ))[64].

    وفي ذلك يقول الله - تعالى-: ﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ ﴾؛ أي: متتابعينَ، ﴿ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [الأنفال: 9، 10][65].

    مقتل عدوِّ الله أبي جهلٍ:
    عن عبدالرحمن بن عوفٍ أنه قال: بينما أنا واقفٌ في الصفِّ يوم بدرٍ نظرتُ عن يميني وشمالي، فإذا أنا بين غلامينِ من الأنصار، حديثةٍ أسنانهما، تمنيتُ لو كنت بين أضلَعَ منهما[66]، فغمزني أحدُهما فقال: يا عم، هل تعرفُ أبا جهلٍ؟ قال: قلتُ: نعم، وما حاجتُك إليه يا ابن أخي؟ قال: أُخبِرْتُ أنه يسبُّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سَوادَه[67] حتى يموت الأعجلُ منا، قال: فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر، فقال: مثلها، قال: فلم أنشب أن نظرتُ إلى أبي جهلٍ يزول في الناس[68]، فقلت: ألا تريانِ؟ هذا صاحبكما الذي تسألانِ عنه، قال: فابتدراه فضرباه بسيفيهما حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبراه، فقال: ((أيكما قتَله؟)) فقال كل واحدٍ منهما: أنا قتلتُ، فقال: ((هل مسحتما سيفيكما؟)) قالا: لا، فنظر في السيفين، فقال: ((كلاكما قتَله))، وقضى بسلَبه لمعاذ بن عمرو بن الجَموح.

    والرجلان معاذُ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء[69]، وفي لفظ: وهما ابنا عفراء[70].

    الزُّبير يقتُل عبيدة بن سعيد بن العاص:
    عن الزبير قال: لقيتُ يوم بدرٍ عبيدة بن سعيد بن العاص وهو مدجَّجٌ[71] لا يُرى منه إلا عيناه، وهو يكنى أبو ذاتِ الكرش، فقال: أنا أبو ذات الكرش، فحملتُ عليه بالعَنَزة[72] فطعنتُه في عينه فمات[73].

    مقتل عدو الله أمية بن خلف:
    بعدما قتَل أبطالُ المسلمين في بداية المعركة ثلاثةً من ألدِّ أعداء الإسلام الذين طالما آذَوا المسلمين، وصدوا عن سبيل الله، وهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة، وتمكنوا أيضًا في وسط المعركة من قتلِ صنديدٍ آخر من صناديد قريش وهو أبو جهل، أعانهم اللهُ في آخر المعركة على قتل واحدٍ من ألدِّ أعداء الإسلامِ في مكة، وأشدها ظلمًا لضعفاءِ المسلمين، وهو أمية بن خلَف.

    عن عبدِالرحمن بن عوف قال: كان أميةُ بن خلف لي صديقًا بمكة، وكان اسمي عبدعمرو، فتسميت - حين أسلمتُ - عبدالرحمن، ونحن بمكة، فكان يلقاني إذ نحن بمكة فيقول: يا عبدعمرو، أرغبتَ عن اسم سماكه أبوك؟ فأقول: نعم، فيقول: فإني لا أعرفُ الرحمن، فاجعل بيني وبينك شيئًا أدعوك به، أما أنت فلا تجيبني باسمِك الأوَّلِ، وأما أنا فلا أدعوك مما لا أعرف! قال: فكان إذا دعاني: يا عبدعمرو، لم أُجِبْه، قال: فقلت له: يا أبا علي اجعَلْ ما شئتَ، قال: فأنت عبدالإله، قال: فقلتُ: نعم، قال: فكنت إذا مررتُ به، قال: يا عبدالإله فأُجيبه فأتحدث معه، حتى إذا كان يوم بدر، مررتُ به وهو واقف مع ابنه علي بن أمية، آخذ بيده، ومعي أدراع قد استلبتُها، فأنا أحملها، فلما رآني قال لي: يا عبدعمرو، فلم أُجِبْه، فقال: يا عبدالإله، فقلتُ: نعم، قال: هل لك فيَّ، فأنا خيرٌ لك من هذه الأدرع التي معك؟ قال: قلت: نعم، ها الله[74] إذًا، قال: فطرحتُ الأدراع من يدي، وأخذت بيده ويد ابنه وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط، أما لكم حاجة في اللبن - أي مَن أسرني افتديت منه بإبلٍ كثيرة اللبن - ثم خرجتُ أمشي بهما، فقال أمية بن خلف: يا عبدالإله، مَن الرجل منكم المعلَّم بريشة نَعامة في صدره؟ قال: قلت: ذاك حمزةُ بن عبدالمطلب، قال: ذاك الذي فعَل بنا الأفاعيل، قال عبدالرحمن: فوالله إني لأقودُهما، إذ رآه بلال معي - وكان هو الذي يعذِّبُ بلالاً بمكة على ترك الإسلام - فيُخرجه إلى رمضاءِ[75] مكة إذا حمِيَت، فيُضجعه على ظهره، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول: لا تزال هكذا أو تفارق دينَ محمد، فيقول بلال: أحدٌ أحد، قال: فلما رآه قال: رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوتُ إن نجا، قال: قلت: أيْ بلالُ، أبأسيري؟! قال: لا نجوتُ إن نجا، قال: قلت: أتسمع يا ابن السوداء؟ قال: لا نجوتُ إن نجا، قال: فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مِثل المسكة[76] وأنا أذبُّ عنه، قال: فأخلَف رجلٌ السيف[77]، فضرَب رجلَ ابنه فوقع، وصاح أميةُ صيحة ما سمعتُ مثلها قط، قال: فقلتُ: انجُ بنفسك، ولا نجاءَ بك، فوالله ما أغني عنك شيئًا، قال: فهبروهما[78] بأسيافهم، حتى فرغوا منهما، قال: فكان عبدالرحمن يقول: يرحَمُ الله بلالاً، ذهبت أدراعي، وفجعني بأسيري[79].

    فانتهت المعركةُ بهزيمة المشركين هزيمةً نكراء، ونصرٍ كبير للمسلمين.

    عدد القتلى والأسرى من المشركين في المعركة:
    عن البراء بن عازبٍ - رضي الله عنه - قال: وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدرٍ أربعين ومائةً، سبعين أسيرًا، وسبعين قتيلاً[80].

    بعد انتهاء المعركة:
    عن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من ينظر لنا ما صنَع أبو جهلٍ؟))، فانطلق ابن مسعودٍ فوجَده قد ضربه ابنا عفراء حتى برَك، قال: فأخذ بلحيتِه، فقال: آنت أبو جهلٍ؟ فقال: وهل فوق رجلٍ قتلتموه[81]، أو قال: قتَله قومه، ثم قال أبو جهلٍ: فلو غيرُ أكَّارٍ قتلني[82].

    ومما حدث أيضًا بعد انتهاء المعركة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر يوم بدرٍ بأربعةٍ وعشرين رجلاً من صناديد قريشٍ، فقُذفوا في طوي من أطواء بدرٍ خبيثٍ مخبثٍ، وكان إذا ظهر على قومٍ أقام بالعرصة[83] ثلاث ليالٍ، فلما كان ببدرٍ اليوم الثالث، أمَر براحلته فشُدَّ عليها رحلها، ثم مشى واتبعه أصحابه وقالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شَفة الرَّكي[84] فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: ((يا فلان بن فلانٍ، ويا فلان بن فلانٍ، أيسركم أنكم أطعتم اللهَ ورسوله، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًّا)) فقال عمر: يا رسول الله، ما تكلِّم من أجسادٍ لا رُوح لها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفس محمدٍ بيده، ما أنتم بأسمَعَ لِما أقول منهم))، قال قتادة: أحياهم اللهُ حتى أسمَعَهم قوله؛ توبيخًا وتصغيرًا ونقيمةً وحسرةً وندمًا[85].

    ثم تحرك النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من بدرٍ راجعًا إلى المدينة، حتى إذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصفراء قتل النضر بن الحارث، قتَله عليُّ بن أبي طالب، ثم خرج حتى إذا كان بعرق الظبية قتل عقبة بن أبي مُعَيط[86].

    وعن عائشة - رضي الله عنه - أنها قالت: لما بعث أهلُ مكة في فداء أسراهم، بعثت زينب في فداء أبي العاص بمالٍ، وبعثت فيه بقلادةٍ لها، كانت عند خديجة أدخلتها بها على أبي العاص، قالت: فلما رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رقَّ لها رقةً شديدةً، وقال: ((إن رأيتم أن تُطلِقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها))، قالوا: نعم، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخَذ عليه، أو وعَده، أن يخلي سبيل زينب إليه[87].

    وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لما فرغ من بدر - قد أرسل بَشيرينِ إلى أهل المدينة، بعَث زيد بن حارثة إلى أهل السافلة، وبعث عبدَالله بن رواحة إلى أهل العالية يُبشِّرونهم بفتح الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - فوافق زيد بن حارثة ابنه أسامة حين سوَّى التراب على رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقيل له: ذاك أبوك حين قدم، قال أسامة: فجئتُ وهو واقف للناس، يقول: قُتِل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، ونبيه ومنبه، وأمية بن خلف، فقلت: يا أبتِ، أحقٌّ هذا؟ قال: نعم والله يا بني[88].

    وقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - الغنائم على الصحابة رضوان الله عليهم.

    عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: خرَجْنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فشهدتُ معه بدرًا، فالتقى الناس فهزم اللهُ - تبارك وتعالى - العدو، فانطلقت طائفةٌ في آثارهم يهزمون ويقتلون، فأكبت طائفةٌ على العسكر يحوونه ويجمعونه، وأحدقت طائفةٌ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يُصيب العدو منه غرةً، حتى إذا كان الليلُ، وفَاءَ الناس بعضهم إلى بعضٍ، قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها وجمعناها، فليس لأحدٍ فيها نصيبٌ، وقال الذين خرَجوا في طلب العدو: لستم بأحقَّ بها منا، نحن أحدَقْنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخِفْنا أن يصيبَ العدوُّ منه غرةً، واشتغلنا به، فنزلت: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾ [الأنفال: 1]، فقسَمها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على فواقٍ بين المسلمين[89].

    وحدَث أيضًا كما يقول سعدُ بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: جئتُ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدرٍ بسيفٍ، فقلت: يا رسول الله، إن الله قد شفى صدري اليوم من العدو، فهَبْ لي هذا السيف، قال: ((إن هذا السيف ليس لي ولا لك))، فذهبتُ وأنا أقول: يعطاه اليوم من لم يبلِ بلائي! فبينا أنا إذ جاءني الرسولُ فقال: ((أجب))، فظننت أنه نزل في شيءٌ بكلامي، فجئتُ، فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنك سألتَني هذا السيف، وليس هو لي ولا لك، وإن الله قد جعله لي، فهو لك)) ثم قرأ: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ [الأنفال: 1][90].

    وأما عن الأسرى:
    فعن عُمَر - رضي الله عنه - قال: فلما أسروا الأسارى، قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكرٍ وعمر: ((ما ترون في هؤلاء الأسارى؟))، فقال أبو بكرٍ: يا نبي الله، هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فديةً، فتكون لنا قوةً على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما ترى يا ابن الخطاب؟))، قلت: لا والله يا رسول الله، ما أرى الذي رأى أبو بكرٍ، ولكني أرى أن تمكِّنَّا فنضربَ أعناقهم، فتمكن عليًّا من عَقيلٍ فيضرب عنقه، وتمكني من فلانٍ - نسيبًا لعمر- فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهوي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال أبو بكرٍ، ولم يهوَ ما قلت، فلما كان من الغد جئتُ فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكرٍ قاعدين يبكيان، قلت: يا رسول الله، أخبرني مِن أي شيءٍ تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدتُ بكاءً بكيت، وإن لم أجد بكاءً تباكيت لبكائكما، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة)) - شجرةٍ قريبةٍ من نبي الله صلى الله عليه وسلم - وأنزل الله - تعالى -: ﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ﴾ إلى قوله: ﴿ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا ﴾ [الأنفال: 67- 69]، فأحلَّ اللهُ الغنيمة لهم[91].

    ففدى النبي - صلى الله عليه وسلم - الأسارى بمال.

    وجاء في بعض الروايات أنَّ قدر الفدية كان أربعة آلاف درهم[92].

    وعن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - أن رجالاً من الأنصار استأذنوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: ائذَنْ لنا فلنترك لابن أختنا عباسٍ فداءه، قال: والله لا تذرون منه درهمًا[93].

    وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في أسارى بدرٍ: ((لو كان المُطعِم بنُ عدي حيًّا ثم كلَّمني في هؤلاء النَّتنى، لتركتُهم له))[94].

    فضائل من شهد بدرًا من الصحابة والملائكة:
    عن رفاعة بن رافعٍ الزرقي - وهو من أهل بدرٍ - قال: جاء جبريلُ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما تعدون أهل بدرٍ فيكم؟ قال: ((من أفضلِ المسلمين)) - أو كلمةً نحوها - قال: وكذلك من شهد بدرًا من الملائكة[95].

    وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لعمرَ بن الخطاب لما قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة حاطب بن أبي بلتعة: دعني يا رسول الله أضرِبْ عنق هذا المنافق، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك لعل اللهَ اطلع على أهل بدرٍ، فقال: اعمَلوا ما شئتم؛ فقد غفرتُ لكم))[96].

    وجاء عبدٌ لحاطب يشكو حاطبًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: يا رسول الله، ليدخُلَنَّ حاطبٌ النار، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كذَبْتَ لا يدخلها؛ فإنه شهد بدرًا والحديبية))[97].

    وأصيب يوم بدرٍ حارثةُ وهو غلامٌ، فجاءت أمه إلى النبي فقالت: يا رسول الله، قد عرفتَ منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبِر وأحتسب، وإن تك الأخرى ترى ما أصنع؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ويحك، أوهبلت أوجنةٌ واحدةٌ هي، إنها جنانٌ كثيرةٌ، وإنه في جنة الفردوس))[98].

    ____________________________
    [1] "سيرة ابن هشام" 2/134.
    [2] صحيح: "سيرة ابن هشام" عن ابن إسحاق 2/134، 135، بسنده إلى ابن عباس، وصحَّحه الشيخ الألباني - رحمه الله - في تخريج فقه السيرة للغزالي (226).
    [3] غدر: من غادر، ويستعمل هذا في النداء بالشتم.
    [4] مثَل به: أي قام به ماثلاً.
    [5] جبل بمكة.
    [6] ارفضَّت: أي تفتت.
    [7] جدع بعيره: قطَع أنفه.
    [8] اللطيمة: الإبل تحمل الطيب.
    [9] لاط: أي اقتضاه.
    [10] "سيرة ابن هشام" 2/135، 136، رواه ابنُ إسحاق بإسنادين، أحدهما عن ابن عباس، ولكن فيه مبهم؛ حيث قال ابن إسحاق: فأخبَرني مَن لا أتهم عن عكرمةَ، عن ابن عباس به.
    والثاني بإسناد صحيح إلى عروة بن الزبير، ولكنه مرسَل، ويمكن أن يعتضدا ببعضهما.
    [11] صحيح: أخرجه البخاري (3950)، كتاب: المغازي، باب: ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - من يقتل ببدر.
    [12] صحيح: أخرجه مسلم (1901)، كتاب: الإمارة، باب: ثبوت الجنة للشهيد.
    [13] الظَّهر: الدَّواب التي تُركَب.
    [14] صحيح: أخرجه مسلم (1901)، كتاب: الإمارة، باب: ثبوت الجنة للشهيد.
    [15] هناك حديثان صحيحان في عدد جيش المسلمين والمشركين:
    أما الأول: ففي صحيح البخاري (3956، 3959).
    وأما الثاني: ففي مسند أحمد (948) بإسناد صحَّحه الشيخ الألباني في تحقيق فقه السيرة، وكذلك صحَّحه الشيخ أحمد شاكر.
    [16] صحيح: أخرجه البخاري (3956) كتاب: المغازي، باب: عدة أصحاب بدر، عن البراء بن عازب.
    [17] صحيح: أخرجه أحمدُ في "المسند" (1023)، وابن خزيمة (899)، وابن حبان (2257)، والطيالسي (116).
    وجاءت رواياتٌ أخرى ضعيفة بأنهما كانا فرسينِ، أحدهما للزبير، والثاني للمقداد، وهو ضعيف.
    [18] "سيرة ابن هشام" 2/138.
    [19] يعتقبون البعيرَ: أي يتبادلون الركوبَ عليه.
    [20] أي: نوبته في المشي.
    [21] صحيح: أخرجه أحمد (3901)، الحاكم 3/20، وقال: صحيح على شرط مسلم، وقال الألباني في تخريج فقه السيرة: سنده حسن، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح.
    [22] "سيرة ابن هشام" 2/138، والحاكم في "المستدرك" 3/632 وسكت عنه الذَّهبيُّ.
    [23] موضع بناحية اليَمن.
    [24] أي: أكثر الناس؛ فهم أكثرُ من المهاجرين.
    [25] رواه ابن هشام في "السيرة" بهذا السياق عن ابن إسحاق بدون إسناد، وله شواهدُ أخرى كثيرة تقويه؛ انظر: "صحيح البخاري" (3952)، مسلم (1779)، أحمد (3698، 4070، 4376، 11961)، والنسائي في "الكبرى" (11140).
    [26] "سيرة ابن هشام" 2/138.
    [27] حرَّة الوبرة: موضع على نحوٍ من أربعة أميال من المدينة.
    [28] صحيح: أخرجه مسلم (1817)، كتاب: الجهاد والسير، باب: كراهة الاستعانة في الغزو بكافر.
    [29] صحيح: أخرجه البخاري (3956)، كتاب: المغازي، باب: عدة أصحابِ بدرٍ.
    [30] "سيرة ابن هشام" 2/138 بإسناد مرسَل عن عروةَ بن الزبير، وتشهَدُ له الآية.
    [31] "تاريخ الطبري" 2/425، بسند حسن، نقلاً من "السيرةِ النبوية الصحيحة" 2/359.
    [32] أي: سقاة للقوم، يجلبون لهم الماءَ ليرتووا.
    [33] أي: بالَغوا في ضربهما.
    [34] "سيرة ابن هشام" 2/141، بسند صحيح، صرَّح فيه ابنُ إسحاق بالتحديثِ عن يزيدَ بن رومان، عن عروةَ بن الزبير، ولكنه مرسَل، وروى نحوه أحمدُ (948) من حديث عليِّ بن أبي طالب بسندٍ صحَّحه الشيخان: أحمد شاكر، والألباني في تخريج "فقه السيرة" (229)، ورواه مسلمٌ مختصرًا (1779)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة بدرِ.
    [35] ماط: أي بعُد.
    [36] صحيح: أخرجه مسلم (1779)، كتاب: الجهاد والسِّير، باب: غزوة بدر.
    [37] "مختصر تفسير ابن كثير" للشيخ أحمد شاكر 2/114.
    [38] "مختصر تفسير ابن كثير" 2/94، 95 بتصرف.
    [39] "سيرة ابن هشام" 2/144 عن ابن إسحاق، قال: حدثني عبدُالله بن أبى بكر أنه حدَّث: أن سعدَ بن معاذ قال، ثم ذكَره، وله شاهد في "صحيح البخاري" عن ابن عباس، قال: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وهو في قبَّةٍ، وهو الحديث الآتي.
    [40] صحيح: أخرجه البخاري (2915)، كتاب: الجهاد والسير، باب: ما قيل في دِرع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - والقميصِ في الحرب.
    [41] صحيح: أخرجه مسلم (1763)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم.
    [42] صحيح: أخرجه أحمد (1023).
    [43] طش: أي قليل.
    [44] الحجف: أي التروس.
    [45] هي كلمة تُقال للمتنعم المترِف الذي لم تحكه التَّجاربُ والشدائد.
    [46] صحيح: أخرجه أحمد (948)، وصحَّح إسناده الشيخ أحمد شاكر، والألباني في "فقه السيرة" (229).
    [47] أثخن: أي ضربه، ولكن لم يقتله.
    [48] صحيح: أخرجه أبو داود (2665)، كتاب: الجهاد، باب: في المبارزة.
    [49] صحيح: أخرجه البخاري (3965).
    [50] اسم مكان.
    [51] أخرجه الحاكم (4862)، وقال: صحيحُ الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وحسَّن إسناده الألباني "فقه السيرة" (233).
    [52] صحيح: أخرجه مسلم (1901)، كتاب: الإمارة، باب: ثبوت الجنة للشهيد.
    [53] أي: اقتربوا منكم.
    [54] صحيح: أخرجه البخاريُّ (3984)، كتاب: المغازي، باب: (10).
    [55] "تفسير الطبري" 9/217، بأسانيد مرسَلةٍ عن قتادة، وعروةَ، وعكرمة، وتشهَد له الآية.
    [56] بخ بخ: فيه لغتان، إحداهما: إسكان الخاء، أو كسرها منونًا، وهي: كلمة تُطلَق لتفخيم الأمر وتعظيمه في الخير؛ "شرح مسلم" للنووي 7/44.
    [57] قَرنه: بقاف وراء مفتوحتين، وهي الجَعبةُ.
    [58] صحيح: أخرجه مسلم (1901)، كتاب: الإمارة، باب: ثبوت الجنة للشهيد.
    [59] صحيح: أخرجه أحمد 2/228، وصحَّحه الشيخ أحمد شاكر.
    [60] النقع: الغبار.
    قال الألباني في "فقه السيرة" (234): وفي "المغازي"، وعند ابن هشام 2/68، 69، بدون سندٍ، لكن وصَله الأمويُّ من طريق ابن إسحاقَ، حدثني الزهري، عن عبدالله بن ثعلبة بن صغير، وهذا سنَدٌ حسَن، وسكت عنه ابنُ كثير 3/284؛ اهـ.
    [61] صحيح: أخرجه البخاري (3995) كتاب: المغازي، باب: شهود الملائكة بدرًا.
    [62] صحيح: أخرجه مسلم (1763)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الإمداد بالملائكة في غزوة بدرٍ، وإباحة الغنائم.
    [63] الأجلح: الذي انحسر شعرُه عن جانبَيْ رأسه.
    [64] صحيح: أخرجه أحمد 2/194، وصحَّحه الشيخ أحمد شاكر.
    [65] وأما عن حكمة اشتراك الملائكة بهذه الطريقة مع أن جبريلَ - وحده - قادرٌ على إهلاكهم بأمر الله، فيوضح السبكي ذلك بقوله: وقَع ذلك لإرادة أن يكون الفعلُ للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وتكون الملائكة مددًا على عادة مددِ الجيوش؛ رعايةً لصورة الأسباب وسنَّتها التي أجراها الله - تعالى - في عباده، والله - تعالى - هو فاعل الجميع، والله أعلم؛ "فتح الباري" 7/364، في التعليق على الحديث رقم (3995).
    [66] أضلَع منهما: أقوى منهما، أي: تمنيتُ لو كنت بين أقوى منهما.
    [67] أي لا يفارق شخصي شخصَه.
    [68] يزول في الناس: أي يتحركُ بسرعة شديدة بين الناس في ميدان المعركة.
    [69] متفق عليه: أخرجه البخاري (3988)، كتاب: المغازي، باب: (10)، مسلم (1752)، كتاب: الجهاد والسير، باب: استحقاق القاتل سلَب القتيل.
    [70] السابق.
    قلت: ومعاذ بن عمرو بن الجموح أخو معاذ بن عفراء من أمه؛ ففي الرواية الأولى: نُسِب إلى أبيه عمرو بن الجموح، وفي الرواية الثانية: نُسِب إلى أمه.
    وقد ضبَط الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في "الإصابة" 3/1877 اسمَ معاذ بن عمرو بن الجموح فقال: (معوِّذ).
    [71] مدجَّجٌ: أي مغطَّى بالسلاح ولا يظهر منه شيء.
    [72] العَنَزة: الحربة الصغيرة.
    [73] صحيح: أخرجه البخاري (3998)، كتاب: المغازي، باب (12).
    [74] مما يستعملونه في القسم أن يحذفوا حرف القسم ويذكروا في مكانه (ها) فكأنه قال: نعم والله إذًا.
    [75] الرمضاء: الرمل الشديدُ الحرارة من الشمس.
    [76] المسكة: السِّوار، أو الأسورة.
    [77] أي: أخرجه من غمده.
    [78] هبروهما: أي قطعوا لحمهما.
    [79] حسن: أخرجه ابن هشام في "السيرة" 2/150، 151، بأسانيدَ حسنةٍ إلى عبدالرحمن بن عوف - رضي الله عنه - وأخرجه البخاري (2301)، كتاب: الوكالة، باب: إذا وكل المسلم حربيًّا في دار الحرب أو في دار الإسلام جاز، مختصرًا.
    [80] صحيح: أخرجه البخاري (3986)، كتاب: المغازي، باب: (10).
    [81] أي: لا عار عليَّ في قتلِكم إيايَّ "شرح مسلم" للنووي.
    [82] متفق عليه: أخرجه البخاري (3962)، كتاب: المغازي، باب: قتل أبي جهل، ومسلم (1800)، كتاب: الجهاد والسير، باب: قتل أبي جهل.
    قوله: (فلو غير أكَّار قتلني!) الأكَّار: الزراع والفلاح, وهو عند العرب ناقص, وأشار أبو جهل إلى ابني عفراء اللذين قتلاه، وهما من الأنصار, وهم أصحاب زرع ونخيل, ومعناه: لو كان الذي قتلني غير أكَّار، لكان أحبَّ إليَّ، وأعظم لشأني, ولم يكن عليَّ نقص في ذلك؛ "شرح مسلم" للنووي 6/339، 340.
    [83] العرصة: أي الساحة؛ أي أقام بساحة المعركة.
    [84] أي: البئر.
    [85] متفق عليه: أخرجه البخاري (3976)، كتاب: المغازي، باب: قتل أبي جهل، ومسلم (2874)، كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر، والتعوُّذ منه.
    [86] انظر: "سيرة ابن هشام" 2/158، 159.
    [87] حسن: أخرجه أبو داود (2692)، كتاب: الجهاد، باب: فداء الأسير بالمال، وحسَّنه الألباني.
    [88] حسن: أخرجه الحاكم (4959)، كتاب: معرفة الصحابة من طريق ابن إسحاق، قال: حدثني عبدالله بن أبي بكر بن حزم، وصالح بن أبي أمامة بن سهيل عن أبيه به؛ اهـ، وعبدالله: (ثقة)، وقال الحاكم: على شرط مسلمٍ ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وأخرجه البيهقي 9/183.
    [89] صحيح: أخرجه أحمد (22661) بإسناد صحيح.
    [90] صحيح: أخرجه مسلم (1748)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الأنفال، وأبو داود (2740)، كتاب: الجهاد، باب: في النفل.
    [91] صحيح: أخرجه مسلم (1763)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، وإباحة الغنائم.
    [92] "مجمع الزوائد" 6/90، وقال الهيثمي: رواه الطبراني في "الكبير"، "الأوسط"، ورجاله رجال الصحيح.
    [93] صحيح: أخرجه البخاري (4018)، كتاب: المغازي، باب: (12).
    [94] صحيح: أخرجه البخاري (4024)، كتاب: المغازي، باب: (12).
    قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك وفاءً للمطعم؛ فالمُطعِم كان ممن مزقوا صحيفةَ قريش الجائرة، وأخرجوا النبي - صلى الله عليه وسلم - من شِعب أبي طالب، وأيضًا هو الذي أدخَل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مكةَ في جواره بعد عودتِه من الطائف.
    [95] صحيح: أخرجه البخاري (3992)، كتاب: المغازي، باب: شهود الملائكة بدرًا.
    [96] متفق عليه: أخرجه البخاري (3983)، كتاب: المغازي، باب: فضل من شهد بدرًا، مسلم (2494)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أهل بدر وقصة حاطب بن أبي بلتعة.
    [97] صحيح: أخرجه مسلم (2495)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أهل بدر، وقصة حاطب بن أبي بلتعة.
    [98] صحيح: أخرجه البخاري (3982)، كتاب: المغازي، باب: فضل من شهد بدرًا.
    رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/72645/#ixzz3rP4M5PVP
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

  17. #17
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي

    قوله:
    ووَجَبَتْ فيه زكاةُ الفِطْرِ
    مِن بَعْدِ بَدْرٍ بِلَيالٍ عَشْرِ

    قال ابن جريرٍ الطبري - رحمه الله -:
    وفي السنة الثانية أمر الناس بإخراج زكاة الفطر، وقيل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس قبل يوم الفطر بيومٍ أو يومين، وأمرهم بذلك[1].


    وقال ابن سيد الناس - رحمه الله -:
    وفي السنة الثانية فرض زكاة الفطر قبل العيد بيومين[2].


    قوله:
    وفي زكاةِ المالِ خُلْفٌ فَادْرٍ
    ................

    أي: هناك خلاف بين أهل التاريخ في وقتِ فرض زكاة المال، وقد قيل: إنها فُرِضت في العام الثاني - أيضًا - مع زكاة الفطر.


    قال ابن كثيرٍ - رحمه الله -:
    وفي السنة الثانية فُرضت الزكاة ذاتَ النصب، وفُرضت زكاة الفطر[3].


    قوله:
    ..............
    ومَاتتِ ابنةُ النَّبيِّ البَرِّ
    رُقيَّةٌ قَبْلَ رُجوعِ السَّفْرِ
    زوجةُ عُثْمَانَ.....

    وقبل رجوعِ النبي - صلى الله عليه وسلم - من بدر ماتت ابنتُه رقيةُ - رضي الله عنها.


    عن أبي أمامة بن سهلٍ، قال: لما فرغ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من بدرٍ بعث بَشِيرين إلى أهل المدينة؛ بعث زيدَ بن حارثة إلى أهل السافلة، وبعَث عبدالله بن رواحة إلى أهل العالية، يبشِّرونهم بفتح الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - فوافق زيد بن حارثة ابنه أسامة حين سوَّى التراب على رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقيل له: ذاك أبوك حين قدم، قال أسامة: فجئتُ وهو واقفٌ للناس يقول: قُتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشامٍ، ونبيهٌ، ومنبهٌ، وأمية بن خلفٍ، فقلت: يا أبتِ، أحقٌّ هذا؟ قال: نعم، والله يا بني[4].


    قوله:
    ..............
    ..... وَعُرْسُ الطُّهرِ
    فَاطمةٍ على عَلِيِّ القَدْرِ
    ...............

    وفي السنة الثانية من الهجرة بنى عليٌّ - رضي الله عنه - بفاطمةَ - رضي الله عنها[5].


    عن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - قال: لما تزوَّج عليٌّ فاطمةَ قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أعطِها شيئًا))، قال: ما عندي شيءٌ، قال: ((أين دِرْعُك الحُطَميَّة؟))[6].


    فكان هذا هو مهرَ بنتِ خير الخَلْق - صلى الله عليه وسلم.


    قوله:
    ...............
    وأَسْلَمَ العبَّاسُ بَعْدَ الأَسْرِ

    أي: إن العبَّاسَ بن عبدالمطلب - رضي الله عنه - قد أسلَم بعدما أُسِر في غزوة بدر.


    هكذا جزَم الناظم - رحمه الله.


    وقد اختلَف أهلُ التاريخ في وقت إسلام العباس - رضي الله عنه.


    قال محب الدين الطبري - رحمه الله -:
    "قال أهلُ العلم بالتاريخ: كان إسلام العباس قديمًا، وكان يكتُم إسلامه[7]، وخرَج مع المشركين يومَ بدر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من لقي منكم العباسَ فلا يقتله؛ فإنه خرج مستكرهًا))[8]، فأسَره أبو اليسر كعب بن عمرو، ففادى نفسه، ورجع إلى مكة، ثم أقبل إلى المدينة مهاجرًا.


    قال أبو سعيد:
    وقيل: إنه أسلم يوم بدر، فاستقبل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح بالأبواء، وكان معه حين فتح مكة، وبه ختمت الهجرة.


    وقال أبو عمرَ:
    أسلم قبل فتح خيبر[9]، وكان يكتُم إسلامه، ويسره ما يفتح الله على المسلمين[10]، وأظهر إسلامَه يوم فتح مكة، وشهد حنينًا، والطائف، وتبوك.


    ويقال: إن إسلامه كان قبل بدر، وكان يكتُب بأخبار المشركين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان المسلمون بمكةَ يثِقون به[11]"؛ اهـ.


    قوله:
    وقَيْنُقاعُ غَزْوُهم في الإِثْرِ
    ...............

    كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قد عاهَد أهل المدينة بعد وصولِه إليها - صلى الله عليه وسلم - وكانت اليهودُ - ومنهم يهودُ بني قَيْنُقاع - من أهل هذه المعاهَدة، وكان من شروط هذه المعاهدة ألا يعتديَ طرفٌ على الآخر، وألا يغدِرَ طرَفٌ بالآخر.


    ولكن اليهودَ - كعادتهم منذ وُجِدوا على وجه هذه البسيطة - لا عهدَ لهم ولا ميثاق ولا ذمَّة، قوم غدر، قومٌ ملؤوا الدنيا غدرًا وفسادًا، ووقيعةً بين أهل الأرض.


    فلمَّا كان هذا هو طبعَ اليهود ودأبهم الذي لا ينفكُّ عنهم، لم يحفَظْ يهودُ بني قينقاع ما عاهدوا عليه النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ولم يحترموه، فكان جزاؤُهم أن أجلاهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن المدينةِ؛ ليرتاحَ ويريحَ مَن بالمدينة منهم.


    أما عن تفاصيل ما فعلوه، وما فعَله النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بهم، فيرويه ابنُ إسحاق - رحمه الله - فيقول:
    وكان من حديث بني قُيْنُقاع أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - جمَعهم بسوق بني قينقاع، ثم قال: ((يا معشر يهود، احذَروا مِن الله مثلَ ما نزل بقريش من النِّقمة، وأسلِموا؛ فإنكم قد عرَفتم أني نبيٌّ مرسَل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم))، قالوا: يا محمدُ، إنك ترى أنَّا قومك، لا يغرنَّك أنك لقيتَ قومًا لا علم لهم بالحرب، فأصبتَ منهم فرصة، إنا والله لئن حاربنا لتعلمنَّ أنَّا نحن الناس.


    فما نزل هؤلاء الآيات إلا فيهم: ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا ﴾ [آل عمران: 12، 13]؛ أي: أصحاب بدر من أصحابِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقريش، ﴿ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [آل عمران: 13].


    فكان بنو قينقاع أولَ يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحارَبوا فيما بين بدر وأُحُد، فحاصَرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى نزَلوا على مكة، فقام إليه عبدُالله بنُ أبيٍّ ابن سلول حين أمكنه اللهُ منهم، فقال: يا محمد، أحسِنْ في موالي، وكانوا حلفاء الخزرج، فأبطأ عليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد، أحسِنْ في موالي، فأعرَض عنه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فأدخل يدَه في جيب درع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أرسِلْني))، وغضِب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى رأَوْا لوجهه ظللاً[12]، ثم قال: ((ويحك! أرسِلْني))، قال: لا، واللهِ لا أُرسِلُك حتى تُحسِنَ في موالي، أربعمائة حاسرٍ[13] وثلاثمائة دارع[14]، قد منعوني الأحمر والأسود، تحصدهم في غداةٍ واحدة، إني والله امرؤٌ أخشى الدوائر، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هم لك))، وأمَر بهم أن يُجلَوا عن المدينة، وتولى أمرَ إجلائهم عُبادةُ بن الصامت، فلحقوا بأذرعات، وتولى قبض أموالهم محمدُ بن مَسلَمة؛ حيث تم تقسيمُها بين الصحابة بعد إخراج الخُمُس للرسول - صلى الله عليه وسلم.


    حيث مشى عُبادةُ بن الصامت - رضي الله عنه - إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أحد بني عوف لهم في حلفه مثل الذي لهم من عبدالله بن أُبيٍّ، فخلَعهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتبرَّأ إلى الله -تعالى- وإلى رسولِ الله مِن حِلفهم، وقال: يا رسول الله، أتولَّى اللهَ ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم، ففيه وفي عبدالله بن أبي نزلت هذه القصة من المائدة: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ﴾ [المائدة: 51، 52]؛ أي: كعبدِالله بن أُبَيٍّ وقوله: إني أخشى الدوائر، ﴿ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ﴾ [المائدة: 52]، إلى قولِه: ﴿ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ [المائدة: 56] [15].


    واستعمَل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على المدينة في محاصرته إياهم بشير بن عبدالمنذر، وكانت محاصرتُه إياهم خمسَ عَشْرةَ ليلةً[16].


    وذكر ابن هشام سببًا آخر للغزوة فقال:
    كان من أمر بني قَيْنُقاع أن امرأةً من العرب قدمت بجلب[17] لها، فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغٍ بها، فجعلوا يريدونها على كشفِ وجهها، فأبت، فعهد الصائغُ إلى طرف ثوبها فعَقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتُها، فضحِكوا بها، فصاحت، فوثب رجلٌ من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديًّا، فشدت اليهودُ على المسلم فقتَلوه، فاستصرخ أهلُ المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون، فوقع الشرُّ بينهم وبين بني قينقاع[18].


    وقد يكونُ كلاهما حدَث، والله أعلم.


    قوله:
    ................
    وبعدُ ضَحَّى يَوْم عيدِ النَّحْرِ

    قال ابن سيِّدِ الناس - رحمه الله -:
    "وفي السنة الثانية: ضحَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بكبشين، أحدهما عن أُمَّتِه، والآخر عن محمدٍ وآله"[19].


    وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: ضحَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحَيْن، فرأيتُه واضعًا قدمه على صِفاحهما، يُسمِّي ويُكبِّر، فذبحهما بيده[20].


    وعن جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - قال: شهدتُ الأضحى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمصلَّى، فلما قضى خطبتَه أتى بكبشٍ فذبحه بيده، وقال: ((بسم الله، وبالله، اللهم إن هذا عنِّي، وعمن لم يُضَحِّ من أمتي))[21].


    قوله:
    وَغَزْوَةُ السَّويقِ.....
    ..............

    وكانت غزوةُ السَّويق في ذي الحجة من العام الثاني للهجرة[22].


    "وكان أبو سفيان حين رجَع إلى مكة، ورجع فل[23] قريشٍ من بدرٍ، نذر ألا يمس رأسه ماء من جنابةٍ[24] حتى يغزو محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فخرج في مائتي راكبٍ من قريشٍ؛ ليبَرَّ يمينه، فسلك النجدية، حتى نزل بصدر قناةٍ إلى جبلٍ يقال له: ثيبٌ، من المدينة على بريدٍ أو نحوه، ثم خرج من الليل، حتى أتى بني النضير تحت الليل، فأتى حييَّ بن أخطب، فضرب عليه بابه، فأبى أن يفتح له بابه وخافه، فانصرف عنه إلى سلام بن مشكمٍ، وكان سيدَ بني النضير في زمانه ذلك، وصاحب كنزهم[25]، فاستأذن عليه، فأذِن له، فقراه[26] وسقاه، وبطن[27] له من خبر الناس.


    ثم خرج في عقب ليلته حتى أتى أصحابه، فبعث رجالاً من قريشٍ إلى المدينة، فأتوا ناحيةً منها، يقال لها: العريض[28]، فحرقوا في أصوارٍ من نخلٍ[29] بها، ووجدوا بها رجلاً من الأنصار وحليفًا له في حرثٍ لهما، فقتلوهما، ثم انصرفوا راجعين، ونذر بهم الناس، فخرَج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في طلبهم، واستعمل على المدينة بشير بن عبدالمنذر، وهو أبو لبابة، حتى بلغ قرقرة الكدر[30]، ثم انصرف راجعًا، وقد فاته أبو سفيان وأصحابُه، وقد رأوا أزوادًا من أزواد القوم قد طرحوها في الحرث يتخفَّفون منها للنَّجَاء، فقال المسلمون حين رجع بهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، أتطمع لنا أن تكون غزوة؟ قال: ((نعم)).


    قال ابن هشامٍ: وإنما سُمِّيت غزوة السويق؛ لأن أكثر ما طرح القوم من أزوادهم السَّويقُ[31]، فهجم المسلمون على سويقٍ كثيرٍ، فسميت غزوةَ السويق"[32].


    قوله:
    ........ ثُمَّ قَرْقَرَهْ
    ..............

    أي: ثم بعد غزوة السويق كانت غزوة قرقرة الكُدر، إلى بني سليمٍ وغطفان، للنصف من المحرَّم، على رأس ثلاثةٍ وعشرين شهرًا، غاب خمس عشرة ليلةً.


    وكان الذي هاجه على ذلك: أنه بلغه أن بها جمعًا من غطفانَ وسليمٍ، فسار رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم، وأخَذ عليهم الطريق حتى جاء، فرأى آثار النَّعم ومواردَها، ولم يجد أحدًا، فوجد رعاءً فيهم غلامٌ يُقال له: يسارٌ، فسألهم عن الناس، فقال يسارٌ: لا علمَ لي بهم، وإنما نحن عزابٌ[33] في النَّعم.


    فانصرف رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وقد ظفِر بالنَّعم، فانحدر به إلى المدينة، واقتسموا غنائمَهم، وكانت النعم خمسمائة بعيرٍ، فأخرج خمسه، وقسم أربعة أخماسه على المسلمين، فأصاب كلُّ رجلٍ منهم بعيرين، وكانوا مائتي رجلٍ، وصار يسارٌ في سهمِ النبي - صلى الله عليه وسلم - فأعتقه؛ وذلك أنه رآه يصلي، وغاب رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خمس عشرة ليلةً"[34].


    قوله:
    ................
    والغَزْوُ في الثَّالثةِ المُشتَهِرَهْ
    في غَطَفانَ، وبَنِي سُلَيْمِ
    ...............

    ثم في السنة الثالثة غزا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - غزوةَ ذي أمر[35]، وهو موضع بنجد من بلاد غَطَفان[36].


    قال خليفة بن حياط - في أحداث السنة الثالثة -: "ثم غزا نجدًا يُريد غَطَفان، وهي غزوة ذي أمر حتى دخَل صفر"[37].


    قال الواقدي:
    "ذو أمر بناحية النخيل، وكانت في شهر ربيعٍ الأول على رأس خمسةٍ وعشرين شهرًا من مُهاجَرِه؛ وذلك أنه بلغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أن جمعًا من ثعلبة ومحارب بذي أمر قد تجمَّعوا يريدون أن يصيبوا من أطراف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمَعهم رجلٌ منهم يقال له: دعثور بن الحارث، من بني محاربٍ، فندب رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين، وخرج لاثنتي عشرة ليلةً مضت من شهر ربيعٍ الأول في أربعمائة وخمسين رجلاً، ومعهم أفراسٌ، واستخلف على المدينة عثمانَ، فأصابوا رجلاً منهم بذي القصة، يقال له: حبان، من بني ثعلبةَ، فأدخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبَره مِن خبَرِهم، وقال: لن يلاقوك، لو سمعوا بمسيرك لهربوا في رؤوس الجبالِ، وأنا سائرٌ معك، فدعاه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام فأسلَم، وضمَّه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بلالٍ، ولم يلاقِ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أحدًا، إلا أنه ينظُر إليهم في رؤوس الجبال، وأصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مطرٌ، فنزع رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثوبيه ونشرهما ليجفَّا، وألقاهما على شجرةٍ واضطجع، وجاء رجلٌ من العدو يقال له: دعثور بن الحارث، ومعه سيفٌ حتى قام على رأسِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: ومن يمنَعُك مني اليوم؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الله))، ودفع جبريلُ في صدره فوقع السيفُ من يده، فأخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال له: ((من يمنَعُك مني))؟ قال: لا أحد، أشهد أن لا إله إلا اللهُ، وأشهد أن محمَّدًا رسولُ الله[38].


    ثم أتى قومَه، فجعل يدعوهم إلى الإسلام، ونزلت هذه الآية: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ﴾ [المائدة: 11] الآية، ثم أقبَل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يَلْقَ كيدًا.

    وكانت غيبتُه إحدى عشرة ليلةً[39].


    ثم كانت بعد ذلك غزوة بني سُلَيمٍ، بناحية الفرع[40].


    قال الواقدي:
    "غزوة بني سُلَيمٍ ببحران بناحية الفرع لليالٍ خلَوْن من جمادى الأولى، على رأس سبعةٍ وعشرين شهرًا، غاب رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عشرًا.


    لما بلغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أن جمعًا من بني سُليمٍ كثيرًا ببحران، تهيأ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لذلك ولم يظهر وجهًا، فخرج في ثلاثمائة رجلٍ من أصحابه فأسرعوا السير، حتى إذا كانوا دون بحران بليلةٍ، لقي رجلاً من بني سُلَيمٍ، فاستخبروه عن القوم وعن جمعهم، فأخبرهم أنهم قد افترقوا أمس، ورجعوا إلى مائهم، فأمر به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فحبس مع رجلٍ من القوم، ثم سار النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى ورَد بحران، وليس به أحدٌ، وأقام أيامًا ثم رجع، ولم يَلْقَ كيدًا، وأرسل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الرجلَ.


    وكانت غيبته عشر ليالٍ.


    واستخلف رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على المدينة ابن أم مكتومٍ"[41].


    قوله:
    .................
    وأُمُّ كُلثومَ ابنةُ الكَرِيمِ
    زوَّج عُثمانَ بها، وخصَّهْ
    ...............


    قال ابنُ كثير - رحمه الله -:
    وفي السنة الثالثة عقَد عثمانُ بن عفان على أم كلثومٍ بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاة أختها رقية، وكان عقدُه عليها في ربيعٍ الأول منها، وبنى بها في جمادى الآخرة منها[42].


    وقد خص عثمان - رضي الله عنه - بأن تزوَّج باثنتينِ من بنات النبي - صلى الله عليه وسلم - ولذلك لقِّب - رضي الله عنه - بذي النُّورين.


    قوله:
    ...................
    ثم تزوج النبي حفصه


    قال ابنُ جريرٍ الطبريُّ - رحمه الله -:
    وفي السنه الثالثة تزوَّج النبي - صلى الله عليه وسلم - حفصةَ بنتَ عمر في شعبان، وكانت قبله تحت خنيس بن حذافةَ السَّهمي فتوفِّي عنها[43].


    وعن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - أن عمرَ بن الخطاب حين تأيَّمت حفصة بنت عمر من خُنَيس بن حذافة السهمي، وكان من أصحابِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتوفي بالمدينة، فقال عمرُ بن الخطاب: أتيت عثمانَ بن عفان، فعرضتُ عليه حفصة، فقال: سأنظر في أمري، فلبثتُ ليالي ثم لقيني، فقال: قد بدا لي ألا أتزوج يومي هذا، قال عمرُ: فلقيت أبا بكرٍ الصديقَ، فقلت: إن شئتَ زوجتك حفصةَ بنت عمر، فصمت أبو بكرٍ فلم يرجع إلي شيئًا، وكنت أوجدَ عليه مني على عثمان، فلبثت ليالي، ثم خطبها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فأنكحتُها إياه، فلقيني أبو بكرٍ، فقال: لعلك وجدتَ عليَّ حين عرضتَ علي حفصة فلم أرجع إليك شيئًا؟ قال عمر: قلت: نعم، قال أبو بكرٍ: فإنه لم يمنعني أن أرجعَ إليك فيما عرضتَ علي، إلا أني كنت علمتُ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ذكَرها، فلم أكن لأفشيَ سرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو ترَكها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبِلْتُها[44].


    قوله:
    وزَيْنبًا........
    ...............


    ثم تزوج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بعد حفصةَ زينبَ بنت خزيمة الهلالية أم المساكين[45] في رمضانَ من السنة الثالثة.


    قال خليفة بن خياط - رحمه الله -:
    "وفي هذه السنة - الثالثة - تزوَّج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - زينبَ بنت خزيمة من بني عامر بن صعصعة، وهي أمُّ المساكين، في رمضان، فعاشت عنده شهرين أو ثلاثةً"[46].


    [1] تاريخ الطبري (2/ 418).
    [2] عيون الأثر (2/ 352).
    [3] البداية والنهاية (5/ 312).
    [4] أخرجه الحاكم في المستدرك (4959)، وقال: "هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط مسلمٍ، ولم يخرجاه"، والبيهقي في الدلائل (3/ 187).
    [5] البداية والنهاية (5/ 313).
    [6] صحيح: أخرجه أبو داود (2125)، والنسائي في الكبرى (5542)، وأبو يعلى في مسنده (2439)، وابن حبان في صحيحه (6945)، والضياء في المختارة (281)، وصحَّحه الألباني: صحيح أبي داود (6/ 350).
    الحُطَمية: نسبة إلى بطن من عبدالقيس، يقال لهم: حطمة بن محارب، كانوا يعمَلون الدروع.
    وقيل: من الحطم وهو الكسر؛ لأنها تكسر السيوف.
    [7] أخرج ذلك محمد بن سعد في طبقاته (4/ 31)، من طريق الواقديِّ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: أسلَم العباس بمكة قبل بدرٍ.
    [8] أخرجه أحمد في فضائل الصحابة (1782)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (347)، والحاكم في المستدرك (4988)، وقال: "صحيحٌ على شرط مسلمٍ، ولم يخرجاه"، وأبو نعيمٍ في معرفة الصحابة (6298)، والبيهقي في الدلائل (3/ 104)، جميعُهم من طريق ابن إسحاق عن العباس بن عبدالله بن معبد، عن بعض أهله، عن عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما - به، سوى الحاكم، فقد جاء في روايته: عن العباسِ بن عبدالله بن معبد، عن أبيه؛ فلو صحت روايةُ الحاكم، لكان رجالُ السند جميعُهم ثقات، سوى ابن إسحاق، وهو صدوقٌ، وفي الحديث أيضًا عنعنة ابن إسحاق.
    [9] وهذا القول لا يعارضُ قول من قال: إنه أسلم قبل بدر، وكذلك لا يعارض قول من قال: إنه أسلم يوم بدر؛ لأنه مَن أسلم قبل بدر أو يومها، فقد أسلم قبل خيبر؛ إلا إن قصد صاحب هذا القول أنه أسلم قبل خيبر بقليل، وليس في كلامه ما يدل على ذلك.
    [10] وسروره هذا بفتح الله - تعالى - على المسلمين مما يشهد أنه كان مسلمًا قبل خيبر؛ روى الإمام أحمد (12409)، وعبدالرزاق في المصنف (9771)، والنسائي في الكبرى (8592)، وعبد بن حميد (1288)، وأبو يعلى في مسنده (3479)، وابن حبَّان في صحيحه (4530)، والضياء في المختارة (1807)، جميعُهم بسند صحيح، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه- قال: لما افتتح رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر قال الحجاج بن علاطٍ: يا رسول الله، إن لي بمكةَ مالاً، وإن لي بها أهلاً، وإني أريد أن آتيهم، فأنا في حلٍّ إن أنا نلتُ منك أو قلت شيئًا؟ فأذِن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول ما شاء، فأتى امرأتَه حين قدم فقال: اجمعي لي ما كان عندك؛ فإني أريد أن أشتريَ من غنائم محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه؛ فإنهم قد استُبيحوا وأصيبت أموالهم، قال: ففشا ذلك بمكة، فانقمع المسلمون، وأظهر المشركون فرحًا وسرورًا، قال: وبلغ الخبرُ العباسَ فعُقر، وجعل لا يستطيع أن يقوم، قال معمرٌ: فأخبرني عثمان الجزري، عن مقسمٍ قال: فأخذ ابنًا له يُقال له: قُثَم، فاستلقى فوضَعه على صدره وهو يقول:
    حِبِّي قُثَمحبِّي قُثَمْ
    شبيهُ ذي الأنفِ الأشَمْ
    نَبيُّ [ربِّ] ذي النِّعم
    برَغْمِ [أنف] مَن رغِمْ
    قال ثابتٌ عن أنسٍ: ثم أرسل غلامًا إلى الحجاج بنعلاطٍ: ويلكَ ما جئت به، وماذا تقول؟ فما وعد الله خيرٌ مما جئتَ به، قال الحجاج بن علاطٍ لغلامه: اقرأ على أبي الفضل السلامَ، وقل له: فليُخْلِ لي في بعض بيوته لآتيه، فإن الخبر على ما يسره، فجاء غلامه فلما بلغ باب الدار، قال: أبشِرْ يا أبا الفضل، قال: فوثب العباسُ فرحًا، حتى قبَّل بين عينيه، فأخبره ما قال الحجاج، فأعتقه، ثم جاءه الحجاجُ، فأخبره أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قد افتتح خيبر، وغنِم أموالهم، وجرت سهام الله - عز وجل - في أموالهم، واصطفى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - صفيةَ بنت حيي فاتَّخذها لنفسه، وخيَّرها أن يعتقها وتكون زوجته، أو تلحق بأهلها، فاختارت أن يعتقَها وتكون زوجته.
    ولكني جئت لمالٍ كان لي ها هنا، أردت أن أجمعَه فأذهب به، فاستأذنت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فأذِن لي أن أقول ما شئتُ، فأخفِ عني ثلاثًا، ثم اذكر ما بدا لك، قال: فجمعتِ امرأتُه ما كان عندها من حليٍّ ومتاعٍ، فجمعَتْه فدفعته إليه، ثم استمرَّ به، فلما كان بعد ثلاثٍ أتى العباسُ امرأة الحجاج، فقال: ما فعل زوجك؟ فأخبرَتْه أنه قد ذهب يوم كذا وكذا، وقالت: لا يحزنك الله يا أبا الفضل، لقد شق علينا الذي بلَغك، قال:أجل لا يخزيني الله، ولم يكن بحمد الله إلا ما أحببنا؛ فتَح الله خيبر على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وجَرَتْ فيها سهامُ الله، واصطفى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - صفية بنت حيي لنفسه، فإن كانت لكِ حاجةٌ في زوجك فالحقي به، قالت: أظنُّك والله صادقًا، قال: فإني صادقٌ، الأمر على ما أخبرتُكِ.
    فذهب حتى أتى مجالس قريشٍ وهم يقولون إذا مرَّ بهم: لا يصيبك إلا خيرٌ يا أبا الفضل، قال لهم: لم يُصِبْني إلا خيرٌ بحمد الله، قد أخبرني الحجاج بن علاطٍ أن خيبر قد فتَحها الله على رسوله، وجرت فيها سهام الله، واصطفى صفيةَ لنفسه، وقد سألني أن أخفيَ عنه ثلاثًا، وإنما جاء ليأخذ ماله، وما كان له من شيءٍ ها هنا، ثم يذهب، قال: فرد الله الكآبة التي كانت بالمسلمين على المشركين، وخرج المسلمون، ومن كان دخل بيته مكتئبًا حتى أتوا العباس، فأخبرهم الخبر، فسُرَّ المسلمون، ورد الله ما كان من كآبةٍ أو غيظٍ أو خزيٍ على المشركين.
    [11] ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى (191).
    [12] الظُّلل: جمع ظلة، وهو في الأصل السحابة، فاستعارها هنا لتغيُّر وجه النبي - صلى الله عليه وسلم.
    [13] الحاسر: الذي لا دِرْع له.
    [14] الدارع: لابس الدرع.
    [15] "سيرة ابن هشام" 2/238، 240. بتصرف.
    [16] "سيرة ابن هشام" 2/239.
    [17] الجلَب: كل ما يُجلَب إلى السوق ليباع فيها.
    [18] "سيرة ابن هشام" 2/239.
    [19] عيون الأثر (2/ 352).
    [20] متفق عليه: أخرجه البخاري (5558)، ومسلم (1966).
    [21] صحيح الإسناد: أخرجه أبو داود (2795، 2810)، والترمذي (1521)، وقال: هذا حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه، وابن ماجه (3121)، وأحمد (14895)، والدارمي (1989)، وابن خزيمة (2899)، وقال الألباني في الإرواء (4/349): صحيحُ الإسناد.
    [22] سيرة ابن هشام (2/ 44).
    [23] الفل: المنهزم، والجميع: الفلول والفلال؛ معجم العين (8/ 316).
    [24] قال السهيلي في الروض الأنف (5/ 271): في هذا الحديث أن الغسل من الجنابةِ كان معمولاً به في الجاهلية بقيةً من دين إبراهيم وإسماعيل؛ كما بقي فيهم الحجُّ والنكاح؛ اهـ.
    [25] يقصد المال الذي كانوا يجمَعونه لنوائبهم وما يعرِض لهم.
    [26] قراه: أي صنَع له القرى، وهو طعام الضيف.
    [27] أي: أعلمه من سرهم.
    [28] العريض: تصغير عرض أو عرض، وهو وادٍ بالمدينة؛ معجم البلدان (4/ 114).
    [29] أصوار:، هي جمع صورٍ، والصور نخلٌ مجتمعةٌ؛ الروض الأنف (5/ 272).
    [30] قَرقرة الكُدر: بفتح القاف، وضم الكاف، والقرقرة: قاع قبيل خيبر مما يلي المدينةَ على ستة أكيال من خيبر يطؤه الطريق، ويُشرف عليه من الغرب جبل الصهباء، وهما في سواء الحرَّة، حرة النار المعروفة اليوم بحرَّة خيبر؛ انظر: معجم البلدان (4/ 326)، والمعالم الأثيرة في السنة والسيرة (224).
    قال السهيلي "الروض الأنف (5/ 270)": القرقرة: أرضٌ ملساء، والكُدر: طيرٌ في ألوانها كدرةٌ؛ عُرِف بها ذلك الموضع.
    [31] السويق: أن تحمص الحنطة أو الشعير ثم تطحن، وقد تمزج باللبن والعسل والسَّمن تُلَتُّ به.
    [32] سيرة ابن هشام (2/ 44، 45).
    [33] عزب الرجل بإبله: إذا رعاها بعيدًا من الدار التي حل بها الحي؛ لسان العرب (1/ 597).
    [34] مغازي الواقدي (1/ 182، 183)، وعيون الأثر (1/ 347).
    [35] بلفظ الفعل من أمر يأمر، والأمر: في الأصل الحجارة تُجعَل كالأعلام، قال الفراء: يقال ما بها أمرٌ؛ أي: عَلَم، ومنه: بيني وبينك أمارة؛ أي: علامة؛ معجم البلدان (1/ 252).
    [36] معجم البلدان (1/ 252)، ومغازي الواقدي (1/ 139).
    [37] تاريخ خليفة بن خياط (65).
    [38] قال البيهقي في دلائل النبوة (3/ 169): وقد رُوي في غزوة ذات الرقاع قصةٌ أخرى في الأعرابي الذي قام على رأسِه بالسيف، وقال: من يمنَعُك مني؟ فإن كان الواقدي قد حفِظ ما ذكر في هذه الغزوة، فكأنهما قصتانِ، والله أعلم.
    [39] مغازي الواقدي (1/ 193، 194)، وانظر: دلائل النبوة للبيهقي (3/ 167- 169)، وعيون الأثر (1/ 355، 356).
    [40] الفرع: وادٍ من أودية الحجاز، يمر على 150 كيلاً جنوب المدينة المنورة، كثير العيون والنخل والنزل، سكَّانه بنو عمرو بن حربٍ؛ معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية (236).
    [41] مغازي الواقدي (196، 197).
    [42] السيرة النبوية (3/ 120).
    [43] تاريخ الطبري (2/ 499).
    [44] صحيح: أخرجه البخاري (5122).
    [45] قال محمد بن سعد "الطبقات (8/ 91)": كانت تسمَّى بذلك في الجاهلية.
    [46] تاريخ خليفة بن خياط (66)، وانظر: تاريخ الطبري (2/ 545)، وعيون الأثر (2/ 352).
    وقال محمد بن سعد الطبقات (8/ 91) :فمكثت عنده ثمانية أشهرٍ، وتوفِّيت في آخر شهر ربيع الآخر.




    رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/72929/#ixzz3rgHuIsPb
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

  18. #18
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي

    قوله:
    . . . . . ثم غزَا إلى أُحُدْ
    في شهرِ شوَّالٍ وحمراءِ الأسَدْ
    لم تهدأ قريشٌ ولم يسكن لها بالٌ منذ انتهاء وقعة بدر، بل ظلت في غيظ شديد وغليانٍ مما حدث؛ فقد قتل زعماؤها وكُسِر كبرياؤها، وضاعت هيبتها أمام العرب، وأصبح زعماؤها مطالبين بالثأر واسترداد الكرامة.


    فأخذوا يعدون لذلك منذ رجوعهم من بدر.


    بل قيل: إنهم خصصوا القافلةَ التي نجت من المسلمين يوم بدر لهذا الأمر[1].


    وبعد مرور ثلاثة عشر شهرًا فقط من وقعة بدر جهَّزت قريش جيشًا تعداده ثلاثة آلاف مقاتل، معهم مئتا فرس، وجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل[2]، ثم خرَجوا لمحاربة المسلمين، وخرج معهم مَن أطاعهم مِن قبائل كنانة، وأهل تهامةَ[3].


    وقد رأى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هذا في رؤيا منامية قبل عِلمه بقدوم المشركين، وقصها على أصحابه - رضوان الله عليهم- فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((رأيتُ في رؤياي أني هززتُ سيفًا فانقطع صدرُه، فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحدٍ، ثم هززتُه أخرى فعاد أحسنَ مما كان، فإذا هو ما جاء به اللهُ من الفتح واجتماع المؤمنين، ورأيتُ فيها بقرًا، والله خيرٌ، فإذا هم المؤمنون يوم أحدٍ))[4]؛ أي: هم المؤمنون الذين قُتِلوا يوم أُحُد.


    وفي رواية: ((ورأيت أني في درعٍ حصينةٍ فأوَّلتُها المدينة))[5].


    ثم أُخبِر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقدوم المشركين فجمع أصحابه وأشار عليهم فقال لهم: ((لو أنا أقمنا بالمدينة فإن دخَلوا علينا فيها قاتلناهم))، فقالوا: يا رسول الله، واللهِ ما دُخِل علينا فيها في الجاهلية، فكيف يُدخَل علينا فيها في الإسلام؟ فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((شأنكم إذًا))، ولبِس - صلى الله عليه وسلم - لَأْمَتَه، فقالت الأنصار: رددنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأيَه، فجاؤوا فقالوا: يا نبيَّ الله، شأنك إذًا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنه ليس لنبيٍّ إذا لبِس لَأْمَتَه أن يضعَها حتى يقاتل))[6].


    فخرج النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بجيش تعداده ألف مقاتل، معهم فرسانِ فقط، ومائة دارع[7].


    ولبِس النبي - صلى الله عليه وسلم - درعين[8].


    واستعمل على المدينة ابنَ أم مكتوم للصلاة بالناس[9].


    ثم سار بالجيش متوجهًا إلى أُحُدٍ[10] حتى إذا كانوا بالشوط بين المدينة وأُحُد، انخزل عنه عبدُالله بن أبيٍّ ابنُ سلول بثُلُث الجيش، وقال: أطاعهم وعصاني[11]، ما ندري علامَ نقتُل أنفسنا ها هنا أيها الناس، فرجع بمن اتبعه من قومِه من أهل النفاق والريب، واتبعهم عبدالله بن عمرو بن حرام، أخو بني سلِمة، يقول: يا قومِ، أذكِّركم الله أن تخذلوا قومكم ونبيَّكم عندما حضر من عدوهم، فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لَمَا أسلمناكم، ولكنا لا نرى أنه يكونُ قتال[12].


    وفي ذلك يقول الله - تعالى -: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُ مْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ﴾ [آل عمران: 166، 167].


    وما جعل الله ذلك إلا لِيَمِيزَ الخبيث من الطيب.


    يقول الله - تعالى -: ﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾ [آل عمران: 179].


    وكاد بنو سلِمةَ وبنو حارثة أن يفشلا ويتبعا المنافقين لولا أن ثبَّتهم الله.


    وفي ذلك يقولُ الله - تعالى -: ﴿ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [آل عمران: 122][13].


    ولما رجَع المنافقون وتركوا الجيش قال فريقٌ من أصحاب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: نُقاتِلهم، وقال فريق آخر: لا نُقاتِلهم، فأنزل الله - تعالى -: ﴿ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا ﴾ [النساء: 88]، وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إنها طَيْبَةُ تنفي الذنوبَ كما تنفي النارُ خَبَثَ الفضَّةِ))[14].


    وفي الطريق استعرض النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الجيش فردَّ صغار السن، ومنهم عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - وكان عمره أربع عشرةَ سنة[15].


    وأخذ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - سيفًا وقال: ((من يأخُذ هذا السيف بحقِّه؟))، فقام إليه رجال كلٌّ يقول: أنا، أنا، فأمسكه عنهم وقال: ((من يأخُذُه بحقه؟))، فقام أبو دُجانةَ سِماك بن خرشة وقال: وما حقُّه يا رسول الله؟ قال: ((أن تضربَ به العدو حتى ينحني))، فقال: أنا آخذه يا رسول الله بحقه، فأعطاه إياه، وكان أبو دجانةَ رجلاً شجاعًا يختال عند الحرب، وكان إذا أعلَم بعصابة له حمراء فاعتصب بها، علِم الناس أنه سيقاتل، فلما أخذ السيفَ مِن يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخرج عصابتَه تلك، فعصب بها رأسَه، ثم جعل يتبخترُ بين الصفين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رأى أبا دُجانةَ يتبختر: ((إنها لَمِشية يُبغِضها اللهُ إلا في هذا الموطن))[16].


    وتقدَّم الجيش الإسلامي إلى ميدانِ أُحُد، وأخذ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُنظِّمُ مواقع الجيش ويُملِي على الجند خُطَّتَه، فجعل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَجْهَ جيشِه إلى المدينةِ وظهرَه إلى جبل أُحُدٍ؛ لحماية ظهر المسلمين من أن يداهمَهم أحَدٌ من خلفهم، ثم عزز ذلك بخمسين راميًا، بقيادة عبدالله بن جُبير - رضي الله عنه - أوقفهم على جبلِ عينين[17] الذي يقع خلف جبل أُحُدٍ، حتى إذا فكر أحدٌ في مباغتة المسلمين من الخلف، أمطَروه بوابلٍ من النبال فمنَعوه من ذلك، وشدد عليهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بلزوم أماكنِهم، وعدم مغادرةِ الجبل تحت أي ظرف من الظروف، فقال لهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إن رأيتمونا تخطَّفُنا الطيرُ، فلا تبرَحوا حتى أرسلَ إليكم، وإن رأيتمونا ظهَرْنا على العدو وأوطأناهم، فلا تبرَحوا حتى أرسلَ إليكم))[18].


    وبذلك سيطر المسلمون على مرتفعاتِ الميدان؛ فأصبحوا في مأمن من أن يباغتَهم أحَدٌ من الخلف، وأصبحوا لا يفكِّرون إلا في جبهة واحدة، بخلاف المشركين الذين عسكروا في وادي أُحُدٍ المكشوف من كل جوانبه، فتميَّز عنهم المسلمون بالموقع، رغم وصول المشركين إلى المكانِ قبلهم، ولكنها عبقريةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - القائد.


    وبدأت المعركةُ بمبارزة بين حمزة - رضي الله عنه - وبين رجلٍ من المشركين يقال له: سباع؛ حيث خرَج سباع هذا من بين الصفوف - لما اصطف الفريقانِ للقتال - فقال: هل من مبارزٍ؟ فخرَج إليه حمزةُ - رضي الله عنه - فقال: يا سباع، يا بنَ أمِّ أنمارٍ مقطِّعةِ البُظور[19]، أتُحادُّ الله ورسولَه؟ ثم شد عليه حمزةُ - رضي الله عنه - فقتَله[20]، ثم حانت ساعةُ القتال، فالتقى الفريقانِ، والتحم الجيشان، واشتد النزالُ بين جيش المسلمين المكوَّن من سبعمائة مقاتلٍ بعد انسحاب المنافقين؛ عبدالله بن أبي ابن سلول ومَن معه مِن المنافقين، وجيش المشركين البالغ عدده ثلاثة آلاف مقاتل، فكانت الغلَبةُ أولاً للمسلمين؛ حيث ألحقوا بالمشركين هزيمةً نكراءَ، وردُّوهم إلى معسكرهم، وقاتل أبو دُجانةَ بسيفِ النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى فلَق به هَامَ المشركين[21]، حتى قتل في أولِ النهار من أصحاب لواء المشركين سبعةً أو تسعة[22].


    وفي ذلك يقول الله - تعالى -: ﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ ﴾ [آل عمران: 152][23]؛ أي: ولقد صدقكم اللهُ وعدَه أيها المؤمنون الذي وعَدكم إياه إن أطعتم اللهَ ورسولَه، أنَّ لكم النصرَ على الأعداء.


    وفي وسط المعركة جاء رجلٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أرأيتَ إن قُتِلْتُ فأين أنا؟ قال: ((في الجنة))، فألقى تمراتٍ في يده ثم قاتَل حتى قُتل[24].


    مخالفة الرماةِ أمرَ النبي - صلى الله عليه وسلم -:
    فلما انهزم المشركون وفرُّوا من الميدان، وترَكوا أموالهم وأمتعتهم في ساحة المعركة، ورأى الرماةُ ذلك ترَكوا أماكنهم على الجبل، ونزَلوا وهم يقولون: الغنيمة، الغنيمة، فقال لهم عبدُالله بن جُبير - رضي الله عنه -: عهد إليَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ألا تبرَحوا، فأبَوا[25].


    فلما ترَكوا الجبل ونزلوا، انكشف ظهرُ المسلمين، فرأى المشركون الفرصةَ سانحة للالتفات حولهم ومحاصرتهم، ففعلوا ذلك، وأحاطوا بالمسلمين من الخلف والأمام، فارتبكت صفوفُ المسلمين ارتباكًا شديدًا، وأصبحوا يقاتِلون دون تخطيط[26]، واستغل إبليسُ - عليه لعنة اللهِ - الفرصةَ، فصرخ في المسلمين: أي عبادَ الله، أخراكم، فرجعت أولاهم فاجتلدت مع أخراهم، وأخذ المسلمون يضربُ بعضهم بعضًا، حتى إن حذيفةَ بن اليمان - رضي الله عنه - رأى أباه اليَمَانَ - رضي الله عنه - يضرِبُه المسلمون، فقال: أي عباد الله، أَبي أَبي، فما احتجزوا عنه حتى قتَلوه، فقال حذيفةُ: يغفِرُ اللهُ لكم[27].


    وفي وسط المعركة قُتِل مصعبُ بن عمير - رضي الله عنه - سفير النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينةِ قبل الهجرة، الذي قيل: إنه كان يحملُ لواء المهاجرين في هذه المعركة مع أُسَيد بن حُضَير الذي كان يحمل لواءَ الأوس، والخباب بن المنذر الذي كان يحملُ لواء الخزرج[28]، قتَله ابنُ قَمِئة الليثي، وهو يظُنُّ أنه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فرجع إلى قريشٍ فقال: قتلتُ محمدًا، فلما قُتل مصعبٌ - رضي الله عنه - أعطى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - اللواءَ عليَّ بن أبي طالب - رضي الله عنه[29].


    وصاح الشيطانُ وسط الميدان: قُتِل محمدٌ، فلم يشُكَّ أحَدٌ أنه حق[30].


    فلما انتشر الخبرُ وشاع بين صفوف المسلمين، خارت قوى بعض المسلمين، ولانت عزيمتُهم، حتى إنهم جلسوا عن القتال، فرآهم أنسُ بن النضر - رضي الله عنه - عمُّ أنسِ بن مالك - رضي الله عنه - فقال لهم: ما يُجلِسُكم؟ قالوا: قُتِل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فما تصنعون بالحياةِ بعده؟ فموتوا على ما مات عليه، ثم استقبَل القوم فقاتَل حتى قُتِل[31].


    وكان أنَسُ بن النضر - رضي الله عنه - لم يشهَدْ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - غزوةَ بدر، فقال: غِبْتُ عن أول قتالِ النبي - صلى الله عليه وسلم - لئن أشهَدني اللهُ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لَيَرينَّ اللهُ ما أصنع، فلما رأى ذلك من المسلمين يوم أُحُدٍ، قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنَع هؤلاء - يعني المسلمين - وأبرأ إليك مما جاء به المشركون، فتقدَّم بسيفه، فلقي سعدَ بن معاذٍ، فقال: أين يا سعد، إني أجد ريحَ الجنَّةِ دون أُحُدٍ، فقاتَلهم حتى قُتِل، فما عُرِف حتى عرَفَتْه أخته بشامة أو ببنانه، وبه بضعٌ وثمانون من طعنةٍ وضربة ورمية بسهم، فنزلت فيه وفي أصحابه: ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب: 23][32].


    وكما تقدم، فإن بعضَ القوم جلسوا عن القتال، وفرَّ آخرون بين الشعاب بعدما شاع بينهم خبرُ مقتلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم.


    أما النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فكان كالليث يُقاتِل بين الصفوف، وكان أول من عرف بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيٌّ هو كعبُ بن مالك - رضي الله عنه - فنادى في المسلمين يُبشِّرُهم، فأمره الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - بالسكوتِ؛ لئلا يفطن له المشركون[33].


    وظل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُقاتِلُ وحوله فئةٌ قليلة من الصحابة - رضوان الله عليهم - صمَدوا معه يدافعون عنه - صلى الله عليه وسلم.


    وقد تفطن المشركون إلى أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حيٌّ لم يُقتَلْ، فتكاثروا عليه يريدون قتله.


    وكان حول النبي - صلى الله عليه وسلم - تسعةٌ من الصحابة، سبعةٌ من الأنصار، واثنان من المهاجرين، فلما رهقوه[34] قال: ((من يردُّهم عنَّا وله الجنة، أو هو رفيقي في الجنة))، فتقدَّم رجلٌ من الأنصار فقاتَل حتى قُتِل، ثم رهقوه أيضًا فقال: ((من يردُّهم عنَّا وله الجنة، أو هو رفيقي في الجنة))، فتقدم رجلٌ من الأنصارِ فقاتَل حتى قُتل، فلم يزَلْ كذلك حتى قُتل السبعةُ من الأنصار، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصاحبيه: ((ما أنصَفْنا أصحابَنا))[35].


    وأخَذ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يدعو أصحابَه للعودة إلى القتال، وفي ذلك يقول اللهُ - تعالى -: ﴿ إِذْ تُصْعِدُونَ [36] وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ [37] وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ ﴾ [آل عمران: 153]؛ أي: والرسول يناديكم من خلفِكم: إليَّ عبادَ الله، إليَّ عبادَ الله[38].


    وكان طلحةُ بن عبيدالله ممن ثبَت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ودافَع عنه حتى شلَّت يدُه - رضي الله عنه - كان يقي بها النبيَّ - صلى الله عليه وسلم[39].


    وكان ممن ثبت أيضًا مع النبي سعدُ بن أبي وقاص - رضي الله عنه - وكان راميًا ماهرًا لا تكاد رميتُه تُخطئ، فنثل له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كنانتَه[40]، وجعل يقول له: ((ارمِ فداكَ أبي وأمي))[41].


    وممن ثبَت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يُدافِعُ عنه أبو طلحة زيدُ بن سهل الأنصاري - رضي الله عنه - فكان مُجوِّبًا على النبي - صلى الله عليه وسلم - بحجفةٍ له[42]، وكان أبو طلحة رجلاً راميًا شديد النزع[43]، كسر يومئذٍ قوسينِ أو ثلاثًا، وكان الرجلُ يمر معه جعبةٌ من النبلِ فيقول له النبي - صلى الله عليه وسلم -: انثُرْها لأبي طلحة، وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُشرِفُ برأسه لينظرَ إلى القوم، فيقول له أبو طلحة: بأبي أنت وأمي لا تُشرِفْ يُصيبُك سهمٌ من سهام القوم، نَحري دون نحرك[44].


    وكان يتترس مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بترس واحد، فكان كلما رمى رميةً رفَع النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بصَرَه ينظُر إلى أين وقَع السهم، فيدفع أبو طلحةَ صدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده، ويقول: يا رسول الله، هكذا لا يُصيبك سهمٌ[45].


    ورغم استبسال الصحابةِ - رضوان الله عليهم- في الدفاعِ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأنهم يفدونه بأرواحهم، فإن المشركين استطاعوا أن يصِلوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث جُرِح وجهه - صلى الله عليه وسلم - وكُسِرَت رَبَاعِيَتُه[46]، وهشمت البيضة على رأسه[47].


    جبريل وميكائيل ينزلانِ للدفاع عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
    لما حدث هذا للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وكاد المشركون أن يقتلوه، وقد تكفَّل اللهُ - تعالى - بعصمته من الناس؛ ﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ [المائدة: 67]، أنزَل الله - تعالى - جِبريلَ وميكائيل - عليهما السلام - يُدافعانِ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويمنعانِه من المشركين.


    عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: لقد رأيتُ يوم أُحُد عن يمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن يساره رجُلينِ عليهما ثيابٌ بيضٌ، يقاتلانِ عنه كأشدِّ القتال، ما رأيتُهما قبلُ ولا بعدُ؛ يعني جبريل وميكائيل - عليهما السلام[48].


    مقتَلُ أسَدِ الله حمزةَ - رضي الله عنه -:
    وفي تلك المعمعة كان هناك رجلٌ له هدفٌ آخر غيرُ الذي جاء من أجله الطرفان؛ فهو لا يشغَلُه من ينتصر، المسلمون أم المشركون، ولا يُهِمه ذلك الأمر كثيرًا، إنما كل الذي يشغَلُه هو التحرُّرُ مِن الرِّقِّ، وأن ينفك من قيود العبودية.


    وهذا الرجلُ هو وحشيٌّ - رضي الله عنه - الذي أسلَم بعد ذلك وحسُن إسلامُه.


    ولنتركه يقص علينا تفاصيلَ ما حدَث بنفسه - رضي الله عنه.


    يقول وحشيٌّ - رضي الله عنه -: إن حمزةَ قتَل طُعَيمة بن عدي بن الخيار ببدرٍ، فقال لي مولاي جُبَير بن مطعمٍ: إن قتَلتَ حمزة بعمي فأنت حرٌّ، قال: فلما أنْ خرج الناس عام عينين - وعينين جبلٌ بحيال أُحُدٍ بينه وبينه وادٍ - خرجتُ مع الناس إلى القتال، فلما أن اصطفوا للقتال خرج سباعٌ فقال: هل من مبارزٍ؟ فخرج إليه حمزةُ بن عبدالمطلب فقال: يا سباع، يا ابن أم أنمارٍ، مقطِّعة البُظور، أتُحادُّ اللهَ ورسوله؟ ثم شد عليه فكان كأمس الذاهب[49]، قال: وكمنتُ لحمزة تحت صخرةٍ، فلما دنا مني رميتُه بحربتي، فأضعها في ثُنَّته حتى خرجت من بين وَرِكيه[50]، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((رأيتُ الملائكة تغسل حمزةَ بن عبدالمطلب))[51].


    دور النساء في المعركة:
    عن أنس - رضي الله عنه - قال: ولقد رأيت عائشةَ بنت أبي بكرٍ وأم سليمٍ وإنهما لمشمِّرتان أرى خدم سوقهما[52]، تنقُزانِ القِرَب[53] على متونهما[54]، تُفرِغانه في أفواه القوم[55].


    وقال عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه -: إن أم سَليطٍ كانت تزفِرُ لهم القِرَب يوم أُحُدٍ[56].


    عدد مَن قُتل مِن المسلمين في هذه المعركة:
    عن البراءِ بن عازب - رضي الله عنه - أنه أصيب من المسلمين في هذه المعركة سبعون قتيلاً[57].


    وعن أُبيِّ بن كعبٍ - رضي الله عنه - قال: لما كان يومُ أُحدٍ أصيب من الأنصار أربعةٌ وستون رجلاً، ومن المهاجرين ستةٌ، منهم حمزة، فمثَّلوا بهم[58].


    وقيل: قُتل من المشركين اثنان وعشرون رجلاً[59].


    عمرو بن أقيش يدخُل الجنةَ وما صلى لله صلاة:
    عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن عمرو بن أقيشٍ كان له ربًا في الجاهلية، فكرِه أن يُسلِمَ حتى يأخذه، فجاء يوم أُحدٍ، فقال: أين بنو عمي؟ قالوا: بأُحدٍ، قال: أين فلانٌ؟ قالوا: بأُحدٍ، قال: فأين فلانٌ؟ قالوا: بأُحدٍ، فلبِس لَأْمَتَه، وركب فرسه، ثم توجَّه قِبلهم، فلما رآه المسلمون قالوا: إليك عنا يا عمرو، قال: إني قد آمنتُ، فقاتَل حتى جُرِح، فحُمِل إلى أهله جريحًا، فجاءه سعدُ بن معاذٍ، فقال لأخته: سَلِيه حميةً لقومِك، أو غضبًا لهم، أم غضبًا لله؟ فقال: بل غضبًا لله ولرسوله، فمات فدخَل الجنة وما صلى لله صلاةً[60].


    عبدالله بن حَرامٍ - رضي الله عنه - تُظِلُّه الملائكة بأجنحتِها، ويُكلِّمُه اللهُ من غير حجابٍ:
    عن جابرٍ بن عبدالله - رضي الله عنهما - قال: لما حضر أُحُدٌ دعاني أبي من الليل، فقال: ما أراني إلا مقتولاً في أولِ مَن يُقتَل مِن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وإني لا أترُكُ بعدي أعزَّ عليَّ منك غيرَ نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن علي دَينًا فاقضِ واستوصِ بأخواتك خيرًا، فأصبحنا فكان أولَ قتيلٍ، ودُفِن معه آخَرُ في قبرٍ، ثم لم تطِبْ نفسي أن أتركه مع الآخَر، فاستخرجتُه بعد ستة أشهرٍ فإذا هو كيوم وضعتُه هُنيَّة غير أذنه[61].


    وعن جابر أيضًا قال: لما كان يوم أُحد جيء بأبي مسجًّى وقد مُثِّل به، قال: فأردتُ أن أرفع الثوب فنهاني قومي، ثم أردتُ أن أرفع الثوب فنهاني قومي، فرفعه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أو أمَر به فرُفِع، فسمِع صوت باكية أو صائحةٍ فقال: ((مَن هذه؟))، فقالوا: بنت عمرٍو أو أخت عمرٍو، فقال: ((ولمَ تبكي؟ فما زالت الملائكة تُظِلُّه بأجنحتها حتى رُفِع)).


    وفي رواية لمسلم: ((تبكيه أو لا تبكيه، ما زالت الملائكةُ تظلُّه بأجنحتها حتى رفعتموه))[62].


    وعنه أيضًا قال: لقيني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: ((يا جابرُ، ما لي أراك منكسرًا؟)) قلت: يا رسول الله، استُشهد أبي، قُتل يوم أُحدٍ، وترك عيالاً ودَينًا، قال: ((أفلا أبشِّرُك بما لقي اللهُ به أباك؟))، قال: قلت: بلى يا رسول الله، قال: ((ما كلَّم اللهُ أَحدًا قط إلا من وراء حجابٍ، وأحيا أباك فكلَّمه كفاحًا، فقال: يا عبدي، تمنَّ عليَّ أُعطِكَ، قال: يا رب، تحييني فأقتل فيك ثانيةً، قال الربُّ - تعالى -: إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون، قال: وأُنزلت هذه الآية: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ [آل عمران: 169][63].


    حنظلة تغسله الملائكةُ:
    عن الزبير - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عند قتل حنظلةَ بن أبي عامر بعد أن التقى هو وأبو سفيان بن الحارث حين علاه شدادُ بن الأسود بالسيف فقتَله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن صاحبَكم تغسله الملائكةُ، فاسألوا صاحبتَه عنه)) فقالت: إنه خرج لما سمع الهائعةَ وهو جُنُب، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لذلك غسلته الملائكةُ))[64].


    وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((رأيت الملائكةَ تغسل حمزةَ بن عبدالمطلب، وحنظلة بن الراهب))[65].


    عمرو بن الجموح يطَأُ برِجْلِه في الجنة:
    كان عمرُو بن الجَموح - رضي الله عنه - رجلاً أعرجَ شديدَ العرَج، وكان له بنون أربعة يشهدون مع رسول الله المشاهد، فلما كان يوم أُحُد أرادوا حبسَه، وقالوا له: إن اللهَ - تعالى - قد عذَرَك، فأتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن بنيَّ يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجهِ، والخروج معك فيه، فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنَّةِ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أما أنتَ فقد عذَرك اللهُ فلا جهادَ عليك)) فقال لبنيه: ((ما عليكم ألا تمنعوه؛ فلعل اللهَ أن يرزُقَه الشهادة))، فخرج معه، فقُتِل يوم أُحد[66].


    وعن أبي قتادة قال: جاء عمرو بن الجموح - رضي الله عنه - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أرأيتَ إن قاتلتُ في سبيل الله حتى أُقتَل أمشي برجلي هذه صحيحةً في الجنة؟ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نعم))، فقُتلوا يوم أحدٍ هو وابن أخيه ومولًى لهم، فمر عليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((كأني أنظُرُ إليك تمشي برِجْلِك هذه صحيحةً في الجنة))، فأمر رسولُ الله بهما وبمولاهما فجُعِلوا في قبرٍ واحدٍ[67].


    عبدالله بن جحش - رضي الله عنه - يتمنى الشهادةَ في سبيل الله فينالها:
    عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أن عبدالله بن جحش - رضي الله عنه - قال له يوم أُحُد: ألا تدعو الله، فخلَوا في ناحية، فدعا سعد فقال: يا رب، إذا لقيت العدو، فلقني رجلاً شديدًا بأسه، شديدًا حرده، أقاتله ويقاتلني، ثم ارزقني الظَّفر عليه حتى أقتله، وآخذ سلبه، فأمَّن عبدالله بن جحش، ثم قال: اللهم ارزقني رجلاً شديدًا حرده، شديدًا بأسه، أقاتله فيك ويقاتلني، ثم يأخذني فيجدع[68] أنفي وأذني، فإذا لقيتُك غدًا، قلتَ: من جدع أنفَك وأذنك، فأقول: فيك وفي رسولك، فتقول: صدقت، قال سعد: يا بني، كانت دعوة عبدالله بن جحش خيرًا من دعوتي، لقد رأيتُه آخر النهار وإن أنفَه وأذنه لمعلَّقتان في خيط[69].


    بعد انتهاء المعركة:
    وبعد انتهاء القتال وانصراف كل فريق إلى معسكره، وقد تأكد بعضُ الصحابة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قُتل؛ إذ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يطلع عليهم بين السعدين[70]، عرَفه الصحابةُ - رضوان الله عليهم- بتكفُّئِه إذا مشى[71]؛ يقول ابن عباس - رضي الله عنهما: ففرِح به الصحابة، حتى كأنهم لم يُصِبْهم شيء، فرقي النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوهم وهو يقول: ((اشتد غضبُ الله على قومٍ دموا وجهَ رسوله))، ويقول مرةً أخرى: ((اللهم إنه ليس لهم أن يعلونا))[72].


    وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((اشتد غضب الله على قومٍ فعلوا هذا بنبيِّه))، وهو حينئذ يشير إلى رَباعِيَته ويقول: ((اشتد غضب الله على رجلٍ يقتُله رسولُ الله في سبيل الله))[73].


    كما كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يسلت عن نفسه الدمَ ويقول: ((كيف يُفلِحُ قومٌ شجُّوا نبيهم وكسَروا رباعِيَتَه وهو يدعوهم إلى الله))، فأنزَل الله - تعالى -: ﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [آل عمران: 128][74].


    وعن عبدالله بن مسعود قال: كأني أنظُرُ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يحكي نبيًّا من الأنبياء ضرَبه قومه فأدمَوْه وهو يمسح الدمَ عن وجهه ويقول: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون))[75].


    ثم أراد النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يصعَدَ على صخرة ليجلسَ عليها، فلم يستطِعْ - من شدة ما فيه من إصابات وإرهاق شديد - فأقعد النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - تحته طلحةَ - رضي الله عنه - ثم صعِد حتى استوى على الصخرة، ثم قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((أوجَبَ طَلحةُ))[76].


    ثم أخذت فاطمةُ - رضي الله عنها - تغسل الدم عن وجه أبيها - صلى الله عليه وسلم - وعلي بن أبي طالبٍ يسكُب عليها بالمجن، فلما رأت فاطمة - رضي الله عنها - أن الماءَ لا يزيد الدمَ إلا كثرةً، أخذت قطعة حصيرٍ فأحرقته حتى صار رمادًا، ثم ألصقته بالجرح فاستمسك الدمُ[77].


    اللهُ - تعالى - يهدئ من رَوع المؤمنين بالنعاس:
    ثم أنزل اللهُ - تعالى - النعاس على المسلمين تهدئة لرَوعهم، وراحة لأجسادهم من عناء القتال.


    يقول الله - تعالى -: ﴿ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ﴾ [آل عمران: 154].


    عن أبي طلحة - رضي الله عنه - قال: كنتُ فيمن تغشَّاه النعاسُ يوم أحدٍ حتى سقط سيفي من يدي مرارًا، يسقط وآخُذُه، ويسقط فآخذه[78].


    وبعد ذلك أشرف أبو سفيان بن حرب ونادى على المسلمين، فقال: أفي القوم محمدٌ؟ قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تُجيبوه))، فقال: أفي القوم ابنُ أبي قُحافة؟ - يعني أبا بكر - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تجيبوه))، فقال: أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: أما هؤلاء لو كانوا أحياءً لأجابوا، فلم يملِكْ عُمَرُ نفسه فقال: كذبتَ يا عدو الله، أبقى اللهُ عليك ما يُخزيك، قال أبو سفيان: اعْلُ هُبَل، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أجيبوه))، قالوا: ما نقول؟ قال: ((قولوا: اللهُ أعلى وأجَلُّ))، قال أبو سفيان: لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أجيبوه))، قالوا: ما نقول؟ قال: ((قولوا: اللهُ مولانا ولا مولى لكم))، قال أبو سفيان: يومٌ بيوم بدرٍ والحرب سجالٌ[79]، فقال عمرُ: لا سواء، قتلانا في الجنَّة وقتلاكم في النار، قال أبو سفيان: إنكم لتزعُمون ذلك، لقد خِبْنا إذًا وخسِرنا، ثم قال أبو سفيان: أمَا إنكم سوف تجدون في قتلاكم مثلاً[80]، ولم يكن ذاك عن رأيِ سَراتنا[81]، ثم أدركته حميةُ الجاهلية فقال: أما إنَّه قد كان ذاك ولم نكرَهْه[82].


    النبي - صلى الله عليه وسلم - يتفقد الشهداءَ، ويرى عمه الحمزة - رضي الله عنه - وسطهم، ثم يأمُر بدفنهم:
    عن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ على حمزة وقد مُثِّل به، فقال: ((لولا أن تجد صفيةُ في نفسها لتركتُه حتى تأكله العافية[83]، حتى يُحشَر من بطونها))، ثم دعا بنمِرة فكفَّنه فيها، فكانت إذا مُدَّت على رأسه بدَتْ رِجْلاه، وإذا مُدَّت على رِجْله بدا رأسه، وقلَّت الثيابُ، وكثُرت القتلى، فكان الرَّجُل والرجُلان والثلاثة يُكفَّنون في الثوب الواحد، ثم يدفنون في قبرٍ واحدٍ، فكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يسأَلُ عنهم: ((أيهم أكثَرُ قرآنًا))، فيُقدِّمه إلى القِبلة[84].


    وعن أنسٍ أيضًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بحمزة وقد مُثِّل به، ولم يصلِّ على أحدٍ من الشهداء غيره[85].


    وعن جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - قال: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يجمَعُ بين الرجُلين من قتلى أحدٍ في ثوبٍ واحدٍ، ثم يقول: ((أيُّهم أكثَرُ أخذًا للقرآن؟))، فإذا أشير له إلى أحدهما قدَّمه في اللَّحدِ وقال: ((أنا شهيدٌ على هؤلاء يوم القيامة))، وأمَر بدفنِهم في دمائهم، ولم يغسلوا ولم يُصلِّ عليهم[86].


    وعن خبابٍ بن الأرَتِّ - رضي الله عنه - قال: هاجَرْنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن نبتغي وجه الله، فوجَب أجرُنا على الله، فمنَّا من مضى أو ذهب لم يأكل من أجره شيئًا، كان منهم مُصعَبُ بن عميرٍ، قُتِل يوم أحدٍ فلم يترك إلا نمرةً[87]، كنا إذا غطينا بها رأسَه خرجَتْ رِجلاه، وإذا غُطي بها رِجْلاه خرج رأسه، فقال لنا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((غطُّوا بها رأسَه، واجعلوا على رِجْليه الإذخِر))، أو قال: ((ألقوا على رِجْليه من الإذخر))[88].


    وقال جابر - رضي الله عنه -: لما كان يوم أُحدٍ جاءت عمتي بأبي لتدفنَه في مقابرنا، فنادى منادي رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ردُّوا القتلى إلى مضاجِعهم[89].


    حزن النبي - صلى الله عليه وسلم - على الشهداء:
    عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول إذا ذكر أصحاب أُحدٍ: ((أما والله لوددتُ أني غودرت مع أصحابِ نحض الجبل))[90].


    النبي - صلى الله عليه وسلم - يُثني على ربه:
    ولما انصرف العدو من الميدان قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((استووا حتى أثنيَ على ربي تعالى))، فصاروا خلفه صفوفًا، فقال: ((اللهم لك الحمدُ كله، اللهم لا قابضَ لِما بسَطْتَ، ولا باسط لما قبَضْتَ، ولا هادي لما أضلَلْتَ، ولا مضلَّ لمن هديتَ، ولا معطيَ لما منعتَ، ولا مانع لما أعطيتَ، ولا مقرِّبَ لما باعدتَ، ولا مباعد لما قرَّبتَ، اللهم ابسط علينا من بركاتك، ورحمتك، وفضلك، ورزقك، اللهم إني أسألك النعيمَ المقيم الذي لا يحولُ ولا يزول، اللهم إني أسأَلُك الأمنَ يوم الخوف، اللهم إني عائذٌ بك من شر ما أعطيتَنا، وشر ما منعتنا، اللهم حبِّبْ إلينا الإيمان، وزيِّنْه في قلوبنا، وكرِّهْ إلينا الكفرَ والفسوق والعصيان، واجعَلْنا من الراشدين، اللهم توفَّنا مسلمين، وأحيِنا مسلمين، وألحِقْنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتِلِ الكفرةَ الذين يُكذِّبون رسلَك، ويصدون عن سبيلِك، واجعل عليهم رِجزَك وعذابَك إلهَ الحقِّ، آمين))[91].


    وعن أنسٍ - رضي الله عنه - أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقولُ يوم أُحدٍ: ((اللهم إنك إن تشَأ لا تُعبَد في الأرض))[92].


    وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم العَنْ أبا سفيان، اللهم العنِ الحارثَ بن هشامٍ، اللهم العن صفوان بن أمية)) فنزلت: ﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ﴾ [آل عمران: 128]، فتاب اللهُ عليهم، فحسُن إسلامُهم[93].


    ولقد عفا اللهُ - تعالى - عن المؤمنين الذين فرُّوا يومَ أُحُد، فأنزل: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 155].


    وربَط الله - تعالى - من جأشِ المسلمين فقال: ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [آل عمران: 139، 140].


    وبعد أن رجَع رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة مرَّ بامرأة من بني دينار وقد أصيب زوجُها وأخوها وأبوها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأُحد، فلما نُعوا لها، قالت: فما فعَل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيرًا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظرَ إليه، قال: فأشير لها إليه، حتى إذا رأتْه، قالت: كل مصيبة بعدك جَلَلٌ! تريد صغيرة[94].


    وعن ابنِ عُمَر - رضي الله عنه - قال: مرَّ رسولُ الله بنساء عبدالأشهل يبكين هَلْكاهن يوم أُحدٍ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لكن حمزة لا بواكيَ له))، فجاء نساءُ الأنصار يبكين حمزةَ، فاستيقظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((ويحَهن ما انقلَبْنَ[95] بعدُ؟ مُروهن فلينقلِبْنَ، ولا يبكين على هالكٍ بعد اليوم))[96].


    وبعد عودة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة أراد أن يطاردَ المشركين حتى لا يفكروا في العودة مرة أخرى, ومداهمة المدينة، فأرسل مناديًا ينادي في الناس بطلبِ العدو، وألا يخرجَنَّ أَحدٌ إلا أَحَد حضر أُحُدًا، وكان ذلك في اليوم التالي لغزوة أُحُد، فخرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - كلُّ من شهد أُحدًا، سوى جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - خرَج ولم يشهد أُحدًا؛ حيث تخلَّف عن أُحد لأن أباه خلَّفه على أخواته.


    قال ابن إسحاقَ - رحمه الله -:
    "وأذَّن مؤذِّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس بطلب العدو، وأذن مؤذنه ألا يخرجَ معنا أَحدٌ إلا أَحدٌ حضَر يومنا بالأمس، فكلَّمه جابر بن عبدالله بن عمرو بن حرامٍ, فقال: يا رسول الله، إن أبي كان خلَّفني على أخواتٍ لي سبعٍ, وقال: يا بني، إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نتركَ هؤلاء النسوة لا رجل فيهن، ولست بالذي أوثرُك بالجهاد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتخلَّفْ على أخواتك، فتخلفتُ عليهن، فأذن له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج معه، وإنما خرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مُرهبًا للعدو، وليبلغهم أنه خرج في طلبهم؛ ليظنوا به قوةً، وأن الذي أصابهم لم يوهِنْهم عن عدوهم، فخرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حتى انتهى إلى حمراءِ الأسد - وهي من المدينة على ثمانية أميالٍ - واستعمَل على المدينة ابنَ أم مكتومٍ - فيما قال ابن هشامٍ - فأقام بها الاثنين والثلاثاء والأربعاء، ثم رجَع إلى المدينة، وقد مَرَّ به معبدُ بن أبي معبدٍ الخزاعي - وكانت خزاعةُ مُسلِمُهم ومشركُهم عَيبةَ نصح[97] رسول الله صلى الله عليه وسلم - بتِهامة, صفقتهم معه[98]، لا يخفون عنه شيئًا كان بها - ومعبدٌ يومئذٍ مشركٌ، فقال: يا محمد، أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن اللهَ قد عافاك فيهم، وكان معبدٌ قد رأى خروجَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين إلى حمراء الأسد، ولقي أبا سفيان وكفار قريشٍ بالروحاء، وقد أجمعوا الرجعةَ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وقالوا: أصَبْنا حدَّ أصحابه وأشرافهم وقادتهم، ثم نرجع قبل أن نستأصلَهم! لنكرَّنَّ على بقيتِهم، فلنفرغَنَّ منهم.


    فلما رأى أبو سفيان معبدًا، قال: ما وراءك يا معبدُ؟ قال: محمدٌ قد خرج في أصحابه يطلُبُكم في جمعٍ لم أرَ مثله قط، يتحرقون[99] عليكم تحرقًا، قد اجتمع معه مَن كان تخلف عنه في يومكم، وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحنَق عليكم شيءٌ لم أرَ مثلَه قط، قال: ويحك! ما تقول؟ قال: واللهِ ما أرى أن ترتحل حتى أرى نواصيَ الخيل، قال: فوالله لقد أجمعنا الكرَّةَ عليهم، لنستأصل بقيتَهم، قال: فإني أنهاك عن ذلك"[100].


    وعن عائشة - رضي الله عنها -: ﴿ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 172], قالت لعروة: يا ابن أختي، كان أبواك منهم: الزبير، وأبو بكرٍ، لما أصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أصاب يوم أُحدٍ، وانصرف عنه المشركون، خاف أن يرجعوا، قال: ((من يذهب في إثرهم))، فانتدب منهم سبعين رجُلاً، قال: كان فيهم أبو بكرٍ، والزُّبير[101].


    [1] ذكر ذلك ابن هشام في سيرته 3/3، عن ابن إسحاق عن بعض التابعين مرسَلاً.
    [2] "سيرة ابن هشام" 3/3.
    [3] السابق.
    [4] متفق عليه: أخرجه البخاري (4081)، كتاب: المغازي، باب: مَن قُتل من المسلمين يوم أحد، ومسلم (2272)، كتاب: الرؤيا، باب: رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم.
    [5] صحيح: أخرجه أحمد (14723)، الدارمي 2/55، الحاكم 2/129، وصححه ووافقه الذهبيُّ، وصححه الشيخ أحمد شاكر.
    [6] التخريج السابق.
    [7] "تاريخ الطبري" 3/504، "الطبقات" 3/44.
    [8] صحيح: أخرجه أبو داود (2590)، كتاب: الجهاد، باب: في لبس الدروع، والترمذي (1692)، وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود".
    [9] "سيرة ابن هشام" 3/3.
    [10] يقع جَبل أُحُد في شمال المدينة، وكان يرتفع 128 مترًا، أما الآن فيرتفع 121 مترًا فقط بسب عوامل التعرية، ويبعُدُ عن المسجد النبوي حوالي 5,5 كيلو مترًا، بدءًا من باب المجيد أحد أبواب المسجد النبوي؛ "السيرة النبوية الصحيحة" 2/378.
    [11] أي: أطاعهم في الخروج والقتال خارج المدينة، وعصاه؛ حيث كان يرى القتالَ بداخل المدينة.
    [12] "سيرة ابن هشام" 3/3.
    [13] متفق عليه: أخرجه البخاري (4051)، كتاب المغازي باب: ﴿ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [آل عمران: 122]، ومسلم (2505)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضائل الأنصار رضي الله عنهم.
    [14] متفق عليه: أخرجه البخاري (4050)، كتاب: المغازي، باب: غزوة أحد، ومسلم (2776)، كتاب: صفات المنافقين وأحوالهم.
    ومعنى أركسهم: أي ردَّهم.
    [15] متفق عليه: أخرجه البخاري (4097)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب، ومسلم (1868)، كتاب: الإمارة، باب: بيان سنِّ البلوغ.
    [16] "سيرة بن هشام" 3/3، وأصلُ الحديث عند مسلم (2470)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضائل أبي دُجانةَ سماكِ بن خرشة - رضي الله عنه.
    [17] الذي سُمِّي بعد أُحُدٍ بجبل الرُّماة.
    [18] صحيح: أخرجه البخاري (4043)، كتاب: المغازي، باب: غزوة أُحُد، أبو داود (2662)، كتاب: الجهاد، باب: في الكمناء، وأحمد (18501)، واللفظ لهما.
    [19] مقطِّعة البُظور: أي التي تختنُ النساء؛ فهي تقطع بظر المرأة عند ختنها.
    [20] صحيح: أخرجه البخاري (4072)، كتاب: المغازي، باب: قتل حمزة بن عبدالمطلب - رضي الله عنه.
    [21] سبق تخريجه، هَام المشركين: أي: رؤوس المشركين.
    [22] صحيح: أخرجه أحمد (2609)، وصحَّحه الشيخ أحمد شاكر.
    [23] الحس: القتل؛ أي: إذ تقتُلونهم بإذنه.
    [24] متفق عليه: أخرجه البخاري (4046)، كتاب: المغازي، باب: غزوة أحد، مسلم (1899)، كتاب: الإمارة، باب: ثبوت الجنَّة للشهيد، وهذا الرجل غيرُ عمير بن الحُمَام الذي استشهد يوم بدرٍ؛ حيث جاء في رواية: قال رجل للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ أُحُد ....
    [25] صحيح: أخرجه البخاري (4043)، كتاب: المغازي، باب: غزوة أحد.
    [26] صحيح: أخرجه أحمد (2609)، وصححه أحمد شاكر.
    [27] صحيح: أخرجه البخاري (4065)، كتاب: المغازي، باب: ﴿ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [آل عمران: 122].
    [28] جاء ذكر الألويةِ في "مغازي الواقدي" 1/33.
    [29] "سيرة ابن هشام" 3/3.
    [30] صحيح: أخرجه أحمد (2609)، الحاكم في "المستدرك" 2/296، 297، وصحَّحه وأقره الذهبي، وصححه أحمد شاكر.
    [31] "سيرة ابن هشام" 3/3، والحديث في "الصحيحين" بلفظ مختلف، انظر الذي بعده.
    [32] متفق عليه: أخرجه البخاري (4048)، كتاب: المغازي، باب: غزوة أحد، ومسلم (1903)، كتاب: الإمارة، باب: ثبوت الجنَّة للشهيد.
    [33] صحيح: أخرجه الحاكم في "المستدرك" 3/201، وقال: هذا صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي وقال: صحيح.
    [34] أي: قربوا منه - صلى الله عليه وسلم.
    [35] صحيح: أخرجه مسلم (1789)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة أُحُد.
    وكان هذا الدفاعُ من هؤلاء الأنصاريين السبعة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لحبِّهم الشديد له - صلى الله عليه وسلم - أولاً وإيثاره على أنفسهم، ثم لما عاهَدوه - عليه الصلاة والسلام - عند بيعة العقبة وأنهم يمنعونه مما يمنَعون منه أنفسَهم ونساءَهم وأبناءهم.
    وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أنصَفْنا أصحابَنا))، قال النووي - رحمه الله -: الرواية المشهورة فيه (ما أنصَفْنا) بإسكان الفاء، و(أصحابَنا) منصوب مفعول به، هكذا ضبَطه جماهير العلماء من المتقدمين والمتأخرين، ومعناه: ما أنصفت قريشٌ الأنصارَ؛ لكون القريشيين لم يخرُجا للقتال، بل خرجت الأنصارُ واحدًا بعد واحد، وذكر القاضي وغيرُه أن بعضَهم رواه (ما أنصَفَنا) بفتح الفاء، والمراد على هذا: الذين فرُّوا من القتال؛ فإنهم لم يُنصِفوا لفرارُهم؛ اهـ؛ "شرح مسلم" 6/329، 330.
    [36] أي: ولا يلتفت بعضكم إلى بعض هربًا من عدوكم.
    [37] أي: تهربون في بطون الأودية والشِّعاب.
    [38] "تفسير الطبري" 4/139 وفي قراءة: ﴿ إِذْ تَصْعَدُونَ ﴾ بفتح التاء وتسكين الصاد وفتح العين، ومعناه: إذ تصعدون إلى جبل أُحُدٍ؛ حيث قيل: إنهم صعدوا إلى الجبلِ هربًا من القوم.
    [39] صحيح: أخرجه البخاري (4063)، كتاب: المغازي، باب: ﴿ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [آل عمران: 122].
    [40] نثل كنانته: أي نشَر كنانتَه واستخرج ما بها من السهام، والكِنانة: جَعبة السِّهام.
    [41] متفق عليه: أخرجه البخاري (4055)، كتاب: المغازي، باب: ﴿ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [آل عمران: 122]، ومسلم (2411)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: في فضل سعد بن أبي وقَّاص - رضي الله عنه.
    وفي ذلك يقول عليُّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -: ما سمعت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يجمع أبويه لأحدٍ غير سعد؛ (متفق عليه).
    وقال سعد - رضي الله عنه -: جمع لي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أبويه يوم أُحُد؛ (متفق عليه).
    [42] مجوبًا عليه بحجفة: أي متترس عليه بترس؛ ليقيَه من ضربات المشركين؛ فالحجفة: التُّرس.
    [43] شديد النَّزع: أي شديد رمي السهم.
    [44] متفق عليه: أخرجه البخاري (4064)، كتاب: المغازي، باب: ﴿ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [آل عمران: 122]، ومسلم (1811)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة النساء مع الرجال، ومعنى نحري دون نحرك: أي: أفديك بنفسي.
    [45] صحيح: أخرجه البخاري (2902)، كتاب: الجهاد والسير، باب: المجن ومن يترس بترس واحد، وأحمد 3/286، 287.
    [46] هي السِّنُّ التي تلي الثنيةَ من كل جانب، وللإنسان أربعُ رَباعيات؛ "شرح مسلم" للنووي 6/330.
    [47] متفق عليه: أخرجه البخاري (4075)، كتاب: المغازي، باب: ما أصاب النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - من الجراح يوم أُحُد، ومسلم (1790)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة أحد.
    والبَيضة: واقي الرأس الذي يلبَسُه المحارب.
    [48] متفق عليه: أخرجه البخاري (5826)، كتاب: اللباس، باب: الثياب البيض، ومسلم (2306)، كتاب: الفضائل، باب: في قتال جبريل وميكائيل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أُحُد.
    [49] كأمس الذاهب: كناية عن قتله؛ أي: صيَّره عدمًا.
    [50] صحيح: أخرجه البخاري (4072)، كتاب: المغازي، باب: قتل حمزة بن عبدالمطلب - رضي الله عنه - يقول وحشيٌّ - رضي الله عنه -: فلما رجع الناسُ رجعتُ معهم، فأقمت بمكة حتى فشا فيها الإسلام، ثم خرجت إلى الطائف، فأرسلوا إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - رسولاً، فقيل لي: إنه لا يهيج الرسل - أي: لا ينالُهم منه إزعاج - قال: فخرجتُ معهم حتى قدِمْتُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رآني قال: ((آنت وحشيٌّ؟))، قلتُ: نعم، قال: ((أنت قتلتَ حمزة؟))، قلت: قد كان من الأمر ما بلَغك، قال: ((فهل تستطيعُ أن تُغيِّبَ وجهَك عني؟))، قال: فخرجت، فلما قُبِض رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خرج مسيلمة الكذاب، قلت: لأخرُجَنَّ إلى مسيلمة، لعلي أقتله فأكافئ به حمزة، قال: فخرجت مع الناس، فكان من أمره ما كان، قال: فإذا رجلٌ قائمٌ في ثلمة جدارٍ كأنه جملٌ أورقُ ثائر الرأس، قال: فرميتُه بحربتي فأضَعُها بين ثدييه حتى خرجَتْ من بين كتفيه، قال: ووثب إليه رجلٌ من الأنصارِ فضرَبه بالسيفِ على هامَتِه.
    يقول عبدُالله بن عمر - رضي الله عنهما -: فقالت جاريةٌ على ظهرِ بيتٍ: واأمير المؤمنين، قتَله العبدُ الأسود.
    قوله: (في ثلمة جدار)؛ أي: في خلل جدار.
    قوله: (كأنه جمل أورق) الجملُ الأورق الذي لونه رمادي، وكان لونُ مُسيلِمة كذلك من غبار الحرب.
    قوله: (ثائر الرأس) أي: شعره منتفش.
    [51] حسن: سيأتي تخريجه.
    [52] خدم سوقهما: أي الخلاخيل.
    [53] تنقُزان: النقز: الوثب والقفز، كناية عن سرعة السير.
    [54] متن الشيء: أعلاه، يقال: متن الجبل؛ أي: أعلاه.
    [55] متفق عليه: أخرجه البخاري (4064)، كتاب: المغازي، باب: ﴿ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [آل عمران: 122]، ومسلم (1811)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة النساء مع الرجال.
    [56] صحيح: أخرجه البخاري (4071)، كتاب: المغازي، باب: ذكر أم سَليط.
    وتزفِر: أي تحمِلُ.
    [57] صحيح: أخرجه البخاري (4043)، كتاب: المغازي، باب: غزوة أحد.
    [58] صحيح: أخرجه الترمذي (3129)، كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة النحل، وقال: هذا حديث حسن غريب، وهو في مسند أحمد من زوائد عبدالله 5/135، وصحَّحه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".
    [59] "سيرة ابن هشام" 3/3.
    [60] حسن: أخرجه أبو داود (2537)، كتاب: الجهاد، باب: فيمن يُسلِم ويُقتَل في مكانه في سبيل الله، وحسنه الشيخ الألباني في "صحيح سنن أبي داود".
    [61] صحيح: أخرجه البخاري (1351)، كتاب: الجنائز، باب: هل يُخرَج الميت من القبر أو اللحد لعلَّة؟
    [62] متفق عليه: أخرجه البخاري (1293)، كتاب: الجنائز، باب: ما يُكرَه من النياحة على الميت، ومسلم (2471)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عبدالله بن عمرو بن حرام والد جابر - رضي الله تعالى عنهما.
    [63] حسن: أخرجه الترمذي (3010)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة آل عمران، وقال: هذا حديث حسَن غريب من هذا الوجه، لا نعرفه إلا من حديث موسى بن إبراهيم، والحاكم 3/204، وصحَّحه ووافقه الذهبي، وحسَّنه الشيخ الألباني في "صحيح سنن الترمذي".
    [64] حسن: أخرجه الحاكم 3/204، وقال: هذا حديثٌ صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وسكت عنه الذهبي، وأخرجه البيهقيُّ في "السنن" 4/15، وحسنه الشيخ مصطفى العدوي لشواهده؛ "فضائل الصحابة" للعدوي (279)، وحسنه الألباني في "الإرواء" رقم (713).
    [65] حسن: أخرجه الطبراني في "الكبير" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وحسنه الألبانيُّ في "صحيح الجامع" (3463).
    [66] صحيح: أخرجه ابن هشام في "السيرة" عن ابن إسحاق 3/23، وصحَّحه الألباني في تخريج "فقه السيرة" (267).
    [67] صحيح: أخرجه أحمد (22452)، وصححه أحمد شاكر، والألباني أيضًا في "فقه السيرة" (267).
    [68] يجدع: أي يقطع.
    [69] صحيح: أخرجه الحاكمُ 3/999، وقال: صحيح على شرطهما لولا إرساله، ووافقه الذهبي، وصححه موصولاً من حديث إسحاق بن سعد، والبيهقي في "السنن" 9/24.
    [70] اسم مكان، والله أعلم.
    [71] التكفؤ: التمايل إلى قُدَّام.
    [72] صحيح: أخرجه أحمد (2609)، الحاكم 2/296، 297، وصححه وأقره الذهبي، وصححه الشيخ أحمد شاكر.
    [73] متفق عليه: أخرجه البخاري (4073)، كتاب: المغازي، باب: ما أصاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجِراح يوم أُحد، ومسلم (1793)، كتاب: الجهاد والسير، باب: اشتداد غضبِ الله على مَن قتَله رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
    [74] صحيح: أخرجه مسلم (1791)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة أحد.
    [75] متفق عليه: أخرجه البخاري (3477)، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: حدثنا أبو اليمان، ومسلم (1792)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة أحد.
    قال الدكتور أكرم العمري: لقد استبعد الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - أن يوفِّقَ اللهُ مَن آذوه بهذه الصورة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((كيف يفلح قومٌ...))، فأخبره الله - سبحانه - بأن ذلك ليس ببعيد إن أراد الله هدايتهم؛ فأنزل عليه: ﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ﴾ [آل عمران: 128]، فقال - عليه الصلاة والسلام - لَمَّا طمع بإسلامهم: ((اللهم اغفِرْ لقومي فإنهم لا يعلمون))؛ "السيرة النبوية الصحيحة" 2/388.
    [76] حسن: أخرجه الترمذي (3738)، كتاب: المناقب، باب: مناقب أبي محمد طلحة بن عبيدالله - رضي الله عنه - وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (2540)، ومعنى قوله: ((أوجَبَ طَلحةُ))؛ أي: أوجَب لنفسه الجنَّةَ، والله أعلم.
    [77] متفق عليه: أخرجه البخاري (4075)، كتاب: المغازي، باب: ما أصاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجِراح يوم أُحد، ومسلم (1790)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة أحد.
    [78] متفق عليه: أخرجه البخاري (4068)، كتاب: المغازي، باب: ﴿ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا ﴾ [آل عمران: 154]، ومسلم (1811)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة النساء مع الرجال.
    [79] صحيح: أخرجه البخاري (4043)، كتاب: المغازي، باب: غزوة أحد.
    [80] مثلاً: أي تمثيلاً بالقتلى.
    [81] السَّراة: الأشراف والكبراء؛ أي لم يكن ذلك التمثيلُ بالقتلى عن رأيٍ ورضًا من كُبَرائنا.
    [82] صحيح: أخرجه أحمد (2609)، وصححه أحمد شاكر.
    أي: قد كان ذلك التمثيلُ بالجثث ليس عن أمرِنا، ولكنا لم نكرَهْهُ.
    [83] العافية: قال الخطابي: هي السباعُ والطير تقع على الجِيَف فتأكلها؛ "عون المعبود" 6/43.
    [84] صحيح: أخرجه أبو داود (3136)، كتاب: الجنائز، باب: في الشهيد يغسل، وأحمد 3/128، والترمذي (1016)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في قتلى أُحد، وذكره حمزة، وصححه الألباني "صحيح سنن الترمذي".
    [85] حسن: أخرجه أبو داود (3137)، كتاب: الجنائز، باب: في الشهيد يغسل، وصححه الألباني "صحيح سنن أبي داود".
    [86] صحيح: أخرجه البخاري (1343)، كتاب: الجنائز، باب: الصلاة على الشهيد، وفي رواية للبخاري أيضًا قال جابر: فكُفِّن أبي وعمي في نمِرة واحدة.
    وقد تقدم أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صلى على حمزةَ - رضي الله عنه - والظاهر - والله أعلم - كما قال بعضُ العلماء منهم ابن القيم - رحمه الله - أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مخيَّر بين الصلاة على الشهداء وعدم الصلاة.
    [87] النَّمِرة: نوع من الكساء.
    [88] متفق عليه: أخرجه البخاري (4082)، كتاب: المغازي، باب: مَن قُتل من المسلمين يوم أُحد، ومسلم (940)، كتاب: الجنائز، باب: في كفن الميت، والإِذخِر: حشيش معروف طيِّب الرائحة.
    [89] صحيح: أخرجه الترمذي (1717)، كتاب: الجهاد، باب: في دفن القتيل في مقتله، صححه الألباني "صحيح سنن الترمذي"، أحمد (14101)، وصححه أحمد شاكر.
    [90] صحيح: أخرجه أحمد (14965)، الحاكم 3/28.
    نحض الجبل: سفح الجبل، والمعنى: لوددتُ أني قُتِلت معهم، وهذا من شدة حزنِه عليهم - صلى الله عليه وسلم.
    [91] صحيح: أخرجه أحمد 3/414، الحاكم 1/507، 3/23، 24، وقال: صحيحٌ على شرط الشيخين، ووافقه الذهبيُّ، وصححه الألباني في تخريج "فقه السيرة" (269).
    [92] صحيح: أخرجه مسلم (1743)، كتاب: الجهاد والسير، باب: استحباب الدعاء بالنصر عند لقاء العدو.
    [93] صحيح: أخرجه البخاري (4069)، كتاب: المغازي، باب: ليس لك من الأمر شيء، والترمذي (3004)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة آل عمران، واللفظ له.
    [94] حسن: أخرجه ابن هشام في "السيرة" 3/29، عن ابن إسحاق بسند حسنٍ إلى سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه.
    [95] أي: ما رجَعْنَ إلى بيوتهن.
    [96] صحيح: أخرجه أحمد 2/84، ابن ماجه (1591)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في البكاء على الميت، وصححه الألباني في "صحيح السنن".
    [97] عيبة نصح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يقال: عيبة الرجل؛ أي: موضع سرِّه وأمانته؛ مأخوذ من عيبة الثياب التي يضعُ فيها الرجلُ متاعَه؛ مشارق الأنوار على صحاح الآثار؛ القاضي عياض (2/ 106).
    [98] الصفق: هو أن يعطي الرجلُ الرجلَ عهده؛ لأن المتعاهدينِ يضعُ أحدُهما يده في يد الآخر، كما يفعل المتبايعانِ، وهي المرة من التصفيق باليدين؛ النهاية في غريب الحديث (3/ 38).
    [99] يتحرَّقون: يلتهبون من الغيظ.
    [100] سيرة ابن هشام (2/ 107، 108).
    [101] صحيح: أخرجه البخاري (4077).




    رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/73513/#ixzz3tWhB17yO
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

  19. #19
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي

    قوله:
    والخَمْرُ حُرِّمَتْ يقينًا فاسمَعَنْ
    . . . . . . . . . . . . . . . .
    وفي السنة الثالثة نزَل تحريمُ الخمر[1].

    وكان شُرب الخمر عادةً أساسية عند رجالات العرب في الجاهلية، وكان يصعُبُ على الواحد منهم تركُ ذلك الأمر.

    فلما جاء الإسلام، وجاء النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالتشريع من عند العليم الخبير، لم يحرم الخمر مرة واحدة، بل كان ذلك تدريجيًّا؛ تيسيرًا من الله - تعالى - على هؤلاء الذين تأصَّلت فيهم هذه العادة.

    عن أبي ميسرة، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: لما نزل تحريمُ الخمر قال عمر: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شفاءً، فنزلت الآيةُ التي في البقرة: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ﴾ [البقرة: 219] الآية، قال: فدُعي عمرُ فقُرئت عليه، قال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شفاءً، فنزلت الآية التي في النساء: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ﴾ [النساء: 43]، فكان منادي رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أقيمت الصلاةُ يُنادي: ألا لا يقربن الصلاةَ سكران، فدُعي عُمرُ فقُرئت عليه، فقال: اللهم بيِّنْ لنا في الخمر بيانًا شفاءً، فنزلت هذه الآية: ﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾ [المائدة: 91]، قال عمر: انتهَيْنا[2].

    وعن سعدِ بن أبي وقاصٍ - رضي الله عنه - قال: أتيتُ على نفرٍ من الأنصار والمهاجرين، فقالوا: تعالَ نُطعِمْك ونسقِك خمرًا، وذلك قبل أن تحرم الخمر، قال فأتيتُهم في حش - والحش البستان - فإذا رأس جزورٍ مشوي عندهم، وزق من خمرٍ، قال: فأكلتُ وشربت معهم، قال فذكرت الأنصار والمهاجرين عندهم، فقلت: المهاجرون خيرٌ من الأنصار، قال فأخذ رجلٌ أحدَ لَحيي الرأسِ فضربني به، فجرح بأنفي، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرتُه، فأنزل الله عز وجل فيَّ - يعني نفسه - شأن الخمر: ﴿ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ﴾ [المائدة: 90][3].

    وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: كنت ساقيَ القوم في منزل أبي طلحة، وكان خمرهم يومئذٍ الفضيخ[4]، فأمر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مناديًا ينادي: ((ألا إن الخمرَ قد حرمت)) قال: فقال لي أبو طلحة: اخرُجْ، فأهرقها، فخرجتُ فهرقتها، فجرَتْ في سكك المدينة، فقال بعض القوم: قد قُتِل قومٌ وهي في بطونهم، فأنزل اللهُ: ﴿ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا ﴾ [المائدة: 93] الآية[5].

    قوله:
    . . . . . . . . . . . . . . . . ..
    هذا، وفيها وُلِد السِّبْطُ الحسَنْ

    قال الواقدي:
    "وُلد الحسنُ بن علي بن أبي طالب في النصف من شهر رمضان سنة ثلاثٍ من الهجرة"[6].

    قوله:
    وكانَ في الرَّابعةِ الغَزوُ إلى
    بني النَّضيرِ في ربيٍع أوَّلا

    وكان في السنة الرابعة غزوةُ بني النضير؛ حيث حاصرهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأجلاهم عن المدينة.

    وكان سبب غزو بني النضير ومحاصرتهم وإجلائهم عن المدينة: أنه لما قُتل أصحابُ بئر معونة[7]، من أصحاب رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وكانوا سبعين، وأفلت منهم عمرُو بن أمية الضمري، فلما كان في أثناء الطريق راجعًا إلى المدينة، قتَل رجُلين من بني عامر، وكان معهما عهد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمانٌ لَمْ يعلَمْ به عمرو، فلما رجع أخبر رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لقد قتَلْتَ رجُلين، لأَدِيَنَّهما))، وكان بين بني النضير وبني عامر حِلف وعهد، فخرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني النضير يستعينُهم في دِيَة ذَيْنِكَ الرجُلين، وكان منازل بني النضير على أميال من المدينة.

    فلما أتاهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يستعينُهم في دِيَة ذَيْنِك القتيلين، قالوا: نعم، يا أبا القاسم، نُعينك على ما أحببتَ، ثم خلا بعضهم ببعض، فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجلَ على مثلِ حاله هذه، وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - جالسًا إلى جنب جدار من بيوتهم، فمَن رجل يصعد على هذا البيت فيلقي عليه صخرةً فيريحنا منه؟ فانتدب لذلك أحدهم، وهو عمرو بن جحاش بن كعب، فقال: أنا لذلك، فصعِد ليلقي عليه صخرة كما قال، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في نفرٍ من أصحابه، فيهم أبو بكرٍ وعُمَر وعلي، فأتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - الخبرُ من السماء بما أراد القوم، فقام وخرج راجعًا إلى المدينة، فلما استلبث النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه قاموا في طلبه، فلقوا رجُلاً مقبلاً من المدينة، فسألوه عنه، فقال: رأيتُه داخلاً المدينة، فأقبل أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى انتهوا إليه، فأخبرهم الخبرَ بما كانت يهودُ أرادت من الغدر به، وأمر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالتهيؤ لحربهم والمسير إليهم، ثم سار حتى نزل بهم، فتحصَّنوا منه في الحصون، ﴿ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ ﴾ [الحشر: 2]، وصدَق الله إذ يقول: ﴿ لَا يُقَاتِلُونَكُم ْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ ﴾ [الحشر: 14]، فأمَر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بقطعِ النخل والتحريق فيها، فنادوه: أن يا محمد، قد كنتَ تنهى عن الفساد وتَعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها؟ وفي ذلك يقول الله - تعالى -: ﴿ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ [8] أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [الحشر: 5][9].

    وكان رهطٌ من بني عوف بن الخزرج، منهم عبدالله بن أبي ابن سلول، ووديعة، ومالك بن أبي نوفل، وسويد، وداعي، قد بعثوا إلى بني النضير: أن اثبتوا وتمنعوا؛ فإنا لن نُسلِمَكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أُخرِجْتم خرجنا معكم.

    فانتظر بنو النضير نصر هؤلاء القوم الذي وعدوهم إياه، فلم يفعلوا، وقذف اللهُ في قلوبهم الرعب، وفي ذلك يقول الله - تعالى -: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُ مْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ * لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ [الحشر: 11 - 13].

    فلما تخلَّى عنهم هؤلاء المنافقون، وعلِمت يهود بني النضير أنهم لن يستطيعوا الاستمرارَ على هذه الحالة، ولن يستطيعوا مواجهةَ النبي - صلى الله عليه وسلم - طلبوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُجليَهم ويكفَّ عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة[10]، فوافقهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل، فكان الرجلُ منهم يهدم بيته عن نجاف بابه[11]، وفي ذلك يقول الله - تعالى -: ﴿ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [الحشر: 2].

    فقاموا بهدمِ بيوتهم حتى لا ينتفع بها المسلمون، وأخَذوا كل ما فيها حتى أبوابها.

    فخرَجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام، وخلفوا ما لم يستطيعوا حمله من الأموال، فكان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنهم غنِموه من غير قتال[12]، وقيل: إنه أسلَم من بني النضير رجلان، هما: ياسين بن عمير بن كعب بن عمرو بن جحاش، وأبو سعد بن وهب[13].

    ونزلت سورةُ الحشر في بني النضير[14].

    قوله:
    وَبَعْدَ مَوْتِ زَيْنَبَ المُقَدَّمَهْ
    . . . . . . . . . . . . . . . . .
    وفي السنة الرابعة تُوفِّيت زينبُ بنت خزيمة أم المساكين - رضي الله عنها - حيث تزوَّجها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في رمضانَ من السنة الثالثة، ومكثت عنده شهرين أو ثلاثة، وقيل: ثمانية أشهر - كما تقدم - ثم ماتت - رضي الله عنها.

    قوله:
    . . . . . . . . . . . . . . .
    وَبَعْدَهُ نِكَاحُ أُمِّ سَلَمَهْ
    تزوَّج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أم سلمة، واسمها: هند بنت أمية بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزومٍ - رضي الله عنها - في ليالٍ بقين من شوالٍ سنة أربعٍ، بعد وفاة أبي سلمة - رضي الله عنه -، بسبب جرحٍ جُرِحه في أحدٍ[15].

    قوله:
    وَبِنْتِ جَحْشٍ . . . . . .
    . . . . . . . . . . . . . . . .
    وفي السنة الرابعة[16]- أيضًا - تزوج النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - زينبَ بنت جحش - رضي الله عنها.

    وهي زينب بنت جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة، الأسدية، أم المؤمنين.

    وهي بنت أميمةَ بنتِ عبدالمطلب، عمةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم[17].

    وكانت عند زيد بن حارثة - رضي الله عنه - قبل أن يتزوجَها النبي - صلى الله عليه وسلم.

    وزيدُ بن حارثة بن شراحيل - رضي الله عنه - كان مولًى للنبي - صلى الله عليه وسلم - أهدته إليه خديجةُ بنت خويلد أم المؤمنين - رضي الله عنها.

    وكان يُدعَى زيدَ بن محمدٍ؛ حيث كان قد تبناه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فكان يُنسَب إليه، حتى نزلت: ﴿ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ ﴾ [الأحزاب: 5][18].

    فبنزول هذه الآية تم تحريمُ التبني، وأصبح كلٌّ يُنسَب إلى أبيه الذي هو من صُلبه، فأصبح يقال: زيد بن حارثة.

    ولكن قاعدة التبني كانت متأصِّلة في نفوس العرب، ليس من السهل محوُها، فكأن الله - تعالى - أراد حدوث شيء عملي يمحو هذا تمامًا من نفوسهم، فكان تزويجُ النبي - صلى الله عليه وسلم - من زينب بنت جحش التي كانت زوجةً لرعيِّه زيدِ بن حارثة - رضي الله عنه.

    وقد ذكَر الله - تعالى - ذلك في كتابه العزيز فقال - تعالى -: ﴿ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ﴾ [الأحزاب: 37]، يقول اللهُ - تعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: ﴿ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ ﴾ [الأحزاب: 37] وهو زيدُ بن حارثة، أنعَمَ الله عليه بالإسلام، واتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنعَمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عليه بالعتقِ من الرِّقِّ.

    ﴿ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ﴾ [الأحزاب: 37] زينبَ - رضي الله عنها - حيث جاء زيدُ بن حارثة يشكو للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - زينبَ - رضي الله عنها - فجعَل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((اتقِ اللهَ وأمسِكْ عليك زوجَك))[19].

    وكان الله - تعالى - قد أعلم نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - أنها ستكونُ زوجتَه؛ ولذلك قال الله - تعالى - له: ﴿ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ﴾ [الأحزاب: 37]؛ أي: لا تُخفي ما أطلَعك الله عليه من أنها ستكون زوجتَك، ﴿ وَتَخْشَى النَّاسَ ﴾ [الأحزاب: 37] من أن يقولوا: طلَّق محمد زوجةَ ابنه ليتزوَّجها، ﴿ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ﴾ [الأحزاب: 37].

    ثم يقول الله - تعالى -: ﴿ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا ﴾ [الأحزاب: 37]؛ الوطَرُ: الحاجة؛ أي: فلما فرغ زيدٌ منها وفارقها ﴿ زَوَّجْنَاكَهَا ﴾ فكان زواجُها - رضي الله عنها - من النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمرٍ من الله - تعالى - ولذلك كانت تفخرُ على زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقول لهن: زوَّجكن أهاليكن وزوجني الله - تعالى - من فوق سبعِ سمواتٍ[20].

    عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: لما انقضت عدةُ زينب، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لزيدٍ: ((اذهب فاذكُرْها علي))، قال: فانطلَق حتى أتاها، قال: وهي تخمر عجينها، قال: فلما رأيتُها عظُمَت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظرَ إليها؛ أن رسولَ الله ذكرها، فوليتُها ظهري، ونكصت على عقبي، فقلت: يا زينب، أرسَلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكرك، قالت: ما أنا بصانعةٍ شيئًا حتى أؤامرَ ربي، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآنُ وجاء رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فدخَل عليها بغير إذنٍ[21].

    وليمة عُرس زينب - رضي الله عنها -:
    عن أنسٍ قال: ما رأيت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَوْلَمَ على امرأة - أو على شيءٍ من نسائه - ما أولم على زينب؛ فإنه ذبَح شاةً[22].

    وفي لفظ لمسلم: ما أولم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على امرأةٍ من نسائه أكثر أو أفضل مما أولم على زينبَ، أطعَمَهم خبزًا ولحمًا حتى تركوه.

    وعن أنس أيضًا قال: تزوج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل بأهله - زينب رضي الله عنها - قال: فصنعت أمي أمُّ سُليمٍ حَيسًا[23]، فجعلته في تَورٍ[24]، فقالت: يا أنس، اذهب بهذا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقل: بعَثَتْ بهذا إليكَ أمي، وهي تُقرِئُكَ السلام، وتقول: إن هذا لك منا قليلٌ يا رسول الله، فقال: ((ضَعْه))، ثم قال: ((اذهب فادع لي فلانًا وفلانًا وفلانًا ومَن لقيتَ)) وسمى رجالاً، قال: فدعوتُ مَن سمى ومن لقيتُ، وقيل لأنسٍ: عدد كم كانوا؟ قال: زهاءَ ثلاثمائةٍ، وقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا أنس، هاتِ التَّور))، قال: فدخلوا حتى امتلأت الصُّفَّة والحجرة، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليتحلق عشرةٌ عشرةٌ، وليأكل كل إنسانٍ مما يليه))، قال: فأكَلوا حتى شبعوا، قال: فخرجت طائفةٌ ودخلت طائفةٌ، حتى أكَلوا كلهم، فقال لي: ((يا أنس، ارفَعْ))، قال: فرفعتُ، فما أدري حين وضعت كان أكثر أم حين رفعت[25].

    قوله:
    . . . . . . . . . . ثُمَّ بَدْرِ المَوْعِدِ
    . . . . . . . . . . . . . . . . .
    قال ابنُ إسحاق - رحمه الله -: ولما قدِم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ من غزوة الرِّقاع، أقام بها بقية جمادى الأولى وجمادى الآخرة ورجبًا.

    ثم خرَج في شعبان إلى بدرٍ، لميعاد أبي سفيان[26]، حتى نزله.

    قال ابن هشامٍ: واستعمل على المدينة عبدالله بن عبدالله بن أبي بن اسلول الأنصاري.

    قال ابن إسحاق: فأقام عليه ثماني ليالٍ ينتظر أبا سفيان، وخرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مجنَّةَ من ناحية الظهران، وبعض الناس يقول: قد بلغ عُسْفان، ثم بدا له في الرجوع، فقال: يا معشر قريشٍ، إنه لا يصلحكم إلا عامٌ خصيبٌ ترعون فيه الشجر، وتشربون فيه اللبن، وإن عامكم هذا عام جدبٍ، وإني راجعٌ، فارجِعوا، فرجَع الناس[27].

    قوله:
    . . . . . . . . . . . . . . .
    وبَعْدَها الأحزابُ، فاسمَعْ واعدُدِ

    أي: وقعت غزوةُ الأحزاب في السنة الرابعة بعد بدر الموعد[28].

    حيث إن قُرَيشًا لما علمتْ أنها لن تستطيع محاربةَ المسلمين وحدها، وكذلك أيقنت يهودُ بذلك، وأن قوَّتَهم لا تُحاكي قوة المسلمين، اتفقوا على جمعِ الجموع لمحاربة المسلمين وغزوِهم في عقر دارهم في محاولةٍ للقضاء على الإسلام والمسلمين.

    وقيل: إن الذي بدأ بذلك وجمع الجموعَ هم اليهودُ؛ حيث خرج وفدٌ منهم إلى مكة، فيهم سلام بن أبي الحقيق النضري، وحُيَي بن أخطب النضري، فدعوا قريشًا إلى حرب المسلمين، ووعدوهم أن يقاتلوا معهم، ثم خرَجوا من مكَّة إلى نجد؛ حيث حالفوا قبيلةَ غَطَفان الكبيرة على حرب المسلمين، فكان تحالفُ الأحزاب بجهود من يهود بني النضير[29].

    فخرجت قريشٌ وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غَطَفان وقائدها عيينة بن حصن الفَزَاري، وبنو مرَّة وقائدها الحارث بن عوف بن أبي حارثة المري، وخرجت أشجعُ وقائدها مسعر بن رخيلة.

    فلما سمِع بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما أجمعوا له من الأمر، ضرَب الخندق على المدينة، فعمل فيه رسولُ الله ترغيبًا للمسلمين في الأجر، وعمِل معه المسلمون فيه، فدأب فيه ودأبوا[30].

    فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعمل وهو يقول، تسليةً لهم؛ ليهون عليهم ما هم فيه من شدة وبلاء وجوع: ((اللهم إن العيشَ عيشُ الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة))، فيقولون مجيبين له:
    نحنُ الذين بايَعوا محمَّدَا
    على الجهادِ ما بقِينا أبدَا[31]

    ويقول أيضًا - صلى الله عليه وسلم -:
    اللهمَّ لولا أنتَ ما اهتدَيْنا
    ولا تصدقنا ولا صلَّيْنا
    فأنزِلَنْ سكينةً علينا
    وثبِّتِ الأقدامَ إنْ لاقَيْنا
    إن الأُلَى قد بغَوْا علينا
    وإنْ أرادوا فتنةً أبَيْنا

    ثم يرفع صوته ويقول: أَبَيْنا أَبَيْنا، ويمد صوتَه بآخرها[32].

    وأثناء عمل المسلمين في الحفر عرَضتْ لهم صخرةٌ حالت بينهم وبين الحفر، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخَذ المِعْول، ووضَع رداءه ناحية الخندق، وقال: ((تمت كلمةُ ربِّكَ صدقًا وعدلاً، لا مبدلَ لكلماته، وهو السميع العليم))، فندر ثلث الحجَر، وسلمان الفارسي قائمٌ ينظر فبَرق مع ضربة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برقة، ثم ضرب الثانية، وقال: ((تمت كلمة ربِّك صدقًا وعدلاً، لا مبدلَ لكلماته، وهو السميع العليم))، فندر الثلثُ الآخر، فبرقت برقة، فرآها سلمانُ، ثم ضرب الثالثة، وقال: ((تمت كلمةُ ربك صدقًا وعدلاً، لا مبدلَ لكلماته، وهو السميع العليم))، فندر الثلث الباقي، وخرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذ رداءه وجلس، فقال سلمانُ: يا رسول الله، رأيتُك حين ضربتَ ما تضرب ضربةً إلا كانت معها برقةٌ؟! قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا سلمانُ، رأيتَ ذلك؟))، فقال: إي والذي بعثك بالحق يا رسول الله، قال: ((فإني حين ضربتُ الضربة الأولى، رُفِعت لي مدائن كسرى وما حولها، ومدائن كثيرةٌ، حتى رأيتُها بعيني))، قال له من حضَره من أصحابه: يا رسول الله، ادعُ اللهَ أن يفتحها علينا، ويغنمنا ديارهم، ويخرب بأيدينا بلادهم، فدعا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، ((ثم ضربتُ الضربة الثانية فرُفِعت لي مدائنُ قيصر وما حولها، حتى رأيتُها بعيني))، قالوا: يا رسول الله، ادعُ الله أن يفتحَها علينا، ويغنمنا ديارهم، ويخرب بأيدينا بلادهم، فدعا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، ((ثم ضربتُ الثالثة، فرُفِعت لي مدائنُ الحبشة، وما حولها من القرى، حتى رأيتُها بعيني))، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: ((دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا التُّرك ما تركوكم))[33].

    ويحكي لنا جابر - رضي الله عنه - معجزةً عجيبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الموقف.

    يقول جابر - رضي الله عنه -: لما حفر الخندق رأيتُ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - خمصًا شديدًا[34]، فانكفأتُ إلى امرأتي فقلت: هل عندك شيءٌ؟ فإني رأيتُ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمصًا شديدًا، فأخرَجَت إلي جرابًا فيه صاعٌ من شعيرٍ، ولنا بهيمةٌ داجنٌ[35]فذبحتُها، وطحنت الشعير، ففرغت إلى فراغي[36]، وقطعتها في برمتها[37]، ثم وليت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: لا تفضَحْني برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبمن معه، فجئتُه فسارَرْتُه، فقلت: يا رسول الله، ذبحنا بهيمةً لنا، وطحنَّا صاعًا من شعيرٍ كان عندنا، فتعالَ أنت ونفرٌ معك، فصاح النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((يا أهل الخندق، إن جابرًا قد صنع سورًا[38]فحيَّ هلاً بكم[39]))، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تنزلن بُرمتكم، ولا تخبزن عجينكم حتى أجيء))، فجئت وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقدم الناس حتى جئتُ امرأتي، فقالت: بك وبك[40]، قد فعلت الذي قلت، فأخرَجَتْ له عجينًا، فبصَق فيه وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبصق وبارك، ثم قال: ادع خابزةً فلتخبز معي، واقدحي من برمتكم، ولا تنزلوها، وهم ألفٌ، فأُقسِم بالله لقد أكلوا حتى تركوه وانحرفوا[41]، وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا ليُخبَز كما هو[42].

    لقد جاءت هذه المعجزةُ للنبي - صلى الله عليه وسلم - في وقتها؛ فإن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - والصحابة - رضوان الله عليهم - كانوا في أشدِّ الحاجة إلى الطعام حتى يستطيعوا مواصلة العمل في الحفر، ثم مواجهة المشركين بعد ذلك؛ حيث كانوا قد أوشَكوا على الهلاك من شدة الجوع، وعدم وجود الطعام.

    فقد لبِثوا ثلاثة أيام لا يأكلون ولا يذوقون ذواقًا، حتى إن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يربطُ على بطنه حجرًا من شدة الجوع[43].

    وحتى إنهم من شدة الجوع وعدم وجود شيءٍ يأكلونه كانوا يأكلونَ الطعام المنتن الذي تغيَّرت رائحتُه ولونه.

    يقول أنس بن مالك - رضي الله عنه -: كانوا يؤتَوْن بملء كفي من الشعير فيصنع لهم بإهالةٍ سنخةٍ[44]، توضَعُ بين يدي القوم، والقوم جياعٌ، وهي بشعةٌ في الحَلق، ولها ريحٌ منتنٌ[45].

    وظل النبي - صلى الله عليه وسلم - يعمل ويحمل التراب على كتفه الشريف حتى غطى الترابُ بطنه - صلى الله عليه وسلم.

    يقول البراء - رضي الله عنه -: لما كان يومُ الأحزاب وخندق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأيتُه ينقل من تراب الخندق حتى وارى[46]عنِّي الغبارُ جلدة بطنه[47].

    وظل الصحابة - رضوان الله عليهم - يعمَلون معه - صلى الله عليه وسلم - وينقُلون التراب على متونهم[48]وهم يرتجزون[49]بما تقدَّم من أشعار حتى فرغوا من حفر الخندق قبل وصول المشركين[50]، وكان ذلك في غداة باردة[51].

    ثم أمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالنساء والأطفال فوُضِعوا في الحصون.

    عن عبدالله بن الزبير قال: كنت أنا وعمر بن أبي سلمة يوم الخندق مع النسوة في أُطُم[52]حسان، فكان يطأطئ لي مرةً فأنظر، وأطأطئ له مرةً فينظر[53].

    ثم ظهرت فلول المشركين، الذين تحزبوا لمحاربة الله ورسوله، والصد عن سبيل الله[54].

    فالتفوا حول المدينة وحاصَروها من كل مكان، فلما رأت يهودُ بني قريظة ذلك، تيقَّنوا أن المسلمين - بأي حالٍ - لن يُفلِتوا من هذه القوة الهائلة، وأنهم سيُقضَى عليهم لا محالة، ففكروا في نقض العهد الذي بينهم وبين المسلمين، ومساعدة الأحزاب للقضاء عليهم.

    وفعلاً نقض يهودُ بني قريظة العهد، وأصبحوا على استعدادٍ لمعاونة الأحزاب على المسلمين.

    ووصَل الخبرُ للنبي - صلى الله عليه وسلم - وشاع بين صفوف المسلمين، فاشتدَّ الخطب عليهم.

    وكانت ديارُ بني قريظة في العوالي في الجنوب الشرقي للمدينة على وادي مهزور، فكان موقعهم يمكنهم من إيقاع ضربة بالمسلمين من الخلف[55].

    وفي ذلك يقول الله - تعالى -: ﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ ﴾؛ أي: الأحزاب، ﴿ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ﴾؛ أي: بنو قريظة، ﴿ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ﴾ من شدَّة الخوف والفزع، ﴿ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ﴾ [الأحزاب: 10] الظنون السَّيئة، والخوف من المشركين، وأن الله لن ينصر دينه، ﴿ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ﴾ [الأحزاب: 11] بالخوف والجوع والقلق الذي عاشوه، فكان هذا ابتلاءً واختبارًا للمسلمين؛ ليتبيَّن الخبيثُ من الطيب، وحدث ما أراده الله - تعالى.

    فأما المؤمنون فسرعان ما تنبهوا وظهر إيمانُهم وثقتهم بالله - تعالى - وقالوا: ﴿ هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ ﴾ [الأحزاب: 22] من الابتلاءِ والامتحان الذي يعقُبُه النصر، ﴿ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 22].

    وأما المنافقون والذين في قلوبهم مرض، فقالوا ﴿ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ﴾ [الأحزاب: 12].

    وقالوا ﴿ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا ﴾ [الأحزاب: 13]، واستأذنوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: ﴿ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ [الأحزاب: 13]، ففضحهم الله - تعالى - وقال: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} ﴾ [الأحزاب: 13].

    ثم أرسل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الزبيرَ بن العوام - رضي الله عنه - إلى بني قريظة ليتأكَّدَ من صحة هذا الخبر.

    عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب: ((من يأتينا بخبرِ القوم؟))، فقال الزبير: أنا، ثم قال: ((من يأتينا بخبرِ القوم؟))، فقال الزبير: أنا، ثم قال: ((لكل نبي حواري، وإن حواريَّ الزبيرُ))[56].

    وعن عبدالله بن الزبير - رضي الله عنه - قال: كنتُ يوم الأحزاب جُعِلءتُ أنا وعمر بن أبي سلمة في النساء، فنظرتُ فإذا أنا بالزبير على فرسِه يختلف إلى بني قريظة مرتين أو ثلاثًا، فلما رجعتُ، قلت: يا أبتِ، رأيتك تختلف، قال: أوَهَلْ رأيتَني يا بني؟ قلت: نعم، قال: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من يأتي بني قريظة فيأتيني بخبرهم؟))، فانطلقتُ، فلما رجعتُ جمَع لي رسولُ الله أبويه، فقال: ((فداكَ أبي وأمي))[57].

    فذهَب الزبير، فوجَدهم قد نقضوا العهد.

    أما المشركون فقد فوجؤوا بالخندق أمامهم، فوقفوا حيارى، لا يستطيعون اقتحامَه.

    ولكنهم حاولوا اقتحامه، فكانوا كلما حاولوا ذلك، أمطَرهم المسلمون بوابلٍ من السهام فردُّوهم.

    عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: لما كان يومُ الخندق ورجلٌ يتترس، جعَل يقول بالترس هكذا، فوضعه فوق أنفه، ثم يقول[58]: هكذا يُسفِّلُه بعد[59]، قال: فأهويت إلى كنانتي فأخرجتُ منها سهمًا مُدمًّى[60]، فوضعتُه في كبد القوس، فلما قال هكذا يُسفِّلُ التُّرس، رميتُ، فما نسيت وقع القِدْحِ[61]على كذا وكذا من الترس، قال: وسقط، فقال: برِجْله، فضحك نبي الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذُه، لفعل الرجل[62].

    ولم تنقطع هجمات المشركين على الخندق في محاولات شرسةٍ لاقتحامه، حتى إن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لم يتمكَّنوا من أداء صلاة العصر في أحد الأيام حتى غربت الشمس، من شدة انشغالهم في صد المشركين عن الخندق.

    عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - أن عمرَ بن الخطاب - رضي الله عنه - جاء يوم الخندق بعدما غرَبَتِ الشمسُ، فجعَل يسُب كفار قريشٍ، قال: يا رسول الله، ما كِدْتُ أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرُبُ، قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((والله ما صليتُها))، فقُمْنا إلى بطحان فتوضأ للصلاة، وتوضأنا لها، فصلى العصر بعدما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب[63].

    فقام النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالدعاءِ على المشركين.

    عن عليِّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: لما كان يومُ الأحزاب، قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ملأ الله بيوتَهم وقبورهم نارًا، شغَلونا عن الصلاةِ الوسطى حتى غابت الشمسُ))[64].

    ثم استمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في دعائِه على المشركين والأحزاب.

    عن عبدالله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - قال: دعا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب على المشركين، فقال: ((اللهم مُنزِلَ الكتاب، سريعَ الحساب، اللهم اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزِلْهم))[65].

    فاستجاب الله - تعالى - دعاءَ نبيه - صلى الله عليه وسلم - عليهم، فأرسَل عليهم ريحًا شديدًا فخلَعت خيامَهم، وأكفأت قدورهم، وأطفأت نيرانَهم، وأرسل الملائكة فزلزلتهم وألقَتْ في قلوبهم الرعبَ والخوف.

    وفي ذلك يقول الله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ﴾ [الأحزاب: 9].

    فلم تتحملِ الأحزابُ جنودَ الله - تعالى - ولم يستطيعوا مواجهتَها، فأسرعوا بالتجهُّز للرحيل.

    عن حذيفة بن اليَمانِ - رضي الله عنهما - قال: لقد رأيتُنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الأحزاب وأخذَتْنا ريحٌ شديدةٌ وقرٌّ[66]، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا رجلٌ يأتيني بخبر القوم جعَله الله معي يوم القيامة؟))، فسكتنا فلم يُجِبْه أحدٌ، ثم قال: ((ألا رجلٌ يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟))، فسكتنا فلم يجبه أحدٌ، ثم قال: ((ألا رجلٌ يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟))، فسكتنا فلم يجبه أحدٌ، فقال: ((قم يا حذيفة فَأْتِنا بخبر القوم))، فلم أجِدْ بدًّا إذ دعاني باسمي أن أقومَ، قال: ((اذهَبْ فَأْتِني بخبر القوم ولا تذعَرْهم علَيَّ))[67]، فلما وليتُ من عنده جعلتُ كأنما أمشي في حمامٍ[68]حتى أتيتهم، فرأيتُ أبا سفيان يَصْلِي ظهره بالنار[69]، فوضعت سهمًا في كبد القوس، فأردت أن أرميَه، فذكرتُ قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ولا تذعَرْهم عليَّ))، ولو رميتُه لأصبتُه، فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام، فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم، وفرغت، قررت[70]، فألبَسني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من فضل عباءةٍ كانت عليه يَصْلِي فيها، فلم أزل نائمًا حتى أصبحت، فلما أصبحت قال: ((قم يا نومانُ!))[71]، وفي رواية: قال حذيفة: يا رسول الله، تفرَّق الناسُ عن أبي سفيان، فلم يبقَ إلا في عُصبةٍ يوقد النار، وقد صب اللهُ عليهم من البرد مثل الذي صبَّ علينا، ولكنا نرجو من الله ما لا يرجون[72].

    وبذلك تفرَّقت جموعُ الأحزاب، وهزَمهم الله - تعالى - وحده: ﴿ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ﴾ [الأحزاب: 25].

    وانفك الحصارُ الذي دام أربعًا وعشرين ليلة[73]بفضلٍ من الله - تعالى.

    ولذا كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا إله إلا الله وحده، أعزَّ جندَه، ونصَر عبده، وغلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده))[74].

    وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لما أجلى الله الأحزاب: ((الآن نغزوهم، ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم))[75].


    [1] هكذا جزم الناظم أنها كانت في السنة الثالثة، وذهب إلى ذلك أيضًا ابنُ الجوزي في كتابه تلقيح فهوم أهل الأثر في عيون المغازي والسير (44)؛ حيث ذكَر تحريم الخمر ضمن أحداث السنة الثالثة، وبه جزم القرطبي في تفسيره (8/ 156) ت/ التركي، وأما ابن إسحاق وابن هشام فقد ذكرا أنها كانت في السنة الرابعة؛ انظر: سيرة ابن هشام (2/ 191)، وتبعهما ابنُ سيِّد الناس؛ عيون الأثر (2/ 352)، وابن حزم في جوامع السيرة (181)، وقد أشار إلى هذا الخلاف العراقيُّ في ألفيته في السيرة، المسماة: نظم الدرر السنية في السير الزكية، فقال: والخمر حرم، أو ففي التي خلت؛ أي: في السنة الرابعة، أو التي خلت قبلها.
    ورجَّح الحافظ ابن حجر - رحمه الله - أن تحريم الخمر كان في سنة ثمان؛ حيث قال الفتح (8/ 279): والذي يظهر أن تحريمَها كان عام الفتح سنة ثمانٍ؛ لِما روى أحمد من طريق عبدالرحمن بن وعلة قال: سألتُ ابن عباسٍ عن بيع الخمر فقال: كان لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - صديقٌ من ثقيفٍ أو دوسٍ فلقِيَه يوم الفتح براوية خمرٍ يُهديها إليه، فقال: ((يا فلانُ، أما علِمْتَ أن الله حرَّمها))، فأقبل الرجلُ على غلامه فقال: بِعْها، فقال: ((إن الذي حرَّم شُربها حرَّم بيعَها))، وأخرجه مسلمٌ من وجهٍ آخر عن أبي وعلة نحوه، لكن ليس فيه تعيينُ الوقت.
    [2] صحيح: أخرجه أبو داود (3670)، والترمذي (3049)، والنسائي في المجتبى (5540)، وفي الكبرى (5031)، وأحمد (378)، والحاكم في المستدرك (3101)، وقال: هذا حديثٌ صحيحٌ على شرطِ الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني الصحيحة (2348).
    [3] صحيح: أخرجه مسلم (1748).
    [4] الفضيخ: شراب يُتَّخذ من البُسر المفضوخ؛ مأخوذ من الفضخ، وهو كسرُ الشيء الأجوف، والبُسر نوعٌ من التمر.
    [5] متفق عليه: أخرجه البخاري (2464)، ومسلم (1980).
    [6] طبقات ابن سعد، الجزء المتمم لها (1/ 226)، وانظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (13/ 168)، وقال ابن عبدالبر في الاستيعاب (1/ 384): ولدته أمُّه فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النصف من شهر رمضان سنة ثلاثٍ من الهجرة، هذا أصحُّ ما قيل في ذلك إن شاء الله.
    وقال ابن حجر - رحمه الله -: الإصابة (2/ 60): وُلِد في نصف شهر رمضان سنة ثلاثٍ من الهجرة؛ قاله ابن سعد وابن البرقي وغير واحد، وقيل: في شعبانَ منها، وقيل: وُلِد سنة أربع، وقيل: سنة خَمسٍ، والأول أثبَتُ.
    [7] سريَّة بئر معونة كانت في صفر من العام الثالث:
    عن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - أن رِعلاً وذكوانَ وعصيَّة وبني لحيان استمدوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - على عدو؛ أخرجه البخاري (4090)، هذه رواية البخاري.
    أما رواية مسلم: عن أنس قال: جاء ناسٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: أنِ ابعَثْ معنا رجالاً يعلمونا القرآن والسنَّة؛ أخرجه مسلم (677).
    فبعث إليهم سبعين رجلاً من الأنصار، يقال لهم: القراءُ في زمانهم، كانوا يحتطبون بالنهار، ويصلُّون بالليل، وأمَّر عليهم حرام بن ملحان - قال أنس بن مالك: حتى كانوا ببئر معونة - على بُعد 160 كيلو - من المدينة، غدَر بهم عامر بن الطفيل؛ حيث ذهَب إليه حرام بن ملحان - رضي الله عنه - ومعه رجلان، كان أحدهما أعرج، فقال لهما حرام: كونا قريبًا حتى آتيهم، فإن آمنوني كنتم - آمنين - وإن قتَلوني أتيتم أصحابَكم، فذهب إليه فقال: أتؤمِّنوني أبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فجعل يُحدِّثهم، وأومؤوا إلى رجلٍ، فأتاه من خلفه فطعَنه، فقال حرام بن ملحان - رضي الله عنه - بالدم هكذا فنضَحه على وجهه ورأسِه، ثم قال: فزتُ وربِّ الكعبة، ثم اجتمعوا عليهم فقتلوهم جميعًا غير الرجل الأعرج الذي كان مع حرام بن ملحان، صعِد على رأس جبل، وعمرو بن أمية الضمري أُسِر، ثم أخلى عامر بن الطفيل سبيلَه؛ لما أعلَمه أنَّه من مُضَر.
    وكان عامر بن الطفيل هذا يُكِن عداءً شديدًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - حيث أرسَل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يخيِّره بين ثلاث خصالٍ، فقال له: يكون لك أهل السهل ولي أهل المدر، أو أكون خليفتَك، أو أغزوك بأهل غطفان بألفٍ وألفٍ، فقد كان يحقد على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ويرى أنه أخَذ مكانةً لا بد أن يشرَكَه فيها.
    وسأل عامر بن الطفيل عمرو بن أمية عن أحَد القتلى، فقال له: من هذا؟ فقال عمرو بن أمية: هذا عامر بن فُهيرة، فقال عامر بن الطفيل: لقد رأيتُه بعدما قُتِل رفع إلى السماء حتى إني لأنظُر إلى السماء بينه وبين الأرض ثم وُضِع.
    فأتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خبرُهم فنعاهم فقال: ((إن أصحابَكم قد أصيبوا، وإنهم قد سألوا ربهم، فقالوا: ربَّنا أخبِرْ عنا إخوانَنا بما رضينا عنك ورضيت عنا))، وأصيب يومئذٍ فيهم عروة بن أسماء بن الصلت، ومنذر بن عمرٍو، فأنزَل اللهُ تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في الذين قُتلوا أصحاب بئر معونة قرآنًا قرأه الصحابةُ حتى نسخ بعدُ: بلِّغوا قومَنا؛ فقد لقينا ربَّنا، فرضي عنا، ورضينا عنه.
    فظل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - شهرًا يدعو على رعلٍ وذكوانَ وعصيَّة، ويقول: ((عُصيَّةُ عصتِ اللهَ ورسولَه)).
    انظر جميع هذه الأحداث في "صحيح البخاري"، كتاب: المغازي، باب: غزوة الرجيع وبئر معونة، حديث (4088) إلى الحديث رقم (4096)، كلها عن أنس - رضي الله عنه.
    [8] اللِّين: هو جميع النخل.
    [9] صحيح: أخرجه الترمذي (1552)، كتاب: السير، باب: في التحريق والتخريب، وصححه الألباني.
    [10] الحلقة: أي السلاح.
    [11] النجاف: هي العتبةُ التي بأعلى الباب.
    [12] وهو ما يُسمَّى بالفيء؛ فالفيء كل ما أخذ من الكفار من غير قتال، مثل غزوة بن النضير هذه، فإن المسلمين لم يقاتلوا فيها، إنما خرج اليهود من غير قتال وحكم الفيء في الإسلام أنه يكون للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة، يتصرف فيه حيث يشاء، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينفقه في وجوه البر والمصالح التي ذكرها الله في الآيات: ﴿ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ﴾ [الحشر: 6، 7].
    [13] ذكَر غزوة بني النضير بهذه التفاصيل: ابن إسحاق "سيرة ابن هشام" 3/96 -98، وابن كثير في "التفسير"؛ انظر: "عمدة التفسير"، اختصار تفسير ابن كثير، أحمد شاكر 3/421، 422.
    [14] متفق عليه: أخرجه البخاري (4882)، كتاب: التفسير، سورة الحشر، ومسلم (3031)، كتاب: التفسير، باب: في سورة براءة والأنفال والحشر.
    [15] الطبقات الكبرى (8/ 87).
    [16] وصححه ابنُ سيد الناس؛ عيون الأثر (2/ 352)، وقال أبو عبيد معمر بن المثنى "التاريخ الكبير لابن أبي خيثمة (2/ 6)": إنه كان في الثالثة، وأما قتادة أسد الغابة (7/ 126)، والواقدي الطبقات (8/ 90)، والطبري تاريخه (2/ 562)، وابن الجوزي تلقيح فهوم أهل الأثر (40)، وابن الأثير الكامل (2/ 64)، فذهبوا إلى أن زواجَ النبي - صلى الله عليه وسلم - منها رضي الله عنها كان في السَّنة الخامسة.
    [17] "البداية والنهاية" 4/163.
    [18] متفق عليه: أخرجه البخاري (4782)، كتاب: التفسير، باب: ﴿ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ ﴾ [الأحزاب: 5]، مسلم (2425)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضائل زيد بن حارثة وأسامة بن زيد.
    [19] صحيح: أخرجه البخاري (7420)، كتاب: التوحيد، باب ﴿ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ﴾ [هود: 7]، ﴿ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ [التوبة: 129].
    [20] صحيح: انظر التخريج السابق.
    [21] صحيح: أخرجه مسلم (1428)، كتاب: النكاح، باب: زواج زينب بنت جحش.
    [22] متفق عليه: أخرجه البخاري (5168)، كتاب: النكاح، باب: الوليمة ولو بشاة، ومسلم (1428)، كتاب: النكاح، باب: زواج زينب بنت جحش، ونزول الحجاب وإثبات وليمة العرس.
    [23] الحيس: هو التمرُ والسَّمن والأقِط، يُخلَط ويعجن، والأقط: الجُبن الجاف.
    [24] التَّور: إناء من نُحاس.
    [25] متفق عليه: أخرجه البخاري (5163)، كتاب: النكاح، باب: الهدية للعروس، ومسلم (1428)، كتاب: النكاح، باب: زواج زينب بنت جحش، ونزول الحجاب، وإثبات وليمة العرس.
    [26] أي: الميعاد الذي واعده النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد، كما تقدم.
    [27] سيرة ابن هشام (2/ 210).
    [28] ونص على هذا التاريخ: مالكُ بن أنس؛ دلائل النبوة للبيهقي (3/ 397)، وموسى بن عقبة؛ مغازيه (214)، قال: كانت في سنة أربع، وقال عروة بن الزبير، والزهري: دلائل النبوة للبيهقي (3/ 394): إنها كانت بعد أُحد بسنتين؛ فظاهر كلامهم أنها كانت في سنة خمس؛ لأن أُحدًا كانت في العام الثالث، ثم وجدت تفصيلاً لقتادة دلائل النبوة للبيهقي (3/ 394) ينفي هذا الظاهر، يقول: وكانت بعد أُحد بسنتين، لأربع سنين من هجرته، ونص محمد بن إسحاق سيرة ابن هشام (2/ 214): أنها كانت في شوال سنة خمسٍ.
    وقد جمَع بين هذه الأقوال البيهقي - رحمه الله - حيث قال - بعدما روى هذه الأقوال بأسانيدها - الدلائل (3/ 393- 397): قلت: لا اختلافَ بينهم في الحقيقة؛ وذلك لأن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قاتل يوم بدرٍ لسنةٍ ونصفٍ من مقدمه المدينة في شهر رمضان، ثم قاتَل يوم أُحدٍ من السنة القابلة لسنتين ونصفٍ من مقدمه المدينة في شوالٍ، ثم قاتَل يوم الخندق بعد أُحدٍ بسنتين على رأس أربع سنين ونصفٍ من مقدمه المدينة، فمن قال: سنة أربعٍ، أراد بعد أربع سنين، وقبل بلوغ الخمس، ومن قال: سنة خمسٍ، أراد بعد الدخول في السنة الخامسة، وقبل انقضائها، والله أعلم.
    فأما حديث ابن عمر، قال: عرضني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أُحدٍ في القتال وأنا ابن أربع عشرة، فلم يُجِزْني، فلما كان يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني.
    فيحتمل أن ابن عمر كان قد طعن في الرابعة عشرة يوم أحدٍ، فلم يُجِزْه في القتال حين عُرض عليه، وكان قد استكمل خمس عشرة سنةً وزاد عليها عام الخندق، فأجازه حين عرض عليه، إلا أنه نقل الخمس عشرة لتعلق الحكم بها دون الزيادة.
    وذهَب بعض أهل العلم إلى ظاهر هذه الرواية الصحيحة، وحمل قول موسى بن عقبة على ظاهره، وأن أبا سفيان حين خرَج لموعد النبي - صلى الله عليه وسلم - في شعبان ثم انصرف، خرج معدًّا للقتال عامَئذٍ في شوالٍ على رأس سنةٍ واحدةٍ من أُحدٍ.
    وذلك يخالف قول الجماعة في قدر المدة بين بدرٍ الآخرة والخندق؛ فقد روينا قبل هذا عن موسى بن عقبة في تاريخ خروج النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لموعد أبي سفيان أنه كان في شعبان سنة ثلاثٍ، والخندق في شوالٍ سنة أربعٍ، وروينا عنه في قصة الخندق أنه قال: فخرج أبو سفيانَ في آخر السنتينِ يعني من أُحدٍ، وقد قال في أُحدٍ: إنه كان في شوالٍ سنة ثلاثٍ، فيكون قوله في أُحدٍ سنة ثلاثٍ محمولاً على الدخول في الثالثة قبل كمالها، وقوله في بدرٍ الآخرة: وهو خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - لموعد أبي سفيان سنة ثلاثٍ؛ أي بعد تمام ثلاث سنين ودخول الرابعة، وقوله في الخندق: سنة أربعٍ؛ أي بعد تمام أربع سنين والدخول في الخامسة.
    هذا على قول مَن زعم أن مبتدأ التاريخ وقَع من وقت قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وقد زعَم بعضُ أهل التواريخ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قدم المدينة في شهر ربيعٍ الأول، فلم يعدوا ما بقي من تلك السنة، وإنما عدوا مبتدأ التاريخ من المحرم من السنة القابلة؛ فتكون غزوة بدرٍ في السنة الأولى، وأُحدٌ في الثانية، وغزوة بدرٍ الآخرة في الثالثة، والخندق في الرابعة.
    قال أبو يوسف يعقوب بن سفيان [الفسوي]: قدِم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة شهر ربيعٍ الأول، وأقام بها إلى الموسم، وكانت غزوةُ بدرٍ يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة ليلةً من شهر رمضان، على رأس سبعة عشر شهرًا من مقدَمِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وهي أول سنةٍ أرخت، ثم كانت غزوة أُحدٍ يوم السبت لإحدى عشرةَ خلَتْ من شوالٍ من السنة الثانية، ثم كانت غزوة بدرٍ الآخرة في شعبان سنة ثلاثٍ لموعد قريشٍ، ثم كانت غزوة الخندق في شوالٍ من سنة أربعٍ.
    وقال مالك بن أنسٍ: كانت بدرٌ لسنةٍ ونصفٍ من مقدَم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وأُحدٌ بعدها بسنةٍ، والخندق سنة أربعٍ، وبني المصطلق سنة خمسٍ، وخيبر سنة ست، والحديبية في سنة خيبر، والفتح في سنة ثمانٍ، وقريظة في سنة الخندق؛ اهـ.
    فمعنى كلام البيهقي الأخير: أنه قد يكون منشأُ الخلاف، هو اختلافهم في بداية حساب السنة الهجرية؛ فبعضهم عدَّ مبتدأ السنة الهجرية من شهر ربيع الأول، وهو الشهر الذي قدِم فيه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وبعضهم لم يَعُدَّ ما بقي من تلك السنة، وإنما عدوا مبتدأ التاريخ من المحرَّم للعام القابل.
    وهذا هو الوجه الثاني للجمع بين الأقوال.
    وقد نفى ابنُ كثير - رحمه الله - أن تكون الشهور المتبقية من سنة الهجرة الأولى قد ألغيت، وأن العد بدأ من السنة القابلة، فقال - رحمه الله - البداية والنهاية (6/ 11) - بعدما لخص كلام البيهقي المتقدم -: وهذا مخالفٌ لقول الجمهور؛ فإن المشهورَ أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب جعَل أول التاريخ من محرم سنة الهجرة، وعن مالكٍ: من ربيعٍ الأول سنة الهجرة.
    فصارت الأقوال ثلاثةً [أي: الأقوال في تاريخ غزوة الخندق]، والله أعلم، والصحيحُ قول الجمهور؛ أن أُحدًا في شوالٍ سنة ثلاثٍ، وأن الخندق في شوالٍ سنة خمسٍ من الهجرة، والله أعلم؛ اهـ.
    قلت: حتى لو قلنا بأن العدَّ بدأ عند بعضهم من ربيع الأول سنة الهجرة، وعند آخرين من المحرَّم من نفس السنة؛ فثلاثةُ أشهر كفيلة بأن تُحدِث اختلافًا في عد الأعوام، والله أعلم.
    ثم لو ضعف هذا الوجه من الجمع - وهو قوي - لكان الجمعُ بالوجه الأول جيدًا وحسنًا، وهو أقوى، والله أعلم.
    [29] أخرج ذلك ابن هشام في سيرته 3/114، 115، عن ابن إسحاق إلى عروة مرسلاً.
    [30] "سيرة ابن هشام" 3/115، بتصرف يسير.
    [31] متفق عليه: أخرجه البخاري (4099)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب، ومسلم (1805)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة الأحزاب وهي الخندق، واللفظ للبخاري.
    [32] متفق عليه: أخرجه البخاري (4104)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب، ومسلم (1803)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة الأحزاب وهي الخندق.
    [33] حسن: أخرجه أحمد 4/303، والنسائي (3176)، كتاب: الجهاد، باب: غزوة الترك والحبشة، وحسنه الألباني في "الصحيحة" (772).
    ومعنى ندر: أي سقط.
    [34] خمصًا: أي جوعًا.
    [35] أي سمينة.
    [36] أي ففرغت من طحن الشعير حين فرغت من ذبح البهيمة.
    [37] البرمة: القدر التي تطبخ فيه.
    [38] السور: كلمة حبَشية معناها: الضيف.
    [39] أي: هلموا مسرعين.
    [40] أي: تعاتبه على ما فعل، وأن الطعام لن يكفيَ هذا العدد.
    [41] أي: ذهبوا.
    [42] متفق عليه: أخرجه البخاري (4102)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب، مسلم (2038)، كتاب: الأشربة، باب: جواز استتباعه إلى دار من يثق برضاه.
    [43] صحيح: أخرجه البخاري (4101)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب.
    [44] الإهالة: الدهن أو الزيت أو السمن، ونحو ذلك، وسنخة: أي تغيَّر طعمُها ولونها من قِدَمِها.
    [45] صحيح: أخرجه البخاري (4101)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب.
    [46] وارى: أي حجب من كثرته.
    [47] متفق عليه: أخرجه البخاري (4106)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب، ومسلم (1803)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة الأحزاب وهي الخندق.
    [48] أي: على أكتافهم.
    [49] متفق عليه: أخرجه البخاري (4100)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب، ومسلم (1805)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة الأحزاب وهي الخندق.
    [50] وردت أخبارٌ في بعض كتب السِّير تُفيد بأن سلمان الفارسي هو الذي أشار على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بحفر الخندق، وكلُّها لا تثبُتُ؛ إذ لا إسناد لها.
    كما وردت أخبار تحدِّد حجم الخندق الذي حفره المسلمون طولاً وعرضًا وعمقًا، وتحدد مكانه تحديدًا دقيقًا، وجميعُها لا يصح.
    [51] متفق عليه: من حديث أنس؛ انظر التخريج السابق، واللفظة للبخاري (4099).
    [52] الأُطم: الحصن، وجمعها: آطام.
    [53] متفق عليه: أخرجه البخاري (3720)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب الزبير بن العوام، مسلم (2416)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضائل طلحة والزبير - رضي الله عنهما.
    وكان عُمُرُ عبدِالله بن الزبير حينها يقرب من خمس سنوات؛ حيث وُلِد في العام الأول من الهجرة - كما تقدم.
    [54] ذكَر أهل السير أن عددهم بلغ عشَرة آلاف مقاتل.
    [55] "السيرة النبوية الصحيحة" 2/427.
    [56] متفق عليه: أخرجه البخاري (4113)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب، مسلم (2415)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل طلحةَ والزبير.
    [57] متفق عليه: أخرجه البخاري (3720)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب الزبير بن العوام، مسلم (2416)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضائل طلحة والزُّبير - رضي الله عنهما.
    [58] يقول: أي يشير.
    [59] يُسفِّله: أي ينزل به لأسفل ليحمي أسفله؛ فهو يرفعه تارة فوق أنفه ليحمي أعلاه، وتارة لأسفل ليحمي أسفله.
    [60] السهم المدمَّى: الذي أصابه الدم فحصل في لونه سوادٌ وحمرة مما رمى به العدو، ويُطلَق على ما تكرَّر به الرمي، والرُّماة يتبرَّكون به؛ (نهاية).
    [61] القِدْح - بكسر القاف وسكون الدال -: عُود السَّهم.
    [62] صحيح: أخرجه أحمد (1620)، وصححه الشيخ أحمد شاكر.
    [63] متفق عليه: أخرجه البخاري (596)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: من صلى بالناس جماعة بعد ذهاب الوقت، مسلم (631)، كتاب: المساجد مواضع الصلاة، باب: الدليل لمن قال: الصلاةُ الوسطى هي صلاة العصر.
    ولم تكن صلاةُ الخوف قد شُرعت بعدُ.
    [64] متفق عليه: أخرجه البخاري (2931)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة، مسلم (627)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: التغليظ في تفويت صلاة العصر.
    [65] متفق عليه: أخرجه البخاري (2933)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة، مسلم (1742)، كتاب: الجهاد والسير، باب: استحباب الدعاء بالنصر عند لقاء العدو.
    [66] القرُّ: البرد.
    [67] لا تذعَرْهم عليَّ: أي لا تهيِّجْهم عليَّ.
    [68] أي: في جو دافئ.
    [69] أي: يدفئه ويدنيه منها.
    [70] أي: شعرت بالبرد؛ أي إنه لما ذهب لقضاء مهمته التي أرسله النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من أجلها لم يشعر بالبرد، بل شعر بدفءٍ تام، ولم يشعُرْ بالريح الشديدة كبقية القوم، فلما قضى مهمته، عاد إليه البردُ الذي يجده الناس.
    قال النووي - رحمه الله -: وهذه من معجزاتِ النبي - صلى الله عليه وسلم؛ اهـ؛ "شرح مسلم" 6/327.
    [71] صحيح: أخرجه مسلم (1788)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة الأحزاب.
    [72] البزار "كشف الأستار" 2/335، 336.
    [73] ذكر ذلك ابن سعد في "الطبقات" 2/73 بإسنادٍ رجاله ثقات إلى سعيد بن المسيب مرسلاً، ومراسيلُه قوية.
    [74] متفق عليه: أخرجه البخاري (4114)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب، مسلم (2724)، كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: ما يقول عند النوم وأخذِ المضجع.
    [75] صحيح: أخرجه البخاري (4110)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب.




    رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/73877/#ixzz3tjhdbHAp
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

  20. #20
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي

    قوله:
    ثمَّ بني قُرَيظةٍ، وفيهما
    خُلْفٌ . . . . . . .
    أي: كانت غزوةُ بني قريظة بعد غزوة الأحزاب، وهناك اختلافٌ بين المؤرخين في تاريخ هاتين الغزوتين[1]، بعدما اتفقوا أن غزوة بني قريظة وقَعت بعد غزوة الأحزاب؛ وذلك لأنها مبنيَّة على خيانة يهودِ بني قُريظة، ونقضهم العهد مع المسلمين يوم الأحزاب.

    عن عائشةَ - رضي الله عنها - قالت: لما رجَع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الخندق، ووضَع السلاح واغتسل، أتاه جبريلُ - عليه السلام - فقال: قد وضعتَ السلاح؟ والله ما وضعناه، فاخرُج إليهم، قال: ((فإلى أين))؟ قال: ها هنا، وأشار إلى بني قريظة، فخرَج النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم[2].

    وسارَع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخروج، وحثَّ الصحابة على سرعة اللحاق به، حتى قال لهم - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يصلينَّ أحدٌ العصرَ إلا في بني قريظة))، فأدرَك بعضُهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نُصلِّي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يُرِدْ منا ذلك، فذُكِر للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يعنِّفْ واحدًا منهم[3].

    واستخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المدينة عبدالله بن أم مكتومٍ، ثم سار إليهم في المسلمين وهم ثلاثةُ آلافٍ، والخيل ستةٌ وثلاثون فرسًا[4].

    خروج جبريل - عليه السلام - في كوكبةٍ من الملائكة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بني قريظة:
    عن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - قال: كأني أنظُر إلى الغبار ساطعًا في زقاق بني غنمٍ، موكب جبريل - صلوات الله عليه - حين سار رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني قريظة[5].

    وعن البراءِ بن عازبٍ - رضي الله عنهما - قال: قال رسول اللهُ - صلى الله عليه وسلم - يوم قريظةَ لحسان بن ثابتٍ: ((اهجُ المشركين؛ فإن جبريلَ معك))[6].

    ووصَل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون إلى بني قريظة، وسمع بنو قريظة بقدوم النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إليهم، فتحصَّنوا في حصونهم.

    قال ابن إسحاق - رحمه الله -:
    "وحاصَرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسًا وعشرين ليلةً[7]، حتى جهدهم الحصار، وقذَف الله في قلوبهم الرعب.

    وقد كان حُيَي بن أخطب دخَل مع بني قريظة في حصنهم، حين رجعت عنهم قريشٌ وغطفان، وفاءً لكعب بن أسدٍ بما كان عاهده عليه، فلما أيقنوا بأن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - غيرُ منصرفٍ عنهم حتى يناجزهم، قال كعب بن أسدٍ لهم: يا معشر يهودَ، قد نزَل بكم من الأمر ما ترون، وإني عارضٌ عليكم خِلالاً ثلاثًا، فخذوا أيها شئتم، قالوا: وما هي؟ قال: نتابع هذا الرجلَ ونصدِّقُه، فوالله لقد تبيَّن لكم أنه لنبي مرسلٌ، وأنه لَلَّذي تجِدونه في كتابكم، فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم.

    قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدًا، ولا نستبدل به غيره.

    قال: فإذا أبيتم عليَّ هذه، فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمدٍ وأصحابه رجالاً مصلتين السيوف، لم نترك وراءنا ثقلاً، حتى يحكم الله بيننا وبين محمدٍ، فإن نهلِكْ نهلِكْ ولم نترك وراءنا نسلاً نخشى عليه، وإن نظهَرْ فلعمري لنجدن النساءَ والأبناء.

    قالوا: نقتل هؤلاء المساكين! فما خير العيش بعدهم؟
    قال: فإن أبيتم عليَّ هذه، فإن الليلة ليلة السبت، وإنه عسى أن يكون محمدٌ وأصحابه قد أمنونا فيها، فانزلوا لعلنا نصيب من محمدٍ وأصحابه غرَّةً.

    قالوا: نفسد سبتنا علينا، ونُحدِث فيه ما لم يحدث مَن كان قبلنا إلا من قد علمت، فأصابه ما لم يَخْفَ عليك من المسخ!

    قال: ما بات رجلٌ منكم منذ ولدته أمه ليلةً واحدةً من الدهر حازمًا.

    فلما أصبَحوا، نزَلوا على حُكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتواثبت الأوس، فقالوا: يا رسول الله، إنهم موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت - وقد كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قبل بني قريظة قد حاصَر بني قينقاع، وكانوا حلفاء الخزرج، فنزَلوا على حُكمه، فسأله إياهم عبدُالله بن أبي ابن سلول، فوهبهم له - فلما كلمته الأوس، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكُمَ فيهم رجلٌ منكم))؟ قالوا: بلى، قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فذاك إلى سعدِ بن معاذٍ)).

    وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد جعَل سعد بن معاذٍ في خيمةٍ لامرأةٍ من أسلم، يقال لها: رُفيدة، في مسجده، كانت تداوي الجرحى، وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعةٌ من المسلمين، وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق: ((اجعَلوه في خيمة رُفَيدة حتى أعودَه من قريبٍ)).

    فلما حكَّمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بني قريظة، أتاه قومه فحمَلوه على حمارٍ قد وطؤوا له بوسادةٍ من أدمٍ، وكان رجلاً جسيمًا جميلاً، ثم أقبَلوا معه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يقولون: يا أبا عمرٍو، أحسنْ في مواليك؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما ولاَّك ذلك لتحسنَ فيهم، فلما أكثروا عليه قال: لقد آن لسعدٍ ألا تأخذَه في الله لومةُ لائمٍ"[8].

    عن أبي سعيدٍ الخدري - رضي الله عنه - قال: لما نزلت بنو قريظة على حُكم سعد بن معاذٍ، بعث إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان قريبًا منه، فجاء على حمارٍ، فلما دنا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قوموا إلى سيِّدكم)) فجاء، فجلس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: ((إن هؤلاء نزَلوا على حُكمك))، قال: فإني أحكُم أن تُقتَل المقاتلة، وأن تُسبَى الذرية، قال: ((لقد حكمتَ فيهم بحكم الملك))[9].

    وفي لفظٍ: قال سعدٌ - رضي الله عنه -: وأن تُقسَم أموالهم[10].

    النبي - صلى الله عليه وسلم - يميِّز بين الصغار والبالغين استعدادًا لتنفيذِ حُكم سعد - رضي الله عنه -:
    عن عطية القرظي - رضي الله عنه - قال: كنتُ من سَبْيِ بني قريظة، فكانوا ينظرون، فمن أنبت الشعرَ قُتِل، ومن لم ينبت لم يُقتَلْ، فكنت فيمن لم ينبت.

    وفي لفظ: فكشفوا عانتي، فوجدوها لم تُنبِت، فجعلوني من السَّبْي[11].

    تنفيذ الحكم:
    قال ابنُ إسحاق - رحمه الله -:
    ثم استنزلوا، فحبَسهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة في دار بنت الحارث، امرأةٍ من بني النجار، ثم خرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى سوق المدينة، التي هي سوقها اليوم، فخندَق بها خنادق، ثم بعث إليهم، فضرب أعناقهم في تلك الخنادق، يخرج بهم إليه أرسالاً، وفيهم عدو الله حُيَي بن أخطب، وكعب بن أسدٍ، رأس القوم، وهم ستمائةٍ أو سبعمائةٍ، والمكثِّرُ لهم يقول: كانوا بين الثمانمائةٍ والتسعمائةٍ.

    وقد قالوا لكعب بن أسدٍ، وهم يذهب بهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسالاً: يا كعب، ما تراه يصنع بنا؟ قال: أفي كل موطنٍ لا تعقلون؟ ألا ترون الداعيَ لا ينزع، وأنه من ذهب به منكم لا يرجع؟ هو والله القتل! فلم يزل ذلك الدأب حتى فرَغ منهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم"[12].

    وفي ذلك يقولُ الله - تعالى -: ﴿ وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ ﴾ [الأحزاب: 26]؛ أي: عاوَنوا الأحزاب، وساعَدوهم على حرب المسلمين ﴿ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ ﴾ [الأحزاب: 26]؛ أي: من حصونهم، ﴿ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ﴾ [الأحزاب: 26، 27].

    المرأة الوحيدة التي قُتِلت من بني قريظة:
    عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: لم يُقتَل من نسائهم - تعني بني قريظة - إلا امرأةٌ، إنها لعندي تحدَّث معي، تضحك ظهرًا وبطنًا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقتل رجالهم بالسيوف؛ إذ هتف هاتفٌ باسمها: أين فلانة؟ قالت: أنا، قلت: وما شأنك؟ قالت: حدثٌ أحدثته، قالت: فانطلق بها فضُرِبت عنقها، فما أنسى عجبًا منها أنها تضحك ظهرًا وبطنًا وقد علمتْ أنها تُقتَل[13].

    قال ابن هشامٍ - رحمه الله -:
    وهي التي طرحت الرَّحى على خلاد بن سويدٍ، فقتلته[14].

    فكان هذا آخر عهد اليهود بالمدينة، وآخرهم بني قريظة، الذين نالوا جزاءَ خيانتهم العظمى، ونقضهم العهد الذي كان بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - وصدق الله - تعالى إذ يقول: ﴿ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ ﴾ [البقرة: 100].

    ثم أسلَم بعضُ بني قريظة وآمنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فبقوا بالمدينة.

    عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: حاربت النضيرُ، وقريظة، فأجلى بني النضير، وأقر قريظة ومَنَّ عليهم، حتى حاربت قريظة، فقتل رجالهم، وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين، إلا بعضهم، لحقوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فأمَّنهم وأسلموا، وأجلى يهود المدينة كلهم: بني قينقاع، وهم رهط عبدالله بن سلامٍ، ويهود بني حارثة، وكل يهود المدينة[15].

    قوله:
    . . . . . . . . . . . . . . . . .
    . . . وفي ذاتِ الرِّقاعِ عُلِمَا
    كيفَ صلاةُ الخوفِ . . . . . .
    . . . . . . . . . . . . . . .

    أي: كانت غزوةُ ذات الرِّقاع[16] في السنة الرابعة من هجرة الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم[17]، وفيها نزَل على النبي - صلى الله عليه وسلم - تشريعُ صلاة الخوف[18].

    قال ابن إسحاق - رحمه الله -:
    "ثم أقام رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة بعد غزوة بني النضير شهر ربيعٍ الآخر وبعض جمادى، ثم غزا نجدًا، يريد بني محاربٍ وبني ثعلبةَ من غطفان، واستعمل على المدينة أبا ذرٍّ الغِفاريَّ - ويقال: عثمان بن عفان، فيما قال ابن هشامٍ - حتى نزل نخلاً[19]، فلقي بها جمعًا عظيمًا من غطفان، فتقارب الناس، ولم يكن بينهم حربٌ، وقد خاف الناس بعضهم بعضًا، حتى صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس صلاة الخوف، ثم انصرف بالناس[20]"؛ اهـ.

    وعن صالح بن خواتٍ، عمن شهد رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يوم ذات الرقاع صلَّى صلاة الخوف: أن طائفةً صفت معه، وطائفة وِجَاهَ العدو، فصلى بالتي معه ركعةً، ثم ثبت قائمًا، وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا، فصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته ثم ثبَت جالسًا، وأتموا لأنفسهم، ثم سلَّم بهم[21].

    وهذا موقفٌ عجيب حدَث في تلك الغزوة:
    عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة ذات الرِّقاع، فأصيبتِ امرأةٌ من المشركين، فلما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قافلاً، وجاء زوجها وكان غائبًا، فحلف أن لا ينتهي حتى يهريق دمًا في أصحاب محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - فخرج يتبع أثر النبي - صلى الله عليه وسلم - فنزل النبي - صلى الله عليه وسلم - منزلاً، فقال: ((من رجلٌ يكلؤنا ليلتنا هذه؟))، فانتدب رجلٌ من المهاجرين، ورجلٌ من الأنصار، فقالا: نحن يا رسول الله، قال: ((فكونوا بفمِ الشِّعب))، قال: وكانوا نزلوا إلى شعبٍ من الوادي، فلما خرج الرجلان إلى فم الشعب، قال الأنصاري للمهاجري: أي الليل أحب إليك أن أكفيكه؟ أوله أو آخره؟ قال: اكفني أوله، فاضطجع المهاجري فنام، وقام الأنصاري يصلي، وأتى الرجل، فلما رأى شخص الرجل عرف أنه رِبِيئة القوم[22]، فرماه بسهمٍ، فوضعه فيه، فنزعه فوضعه، وثبت قائمًا، ثم رماه بسهمٍ آخر، فوضعه فيه، فنزعه فوضعه، وثبت قائمًا، ثم عاد له بثالثٍ، فوضعه فيه، فنزعه فوضعه، ثم ركع وسجد، ثم أهبَّ صاحبه، فقال: اجلس فقد أوتيت، فوثب، فلما رآهما الرجل عرف أن قد نذروا به، فهرب، فلما رأى المهاجريُّ ما بالأنصاري من الدماء، قال: سبحان الله، ألا أهببتني! قال: كنت في سورةٍ أقرؤها، فلم أحبَّ أن أقطعها حتى أنفذها، فلما تابع الرمي ركعتُ فأريتك، وايم الله، لولا أن أضيع ثغرًا أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظه، لقطع نفسي قبل أن أقطعها، أو أنفذها[23].

    قوله:
    . . . . . . . والقَصرُ نُمِي
    وآيةُ الحجابِ، والتَّيَمُّمِ
    قيل: ورَجْمُهُ اليَهُوديَّيْنِ
    ومولِدُ السِّبطِ الرِّضا الحُسَيْنِ

    أي: وكان في السنة الرابعة تشريع قَصر الصلاة.

    قلت: وهذا خلاف ما نقله المؤرخون وأهل السير؛ حيث نقلوا أن ذلك كان في السنة الأولى للهجرة.

    قال ابن جريرٍ الطبريُّ - رحمه الله -:
    "وفي هذه السنة - يعني السنة الأولى من الهجرة - زِيد في صلاة الحضر - فيما قيل - ركعتانِ، وكانت صلاةُ الحضر والسفر ركعتين، وذلك بعد مقدَمِ النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة بشهرٍ، في ربيعٍ الآخر لمضي اثنتي عشرة ليلةً منه، وزعم الواقدي أنه لا خلاف بين أهل الحجاز فيه[24]"؛ اهـ.

    وفي السنة الرابعة - أيضًا - نزلت آية الحجاب، وكان ذلك صبيحة عُرس زينب بنت جحش - رضي الله عنها.

    عن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - قال: أنا أعلمُ الناس بهذه الآية، آية الحجاب: لما تزوَّج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينبَ بنت جحشٍ، صنَع طعامًا ودعا القوم، فقعدوا يتحدثون، فجعَل النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرج ثم يرجع، وهم قعودٌ يتحدثون، فأنزَل الله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ ﴾ [الأحزاب: 53]، إلى قوله: ﴿ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ﴾ [الأحزاب: 53]، فضرب الحجاب، وقام القوم[25].

    وفي هذه السَّنة - أيضًا - شُرع التيمم، على ما ذهب إليه الناظم، وقد ذهب بعضهم إلى أن ذلك كان في السنة الخامسة أثناء الرجوع من غزوة بني المصطلق[26].

    عن عائشةَ - رضي الله عنها - قالت: خرَجْنا مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عِقدٌ لي، فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماءٍ، فأتى الناس إلى أبي بكرٍ الصِّديق، فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس، وليسوا على ماءٍ، وليس معهم ماءٌ، فجاء أبو بكرٍ ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - واضعٌ رأسه على فخِذي قد نام، فقال: حبستِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس، وليسوا على ماءٍ، وليس معهم ماءٌ، فقالت عائشةُ: فعاتَبني أبو بكرٍ، وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكانُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فخذي، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أصبح على غير ماءٍ، فأنزل الله آية التيمم فتيمموا، فقال أسيد بن الحضير: ما هي بأولِ بركتكم يا آل أبي بكرٍ، قالت: فبعثنا البعير الذي كنتُ عليه، فأصبنا العِقد تحته[27].

    وفي هذه السنة أيضًا رجَم النبي - صلى الله عليه وسلم - اليهوديَّ واليهودية.

    عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - أن اليهودَ جاؤوا إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - برجلٍ منهم وامرأةٍ قد زَنَيا، فقال لهم: ((كيف تفعلون بمن زنى منكم؟)) قالوا: نحممهما ونضربهما، فقال: ((لا تجدون في التوراة الرجم؟))، فقالوا: لا نجد فيها شيئًا، فقال لهم عبدُالله بن سلاَمٍ: كذبتم، فَأْتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين، فوضع مِدراسها الذي يدرسها منهم كفَّه على آية الرجم، فطفق يقرأ ما دون يده، وما وراءها ولا يقرأ آية الرجم، فنزع يده عن آية الرجم، فقال: ما هذه؟ فلما رأوا ذلك قالوا: هي آية الرجم، فأمر بهما فرجما قريبًا من حيث موضع الجنائز عند المسجد، فرأيتُ صاحبها يَحني عليها يقيها الحجارة[28].

    وقد ذكرها ابن سيد الناس - رحمه الله - ضمن أحداث السنة الرابعة[29].

    وفي هذه السنة وُلِد الحسين - رضي الله عنه[30].

    قال ابن جريرٍ الطبري - رحمه الله -:
    "وفي ليالٍ خلون من شعبان منها - أي: من الرابعة - وُلِد الحسين بن علي من فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم"[31].


    [1] وهو الخلافُ المشار إليه آنفًا، والذي ذكرنا فيه الجمع بين الأقوال.
    [2] متفق عليه: أخرجه البخاري (4117)، ومسلم (1769).
    [3] متفق عليه: أخرجه البخاري (946، 4119)، ومسلم (1770).
    [4] الطبقات الكبرى (2/ 74).
    [5] صحيح: أخرجه البخاري (4118).
    [6] متفق عليه: أخرجه البخاري (4124)، ومسلم (2486)، واللفظ للبخاري.
    [7] وقال الواقدي في مغازيه (2/ 496): خمسة عشر يومًا.
    [8] سيرة ابن هشام (2/ 235- 239).
    [9] متفق عليه: أخرجه البخاري (3043)، ومسلم (1768).
    [10] عند البخاري (4122).
    [11] صحيح: أخرجه أبو داود (4404، 4405)، وأحمد (18776، 19421، 22659، 22600)، وصححه الألباني صحيح المشكاة (3974).
    [12] سيرة ابن هشام (2/ 240، 241).
    [13] حسن: أخرجه أبو داود (2671)، وأحمد (26364)، والحاكم في المستدرك (4334)، وقال: "هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط مسلمٍ، ولم يخرجاه"، والبيهقي في الكبير (18107)، وحسنه الألباني صحيح أبي داود.
    [14] سيرة ابن هشام (2/ 242).
    [15] متفق عليه: أخرجه البخاري (4028)، ومسلم (1766).
    [16] قال الواقدي "المغازي" (1/ 359): فإنما سميت ذات الرقاع؛ لأنه جبلٌ فيه بُقَعٌ حُمْرٌ وسواد وبياض.
    وقال ابن هشامٍ السيرة (2/ 204): وإنما قيل لها غزوة ذات الرقاع؛ لأنهم رقعوا فيها راياتهم، ويقال: ذات الرقاع: شجرةٌ بذلك الموضع، يقال لها: ذات الرقاع.
    وقال ابن حبان: السيرة النبوية وأخبار الخلفاء (1/ 249): وإنما سميت هذه الغزاةُ غزاة ذات الرقاع؛ لأن الخيل كان فيها سواد وبياض، فسُمِّيت الغزوةُ بتلك الخيل.
    قلت: والصحيح أنه سميت ذات الرقاع؛ لما لفوا على أرجلهم من خِرَق في هذه الغزوة، وهو ما صرح به أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - فعند البخاري (4128)، ومسلم (1816)، عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: خرَجْنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوةٍ ونحن ستة نفرٍ، بيننا بعيرٌ نعتقبه، فنقِبَتْ أقدامنا، ونقبت قدماي، وسقطت أظفاري، وكنا نلف على أرجلنا الخِرَق، فسميت غزوةَ ذات الرقاع، لِما كنا نعصب من الخرق على أرجلنا، وحدث أبو موسى بهذا ثم كرِه ذاك، قال: ما كنت أصنع بأن أذكره، كأنه كره أن يكون شيءٌ من عمله أفشاه.
    وهو ما صحَّحهالسهيلي؛ حيث قال الروض الأنف (6/ 175، 176): وسميت ذات الرقاع؛ لأنهم رقعوا فيها راياتهم، في قول ابن هشامٍ، قال: ويقال: ذات الرقاع: شجرٌ بذلك الموضع، يقال لها: ذات الرقاع، وذكر غيره أنها أرضٌ فيها بقعٌ سودٌ، وبقعٌ بيضٌ، كأنها مرقعةٌ برقاع مختلفةٍ؛ فسميت ذاتَ الرقاع لذلك، وكانوا قد نزلوا فيها في تلك الغزاة.
    وأصح من هذه الأقوال كلها ما رواه البخاري من طريق أبي موسى الأشعري ...، وذكر الحديث.
    [17] هذا ما ذهب إليه الناظم، أنها كانت في السنة الرابعة، وهو قول الواقدي في مغازيه (1/ 359)، وقد وجدتُ معظم المؤرخين وغيرهم قد نسبوا إلى الواقدي أنه يقول بكونها كانت في السنة الخامسة، ولكن ظاهر كلامه خلاف ذلك؛ حيث قال: خرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة السبت لعشرٍ خلون من المحرم على رأس سبعةٍ وأربعين شهرًا، وهو أيضًا قولُ ابن إسحاق، وابن هشام سيرة ابن هشام (2/ 203)، والطبري في تاريخه (2/ 555)، وابن حزم في جوامع السيرة (182)، وابن الجوزي في تلقيح فهوم أهل الأثر (39)، وابن سيد الناس في عيون الأثر (2/ 352)، والذهبي في العِبَر في خبَر من غبَر (1/ 7)، وابن خلدون في تاريخه (2/ 240)، وعدها ابن حبان السيرة النبوية وأخبار الخلفاء (1/ 249) ضِمنَ أحداث السنة الخامسة، وكذلك ابن الجوزي في المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (3/ 214)، وأما الإمام البخاري فذهب إلى كونها كانت في السنة السابعة بعد خيبر؛ لأن أبا موسى الأشعري لم يصِلْ إلى المدينة إلا بعد خيبر، وقد اشترك في هذه الغزوة؛ حيث قال - رحمه الله - الصحيح (5/ 113): وهي بعد خيبرَ؛ لأن أبا موسى جاء بعد خيبر.
    وهو ما صوَّبه ابن حجر؛ حيث قال - رحمه الله - الفتح (7/ 418): قوله: وهي - أي هذه الغزوة - بعد خيبر؛ لأن أبا موسى جاء بعد خيبر، هكذا استدل به، وقد ساق حديث أبي موسى بعد قليلٍ، وهو استدلالٌ صحيحٌ، وسيأتي الدليلُ على أن أبا موسى إنما قدِم من الحبشة بعد فتح خيبر في باب غزوة خيبر، ففيه في حديثٍ طويلٍ قال أبو موسى: فوافقنا النبي - صلى الله عليه وسلم - حين افتتح خيبر، وإذا كان كذلك ثبت أن أبا موسى شهد غزوة ذات الرقاع، ولزم أنها كانت بعد خيبر، وعجِبْتُ من ابن سيد الناس كيف قال: جعل البخاري حديث أبي موسى هذا حجةً في أن غزوة ذات الرقاع متأخرةٌ عن خيبر، قال: وليس في خبر أبي موسى ما يدل على شيءٍ من ذلك؛ انتهى.
    وهذا النفي مردودٌ، والدلالة من ذلك واضحةٌ كما قررته، وأما شيخه الدمياطي فادعى غلط الحديث الصحيح، وأن جميع أهل السِّيَر على خلافه، وقد قدمت أنهم مختلفون في زمانها، فالأَولى الاعتماد على ما ثبت في الحديث الصحيح، وقد ازداد قوةً بحديث أبي هريرة، وبحديث ابن عمر ،كما سيأتي بيانه - إن شاء الله تعالى؛ اهـ.
    وقال أيضًا - بعدما ساق الأدلة على أن أوَّل ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم، صلاة الخوف، كان في عمرة الحديبية، كما سيأتي - قال الفتح (7/ 423، 424):
    وإذا تقرَّر أن أول ما صلِّيت صلاة الخوف في عُسفان، وكانت في عمرة الحديبية، وهي بعد الخندق وقريظة، وقد صُلِّيَت صلاة الخوف في غزوة ذات الرِّقاع، وهي بعد عُسفان - فتعيَّن تأخُّرها عن الخندق وعن قريظة وعن الحديبية أيضًا، فيقوى القول بأنها بعد خيبرَ؛ لأن غزوة خيبر كانت عقب الرجوعِ من الحديبية؛ اهـ.
    قلت: ولكن يردُ على هذا الكلام إيرادان:
    فأما الإيراد الأول: فإنه يقال: إن تصريح أبي موسى - رضي الله عنه - أنه قدِم على النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة خيبر، لا يلزم منه أنه لم يقدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل ذلك، ثم عاد مرة أخرى إلى الحبشة؛ فقد يكون لأبي موسى قَدْمةٌ سابقة اشترك فيها في غزوة ذات الرقاع، ثم عاد مرة أخرى إلى الحبشة، وإنما قصد أبو موسى بقوله: قدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - في خيبر أن يذكر واقعة معينة، أو أنه يذكر القدمة الأخيرة التي لم يرجع بعدها إلى الحبشة.
    وأما الإيراد الثاني: فإن قول ابن حجر - رحمه الله - بأن ذاتَ الرقاع كانت بعد الحُديبية غير مسلَّمٍ، بل جمهور العلماء على أنها كانت قبل الحُديبية.
    فعلى هذا يظل قول الجمهور أنها كانت في السنة الرابعة - لا معارض له، والله أعلم.
    [18] وهو الصحيح؛ فهي أول غزوة ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى فيها صلاة الخوف.
    [19] موضع بنجد من أرض غَطفان.
    [20] سيرة ابن هشام (2/ 204، 205).
    [21] متفق عليه: أخرجه البخاري (4129)، ومسلم (842).
    [22] الرِّبيئة: هو العين والطَّليعة الذي ينظر للقوم لئلا يدهَمَهم عدو، ولا يكون إلا على جبل أو شَرَف ينظر منه، وارتبأت الجبل: أي صعدته؛ النهاية (2/ 179).
    [23] حسن: أخرجه أبو داود (198)، وأحمد (14704)، وابن خزيمة (36)، وابن حبان في صحيحه (1096، والحاكم في المستدرك (557)، وقال: هذا حديثٌ صحيح الإسناد، والبيهقي في الكبير (663)، وحسنه الألباني صحيح أبي داود (139).
    [24] تاريخ الطبري (2/ 400)، وانظر: البداية والنهاية (4/ 572).
    [25] متفق عليه: أخرجه البخاري (4791)، ومسلم (1428).
    [26] قلت: قد يكونُ مَن ذهب إلى ذلك - كابن سعد في الطبقات (2/ 50)، وابن عبدالبر في الاستذكار (1/ 302) - ذهب إليه لاشتباه قصة وقوع العِقد من عائشة - رضي الله عنها - هنا مع قصة وقوعه منها في حادثة الإفك أثناء رجوعها - رضي الله عنها - من غزوة بني المصطلق، وسياق القصتين يوضح أن هذه قصة، وتلك قصة أخرى، وليس هناك ما يدلُّ على أن قصة التيمم كانت في غزوة بني المصطلق.
    وقد ورَد حديث عند الطبراني في الكبير (159)، فيه تصريح باختلاف السَّفرتين، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: لما كان من أمر عقدي ما كان، قال أهل الإفك ما قالوا، فخرجت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوةٍ أخرى فسقط أيضًا عقدي، حتى حبس التماسه الناس، واطلع الفجر، فلقيت من أبي بكرٍ ما شاء الله، وقال لي:يا بنية، في سفرٍ تكونين عناءً وبلاءً، وليس مع الناس ماءٌ، فأنزل الله الرخصة بالتيمم، فقال أبو بكرٍ: أما والله يا بنية، إنكِ لَمَا علمتُ مباركةٌ.
    ولكن في سنده محمد بن حُميدٍ الرازي، وهو ضعيف، وفيه أيضًا عنعنة ابن إسحاق.
    [27] متفق عليه: أخرجه البخاري (334)، ومسلم (367).
    [28] متفق عليه: أخرجه البخاري (4556)، ومسلم (1669).
    [29] عيون الأثر (2/ 352).
    [30] انظر: السابق
    [31] تاريخ الطبري (2/ 555)، والبداية والنهاية (5/ 580).




    رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/74278/#ixzz3xf99DRq3
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •